ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
8 - من كتاب الجنائز
1- باب في الغسل من غسل الميت
62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ الْمَيْتَ فَلَيَغْتَسلْ، ومن حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل عن الشافعي التوقف عن تصحيحه، وعن أبي داود إعلاله، ثم ذكر للحديث أَحَدَ عَشَرَ طَرِيقَاً، ثم قال: "وهذه الطُّرُقُ تدلُّ على أن الحديث محفوظ"1.
قلت: هذا الحديث يُروى عن أبي هريرة من طرق:
الطريق الأول: عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة. أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق: القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به.
وأخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، والبيهقي5 من طريق: سهيل بن أبي صالح6، عن أبيه7، عن أبي هريرة
__________
1 تهذيب السنن: (4/305-306) .
(1/300) .
(3/309) ح 993 ك الجنائز، باب الغسل من غسل الميت.
(1/470) ح 1463، ك الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت.
(1/300) .
6 أبو يزيد المدني، صدوقٌ تَغَيَّر حِفْظُهُ بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور/ ع. (التقريب 259) .
7 أبو صالح، ذكوان السَّمان الزيَّات، ثقة ثبت ... من الثالثة، مات سنة 101هـ/ ع. (التقريب 203) .
(2/485)
به، ولفظ الترمذي والبيهقي: "مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ. ومن حَمْلِهِ الوضوءُ" يعني الميت، أما ابن ماجه فلفظه: "مَنْ غَسَّلَ مَيِتاً فليغتسل". رواه عن سهيل هكذا جماعة، منهم: حماد بن سلمة، ووهيب، وزهير بن محمد، وعبد العزيز بن المختار وغيرهم1، وخالفهم سفيان بن عيينة، فرواه عن: سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق2 مولى زائدة، عن أبي هريرة به. أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي4 كذلك.
"وخالفهم إسماعيل بن جعفر فرواه عن سهيل عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5، كما قال الدارقطني رحمه الله.
وهذه الطريق أعلت بالانقطاع، والوقف، والاضطراب.
أما الانقطاع: فقد أشار أبو داود إليه فقال: "أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث - يعني إسحاق مولى زائدة -". وقال الشافعي: "وإنما لم يقو عندي: أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة:
__________
1 انظر: علل الدارقطني: ج 3 (ق 180) ، وسنن البيهقي: (1/301) .
2 والد عمر، قال العِجْلِي: هو إسحاق بن عبد الله، ثقة، من الثالثة / ر م د س. (التقريب 104) .
(3/512) ح 3162 ك الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت.
(1/301) .
5 العلل: (ج3 ق180) .
(2/486)
إسحاق مولى زائدة، فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"1. وأعله ابن دقيق العيد بذلك أيضاً2. وقال ابن حجر: "وهو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"3.
وأما الوقف: فقد مضى أنه يُروى عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق، عن أبي هريرة موقوفاً عليه4. وكأن البخاري - رحمه الله - أعله بذلك، فقال لما سأله عنه الترمذي: "روى بعضهم عن سهيل بن أبي صالح، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5. ورجح البيهقي وقفه كما سيأتي من كلامه.
وأما اضطرابه: فقد قال به الدارقطني، فبعد أن حكى أوجه الاختلاف فيه قال: "ويشبه أن يكون سهيل كان يضطرب فيه"6.
وقد يُجاب عن هذه العلل، فيقال: أما انقطاعه: فإنه لا مانع أن يكون أبو صالح سمعه من أبي هريرة، ومن إسحاق عن أبي هريرة، فرواه على الوجهين جميعاً، وقد علق الشافعي - رحمه الله - الحكم بصحته على معرفة حال إسحاق، فقال: "وإنما منعني عن إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلاً لم أقع
__________
1 الجوهر النقي: (1/301) .
2 التلخيص الحبير: (1/137) .
3 فتح الباري: (3/127) .
4 وانظر سنن البيهقي: (1/301) .
5 علل الترمذي: (1/402) .
6 علل الدارقطني: ج 3 (ق180) .
(2/487)
من معرفة من ثَبَّتَ حديثه - إلى يومي - على ما يقنعني، فإن وجدت من يقنعني، فإن وجدت من يقنعني أوجبته ... "1.
قال ابن حجر: "إسحاق مولى زائدة: أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث"2.
وأما الوقف: فيمكن أن يقال: إن الرفع زيادة من ثقة وهي مقبولة، ولا سيما أن الذين رفعوه أكثر عدداً. ولكن مع ذلك كله يخشى من احتمال كونه مضطرباً كما حكم به الدارقطني رحمه الله، فالله أعلم.
الطريق الثاني: رواه بن أبي ذئب، عن صالح3 مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. أخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 5. والبيهقي في (سننه) 6 من طريق الطيالسي.
وقد أَعَلَّ البيهقي7، ثم ابن الجوزي8 هذا الطريق بـ"صالح
__________
1 سنن البيهقي: (1/302) .
2 التلخيص الحبير: (1/137) .
3 ابن نبهان المدني، صدوق اختلط، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه: كابن أبي ذئب وابن جريج، من الرابعة ... / د ت ق. (التقريب 274) .
4 حم: (2/433، 454، 472) . طس: (ح2314) .
(2/172) .
(1/303) .
7 السنن: (1/303) .
8 العلل المتناهية: (1/378) .
(2/488)
مولى التوأمة"، فقال البيهقي: "صالح مولى التوأمة ليس بالقوي".
قلت: وصالح هذا فيه ضعف، واختلاط، فقد ضعفه: يحيى القطان1، ومالك2، وابن معين3 في رواية، وأبو زرعة، وأبو حاتم4، والنسائي5. ووثقه أحمد6، وابن معين7 في رواية، والعجلي8. فالرجل بهذه المثابة "صدوق" كما حكم به الذهبي9 وابن حجر.
وأما اختلاطه: فقد مَيَّزَ جماعة من الحفاظ حديثه القديم، وحكموا بصحة رواية من روى عنه قبل الاختلاط، منهم: علي بن المديني، وابن معين، والجوزجاني، وابن عدي10. وابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً، فيكون حديثه عنه صحيحاً، ولذلك ردَّ ابن التركماني على البيهقي تضعيفه11.
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب (4/405) .
2 الجرح والتعديل: (2/1/417) .
3 المصدر السابق: (2/1/418) .
4 المصدر السابق.
5 الضعفاء: (ص57) .
6 تهذيب التهذيب: (4/405) .
7 تاريخ الدوري: (2/266) .
8 الثقات بترتيب الهيثمي: (ص227) .
9 المغني: (1/305) .
10 انظر: الكواكب النيرات: (ص261) .
11 الجوهر النقي: (1/302) .
(2/489)
الطريق الثالث: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. أخرجه البيهقي في (سننه) 1 من طريق: ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة به. ثم قال: "ابن لهيعة وحنين لا يحتج بهما".
قلت: وهذا قد صَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ، فقال أبو حاتم - وقد سئل عنه -: "هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات"2. وقال ابن دقيق العيد: "وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: فإسناد حسن، إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً"3. وأخرج البيهقي الرواية الموقوفة من طريق: عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، ثم قال: "هذا هو الصحيح: موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري"4.
الطريق الرابع: عن عمرو بن عمير5، عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود في (سننه) 6 – ومن طريقه البيهقي في (سننه) 7 - من طريق: القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير به.
وهذا الطريق ضعيف؛ فإن عمرو بن عمير "مجهول" كما حكم
__________
(1/302) .
2 علل ابن أبي حاتم: (1/351) .
3 التلخيص الحبير: (1/137) .
4 سنن البيهقي: (1/302) .
5 الحجازي، مجهول، من الثالثة/ د. (التقريب 425) .
(3/511) ح 3161.
(1/303) .
(2/490)
بذلك ابن القطان وابن حجر1 رحمهما الله. وبهذا أعله البيهقي، فقال: "عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور". قال ذلك في (سننه) .
الطريق الخامس: عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة به. أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 2 - ومن طريقه أحمد3 - من طريق: يحيى بن أبي كثير، عن رجل يقال له: أبو إسحاق، عن أبي هريرة به، وليس فيه الوضوء من حمله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 4 من طريق: يحيى، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق به.
ويروى هذا عن: أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، أخرجه البيهقي في (سننه) 5، وذكر اختلافاً فيه، ثم قال: "والمشهور: عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه".
وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى غير ما ذكرنا، واستوعبها البيهقي في (سننه) 6، ثم قال: "الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية، لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح: عن أبي هريرة من قوله، موقوفاً غير مرفوع". وقد تقدم معنا ترجيح البخاري
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب: (8/84) .
(3/407) ح 6110.
3 المسند: (2/280) .
(2/280) .
(1/304) .
(1/300 - 304) .
(2/491)
وأبي حاتم الوقف في بعض طرقه.
وأكثر العلماء على ضَعْفِ هذا الحديث كما قال الزيلعي1، والمناوي2 وغيرهما، وقال الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذُّهَلي، وابن المنذر وغيرهم: إنه لا يثبت في هذا الباب شيء3. وقد تقدم طرف من أقوال العلماء في تضعيف هذا الحديث، وضعفه أيضاً: ابن الجوزي4، والنووي5.
لكن ذهب جماعةٌ إلى صِحَّتِهِ، وآخرون إلى حُسْنِهِ: فَحَسَّنَه الترمذي، وصححه ابن حبان، وابن حزم6، وقال ابن دقيق العيد: "وفي الجملة: هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً"7. وقال الذهبي في (مختصر البيهقي) 8: "طرقُ هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يُعِلُّوها بالوقف، بل قَدَّمُوا رواية الرفع". وجعله البغوي من قسم الحسن في (مصابيحه) وتبعه التبريزي في (المشكاة) 9 ورجح ابن
__________
1 نصب الراية: (2/282) .
2 فيض القدير: (6/185) .
3 انظر: علل الترمذي: (1/402) ، وسنن البيهقي: (1/301) ، والتلخيص الحبير: (1/137) .
4 العلل المتناهية: (1/378 - 379) .
5 المجموع: (5/138) .
6 المحلى: (2/35) .
7 التلخيص الحبير: (1/137) .
8 التلخيص الحبير: (1/137) .
(1/169) ح 541.
(2/492)
حجر تصحيح بعض طرقه1. وَحَسَّنَهُ الحافظ السيوطي2. وصححه الشيخ الألباني3.
وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بأن الحديث بمجموع طرقه محفوظٌ، ولعلَّ هذا هو ما تطمئن إليه النفس، ولا سيما أن طرق هذا الحديث قد تعدَّدت، مما يجعل الحديث لا يقل عن درجة الحسن.
وقد ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى أن هذا الحديث منسوخ، لكنه لم يذكر لنا ناسخه، ولا رأيت من قال بقوله.
وقد ذهب الأكثرون - كما نقل ابن القَيِّم4 - إلى عدم وجوب الغسل من غسل الميت، ونقل الإمام أبو داود عن الإمام أحمد أنه يجزئه الوضوء5. وقال الخطابي: "ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب"6. وقال: "وقد يحتمل أن يكون المعني فيه: أن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نَضْحٌ من رشاش الغسول، وربما كان على بدن الميت نجاسة. فإذا أصابه نَضْحُهُ - وهو لا يعلم مكانه - كان عليه غسل جميع البدن، ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه النجس من بدنه"7.
__________
1 التلخيص الحبير: (1/137) .
2 كما في فيض القدير مع الجامع الصغير: (6/185) .
3 انظر: إرواء الغليل: (1/173) ، وصحيح ابن ماجه: (ح 1195) ، وصحيح الجامع: (ح6402) ، والتعليق على المشكاة: (1/169) ح 541.
4 تهذيب السنن: (4/306) .
5 سنن أبي داود: (3/512) .
6 معالم السنن: (4/305) .
7 المصدر السابق.
(2/493)
2- باب ما جاء في المشي خلف الجنازة
63- (2) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا".
ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وقال: "ضعيف"1. وقد أورده - رحمه الله - دليلاً للقائلين بالمشي خلف الجنازة.
قلتُ: الحديث بهذا اللفظ المختصر أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 ولفظه: "الجنازةُ متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها ".
ولكن أخرجه بأطول من هذا: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، كلهم من طريق:
يحيى بن عبد الله7 التيمي، عن أبي ماجد8، عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه، أنه قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟ فقال: "ما دُوْنَ
__________
1 تهذيب السنن: (4/316) .
(1/476) ح 1484 ك الجنائز، باب المشي أمام الجنازة.
(3/525) ح 3184 ك الجنائز، باب الإسراع بالجنازة.
(3/323) ح 1011، ك الجنائز، باب ما جاء في المشي خلف الجنازة.
(1/394، 415، 419، 432) .
(4/25) .
7 ابن الحارث، الجَابِر - قيل: كان يُجَبِّرُ الأعضاء - أبو الحارث الكوفي، لَيِّنُ الحديث، من السادسة، وروايته عن المقدام مرسلة / د ت ق (التقريب 592) .
8 ويقال: أبو ماجدة، قيل: اسمه عائذ بن نضلة، مجهولٌ، لم يرو عنه غير يحيى الجابر، من الثانية/ د ت ق. (التقريب 670) .
(2/494)
الخبب1، إن يكن خيراً تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فَبُعْدَاً لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تُتْبَعُ، ليس معها من تَقَدَّمَهَا". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين نحو، إلا أن الترمذي عنده: "سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير خلف الجنازة" وفيه: "وليس منا من تقدمها". والعبارة الأخيرة كذا هي عند أحمد في موضعين2. وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف) 3 مختصراً كلفظ ابن ماجه المتقدم، لكن فيه سؤال ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث ضعيفٌ، ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء، فقال الترمذي: "هذا حديث لا يُعْرَف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه. سمعت محمد بن إسماعيل يُضَعِّفُ حديث أبي ماجد لهذا. وقال محمد: قال الحميدي: قال ابن عيينة: قيل ليحيى: من أبو ماجد هذا؟ قال: طائر طار فحدثنا"4. وفي (علله) 5 أنه سأل البخاريَّ عنه؟ فقال: "أبو ماجد منكر الحديث" وضَعَّفَهُ جداً. وقال أبو داود: "وهو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله، وهو يحيى الجابر ... أبو ماجدة هذا لا يُعْرف". وقال البيهقي: "أبو ماجد مجهولٌ، ويحيى الجابر: ضَعَّفَهُ جماعة من أهل النقل"6. وَضَعَّفَهُ المنذري - أيضاً - في (مختصر السنن) 7. وقال ابن
__________
1 الخَبَبَ: ضَرْبٌ من العَدْو، وقيل: هو مثل الرَّمَل، وقيل: الخبب السرعة. (لسان العرب ص 1085) .
2 المسند: (1/394، 415) .
(3/446) ح 6265.
4 جامع الترمذي: (3/323) .
(1/407) .
6 السنن: (5/25) .
(4/318 - 319) .
(2/495)
الملقن: "هو حديث واهٍ لأجل يحيى الجابر، وأبي ماجدة"1 ثم نقل كلام أئمة الجرح والتعديل فيهما. وَضَعَّفَهُ الشيخ الألباني2 أيضاً.
فيتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ لاتفاقهم على جهالة أبي ماجد، وضَعْفِ يحيى الجابر، والله أعلم.
__________
1 البدر المنير: ج 4 (ق 27/أ) نسخة أحمد الثالث.
2 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح 324) .
(2/496)
3- باب ما جاء في القيام للجنازة
64- (3) حديث البراء بن عازب: "خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجل من الأَنْصَارِ، فانتهينا إلى القبر، وَلَمَّا يُلْحَد بعدُ، فجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسْنَا مَعَهُ".
قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيح"1. ثم تَعَرَّضَ له بعد ذلك، ودفع عنه بعض ما رُمِيَ به من علل2. وقال مرة: "وهو صحيح، صححه جماعة من الحفاظ"3.
وقد استَدَلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث على أن السُّنَّة لِمُتَّبِع الجنازة ألاَّ يجلس حتى توضع، وأن المراد: وضعها على الأرض، فقال: "ويدلُّ على أنَّ المراد بالوضع الوضع بالأرض عن الأعناق: حديث البراء ... " فساقه.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، أربعتهم من طريق: الأعمش.
__________
1 تهذيب السنن: (4/311) .
2 المصدر السابق: (4/337) .
3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص58) .
(3/546) ح 3212 باب الجلوس عند القبر.
5 حم: (4/287) . طس: (ح 753) .
(1/37 - 38) .
(2/497)
وأخرجه النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 1، والحاكم - أيضاً - في (مستدركه) 2، ثلاثتهم من طريق: عمرو بن قيس3.
وأخرجه ابن ماجه والحاكم4، من طريق: يونس بن خباب5 كُلُّهم عن:
المنهال بن عمرو6، عن زاذان7، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.
وألفاظهم متفاوتة، وعند بعضهم ما ليس عند الآخر.
قال أبو عبد الله الحاكم عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعاً بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي"8.
__________
1 س: (4/78) باب الوقوف للجنائز. جه: (1/494) ح 1549، باب ما جاء في الجلوس في المقابر.
(1/40) .
3 الملائي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين/ بخ م 4. (التقريب 426) .
4 جه: (1/494) ح 1548. كم: (1/39) .
5 الأُسَيِّدي مولاهم، الكوفي، صدوقٌ يخطئ وَرُمِيَ بالرفض، من السادسة/بخ4. (التقريب 613) .
6 الأسدي، مولاهم، الكوفي، صدوق رُبَّما وَهِمَ، من الخامسة/خ4. (التقريب547) .
7 أبو عمر، الكندي، البزاز، ويكنى أبا عبد الله أيضاً، صدوق يرسل، وفيه شيعية، من الثانية، مات سنة 82هـ / بخ م 4. (التقريب 213) .
8 المستدرك: (1/39) .
(2/498)
وليس كما قال رحمه الله؛ فإن المنهال احتجَّ به البخاري وحده، وزاذان احتجَّ به مسلم وحده، فكيف يكون على شرطهما؟!
وقد أَعَلَّهُ ابن حبان - رحمه الله - في (صحيحه) 1 فقال: " ... وزاذان لم يسمعه من البراء، فلذلك لم أخرجه".
وقد نقل ابن القَيِّم ذلك عن ابن حبان، ثم قال: "وهذه العلة فاسدة؛ فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب ... ذكره أبو عوانة في صحيحه".
قلتُ: ورواية الحاكم - أيضاً - فيها التصريح بسماعه منه.
وقد أَعَلَّهُ ابن حزم بعلة أخرى، وهي ضعف المنهال بن عمرو2.
ونقل ابن القَيِّم ذلك عنه، ثم قال: "وهي علة فاسدة؛ فإن المنهال ثقة صدوق"3.
قلتُ: قد وثقه جماعة، وغاية ما قيل فيه: أنهم سمعوا صوت طنبور من بيته، ولم يقبل العلماء جَرْحَهُ بذلك، واحتجَّ به البخاري في (صحيحه) 4.
__________
1 انظر: الإحسان: (5/48) .
2 تهذيب التهذيب: (10/320) .
3 تهذيب السنن: (4/337) .
4 تنظر ترجمته في: الميزان: (4/192) ، وتهذيب التهذيب: (10/319) ، وهدي الساري: (ص446) .
(2/499)
وَدَفَعَ ابن القطان القول بتضعيف الحديث بالمنهال بن عمرو، ونقل عن بعض الأئمة توثيقه، ثم قال - رداً على من ضَعَّفَ المنهال بن عمرو بسماع صوت طنبور من بيته -: "فهذا - كما ترى - التعسف فيه ظاهرٌ، ولا أعلم لهذا الحديث عِلَّةً غير ما ذكرت، فاعلمه"1.
وألزم عبد الحق بقبول هذا الحديث، فقال رحمه الله: "وسكت عنه، ولم يبين أنه من رواية المنهال، فكان هذا منه قبولاً له"2.
فثبت بذلك صحَّةُ هذا الحديث - كما حكم ابن القَيِّم رحمه الله - أو حُسْنُهُ على أقل تقدير، وأن ما ضُعِّفَ به لا ينهض، وحينئذ يَسْلَمُ لابن القَيِّم - رحمه الله - الاستدلال به على جلوس مُتَّبَعِ الجنازة بمجرد وضعها على الأرض، واستدل به ابن حجر على ذلك أيضاً، بعد أن نقل عن أبي عوانة أنه صححه3.
ثم أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك حديثاً للقائلين بأن المراد: الوضع في اللَّحْدِ، وهو:
65- (4) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كَانَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الْجنازة حتى تُوضعَ في اللَّحْدِ ".
قال ابن القَيِّم: "لكن في إسناده بشر بن رافع". ثم نقل أقوال الأئمة: الترمذي، والبخاري، وأحمد، وابن معين، والنسائي، وابن
__________
1 بيان الوهم والإيهام: (3/362 - 363) ح 1107.
2 بيان الوهم والإيهام: (3/362) .
3 التلخيص الحبير: (2/112) .
(2/500)
حبان في تضعيف بشر هذا1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، والبيهقي في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، كلهم من طريق:
بشر بن رافع5، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية6، عن أبيه7، عن جده8، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرَّ به حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "اجلسوا، خالفوهم". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي وابن ماجه مثله، إلا أنه ليس عندهما قوله: "اجلسوا"، ولفظ البيهقي كأبي داود.
__________
1 زاد المعاد: (1/518 - 519) .
2 د: (3/520) ح 3176. ت: (3/331) ح1020. جه: (1/493) ح 1545. كلهم في ك الجنائز، وعند د، جه: باب القيام للجنازة، وعند ت: باب الجلوس قبل أن توضع.
(4/28) .
(ص 131) باب النهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة ...
5 الحارثي، أبو الأسباط النجراني، فقيه ضعيف الحديث، من السابعة/ بخ د ت ق. (التقريب 123) .
6 الأزدي، ضعيف، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 306) .
7 هو: سليمان بن جنادة، منكر الحديث، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 250) .
8 جنادة بن أبي أمية، يقال: اسم أبيه كبير، مختلف في صحبته، فقال العجلي: "تابعي ثقة"، والحق أنهما اثنان، صحابيُّ وتابعيُّ، متفقان في الاسم وكنية الأب / ع. (التقريب142) .
(2/501)
قلتُ: وهذا الحديث ضعيف، ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء، فقال البخاري: "منكر"1. ونقل عنه العقيلي قوله - في ترجمة سليمان ابن جنادة -: "لم يُتَابَعْ في هذا"2. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقويِّ في الحديث". وقال الحازمي: " ... ولو صحَّ لكان صريحاً في النسخ"3. وقال ابن الملقن: "وإسناد هذا ضعيف، فيه: بشر بن رافع، وليس بحجة، عن: ابن جنادة، وفيه نظر، كما قال البخاري ... "4. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف"5.
والحديث ليس ضعيفاً بسبب بشر بن رافع وحده، كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم السالف، بل شَيْخُهُ، وشيخُ شيخِهِ - أيضاً - ضعيفان.
أما شيخه عبد الله بن سليمان بن جنادة: فقال عنه البخاري: "فيه نظر"6. وسكت ابن أبي حاتم عنه7. أما ابن حبان فقد ذكره في (الثقات) 8 وقال: "يعتبر حديثه من غير رواية بشر عنه".
قلت: والرجلُ في عداد المجهولين؛ فإنه لم يرو عنه أحد غيرُ
__________
1 الضعفاء الصغير: (ص108) ، والتاريخ الكبير: (2/2/6) .
2 ضعفاء العقيلي: (2/122) .
3 الاعتبار: (ص131) .
4 البدر المنير: ج4 (ق 26/ب) . نسخة أحمد الثالث.
5 التلخيص الحبير: (2/112) .
6 التاريخ الكبير: (3/1/108) .
7 الجرح والتعديل: (2/2/75) .
(8/337) .
(2/502)
بشر بن رافع، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان، ولذلك فقد قال عنه الذهبي: "لا يُدْرَى من هو"1. وسبق قول ابن حجر فيه: "ضعيف".
وأما شيخ شيخه سليمان بن جنادة، أبو عبد الله الماضي ذكره: فقال أبو حاتم: "منكر الحديث"2. وَضَعَّفَهُ البخاري3، والعقيلي4. وقال ابن حبان: "منكر الحديث، فلست أدري البلية في روايته منه أو من بشر بن رافع؛ لأن بشر بن رافع ليس بشيء في الحديث ... على أنه يجب التَّنَكُّبُ عن روايته على الأحوال"5.
قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الإسناد، فإن الاقتصار على تضعيفه بـ"بشر بن رافع" وحده فيه نظر.
ومع ضعف هذا الحديث الظاهر، فإن الشيخ الألباني -رحمه الله- قد حَسَّنَهُ6، ولا أدري ما وجه تحسينه له؟
فتلخص من ذلك: أنَّ الصَّواب فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى تُوضَعَ " أي: بالأرض. وأنَّ مَا جَاء من أن المراد: الوضع في اللَّحد: ضَعِيف لا يثبت، وهذا ما قرره ابن القَيِّم - رحمه الله - في دراسته هذه، فأصاب.
__________
1 الميزان: (2/432) .
2 الجرح والتعديل: (2/1/105) .
3 الضعفاء الصغير: (ص108) .
4 الضعفاء: (2/122) .
5 المجروحين: (1/329) .
6 صحيح سنن ابن ماجه: (ح 1256) .
(2/503)
4- باب الصلاة على الجنازة في المسجد
66- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لَهُ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل أن الإمام أحمد ضَعَّفَهُ: بأنه مما تفرد به صالح مولى التوأمة، وكذا البيهقي، وأنه قَدَّمَ عليه حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، حيث إنها احتجت عليهم بذلك لما أنكروا عليها إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها.
ثم قرَّرَ ابن القَيِّم أن صالحاً ثقة في نفسه، إلا أنه اختلطَ أخيراً، فمن سَمِعَ منه قبل الاختلاط فهو حُجَّةٌ، وابن أبي ذئب - راوي الحديث عنه - ممن سَمِعَ منه قبل اختلاطه، ولذلك فإن هذا الحديث حسن، ولا معنى لتضعيفه ما دام من رواية ابن أبي ذئب1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد في (المسند) 4، والبيهقي في (السنن) 5 من طريق: وكيع. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 من طريق: معمر،
__________
1 زاد المعاد: (1/500 - 501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) .
(3/531) ح 3191 ك الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.
(1/486) ح 1517.
(2/444) .
(4/52) .
(3/527) ح 6579.
(2/504)
والثوري كليهما، ومن طريقه أخرجه البيهقي1. وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 3 من طريق: الثوري وحده، وأخرجه ابن حبان في (المجروحين) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5 من طريق: علي بن الجعد، كلهم عن:
ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
وقد اختلفت ألفاظهم في هذا الحديث: ففي رواية أبي داود التي بين أيدينا: "فلا شيء عليه". ونقل ابن القَيِّم عن الخطيب أنه قال في روايته لكتاب السنن: "في الأصل: فلا شيء عليه، وغيره يرويه: فلا شيء له". ولفظ ابن ماجه وأحمد: "فليس له شيء" وأما رواية الباقين فلفظها: "فلا شيء له ".
وعند الطيالسي زيادة وهي: "قال صالح: وأدركتُ رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يُصَلُّوا في المسجد، رجعوا فلم يصلوا". وهي عند البيهقي لكن لفظها: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها".
وقد ضَعَّفَ جماعة هذا الحديث: فقال ابن ماجه عقب إخراجه:
__________
1 السنن: (4/52) .
(ح 2310) .
(7/93) .
(1/366) .
(1/414) ح 696.
(2/505)
"حديث عائشة أقوى" يعني: في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد. وقال ابن حبان: "هذا خبرٌ باطلٌ، كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُصَلِّي في المسجد على الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يُصَلِّي هو على سهيل بن بيضاء في المسجد؟ "1.
وقال البيهقي: "وهو مِمَّا يُعَدُّ في أَفراد صالح، وحديث عائشة رضي الله عنها أصحُّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"2. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ، وصالح قد كَذَّبَه مالك ... "3. وقال النووي: "ضعيف باتفاق الحُفَّاظِ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام أحمد، وأبو بكر بن المنذر، والبيهقي وآخرون ... "4.
قلت: وبالنظر إلى كلام الْمُضَعِّفِينَ لهذا الحديث نجدُ أنهم اعتمدوا في تضعيفه على أمرين:
الأول: ضعفُ صالح مولى التوأمة، وقد تَفَرَّدَ بذلك.
الثاني: مخالفةُ هذه الرواية لما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على ابن بيضاء في المسجد".
__________
1 المجروحين: (1/366) .
2 السنن: (4/52) .
3 العلل المتناهية: (1/414) .
4 المجموع: (5/162) .
(2/506)
فأما صالح: فإنه قد وثقه جماعة، وضَعَّفَهُ آخرون1. وغاية ما رَمَوهُ به: أنه اختلط قبل موته، لكن مَيَّزَ الأئمة النُّقَّادُ بين سماع من سمع منه قبل الاختلاط وبعده، فقال علي بن المديني: "صالح ثقة، إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ، فَسَمِعَ منه قومٌ وهو خرف كبير، فكان سَمَاعهم ليس بصحيح، سفيان الثوري ممن سمع منه بعد ما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف"2. وقال أحمد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: "ثقة حجة. فقلت له: إن مالكاً تركه. فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن خرف ... لكنَّ ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف"3. وقال الجوزجاني: "تَغَيَّرَ أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لِسِنِّه وسماعه القديم، وأما الثوري فَجَالَسَهُ بعد التغير"4.
فهذا كلام هؤلاء الأئمة في أنَّ ابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً قبل الاختلاط، وقال ابن عديّ - بعد أن ذكر قدم سماع ابن أبي ذئب منه -: "ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب ... وصالح مولى التوأمة: لا بأس برواياته وحديثه"5.
قلت: وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عن صالح، فلا مجال حينئذ للطعن فيه باختلاط صالح، ولذلك فقد ساق الذهبي هذا
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/405 - 407) .
2 سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (ص86) .
3 الميزان: (2/303) .
4 أحوال الرجال: (ص 144) .
5 الكامل: (4/1375 - 1376) .
(2/507)
الحديث وغيره في ترجمة صالح من طريق ابن أبي ذئب عنه، ثم قال: "فهذه الأحاديث صحاح عند ابن معين على ما قال"1.
وأما معارضة هذا الحديث لحديث عائشة السابق: فيمكن الجواب عن ذلك بأجوبة:
- منها: أن نُسَخَ أبي داود المعتمدة فيها: "فلا شيء عليه"، وبعضهم: "فليس له شيء "، وبعضهم: " فليس به شيء "، وعلى هذا: لا دلالة فيه على كراهية ذلك. أجاب بذلك النووي2.
قلت: لكن كيف برواية الجماعة الباقين، وهي: "فلا شيء له"، وفي رواية: "فليس له شيء "، فهذا يعكر على هذا الجواب. ويعكر عليه أيضاً: قول صالح عقب روايته هذا الحديث: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها". وقد سبق ذلك في رواية البيهقي، وأبي داود الطيالسي، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه راوي هذا الحديث يفعل ذلك، فلا بدَّ أنه قد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة ذلك، وحينئذ فلا وجه لردِّ رواية: "فلا شيء له".
- ومن هذه الأجوبة: أن لفظة: "لا شيء له" يجب حملها على: "فلا شيء عليه" جمعاً بين الروايات، وقد جاء مثل ذلك في القرآن، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها. قاله النووي3.
__________
1 الميزان: (2/304) .
2 المجموع: (5/162) .
3 المجموع: (5/162) .
(2/508)
- وأجاب الخطابي بجواب آخر، فقال: "وقد يكون معناه - إن ثبت الحديث - متأولاً على نقصان الأجر؛ وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فإن الغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجَبَّان فَصَلَّى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه، فأحرز أجر القيراطين ... فصار الذي يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صَلَّى عليها براً"1. وقال مثله النووي رحمه الله، وزاد: "فيكون التقدير: فلا أجر كامل له"2.
قلتُ: ولعلَّ هذا الجواب الأخير هو أَقْرَبُهَا، فيكون الأصل في الصلاة على الجنازة أن تكون خارج المسجد، وأنه الأفضل، وأن الصلاة عليها في المسجد جائزة، وإن كانت دون الأولى، وقد أشار إلى شيء من ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فإنه عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" قال رحمه الله: "دلَّ حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعَدٌّ للصلاة عليها، فقد يستفاد منه: أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمرٍ عارض، أو لبيان الجواز"3. وفي إنكار الصحابة - رضوان الله عليهم - على عائشة إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها، دليل على عدم وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وإلا لما خفي عليهم.
__________
1 معالم السنن: (4/325) .
2 المجموع: (5/162) .
3 فتح الباري: (3/199) .
(2/509)
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي هريرة هذا - من رواية صالح مولى التوأمة - حديث حسن على أقل أحواله، كما حكم عليه بذلك ابن القَيِّم رحمه الله، وأن القول بضعفه مَبْنِيٌّ على الطعنِ في صالح، وقد عُلِمَ ما فيه.
على أنه لا تنافي بينه وبين جواز الصلاة على الجنازة في المسجد على الوجه المتقدم، والله أعلم.
(2/510)
5 - باب ما جاء في الصلاة على الطفل
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: 67- (6) "الطِّفْلُ يُصَلَّى عليه" 1.
قلت: هذا جزء من حديثٍ يُروى عن: زياد بن جبير بن حَيَّة2، عن أبيه3، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، واختلف فيه على زياد بن جبير:
فأخرجه: الترمذي والنسائي وابن ماجه في (سننهم) 4، وأحمد في (مسنده) 5 والطبراني في (الكبير) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، كلهم من طريق:
__________
1 زاد المعاد: (1/513) .
2 ابن مسعود بن مُعَتِّب الثفي، البصري، ثقةٌ وكان يُرْسِل، من الثالثة/ ع. (التقريب 218) .
3 جبير بن حية بن مسعود الثقفي، ابن أخي عروة بن مسعود، ثقةٌ جليل، من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك بن مروان/ خ 4. (التقريب 138) .
4 ت: (3/340) ح 1031، باب الصلاة على الأطفال. س: (4/56) ، باب مكان الماشي من الجنازة. جه: (1/483) ح 1507، باب الصلاة على الطفل. ثلاثتهم في كتاب الجنائز.
(4/247، 252) .
(20/430) ح 1045.
7 الإحسان: (5/22) ح 3038.
(1/355، 363) .
(2/511)
سعيد بن عبيد الله1، عن عمه زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خَلْفَ الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفلُ يُصَلَّى عليه". هذا لفظ الترمذي، ومثله: أحمد والنسائي، والطبراني، وابن حبان، وأما لفظ ابن ماجه فمختصر، وهو الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله، وأما لفظ الحاكم: "الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها، والطفل يصلى عليه".
وأخرجه النسائي2 مرة عن: سعيد بن عبيد الله وأخيه المغيرة بن عبيد الله3، كلاهما عن: زياد بن جبير به، ولفظه كلفظه الماضي.
هكذا رواه هؤلاء من طريق سعيد بن عبيد الله - وأخيه في رواية النسائي - عن زياد بن جبير مجزوماً برفعه.
وأخرجه: أبو داود في (سننه) 4، والطبراني في (الكبير) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، والبيهقي في (سننه) 7 كلهم من طريق:
__________
1 ابن جبير بن حَيَّة، الثقفي، الجبيري، بصري، صدوق رُبَّمَا وهم، من السادسة/ خ ت س ق. (التقريب 239) .
2 السنن: (4/55) .
3 ابن جبير بن حية/ الثقفي، مقبولٌ، من السابعة/ س. (التقريب 543) .
(3/522) ح 3180، باب المشي أمام الجنازة.
(20/430) ح 1042.
(1/363) .
(4/8) .
(2/512)
يونس بن عبيد1، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة- قال يونس: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها، والسِّقْط2 يُصَلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة". هذا سياق أبي داود ومثله سياق الطبراني إسناداً ومتناً. وأما الحاكم فلفظه مثل أبي داود لكن فيه: " ... ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأما إسناده، ففيه قول يونس: "وحدثني بعض أهله أنه رفعه" هكذا بدون شك. قال إبراهيم بن أبي طالب - شيخ شيخ الحاكم في هذا الإسناد -: "قول يونس بن عبيد: حدثني بعض أهله أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: رواية ليونس بن عبيد، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير ... ".
ورواية يونس بن عبيد هذه: أخرجها الطبراني في (الكبير) 3 من غير شك في رفعها، وذلك من طريق: عبد الله بن بكر4، ثنا يونس بن عبيد، عن زياد، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يُصَلَّى عليه".
ورواه الثوري عن يونس بن عبيد فلم يرفعه، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 5.
__________
1 ابن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة، مات سنة 139 هـ / ع. (التقريب 613) .
2 بالكسر والفتح والضم - والكسر أكثرها -: الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (النهاية 2/378) .
(20/430) ح 1044.
4 ابن عبد الله، الْمُزَنِي، البصري، صدوقٌ، من السابعة/ د س ق. (التقريب297) .
(3/531) ح 6602.
(2/513)
وأخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 1 من طريق: المبارك بن فضالة2، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً، ووقع عند الطيالسي قول المبارك: "ولا أراه إلا مرفوعاً" أما عند أحمد فقد جزم برفعه.
وقد صحح هذا الحديث جماعة؛ فقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الإمام أحمد بن حنبل - فيما رواه أحمد بن أبي عبدة عنه -: "صحيح مرفوع"3. وقال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط البخاريِّ، ولم يُخَرِّجَاهُ". ووافقه الذهبي رحمه الله. وصححه ابن دقيق العيد؛ فإنه أورده في كتابه (الاقتراح) 4 في القسم الخاص بالأحاديث التي رواها قومٌ خَرَّجَ عنهم البخاري دون مسلم. هذا مع تصحيح ابن حبان له؛ إذ أخرجه في (صحيحه) كما مرَّ، وصححه - أيضاً - الشيخ الألباني5 رحمه الله.
وأما ما وقع في بعض طرقه من الشكِّ في رفعه: فإن ذلك لا يَضُرُّهُ؛ إذ إن ذلك وقع في رواية يونس بن عبيد وحده، ومع هذا فقد اخْتُلِفَ عليه في ذلك، فقد رواه عنه عبد الله بن بكر بدون شك، كما مضى عند الطبراني.
__________
1 حم: (4/248) . طس: (ح702) .
2 أبو فضالة البصري، صدوق يُدَلِّسُ ويُسَوِّي، من السادسة، مت سنة 136هـ على الصحيح/ خت د ت ق. (التقريب 519) .
3 زاد المعاد: (1/513) .
(ص 479) ح 27 من القسم المذكور.
5 صحيح ابن ماجه: (ح 1224) .
(2/514)
وأما رواية الثوري له موقوفاً: فقد خالفه جماعة عن يونس بن عبيد، منهم: عبد الله بن بكر المزني الماضي ذكره، وذكر الدارقطني: أن ابن عُلَيَّةَ، وعنبسة بن عبد الواحد روياه عن يونس مرفوعاً1. هذا مع اتفاق سعيد بن عبيد الله الثقفي، وأخيه المغيرة، والمبارك بن فضالة على رفعه كما مرَّ في تخريج الحديث، فهذا العدد الكثير أولى أن تكون روايتهم محفوظة، هذا إذا لم نقل: إن الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقات، فهي مقبولة.
وبهذا يتبين أن ترجيح الإمام الدارقطني في (علله) 2 رواية الوقف، الراجح خلافه.
ويَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث صحيح ثابت، وأنه لا مَطْعَنَ فيه، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والاستدلال به على مشروعية الصلاة على الطفل.
68- (7) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً، وقال: "إِنَّ في الجَنَّة مُرْضِعَاً تُتِمُّ رِضَاعَهُ، وهو صِدِّيقٌ ".
قال ابن القَيِّم: "هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية جابر الجُعْفِي، ولا يحتجُّ بحديثه، ولكن هذا الحديث مع مرسل البَهيّ،
__________
1 علل الدارقطني: ج2 (ق 104) .
2 ج2 (ق 104) .
(2/515)
وعطاء، والشعبي، يُقَوِّي بعضها بعضاً"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق:
إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.
وهذا الإسناد ضعيف بجابر الجعفي كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، وضَعَّفَهُ به المنذري4 أيضاً، ثم نقل كلام البيهقي في اعتضاد هذا الحديث بالمراسيل السابقة، قال: "وفيه نظر".
قلت: وقد رُوي مسنداً من غير طريق البراء، فَرُوِيَ عن: ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ذكر ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 5.
أما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من
__________
1 تحفة المودود: (ص 108) . وقد ذكر - رحمه الله - هذه المراسيل، ونقل عن البيهقي قوله: "هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تشبه الموصول، ويشد بعضها بعضاً". وانظر كلام البيهقي هذا في (سننه) (4/9) .
(4/283) .
(4/9) .
4 مختصر السنن: (4/323-324) .
(2/279-280) .
(1/484) ح1511 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
(2/516)
طريق: إبراهيم بن عثمان1، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صِدِّيقَاً نَبِيَّاً، ولو عاش لَعُتِقَتْ أخواله القبط، وما اسْتُرِقَّ قبطيُّ".
قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف لضعف إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة"2. وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه ابن ماجه ... بسند ضعيف"3.
وأما حديث أنس: فرواه أبو يعلى في (مسنده) 4 من طريق: يونس بن بكير، عن محمد بن عبيد الله5، عن عطاء، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على إبراهيم، فَكَبَّرَ عليه أربعاً". وَضَعَّفَهُ الهيثمي بمحمد بن عبيد الله العَرْزَمي6.
وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البزار في (مسنده) 7 من طريق:
__________
1 العبسي، أبو شيبة الكوفي، قاضي واسط، متروكُ الحديث، من السابعة، مات سنة 169 هـ / ت ق. (التقريب 92) .
2 مصباح الزجاجة: (2/33) .
3 الدراية: (1/235) ، وانظر الإصابة: (1/94) .
(6/335) ح 3660.
5 ابن أبي سليمان العرزمي، الفَزَاري، أبو عبد الرحمن الكوفي، متروك، من السادسة، مات سنة بضع وخمسين/ ت ق. (التقريب 494) .
6 مجمع الزوائد: (3/35) .
7 المصدر السابق.
(2/517)
عبد الرحمن بن مالك بن مغول1، عن الجُرَيرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ حديث أنس الماضي. وَضَعَّفَهُ الهيثمي2 بعبد الرحمن بن مالك، فإنه متروك الحديث. وَضَعَّفَهُ به ابن حجر أيضاً3.
قلتُ: فهذه المسانيد الثلاثة شديدة الضَّعْفِ؛ فإن إسناد كلِّ واحد منها لا يخلو من متروك، فيكون الاعتماد في ذلك على تلك المراسيل التي مضى ذكرها، فإنها - كما قال البيهقي وابن القَيِّم - إذا انضمت إلى مسند البراء بن عازب رضي الله عنه، قَوَّى كل منهما الآخر.
ومما يقوي ذلك أيضاً: أن الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابنه إبراهيم، قال ابن عبد البر: "وصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَبَّرَ أربعاً. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح" 4. وقال النووي: "الذي ذهب إليه الجمهور: أنه صَلَّى عليه، وكبر عليه أربع تكبيرات" 5.
وقال الخطابي - عقب ذكره مرسل عطاء -: "وهذا أولى الأمرين"6. وقال البيهقي: "وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه
__________
1 قال أحمد والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه أبو داود. وقال النسائي: ليس بثقة. (الميزان 2/584) .
2 مجمع الزوائد: (3/35) .
3 الإصابة: (1/94) .
4 الاستيعاب: (1/45) .
5 الإصابة: (1/94) .
6 معالم السنن: (4/323) .
(2/518)
إبراهيم، وذلك أولى من رواية من روى: أنه لم يُصَلِّ عليه"1.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: ثبوت صلاته صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وأن ذلك كان هديه، وكذلك ثبوت صلاته على ابنه إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.
__________
1 سنن البيهقي: (4/9) .
(2/519)
6- باب ما جاء في الصلاة على الشهداء
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية الصلاة على الشهيد، وقَرَّرَ أَنَّ أَصحَّ الأقوال في ذلك: التخيير بين الصلاة على الشهداء وتركها، وذلك لمجيء الأخبار بكل واحد من الأمرين.
ومن هذه الأحاديث التي بحثها في هذا الموضوع:
69 - (8) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَة، فَكَبَّرَ سَبعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَم يُؤت بقتيل إلا صَلَّى عليه معه، حتى صَلَّى عليه اثنتين وسبعين صلاةً".
ساق ابن القَيِّم هذا الحديث من رواية: ابن إسحاق، عن رجل من أصحابه، عن مقسم، عن ابن عباس به، ثم قال: "ولكنَّ هذا الحديث له ثلاث عللٍ:
- إحداها: أن ابن إسحاق عنعنه، ولم يذكر فيه سماعاً.
- الثانية: أنه رواه عمن لم يُسَمِّه.
- الثالثة: أن هذا قد رُوِيَ من حديث الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، والحسن لا يحتجُّ به ... "1.
قلت: حديثُ ابن إسحاق هذا أورده ابن هشام في (السيرة
__________
1 تهذيب السنن: (4/295) .
(2/520)
النبوية) 1 فقال: "وقال ابن إسحاق: وَحَدَّثَنِي من لا أَتَّهِمُ، عن مِقْسم مولى عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: " أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزةَ فَسُجِّي2 ببردةٍ، ثم صلى عليه ... " الحديث.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجلٌ من أصحابي ... الحديث.
وإلى مناقشة العلل التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله:
أما قوله:"إن ابن إسحاق عنعنه ... " فليس كذلك، بل صَرَّحَ فيه ابن إسحاق بالتحديث كما في (السيرة) ، وكذا الرواية عند البيهقي مُصَرَّحٌ فيها بالتحديث، وروايته هي التي ساقها ابن القَيِّم، وحينئذ تنتفي عنه شبهة التدليس.
وأما قوله:"إنه رواه عمن لم يسمعه": فنعم، قال البيهقي عقب إخراجه: "وهذا ضعيف، ومحمد بن إسحاق بن يسار إذا لم يذكر اسم من حَدَّثَ عنه لم يُفْرَحْ به"4.
وأما العلة الثالثة، وهي قوله: "إن هذا رُوِيَ من حديث الحسن ابن عمارة ... " إلخ: فقد أشار البيهقي إلى هذه العلة أيضاً5.
__________
(2/97) .
2 أي: غُطِّي.
(4/13) .
4 السنن: (4/13) .
5 المصدر السابق.
(2/521)
ولعلَّ هناك وجهاً للربط بين رواية ابن إسحاق، وبين رواية الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، وهو ما ذكره السهيلي في (الروض الأنف) 1 - مُعَقِّبَاً على رواية ابن إسحاق - فقال: "قول ابن إسحاق في هذا الحديث: حَدَّثَنِي من لا أَتَّهِم. إن كان هو الحسن بن عمارة - كما قاله بعضهم - فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره، فهو مجهول ... ".
وقال الحافظ ابن حجر: "والحامل للسهيلي على ذلك: ما وقع في مقدمة مسلم2، عن شعبة: أن الحسن بن عمارة حَدَّثَهُ عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على قتلى أحد. فسألت الحكم؟ فقال: لم يصلِّ عليهم"3.
ولكن على كلام السهيلي هذا يكون ابن إسحاق قد أَبْهَمَ الحسن ابن عمارة، وأسقط من الإسناد "الحكم بن عتيبة".
ولكن لحديث ابن عباس هذا طرقاً أخرى قد يَتَقَوَّى بها، من هذه الطرق:
1- ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طريق: أبي بكر بن عياش7،
__________
(6/43) .
2 صحيح مسلم: (1/23 - 24) والقصة فيه بأطول من هذا.
3 التلخيص الحبير: (2/117) .
(1/485) ح 1513 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.
(3/197 - 198) .
(4/12) .
7 ابن سالم الأسدي، الكوفي، المقري، الحنَّاط، مشهور بكنيته، والأصحُّ: أنها اسمه، ثقة عابد إلا أنه لما كَبِرَ ساءَ حفظه، وكِتَابُهُ صحيحٌ، من السابعة، مات سنة194هـ/ع. (التقريب624) .
(2/522)
عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُتِيَ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فَجَعَلَ يُصَلِّي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يُرفَعُونَ وهو كما هو موضوع". هذا لفظ ابن ماجه، وهو عند الحاكم والبيهقي بأطول من هذا، وفيه قصة صفية وبحثها يوم أحد عن حمزة رضي الله عنه.
وأورد ابن القَيِّم هذا الطريق قبل طريق ابن إسحاق السابق، وعزاه إلى البيهقي، ثم نقل قوله في أبي بكر ويزيد، فقال: "لا يحفظ إلا من حديثهما، وكانا غير حافظين". وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليسا بمعتمدين" وقال ابن حجر في (التلخيص) 1: "ويزيد فيه ضعف يسير".
وقال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح"2. كذا قال!
والذي يظهر عند النظر في هذا الإسناد: أن رَدَّهُ بأبي بكر بن عياش غير سائغ؛ فإن الرجل ثقة، إلا أنه قد ساء حفظه لما كَبِرَ، ولعلَّ القول فيه ما قاله ابن حبان رحمه الله: "والصواب في أمره: مُجَانَبةُ ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخل في جملة أهل العدالة ... "3.
قلت: وأما القول بالاحتجاج بما خالف فيه الثقات: فغير مقبول؛ لأنه حينئذٍ يكون من قبيل الشاذ.
__________
(2/117) .
2 مصباح الزجاجة: (2/34) .
3 الثقات: (7/670) .
(2/523)
وأما يزيد بن أبي زياد: فإنه ضعيف، ولكن لا يصلُ به الضعف إلى مرتبة من يُطْرَحُ حديثه بالكلية؛ لأن ضَعْفَهُ يسير كما قال ابن حجر1. ولذلك قال ابن عبد الهادي - في معرض رده على ابن الجوزي في تضعيفه هذا الحديث -: "وهو ممن يُكْتَبُ حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقروناً بغيره ... وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه"2.
فإذا تَبَيَّنَ ذلك، فإن هذا الإسناد مما يَصْلُحُ في المتابعات، ويعتضد بانضمام غيره إليه، وأما قول البوصيري: "صحيح" فإنه لا يخفى ما فيه.
2- ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن أبي عتيبة أو غيره، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، وفيه: "أَنَّه صَلَّى عليه سبعين صلاة، وأَنه كَبَّرَ عليه عشراً". قال الدارقطني عقبه: "لم يروه غير إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين".
وقد روي من وجه آخر عن: الحكم، عن مجاهد. أشار إلى ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 4 فقال: "رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في (سننه) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به، ولفظه كلفظ رواية الدارقطني الماضية.
__________
1 التلخيص الحبير: (2/117) .
2 نصب الراية: (2/311) .
(4/118) ح 47.
(2/311) .
(2/524)
وفي إسناده "الحسن بن عمارة" وهو ضعيف بالاتفاق.
3- ما أخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 1 من حديث: عبد العزيز بن عمران2، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس به.
قال الدارقطني عقبة: "عبد العزيز بن عمران ضعيف".
فهذه الطرق الثلاث: أحسنها الطريق الأول، من رواية أبي بكر ابن عَيَّاش، فيكون مقوياً لطريق ابن إسحاق المتقدم.
وهناك شاهدٌ مرسل لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو:
70- (9) حديث أبي مالك الغفاري، أنه قال: "كَانَ قَتْلَى أُحُد يؤتى منهم بتسعةٍ وعاشرهم حمزة، فَيُصَلِّي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُحْمَلُون، ثم يُؤْتَى بتسعةٍ فَيُصَلِّي عليهم وحمزة مكانه، حتى صَلَّى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: " هذا مرسل صحيح"3. ثم نقل عن البيهقي قوله: "هو أصحُ ما في الباب".
__________
(4/116) ح 42.
2 المدني، الأعرج، يُعرف: بابن أبي ثابت، متروكٌ، احْتَرَقَتْ كُتبه فَحَدَّثَ من حِفِظهِ فاشتَدَّ غَلَطُهُ، من الثامنة، مات سنة 197 هـ / ت. (التقريب 358) .
3 تهذيب السنن: (4/295) .
(2/525)
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (المراسيل) 1 من طريق: سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن2، عن أبي مالك3، وفيه: "فَصَلَّى عليهم سبع صلوات، حتى صَلَّى على سبعين رجلاً، منهم حمزة في كل صلاة صَلاّها".
وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: شعبة، عن حصين به. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "رجاله ثقات"5. وتقدم قول البيهقي6 فيه، وتصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - إياه.
وفي مقابلة هذه الأحاديث يأتي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليهم7. وظاهر صنيع ابن القَيِّم أنه يذهب إلى هذا الحديث ويقول به، وأما الأحاديث التي مَرَّتْ في الصلاة على حمزة وسائر شهداء أحد: فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يثبتها، بل يختار ضعفها، وذلك أنه قال: "والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصلِّ عليهم عند الدَّفْن، وقد قُتِلَ معه بأحدٍ سبعون نفساً، فلا يجوز أن تَخْفَى الصلاة عليهم،
__________
(ص 306) ح 427، (ص 310) ح 435.
2 السُّلَمي، أبو الهذيل الكوفي.
3 واسمه: غزوان، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من الثالثة/ خت د ت س. (التقريب 442) .
(2/78) ح9.
5 التلخيص الحبير: (2/117) .
6 انظر: السنن: (4/12) .
7 أخرجه البخاري في صحيحه: ك الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، ح 1343. (فتح الباري 3/209) ، وانظر بعده: ح 1347.
(2/526)
وحديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"1.
وقال مرة: " ... شهيد المعركة لا يُصَلَّى عليه؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على شهداء أُحُد ... فإن قيل: فقد ثبت في (الصحيحين) 2 من حديث عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يوماً، فَصَلَّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر ... قيل: أما صلاته عليهم، فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته، كَالْمُوَدِّعِ لهم ... فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّة الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين"3.
لكن كيف يستقيم هذا مع اختياره الذي صَدَّرَنَا به هذا البحث إذ يقول: "فأصح الأقوال: أنهم لا يُغَسَّلُون، ويُخَيَّرُ في الصلاة عليهم، وبهذا تتفق جميع الأحاديث"4. فلعله - رحمه الله - يرى الصلاة عليهم بعد دفنهم كما هو ظاهر حديث عقبة بن عامر الماضي قبل قليل؟
وحيث اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ فوردت
__________
1 تهذيب السنن: (4/296) .
2 خ: ك المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (فتح الباري 7/377) ح 4085. م: (4/1795) ح 2296، ك الفضائل، باب إثبات حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
3 زاد المعاد: (3/217) .
4 تهذيب السنن: (4/296) .
(2/527)
أحاديث تثبت الصلاة على الشهداء، وأخرى تنفي ذلك، فإن الروايات المثبتة تقدم على الروايات النافية؛ لأن الحجة للمثبت على النافي، حيث إن معه زيادة علم، فالذي تطمئن إليه النفس بعد هذا: جواز الصلاة على الشهداء لورود النصوص بذلك، فإذا لم يُصَلّ عليهم فلا حرج، والله أعلم.
(2/528)
7- باب ما جاء في تلقين الميت بعد دفنه
71- (10) عن أبي أمامة مرفوعاً: "إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُم فَسَوَّيْتُم التَّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَيْقُم أحدُكُم عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثم لْيَقُلْ: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ، ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْتَوي قَاعِدَاً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يقول: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ الله. وَلَكِن لا تَشْعُرُون، فَلْيَقُل: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيه من الدنيا: شَهادةَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِالله رَبَّاً، وبِالإسْلام دِيْنَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقرآن إِمَامَاً، فَإِن مُنْكَرَاً وَنَكِيراً يَأْخُذُ كلُّ واحدٍ منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نَقْعُدُ عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكونُ الله حجيجه دونهما". فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أُمَّهُ؟ قال: "ينسبه إلى حواءَ: يا فلان بن حواء ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فهذا حديث لا يصحُّ رفعه، ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت ... ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم، أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه. قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أي أمامة"1.
__________
1 زاد المعاد: (1/522 - 523) .
(2/529)
وقال مرةً: "حديث ضعيف"1.
وقال مرةً: "ضعيف باتِّفَاقِ أهل العلم بالحديث"2.
وقال مَرةً: " ... لا تقوم به حُجَّة"3.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (أكبر معاجمه) 4، وفي (الدعاء) 5 له من طريق:
محمد بن إبراهيم بن العلاء، عن إسماعيل بن عيَّاش6، عن عبد الله ابن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن عبد الله الأودي، أنه قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النَّزْع قال: إذا أنا متٌُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله: "إذا مات أحدٌ ... " الحديث.
وهذا الإسناد ضعيف، وفيه مجاهيل؛ فإنَّ محمد بن إبراهيم بن العلاء: هو الحمصي الزبيدي، ذكره الذهبي في (الميزان) 7 وقال: "قال محمد بن عوف: كان يَسْرِقُ الحديث". وعبد الله بن محمد القرشي لم أقف له على ترجمة.
__________
1 الروح: (ص 16) .
2 تحفة المودود: (ص149) .
3 تهذيب السنن: (7/250) .
(8/298) ح 7979.
(3/1367) ح 1214.
6 أبو عتبة الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم، من الثامنة، مات سنة 181هـ أو 182هـ/ ي 4. (التقريب 109) .
(3/447) .
(2/530)
وأما سعيد بن عبد الله الأودي: فهكذا وقع عند الطبراني في كتابيه، وقال بعضهم: سعيد الأزدي1، وأشار المنذري إلى الخلاف في اسمه، فقال في الجزء الذي صَنَّفَهُ في التلقين - ونقل عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2-: "قال أبو نعيم الحدَّاد: هذا حديث غريب من حديث حماد بن زيد، ولم أكتبه إلا من حديث سعيد الأزدي، وقال ابن أبي حاتم3: سعيد الأزدي، عن أبي أمامة الباهلي ... ". وقال المنذري: "هكذا قال: الأزدي، ووقع في روايتنا: الأودي، وهو في معنى المجهول".
فإن كان هو الأزدي: فقد بَيَّضَ له ابن أبي حاتم، وإن كان الأودي: فإنه أيضاً لا يُعْرَف، ولذلك قال الهيثمي رحمه الله - ووقع عنده: الأودي -: "رواه الطبراني في الكبير، وف إسناده جماعة لم أعرفهم"4.
وأورده الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 5 من طريق آخر، فقال: "أخرجه القاضي الخُلعي في الفوائد (55/2) عن: أبي الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، ثنا عتبة بن السكن، عن أبي زكريا، عن جابر بن سعيد الأزدي، قال: دخلت على أبي أمامة وهو في النَّزْع ... " الحديث.
فهذا قولٌ ثالت في اسم الراوي عن أبي أمامة، وأخشى أن يكون
__________
1 انظر: التلخيص الحبير: (2/136) .
2 ج 4 (ق 50/ب) .
3 انظر: الجرح والتعديل: (2/1/76) .
4 مجمع الزوائد: (3/45) .
5 ح (599) .
(2/531)
حصل تصحيف في إسناد الخُلعي هذا، ويكون صوابه: جابر عن سعيد الأزدي، فيكون هو نفسه "سعيد الأزدي" المذكور سابقاً؟ فالله أعلم.
قال الشيخ الألباني عقب سياقه هذا الإسناد: "وهذا إسناد ضعيف جداً، لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن، قال الدارقطني: متروكُ الحديث. وقال البيهقي: واهٍ، منسوب إلى الوضع. ثم أورد كلام الهيثمي السالف وقال: فاختلف في اسم الراوي عن أبي أمامة ... ".
وقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من الأئمة: فتقدم قول أبي نعيم الحداد أنه حديث غريب. وقال ابن الصلاح وقد سئل عنه: "ليس إسناده بالقائم"1. وقال النووي: "إسناده ضعيف"2. وقال الحافظ العراقيُّ في تخريج الإحياء3:" ... الطبراني هكذا بإسناد ضعيف". ونقل ابن علان في شرح الأذكار4 عن ابن حجر أنه قال: "حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً". وقال رحمه الله في فتح الباري5:"سنده ضعيفٌ جداً". وقال الصَنْعَانِي: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيفٌ، والعملُ به بدعةٌ، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"6. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث منكرٌ عندي، إن لم يكن موضوعاً"7.
__________
1 الأذكار للنووي: (ص138) .
2 المجموع: (5/257) .
(4/420) .
(4/196) .
(10/563) .
6 سبل السلام: (2/157) .
7 السلسلة الضعيفة: (2/65) .
(2/532)
ومع ذلك فقد حاول جماعة تقوية هذا الحديث، فقال ابن الملقن: "إسناده لا أعلم به بأساً"1. ثم ذكر له جملة من الشواهد "يعتضد بها" - ولم أر في واحدٍ منها ما يصلح شاهداً لهذا الحديث، وسأشير إلى شيء منها- وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح، وقد قَوَّاهُ الضياء في أحكامه ... "2 ولا أدري ما هذا من الحافظ رحمه الله؟ فقد نقلنا قبل قليل تضعيفه إياه في تخريجه لأذكار النووي، فلعله هنا تبع صاحب الأصل (البدر المنير) فنقل تصحيحه إسناده دون أن يتعقبه؟ فالله أعلم.
وأما ابن الصلاح رحمه الله، فإنه مع تضعيفه إياه قال: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام به قديماً"3. وقال النووي: "فهذا وإن كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث ... "4. فذكر بعضها.
أما عن الشواهد التي ذكروها لهذا الحديث:
- فمنها: حديث " ... واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل".
- ومنها: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم،
__________
1 البدر المنير: ج 4 (ق50/ب) .
2 التلخيص الحبير: (2/135 - 136) .
3 الأذكار للنووي: (ص138) .
4 المجموع: (5/257 - 258) .
(2/533)
وأعلم ماذا أراجع رسل ربي". أخرجه مسلم في (صحيحه) 1.
- ومنها: ما رواه سعيد بن منصور من طريق: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب وغيرهما، قالوا: "إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن لا إله إلا الله. ثلاث مرات، قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونَبِيِّ محمد، ثُمَّ يَنْصَرِف"2. إلى غير ذلك من الشواهد التي ساقوها.
وهذه الشواهد كما نرى كلها موقوفات، والمرفوع منها ليس فيه سوى الدعاء للميت بالتثبيت والمغفرة، وهذا لا علاقة له بالتلقين المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة، قال الشيخ الألباني: "واعلم أنه ليس للحديث ما يَشْهَدُ له، وكلُّ ما ذكره البعض إنما هو أثرٌ موقوفٌ على بعض التابعين الشاميين، لا يصلح شاهداً للمرفوع، بل هو يُعِلُّه، وينزل به من الرفع إلى الوقف ... على أنه شاهد قاصر"3. يشير إلى أثر سعيد بن منصور السابق.
قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الأثر، الذي هو أقرب ما يكون إلى حديث أبي أمامة، فكيف ببقية هذه الشواهد التي لا صلة لها بلفظ الحديث؟
__________
(1/112) ح 192 (121) وهو جزء من حديث طويل.
2 التلخيص الحبير: (2/136) .
3 السلسلة الضعيفة: (2/65) .
(2/534)
وأما قول النوويِّ: إن ذلك من فضائل الأعمال التي يُتَسَامَحُ فيها: فإنه مردود، قال الشيخ الألباني: "ولا يرد هنا ما اشتهر من القول بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ فإن هذا محله فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف؛ لأنه تشريع، ولا يجوز ذلك بالحديث الضعيف، لأنه لا يفيد إلا الظن المرجوح اتفاقاً، فكيف يجوز العمل بمثله"1.
وأما الذين قَوَّوه بعمل الناس إلى يومنا هذا، كقول ابن الصلاح: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديماً": فلا شكَّ أن العمل الذي يُعَوَّلَ عليه، ويُجعل الحديث بمقتضاه مقبولاً، هو عمل العلماء، وليس عمل كل أحد. ثم إنَّ أهل الشام وحدهم لا يمثلون الأمة كلها - أو علماء الأمة - حَتَّى يُجعل عملهم حجةً على الأمة. هذا بالإضافة إلى شِدَّة ضعفِ هذا الحديث، وجهالة رواته، وإنكار أكثر العلماء له، حتى قال الشيخ الألباني: "منكر ... إن لم يكن موضوعاً". وكم من حديث ضعيف لا يثبت قد عمل به عاملون، فهل يلزم من هذا أن تُتَّخَذَ البدع ديناً بحجة أن الناس يعملونها؟؟ كلاَّ، ففيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كفايةٌ.
ثم إن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد قال نحواً من ذلك!! فإنه وإن ضَعَّفَ الحديث كما مضى، إلا أنه قال في كتابه (الروح) 2: "فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كافٍ في العمل به ... "!
__________
1 السلسلة الضعيفة: (2/65) .
(ص 16) .
(2/535)
كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه يَنْفِي أن يكون ذلك من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في (زاد المعاد) 1: "ولم يكن - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يجلس عند القبر، ولا يُلَقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم". مع ما تقدم من تضعيفه لهذا الحديث، فلعله كان يقول به أولاً ثم رجع عنه، فالله أعلم.
فالخير كل الخير في اتِّبَاع هَدْيِه صلى الله عليه وسلم في الفِعْلِ والتَّرْكِ، وما أحسن ما قال الصنعاني رحمه الله: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيف، والعملُ به بدعة، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"2. والله أعلم.
__________
(1/522) .
2 سبل السلام: (2/157) .
(2/536)
8 - من كتاب الجنائز
1- باب في الغسل من غسل الميت
62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ الْمَيْتَ فَلَيَغْتَسلْ، ومن حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل عن الشافعي التوقف عن تصحيحه، وعن أبي داود إعلاله، ثم ذكر للحديث أَحَدَ عَشَرَ طَرِيقَاً، ثم قال: "وهذه الطُّرُقُ تدلُّ على أن الحديث محفوظ"1.
قلت: هذا الحديث يُروى عن أبي هريرة من طرق:
الطريق الأول: عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة. أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق: القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به.
وأخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، والبيهقي5 من طريق: سهيل بن أبي صالح6، عن أبيه7، عن أبي هريرة
__________
1 تهذيب السنن: (4/305-306) .
(1/300) .
(3/309) ح 993 ك الجنائز، باب الغسل من غسل الميت.
(1/470) ح 1463، ك الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت.
(1/300) .
6 أبو يزيد المدني، صدوقٌ تَغَيَّر حِفْظُهُ بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور/ ع. (التقريب 259) .
7 أبو صالح، ذكوان السَّمان الزيَّات، ثقة ثبت ... من الثالثة، مات سنة 101هـ/ ع. (التقريب 203) .
(2/485)
به، ولفظ الترمذي والبيهقي: "مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ. ومن حَمْلِهِ الوضوءُ" يعني الميت، أما ابن ماجه فلفظه: "مَنْ غَسَّلَ مَيِتاً فليغتسل". رواه عن سهيل هكذا جماعة، منهم: حماد بن سلمة، ووهيب، وزهير بن محمد، وعبد العزيز بن المختار وغيرهم1، وخالفهم سفيان بن عيينة، فرواه عن: سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق2 مولى زائدة، عن أبي هريرة به. أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي4 كذلك.
"وخالفهم إسماعيل بن جعفر فرواه عن سهيل عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5، كما قال الدارقطني رحمه الله.
وهذه الطريق أعلت بالانقطاع، والوقف، والاضطراب.
أما الانقطاع: فقد أشار أبو داود إليه فقال: "أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث - يعني إسحاق مولى زائدة -". وقال الشافعي: "وإنما لم يقو عندي: أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة:
__________
1 انظر: علل الدارقطني: ج 3 (ق 180) ، وسنن البيهقي: (1/301) .
2 والد عمر، قال العِجْلِي: هو إسحاق بن عبد الله، ثقة، من الثالثة / ر م د س. (التقريب 104) .
(3/512) ح 3162 ك الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت.
(1/301) .
5 العلل: (ج3 ق180) .
(2/486)
إسحاق مولى زائدة، فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"1. وأعله ابن دقيق العيد بذلك أيضاً2. وقال ابن حجر: "وهو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"3.
وأما الوقف: فقد مضى أنه يُروى عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق، عن أبي هريرة موقوفاً عليه4. وكأن البخاري - رحمه الله - أعله بذلك، فقال لما سأله عنه الترمذي: "روى بعضهم عن سهيل بن أبي صالح، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5. ورجح البيهقي وقفه كما سيأتي من كلامه.
وأما اضطرابه: فقد قال به الدارقطني، فبعد أن حكى أوجه الاختلاف فيه قال: "ويشبه أن يكون سهيل كان يضطرب فيه"6.
وقد يُجاب عن هذه العلل، فيقال: أما انقطاعه: فإنه لا مانع أن يكون أبو صالح سمعه من أبي هريرة، ومن إسحاق عن أبي هريرة، فرواه على الوجهين جميعاً، وقد علق الشافعي - رحمه الله - الحكم بصحته على معرفة حال إسحاق، فقال: "وإنما منعني عن إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلاً لم أقع
__________
1 الجوهر النقي: (1/301) .
2 التلخيص الحبير: (1/137) .
3 فتح الباري: (3/127) .
4 وانظر سنن البيهقي: (1/301) .
5 علل الترمذي: (1/402) .
6 علل الدارقطني: ج 3 (ق180) .
(2/487)
من معرفة من ثَبَّتَ حديثه - إلى يومي - على ما يقنعني، فإن وجدت من يقنعني، فإن وجدت من يقنعني أوجبته ... "1.
قال ابن حجر: "إسحاق مولى زائدة: أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث"2.
وأما الوقف: فيمكن أن يقال: إن الرفع زيادة من ثقة وهي مقبولة، ولا سيما أن الذين رفعوه أكثر عدداً. ولكن مع ذلك كله يخشى من احتمال كونه مضطرباً كما حكم به الدارقطني رحمه الله، فالله أعلم.
الطريق الثاني: رواه بن أبي ذئب، عن صالح3 مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. أخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 5. والبيهقي في (سننه) 6 من طريق الطيالسي.
وقد أَعَلَّ البيهقي7، ثم ابن الجوزي8 هذا الطريق بـ"صالح
__________
1 سنن البيهقي: (1/302) .
2 التلخيص الحبير: (1/137) .
3 ابن نبهان المدني، صدوق اختلط، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه: كابن أبي ذئب وابن جريج، من الرابعة ... / د ت ق. (التقريب 274) .
4 حم: (2/433، 454، 472) . طس: (ح2314) .
(2/172) .
(1/303) .
7 السنن: (1/303) .
8 العلل المتناهية: (1/378) .
(2/488)
مولى التوأمة"، فقال البيهقي: "صالح مولى التوأمة ليس بالقوي".
قلت: وصالح هذا فيه ضعف، واختلاط، فقد ضعفه: يحيى القطان1، ومالك2، وابن معين3 في رواية، وأبو زرعة، وأبو حاتم4، والنسائي5. ووثقه أحمد6، وابن معين7 في رواية، والعجلي8. فالرجل بهذه المثابة "صدوق" كما حكم به الذهبي9 وابن حجر.
وأما اختلاطه: فقد مَيَّزَ جماعة من الحفاظ حديثه القديم، وحكموا بصحة رواية من روى عنه قبل الاختلاط، منهم: علي بن المديني، وابن معين، والجوزجاني، وابن عدي10. وابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً، فيكون حديثه عنه صحيحاً، ولذلك ردَّ ابن التركماني على البيهقي تضعيفه11.
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب (4/405) .
2 الجرح والتعديل: (2/1/417) .
3 المصدر السابق: (2/1/418) .
4 المصدر السابق.
5 الضعفاء: (ص57) .
6 تهذيب التهذيب: (4/405) .
7 تاريخ الدوري: (2/266) .
8 الثقات بترتيب الهيثمي: (ص227) .
9 المغني: (1/305) .
10 انظر: الكواكب النيرات: (ص261) .
11 الجوهر النقي: (1/302) .
(2/489)
الطريق الثالث: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. أخرجه البيهقي في (سننه) 1 من طريق: ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة به. ثم قال: "ابن لهيعة وحنين لا يحتج بهما".
قلت: وهذا قد صَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ، فقال أبو حاتم - وقد سئل عنه -: "هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات"2. وقال ابن دقيق العيد: "وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: فإسناد حسن، إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً"3. وأخرج البيهقي الرواية الموقوفة من طريق: عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، ثم قال: "هذا هو الصحيح: موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري"4.
الطريق الرابع: عن عمرو بن عمير5، عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود في (سننه) 6 – ومن طريقه البيهقي في (سننه) 7 - من طريق: القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير به.
وهذا الطريق ضعيف؛ فإن عمرو بن عمير "مجهول" كما حكم
__________
(1/302) .
2 علل ابن أبي حاتم: (1/351) .
3 التلخيص الحبير: (1/137) .
4 سنن البيهقي: (1/302) .
5 الحجازي، مجهول، من الثالثة/ د. (التقريب 425) .
(3/511) ح 3161.
(1/303) .
(2/490)
بذلك ابن القطان وابن حجر1 رحمهما الله. وبهذا أعله البيهقي، فقال: "عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور". قال ذلك في (سننه) .
الطريق الخامس: عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة به. أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 2 - ومن طريقه أحمد3 - من طريق: يحيى بن أبي كثير، عن رجل يقال له: أبو إسحاق، عن أبي هريرة به، وليس فيه الوضوء من حمله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 4 من طريق: يحيى، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق به.
ويروى هذا عن: أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، أخرجه البيهقي في (سننه) 5، وذكر اختلافاً فيه، ثم قال: "والمشهور: عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه".
وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى غير ما ذكرنا، واستوعبها البيهقي في (سننه) 6، ثم قال: "الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية، لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح: عن أبي هريرة من قوله، موقوفاً غير مرفوع". وقد تقدم معنا ترجيح البخاري
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب: (8/84) .
(3/407) ح 6110.
3 المسند: (2/280) .
(2/280) .
(1/304) .
(1/300 - 304) .
(2/491)
وأبي حاتم الوقف في بعض طرقه.
وأكثر العلماء على ضَعْفِ هذا الحديث كما قال الزيلعي1، والمناوي2 وغيرهما، وقال الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذُّهَلي، وابن المنذر وغيرهم: إنه لا يثبت في هذا الباب شيء3. وقد تقدم طرف من أقوال العلماء في تضعيف هذا الحديث، وضعفه أيضاً: ابن الجوزي4، والنووي5.
لكن ذهب جماعةٌ إلى صِحَّتِهِ، وآخرون إلى حُسْنِهِ: فَحَسَّنَه الترمذي، وصححه ابن حبان، وابن حزم6، وقال ابن دقيق العيد: "وفي الجملة: هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً"7. وقال الذهبي في (مختصر البيهقي) 8: "طرقُ هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يُعِلُّوها بالوقف، بل قَدَّمُوا رواية الرفع". وجعله البغوي من قسم الحسن في (مصابيحه) وتبعه التبريزي في (المشكاة) 9 ورجح ابن
__________
1 نصب الراية: (2/282) .
2 فيض القدير: (6/185) .
3 انظر: علل الترمذي: (1/402) ، وسنن البيهقي: (1/301) ، والتلخيص الحبير: (1/137) .
4 العلل المتناهية: (1/378 - 379) .
5 المجموع: (5/138) .
6 المحلى: (2/35) .
7 التلخيص الحبير: (1/137) .
8 التلخيص الحبير: (1/137) .
(1/169) ح 541.
(2/492)
حجر تصحيح بعض طرقه1. وَحَسَّنَهُ الحافظ السيوطي2. وصححه الشيخ الألباني3.
وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بأن الحديث بمجموع طرقه محفوظٌ، ولعلَّ هذا هو ما تطمئن إليه النفس، ولا سيما أن طرق هذا الحديث قد تعدَّدت، مما يجعل الحديث لا يقل عن درجة الحسن.
وقد ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى أن هذا الحديث منسوخ، لكنه لم يذكر لنا ناسخه، ولا رأيت من قال بقوله.
وقد ذهب الأكثرون - كما نقل ابن القَيِّم4 - إلى عدم وجوب الغسل من غسل الميت، ونقل الإمام أبو داود عن الإمام أحمد أنه يجزئه الوضوء5. وقال الخطابي: "ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب"6. وقال: "وقد يحتمل أن يكون المعني فيه: أن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نَضْحٌ من رشاش الغسول، وربما كان على بدن الميت نجاسة. فإذا أصابه نَضْحُهُ - وهو لا يعلم مكانه - كان عليه غسل جميع البدن، ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه النجس من بدنه"7.
__________
1 التلخيص الحبير: (1/137) .
2 كما في فيض القدير مع الجامع الصغير: (6/185) .
3 انظر: إرواء الغليل: (1/173) ، وصحيح ابن ماجه: (ح 1195) ، وصحيح الجامع: (ح6402) ، والتعليق على المشكاة: (1/169) ح 541.
4 تهذيب السنن: (4/306) .
5 سنن أبي داود: (3/512) .
6 معالم السنن: (4/305) .
7 المصدر السابق.
(2/493)
2- باب ما جاء في المشي خلف الجنازة
63- (2) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا".
ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وقال: "ضعيف"1. وقد أورده - رحمه الله - دليلاً للقائلين بالمشي خلف الجنازة.
قلتُ: الحديث بهذا اللفظ المختصر أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 ولفظه: "الجنازةُ متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها ".
ولكن أخرجه بأطول من هذا: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، كلهم من طريق:
يحيى بن عبد الله7 التيمي، عن أبي ماجد8، عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه، أنه قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟ فقال: "ما دُوْنَ
__________
1 تهذيب السنن: (4/316) .
(1/476) ح 1484 ك الجنائز، باب المشي أمام الجنازة.
(3/525) ح 3184 ك الجنائز، باب الإسراع بالجنازة.
(3/323) ح 1011، ك الجنائز، باب ما جاء في المشي خلف الجنازة.
(1/394، 415، 419، 432) .
(4/25) .
7 ابن الحارث، الجَابِر - قيل: كان يُجَبِّرُ الأعضاء - أبو الحارث الكوفي، لَيِّنُ الحديث، من السادسة، وروايته عن المقدام مرسلة / د ت ق (التقريب 592) .
8 ويقال: أبو ماجدة، قيل: اسمه عائذ بن نضلة، مجهولٌ، لم يرو عنه غير يحيى الجابر، من الثانية/ د ت ق. (التقريب 670) .
(2/494)
الخبب1، إن يكن خيراً تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فَبُعْدَاً لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تُتْبَعُ، ليس معها من تَقَدَّمَهَا". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين نحو، إلا أن الترمذي عنده: "سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير خلف الجنازة" وفيه: "وليس منا من تقدمها". والعبارة الأخيرة كذا هي عند أحمد في موضعين2. وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف) 3 مختصراً كلفظ ابن ماجه المتقدم، لكن فيه سؤال ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث ضعيفٌ، ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء، فقال الترمذي: "هذا حديث لا يُعْرَف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه. سمعت محمد بن إسماعيل يُضَعِّفُ حديث أبي ماجد لهذا. وقال محمد: قال الحميدي: قال ابن عيينة: قيل ليحيى: من أبو ماجد هذا؟ قال: طائر طار فحدثنا"4. وفي (علله) 5 أنه سأل البخاريَّ عنه؟ فقال: "أبو ماجد منكر الحديث" وضَعَّفَهُ جداً. وقال أبو داود: "وهو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله، وهو يحيى الجابر ... أبو ماجدة هذا لا يُعْرف". وقال البيهقي: "أبو ماجد مجهولٌ، ويحيى الجابر: ضَعَّفَهُ جماعة من أهل النقل"6. وَضَعَّفَهُ المنذري - أيضاً - في (مختصر السنن) 7. وقال ابن
__________
1 الخَبَبَ: ضَرْبٌ من العَدْو، وقيل: هو مثل الرَّمَل، وقيل: الخبب السرعة. (لسان العرب ص 1085) .
2 المسند: (1/394، 415) .
(3/446) ح 6265.
4 جامع الترمذي: (3/323) .
(1/407) .
6 السنن: (5/25) .
(4/318 - 319) .
(2/495)
الملقن: "هو حديث واهٍ لأجل يحيى الجابر، وأبي ماجدة"1 ثم نقل كلام أئمة الجرح والتعديل فيهما. وَضَعَّفَهُ الشيخ الألباني2 أيضاً.
فيتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ لاتفاقهم على جهالة أبي ماجد، وضَعْفِ يحيى الجابر، والله أعلم.
__________
1 البدر المنير: ج 4 (ق 27/أ) نسخة أحمد الثالث.
2 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح 324) .
(2/496)
3- باب ما جاء في القيام للجنازة
64- (3) حديث البراء بن عازب: "خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجل من الأَنْصَارِ، فانتهينا إلى القبر، وَلَمَّا يُلْحَد بعدُ، فجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسْنَا مَعَهُ".
قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيح"1. ثم تَعَرَّضَ له بعد ذلك، ودفع عنه بعض ما رُمِيَ به من علل2. وقال مرة: "وهو صحيح، صححه جماعة من الحفاظ"3.
وقد استَدَلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث على أن السُّنَّة لِمُتَّبِع الجنازة ألاَّ يجلس حتى توضع، وأن المراد: وضعها على الأرض، فقال: "ويدلُّ على أنَّ المراد بالوضع الوضع بالأرض عن الأعناق: حديث البراء ... " فساقه.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، أربعتهم من طريق: الأعمش.
__________
1 تهذيب السنن: (4/311) .
2 المصدر السابق: (4/337) .
3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص58) .
(3/546) ح 3212 باب الجلوس عند القبر.
5 حم: (4/287) . طس: (ح 753) .
(1/37 - 38) .
(2/497)
وأخرجه النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 1، والحاكم - أيضاً - في (مستدركه) 2، ثلاثتهم من طريق: عمرو بن قيس3.
وأخرجه ابن ماجه والحاكم4، من طريق: يونس بن خباب5 كُلُّهم عن:
المنهال بن عمرو6، عن زاذان7، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.
وألفاظهم متفاوتة، وعند بعضهم ما ليس عند الآخر.
قال أبو عبد الله الحاكم عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعاً بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي"8.
__________
1 س: (4/78) باب الوقوف للجنائز. جه: (1/494) ح 1549، باب ما جاء في الجلوس في المقابر.
(1/40) .
3 الملائي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين/ بخ م 4. (التقريب 426) .
4 جه: (1/494) ح 1548. كم: (1/39) .
5 الأُسَيِّدي مولاهم، الكوفي، صدوقٌ يخطئ وَرُمِيَ بالرفض، من السادسة/بخ4. (التقريب 613) .
6 الأسدي، مولاهم، الكوفي، صدوق رُبَّما وَهِمَ، من الخامسة/خ4. (التقريب547) .
7 أبو عمر، الكندي، البزاز، ويكنى أبا عبد الله أيضاً، صدوق يرسل، وفيه شيعية، من الثانية، مات سنة 82هـ / بخ م 4. (التقريب 213) .
8 المستدرك: (1/39) .
(2/498)
وليس كما قال رحمه الله؛ فإن المنهال احتجَّ به البخاري وحده، وزاذان احتجَّ به مسلم وحده، فكيف يكون على شرطهما؟!
وقد أَعَلَّهُ ابن حبان - رحمه الله - في (صحيحه) 1 فقال: " ... وزاذان لم يسمعه من البراء، فلذلك لم أخرجه".
وقد نقل ابن القَيِّم ذلك عن ابن حبان، ثم قال: "وهذه العلة فاسدة؛ فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب ... ذكره أبو عوانة في صحيحه".
قلتُ: ورواية الحاكم - أيضاً - فيها التصريح بسماعه منه.
وقد أَعَلَّهُ ابن حزم بعلة أخرى، وهي ضعف المنهال بن عمرو2.
ونقل ابن القَيِّم ذلك عنه، ثم قال: "وهي علة فاسدة؛ فإن المنهال ثقة صدوق"3.
قلتُ: قد وثقه جماعة، وغاية ما قيل فيه: أنهم سمعوا صوت طنبور من بيته، ولم يقبل العلماء جَرْحَهُ بذلك، واحتجَّ به البخاري في (صحيحه) 4.
__________
1 انظر: الإحسان: (5/48) .
2 تهذيب التهذيب: (10/320) .
3 تهذيب السنن: (4/337) .
4 تنظر ترجمته في: الميزان: (4/192) ، وتهذيب التهذيب: (10/319) ، وهدي الساري: (ص446) .
(2/499)
وَدَفَعَ ابن القطان القول بتضعيف الحديث بالمنهال بن عمرو، ونقل عن بعض الأئمة توثيقه، ثم قال - رداً على من ضَعَّفَ المنهال بن عمرو بسماع صوت طنبور من بيته -: "فهذا - كما ترى - التعسف فيه ظاهرٌ، ولا أعلم لهذا الحديث عِلَّةً غير ما ذكرت، فاعلمه"1.
وألزم عبد الحق بقبول هذا الحديث، فقال رحمه الله: "وسكت عنه، ولم يبين أنه من رواية المنهال، فكان هذا منه قبولاً له"2.
فثبت بذلك صحَّةُ هذا الحديث - كما حكم ابن القَيِّم رحمه الله - أو حُسْنُهُ على أقل تقدير، وأن ما ضُعِّفَ به لا ينهض، وحينئذ يَسْلَمُ لابن القَيِّم - رحمه الله - الاستدلال به على جلوس مُتَّبَعِ الجنازة بمجرد وضعها على الأرض، واستدل به ابن حجر على ذلك أيضاً، بعد أن نقل عن أبي عوانة أنه صححه3.
ثم أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك حديثاً للقائلين بأن المراد: الوضع في اللَّحْدِ، وهو:
65- (4) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كَانَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الْجنازة حتى تُوضعَ في اللَّحْدِ ".
قال ابن القَيِّم: "لكن في إسناده بشر بن رافع". ثم نقل أقوال الأئمة: الترمذي، والبخاري، وأحمد، وابن معين، والنسائي، وابن
__________
1 بيان الوهم والإيهام: (3/362 - 363) ح 1107.
2 بيان الوهم والإيهام: (3/362) .
3 التلخيص الحبير: (2/112) .
(2/500)
حبان في تضعيف بشر هذا1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، والبيهقي في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، كلهم من طريق:
بشر بن رافع5، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية6، عن أبيه7، عن جده8، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرَّ به حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "اجلسوا، خالفوهم". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي وابن ماجه مثله، إلا أنه ليس عندهما قوله: "اجلسوا"، ولفظ البيهقي كأبي داود.
__________
1 زاد المعاد: (1/518 - 519) .
2 د: (3/520) ح 3176. ت: (3/331) ح1020. جه: (1/493) ح 1545. كلهم في ك الجنائز، وعند د، جه: باب القيام للجنازة، وعند ت: باب الجلوس قبل أن توضع.
(4/28) .
(ص 131) باب النهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة ...
5 الحارثي، أبو الأسباط النجراني، فقيه ضعيف الحديث، من السابعة/ بخ د ت ق. (التقريب 123) .
6 الأزدي، ضعيف، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 306) .
7 هو: سليمان بن جنادة، منكر الحديث، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 250) .
8 جنادة بن أبي أمية، يقال: اسم أبيه كبير، مختلف في صحبته، فقال العجلي: "تابعي ثقة"، والحق أنهما اثنان، صحابيُّ وتابعيُّ، متفقان في الاسم وكنية الأب / ع. (التقريب142) .
(2/501)
قلتُ: وهذا الحديث ضعيف، ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء، فقال البخاري: "منكر"1. ونقل عنه العقيلي قوله - في ترجمة سليمان ابن جنادة -: "لم يُتَابَعْ في هذا"2. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقويِّ في الحديث". وقال الحازمي: " ... ولو صحَّ لكان صريحاً في النسخ"3. وقال ابن الملقن: "وإسناد هذا ضعيف، فيه: بشر بن رافع، وليس بحجة، عن: ابن جنادة، وفيه نظر، كما قال البخاري ... "4. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف"5.
والحديث ليس ضعيفاً بسبب بشر بن رافع وحده، كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم السالف، بل شَيْخُهُ، وشيخُ شيخِهِ - أيضاً - ضعيفان.
أما شيخه عبد الله بن سليمان بن جنادة: فقال عنه البخاري: "فيه نظر"6. وسكت ابن أبي حاتم عنه7. أما ابن حبان فقد ذكره في (الثقات) 8 وقال: "يعتبر حديثه من غير رواية بشر عنه".
قلت: والرجلُ في عداد المجهولين؛ فإنه لم يرو عنه أحد غيرُ
__________
1 الضعفاء الصغير: (ص108) ، والتاريخ الكبير: (2/2/6) .
2 ضعفاء العقيلي: (2/122) .
3 الاعتبار: (ص131) .
4 البدر المنير: ج4 (ق 26/ب) . نسخة أحمد الثالث.
5 التلخيص الحبير: (2/112) .
6 التاريخ الكبير: (3/1/108) .
7 الجرح والتعديل: (2/2/75) .
(8/337) .
(2/502)
بشر بن رافع، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان، ولذلك فقد قال عنه الذهبي: "لا يُدْرَى من هو"1. وسبق قول ابن حجر فيه: "ضعيف".
وأما شيخ شيخه سليمان بن جنادة، أبو عبد الله الماضي ذكره: فقال أبو حاتم: "منكر الحديث"2. وَضَعَّفَهُ البخاري3، والعقيلي4. وقال ابن حبان: "منكر الحديث، فلست أدري البلية في روايته منه أو من بشر بن رافع؛ لأن بشر بن رافع ليس بشيء في الحديث ... على أنه يجب التَّنَكُّبُ عن روايته على الأحوال"5.
قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الإسناد، فإن الاقتصار على تضعيفه بـ"بشر بن رافع" وحده فيه نظر.
ومع ضعف هذا الحديث الظاهر، فإن الشيخ الألباني -رحمه الله- قد حَسَّنَهُ6، ولا أدري ما وجه تحسينه له؟
فتلخص من ذلك: أنَّ الصَّواب فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى تُوضَعَ " أي: بالأرض. وأنَّ مَا جَاء من أن المراد: الوضع في اللَّحد: ضَعِيف لا يثبت، وهذا ما قرره ابن القَيِّم - رحمه الله - في دراسته هذه، فأصاب.
__________
1 الميزان: (2/432) .
2 الجرح والتعديل: (2/1/105) .
3 الضعفاء الصغير: (ص108) .
4 الضعفاء: (2/122) .
5 المجروحين: (1/329) .
6 صحيح سنن ابن ماجه: (ح 1256) .
(2/503)
4- باب الصلاة على الجنازة في المسجد
66- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لَهُ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل أن الإمام أحمد ضَعَّفَهُ: بأنه مما تفرد به صالح مولى التوأمة، وكذا البيهقي، وأنه قَدَّمَ عليه حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، حيث إنها احتجت عليهم بذلك لما أنكروا عليها إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها.
ثم قرَّرَ ابن القَيِّم أن صالحاً ثقة في نفسه، إلا أنه اختلطَ أخيراً، فمن سَمِعَ منه قبل الاختلاط فهو حُجَّةٌ، وابن أبي ذئب - راوي الحديث عنه - ممن سَمِعَ منه قبل اختلاطه، ولذلك فإن هذا الحديث حسن، ولا معنى لتضعيفه ما دام من رواية ابن أبي ذئب1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد في (المسند) 4، والبيهقي في (السنن) 5 من طريق: وكيع. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 من طريق: معمر،
__________
1 زاد المعاد: (1/500 - 501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) .
(3/531) ح 3191 ك الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.
(1/486) ح 1517.
(2/444) .
(4/52) .
(3/527) ح 6579.
(2/504)
والثوري كليهما، ومن طريقه أخرجه البيهقي1. وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 3 من طريق: الثوري وحده، وأخرجه ابن حبان في (المجروحين) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5 من طريق: علي بن الجعد، كلهم عن:
ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
وقد اختلفت ألفاظهم في هذا الحديث: ففي رواية أبي داود التي بين أيدينا: "فلا شيء عليه". ونقل ابن القَيِّم عن الخطيب أنه قال في روايته لكتاب السنن: "في الأصل: فلا شيء عليه، وغيره يرويه: فلا شيء له". ولفظ ابن ماجه وأحمد: "فليس له شيء" وأما رواية الباقين فلفظها: "فلا شيء له ".
وعند الطيالسي زيادة وهي: "قال صالح: وأدركتُ رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يُصَلُّوا في المسجد، رجعوا فلم يصلوا". وهي عند البيهقي لكن لفظها: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها".
وقد ضَعَّفَ جماعة هذا الحديث: فقال ابن ماجه عقب إخراجه:
__________
1 السنن: (4/52) .
(ح 2310) .
(7/93) .
(1/366) .
(1/414) ح 696.
(2/505)
"حديث عائشة أقوى" يعني: في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد. وقال ابن حبان: "هذا خبرٌ باطلٌ، كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُصَلِّي في المسجد على الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يُصَلِّي هو على سهيل بن بيضاء في المسجد؟ "1.
وقال البيهقي: "وهو مِمَّا يُعَدُّ في أَفراد صالح، وحديث عائشة رضي الله عنها أصحُّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"2. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ، وصالح قد كَذَّبَه مالك ... "3. وقال النووي: "ضعيف باتفاق الحُفَّاظِ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام أحمد، وأبو بكر بن المنذر، والبيهقي وآخرون ... "4.
قلت: وبالنظر إلى كلام الْمُضَعِّفِينَ لهذا الحديث نجدُ أنهم اعتمدوا في تضعيفه على أمرين:
الأول: ضعفُ صالح مولى التوأمة، وقد تَفَرَّدَ بذلك.
الثاني: مخالفةُ هذه الرواية لما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على ابن بيضاء في المسجد".
__________
1 المجروحين: (1/366) .
2 السنن: (4/52) .
3 العلل المتناهية: (1/414) .
4 المجموع: (5/162) .
(2/506)
فأما صالح: فإنه قد وثقه جماعة، وضَعَّفَهُ آخرون1. وغاية ما رَمَوهُ به: أنه اختلط قبل موته، لكن مَيَّزَ الأئمة النُّقَّادُ بين سماع من سمع منه قبل الاختلاط وبعده، فقال علي بن المديني: "صالح ثقة، إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ، فَسَمِعَ منه قومٌ وهو خرف كبير، فكان سَمَاعهم ليس بصحيح، سفيان الثوري ممن سمع منه بعد ما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف"2. وقال أحمد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: "ثقة حجة. فقلت له: إن مالكاً تركه. فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن خرف ... لكنَّ ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف"3. وقال الجوزجاني: "تَغَيَّرَ أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لِسِنِّه وسماعه القديم، وأما الثوري فَجَالَسَهُ بعد التغير"4.
فهذا كلام هؤلاء الأئمة في أنَّ ابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً قبل الاختلاط، وقال ابن عديّ - بعد أن ذكر قدم سماع ابن أبي ذئب منه -: "ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب ... وصالح مولى التوأمة: لا بأس برواياته وحديثه"5.
قلت: وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عن صالح، فلا مجال حينئذ للطعن فيه باختلاط صالح، ولذلك فقد ساق الذهبي هذا
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/405 - 407) .
2 سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (ص86) .
3 الميزان: (2/303) .
4 أحوال الرجال: (ص 144) .
5 الكامل: (4/1375 - 1376) .
(2/507)
الحديث وغيره في ترجمة صالح من طريق ابن أبي ذئب عنه، ثم قال: "فهذه الأحاديث صحاح عند ابن معين على ما قال"1.
وأما معارضة هذا الحديث لحديث عائشة السابق: فيمكن الجواب عن ذلك بأجوبة:
- منها: أن نُسَخَ أبي داود المعتمدة فيها: "فلا شيء عليه"، وبعضهم: "فليس له شيء "، وبعضهم: " فليس به شيء "، وعلى هذا: لا دلالة فيه على كراهية ذلك. أجاب بذلك النووي2.
قلت: لكن كيف برواية الجماعة الباقين، وهي: "فلا شيء له"، وفي رواية: "فليس له شيء "، فهذا يعكر على هذا الجواب. ويعكر عليه أيضاً: قول صالح عقب روايته هذا الحديث: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها". وقد سبق ذلك في رواية البيهقي، وأبي داود الطيالسي، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه راوي هذا الحديث يفعل ذلك، فلا بدَّ أنه قد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة ذلك، وحينئذ فلا وجه لردِّ رواية: "فلا شيء له".
- ومن هذه الأجوبة: أن لفظة: "لا شيء له" يجب حملها على: "فلا شيء عليه" جمعاً بين الروايات، وقد جاء مثل ذلك في القرآن، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها. قاله النووي3.
__________
1 الميزان: (2/304) .
2 المجموع: (5/162) .
3 المجموع: (5/162) .
(2/508)
- وأجاب الخطابي بجواب آخر، فقال: "وقد يكون معناه - إن ثبت الحديث - متأولاً على نقصان الأجر؛ وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فإن الغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجَبَّان فَصَلَّى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه، فأحرز أجر القيراطين ... فصار الذي يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صَلَّى عليها براً"1. وقال مثله النووي رحمه الله، وزاد: "فيكون التقدير: فلا أجر كامل له"2.
قلتُ: ولعلَّ هذا الجواب الأخير هو أَقْرَبُهَا، فيكون الأصل في الصلاة على الجنازة أن تكون خارج المسجد، وأنه الأفضل، وأن الصلاة عليها في المسجد جائزة، وإن كانت دون الأولى، وقد أشار إلى شيء من ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فإنه عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" قال رحمه الله: "دلَّ حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعَدٌّ للصلاة عليها، فقد يستفاد منه: أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمرٍ عارض، أو لبيان الجواز"3. وفي إنكار الصحابة - رضوان الله عليهم - على عائشة إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها، دليل على عدم وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وإلا لما خفي عليهم.
__________
1 معالم السنن: (4/325) .
2 المجموع: (5/162) .
3 فتح الباري: (3/199) .
(2/509)
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي هريرة هذا - من رواية صالح مولى التوأمة - حديث حسن على أقل أحواله، كما حكم عليه بذلك ابن القَيِّم رحمه الله، وأن القول بضعفه مَبْنِيٌّ على الطعنِ في صالح، وقد عُلِمَ ما فيه.
على أنه لا تنافي بينه وبين جواز الصلاة على الجنازة في المسجد على الوجه المتقدم، والله أعلم.
(2/510)
5 - باب ما جاء في الصلاة على الطفل
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: 67- (6) "الطِّفْلُ يُصَلَّى عليه" 1.
قلت: هذا جزء من حديثٍ يُروى عن: زياد بن جبير بن حَيَّة2، عن أبيه3، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، واختلف فيه على زياد بن جبير:
فأخرجه: الترمذي والنسائي وابن ماجه في (سننهم) 4، وأحمد في (مسنده) 5 والطبراني في (الكبير) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، كلهم من طريق:
__________
1 زاد المعاد: (1/513) .
2 ابن مسعود بن مُعَتِّب الثفي، البصري، ثقةٌ وكان يُرْسِل، من الثالثة/ ع. (التقريب 218) .
3 جبير بن حية بن مسعود الثقفي، ابن أخي عروة بن مسعود، ثقةٌ جليل، من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك بن مروان/ خ 4. (التقريب 138) .
4 ت: (3/340) ح 1031، باب الصلاة على الأطفال. س: (4/56) ، باب مكان الماشي من الجنازة. جه: (1/483) ح 1507، باب الصلاة على الطفل. ثلاثتهم في كتاب الجنائز.
(4/247، 252) .
(20/430) ح 1045.
7 الإحسان: (5/22) ح 3038.
(1/355، 363) .
(2/511)
سعيد بن عبيد الله1، عن عمه زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خَلْفَ الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفلُ يُصَلَّى عليه". هذا لفظ الترمذي، ومثله: أحمد والنسائي، والطبراني، وابن حبان، وأما لفظ ابن ماجه فمختصر، وهو الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله، وأما لفظ الحاكم: "الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها، والطفل يصلى عليه".
وأخرجه النسائي2 مرة عن: سعيد بن عبيد الله وأخيه المغيرة بن عبيد الله3، كلاهما عن: زياد بن جبير به، ولفظه كلفظه الماضي.
هكذا رواه هؤلاء من طريق سعيد بن عبيد الله - وأخيه في رواية النسائي - عن زياد بن جبير مجزوماً برفعه.
وأخرجه: أبو داود في (سننه) 4، والطبراني في (الكبير) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، والبيهقي في (سننه) 7 كلهم من طريق:
__________
1 ابن جبير بن حَيَّة، الثقفي، الجبيري، بصري، صدوق رُبَّمَا وهم، من السادسة/ خ ت س ق. (التقريب 239) .
2 السنن: (4/55) .
3 ابن جبير بن حية/ الثقفي، مقبولٌ، من السابعة/ س. (التقريب 543) .
(3/522) ح 3180، باب المشي أمام الجنازة.
(20/430) ح 1042.
(1/363) .
(4/8) .
(2/512)
يونس بن عبيد1، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة- قال يونس: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها، والسِّقْط2 يُصَلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة". هذا سياق أبي داود ومثله سياق الطبراني إسناداً ومتناً. وأما الحاكم فلفظه مثل أبي داود لكن فيه: " ... ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأما إسناده، ففيه قول يونس: "وحدثني بعض أهله أنه رفعه" هكذا بدون شك. قال إبراهيم بن أبي طالب - شيخ شيخ الحاكم في هذا الإسناد -: "قول يونس بن عبيد: حدثني بعض أهله أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: رواية ليونس بن عبيد، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير ... ".
ورواية يونس بن عبيد هذه: أخرجها الطبراني في (الكبير) 3 من غير شك في رفعها، وذلك من طريق: عبد الله بن بكر4، ثنا يونس بن عبيد، عن زياد، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يُصَلَّى عليه".
ورواه الثوري عن يونس بن عبيد فلم يرفعه، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 5.
__________
1 ابن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة، مات سنة 139 هـ / ع. (التقريب 613) .
2 بالكسر والفتح والضم - والكسر أكثرها -: الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (النهاية 2/378) .
(20/430) ح 1044.
4 ابن عبد الله، الْمُزَنِي، البصري، صدوقٌ، من السابعة/ د س ق. (التقريب297) .
(3/531) ح 6602.
(2/513)
وأخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 1 من طريق: المبارك بن فضالة2، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً، ووقع عند الطيالسي قول المبارك: "ولا أراه إلا مرفوعاً" أما عند أحمد فقد جزم برفعه.
وقد صحح هذا الحديث جماعة؛ فقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الإمام أحمد بن حنبل - فيما رواه أحمد بن أبي عبدة عنه -: "صحيح مرفوع"3. وقال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط البخاريِّ، ولم يُخَرِّجَاهُ". ووافقه الذهبي رحمه الله. وصححه ابن دقيق العيد؛ فإنه أورده في كتابه (الاقتراح) 4 في القسم الخاص بالأحاديث التي رواها قومٌ خَرَّجَ عنهم البخاري دون مسلم. هذا مع تصحيح ابن حبان له؛ إذ أخرجه في (صحيحه) كما مرَّ، وصححه - أيضاً - الشيخ الألباني5 رحمه الله.
وأما ما وقع في بعض طرقه من الشكِّ في رفعه: فإن ذلك لا يَضُرُّهُ؛ إذ إن ذلك وقع في رواية يونس بن عبيد وحده، ومع هذا فقد اخْتُلِفَ عليه في ذلك، فقد رواه عنه عبد الله بن بكر بدون شك، كما مضى عند الطبراني.
__________
1 حم: (4/248) . طس: (ح702) .
2 أبو فضالة البصري، صدوق يُدَلِّسُ ويُسَوِّي، من السادسة، مت سنة 136هـ على الصحيح/ خت د ت ق. (التقريب 519) .
3 زاد المعاد: (1/513) .
(ص 479) ح 27 من القسم المذكور.
5 صحيح ابن ماجه: (ح 1224) .
(2/514)
وأما رواية الثوري له موقوفاً: فقد خالفه جماعة عن يونس بن عبيد، منهم: عبد الله بن بكر المزني الماضي ذكره، وذكر الدارقطني: أن ابن عُلَيَّةَ، وعنبسة بن عبد الواحد روياه عن يونس مرفوعاً1. هذا مع اتفاق سعيد بن عبيد الله الثقفي، وأخيه المغيرة، والمبارك بن فضالة على رفعه كما مرَّ في تخريج الحديث، فهذا العدد الكثير أولى أن تكون روايتهم محفوظة، هذا إذا لم نقل: إن الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقات، فهي مقبولة.
وبهذا يتبين أن ترجيح الإمام الدارقطني في (علله) 2 رواية الوقف، الراجح خلافه.
ويَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث صحيح ثابت، وأنه لا مَطْعَنَ فيه، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والاستدلال به على مشروعية الصلاة على الطفل.
68- (7) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً، وقال: "إِنَّ في الجَنَّة مُرْضِعَاً تُتِمُّ رِضَاعَهُ، وهو صِدِّيقٌ ".
قال ابن القَيِّم: "هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية جابر الجُعْفِي، ولا يحتجُّ بحديثه، ولكن هذا الحديث مع مرسل البَهيّ،
__________
1 علل الدارقطني: ج2 (ق 104) .
2 ج2 (ق 104) .
(2/515)
وعطاء، والشعبي، يُقَوِّي بعضها بعضاً"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق:
إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.
وهذا الإسناد ضعيف بجابر الجعفي كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، وضَعَّفَهُ به المنذري4 أيضاً، ثم نقل كلام البيهقي في اعتضاد هذا الحديث بالمراسيل السابقة، قال: "وفيه نظر".
قلت: وقد رُوي مسنداً من غير طريق البراء، فَرُوِيَ عن: ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ذكر ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 5.
أما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من
__________
1 تحفة المودود: (ص 108) . وقد ذكر - رحمه الله - هذه المراسيل، ونقل عن البيهقي قوله: "هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تشبه الموصول، ويشد بعضها بعضاً". وانظر كلام البيهقي هذا في (سننه) (4/9) .
(4/283) .
(4/9) .
4 مختصر السنن: (4/323-324) .
(2/279-280) .
(1/484) ح1511 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
(2/516)
طريق: إبراهيم بن عثمان1، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صِدِّيقَاً نَبِيَّاً، ولو عاش لَعُتِقَتْ أخواله القبط، وما اسْتُرِقَّ قبطيُّ".
قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف لضعف إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة"2. وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه ابن ماجه ... بسند ضعيف"3.
وأما حديث أنس: فرواه أبو يعلى في (مسنده) 4 من طريق: يونس بن بكير، عن محمد بن عبيد الله5، عن عطاء، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على إبراهيم، فَكَبَّرَ عليه أربعاً". وَضَعَّفَهُ الهيثمي بمحمد بن عبيد الله العَرْزَمي6.
وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البزار في (مسنده) 7 من طريق:
__________
1 العبسي، أبو شيبة الكوفي، قاضي واسط، متروكُ الحديث، من السابعة، مات سنة 169 هـ / ت ق. (التقريب 92) .
2 مصباح الزجاجة: (2/33) .
3 الدراية: (1/235) ، وانظر الإصابة: (1/94) .
(6/335) ح 3660.
5 ابن أبي سليمان العرزمي، الفَزَاري، أبو عبد الرحمن الكوفي، متروك، من السادسة، مات سنة بضع وخمسين/ ت ق. (التقريب 494) .
6 مجمع الزوائد: (3/35) .
7 المصدر السابق.
(2/517)
عبد الرحمن بن مالك بن مغول1، عن الجُرَيرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ حديث أنس الماضي. وَضَعَّفَهُ الهيثمي2 بعبد الرحمن بن مالك، فإنه متروك الحديث. وَضَعَّفَهُ به ابن حجر أيضاً3.
قلتُ: فهذه المسانيد الثلاثة شديدة الضَّعْفِ؛ فإن إسناد كلِّ واحد منها لا يخلو من متروك، فيكون الاعتماد في ذلك على تلك المراسيل التي مضى ذكرها، فإنها - كما قال البيهقي وابن القَيِّم - إذا انضمت إلى مسند البراء بن عازب رضي الله عنه، قَوَّى كل منهما الآخر.
ومما يقوي ذلك أيضاً: أن الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابنه إبراهيم، قال ابن عبد البر: "وصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَبَّرَ أربعاً. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح" 4. وقال النووي: "الذي ذهب إليه الجمهور: أنه صَلَّى عليه، وكبر عليه أربع تكبيرات" 5.
وقال الخطابي - عقب ذكره مرسل عطاء -: "وهذا أولى الأمرين"6. وقال البيهقي: "وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه
__________
1 قال أحمد والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه أبو داود. وقال النسائي: ليس بثقة. (الميزان 2/584) .
2 مجمع الزوائد: (3/35) .
3 الإصابة: (1/94) .
4 الاستيعاب: (1/45) .
5 الإصابة: (1/94) .
6 معالم السنن: (4/323) .
(2/518)
إبراهيم، وذلك أولى من رواية من روى: أنه لم يُصَلِّ عليه"1.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: ثبوت صلاته صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وأن ذلك كان هديه، وكذلك ثبوت صلاته على ابنه إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.
__________
1 سنن البيهقي: (4/9) .
(2/519)
6- باب ما جاء في الصلاة على الشهداء
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية الصلاة على الشهيد، وقَرَّرَ أَنَّ أَصحَّ الأقوال في ذلك: التخيير بين الصلاة على الشهداء وتركها، وذلك لمجيء الأخبار بكل واحد من الأمرين.
ومن هذه الأحاديث التي بحثها في هذا الموضوع:
69 - (8) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَة، فَكَبَّرَ سَبعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَم يُؤت بقتيل إلا صَلَّى عليه معه، حتى صَلَّى عليه اثنتين وسبعين صلاةً".
ساق ابن القَيِّم هذا الحديث من رواية: ابن إسحاق، عن رجل من أصحابه، عن مقسم، عن ابن عباس به، ثم قال: "ولكنَّ هذا الحديث له ثلاث عللٍ:
- إحداها: أن ابن إسحاق عنعنه، ولم يذكر فيه سماعاً.
- الثانية: أنه رواه عمن لم يُسَمِّه.
- الثالثة: أن هذا قد رُوِيَ من حديث الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، والحسن لا يحتجُّ به ... "1.
قلت: حديثُ ابن إسحاق هذا أورده ابن هشام في (السيرة
__________
1 تهذيب السنن: (4/295) .
(2/520)
النبوية) 1 فقال: "وقال ابن إسحاق: وَحَدَّثَنِي من لا أَتَّهِمُ، عن مِقْسم مولى عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: " أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزةَ فَسُجِّي2 ببردةٍ، ثم صلى عليه ... " الحديث.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجلٌ من أصحابي ... الحديث.
وإلى مناقشة العلل التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله:
أما قوله:"إن ابن إسحاق عنعنه ... " فليس كذلك، بل صَرَّحَ فيه ابن إسحاق بالتحديث كما في (السيرة) ، وكذا الرواية عند البيهقي مُصَرَّحٌ فيها بالتحديث، وروايته هي التي ساقها ابن القَيِّم، وحينئذ تنتفي عنه شبهة التدليس.
وأما قوله:"إنه رواه عمن لم يسمعه": فنعم، قال البيهقي عقب إخراجه: "وهذا ضعيف، ومحمد بن إسحاق بن يسار إذا لم يذكر اسم من حَدَّثَ عنه لم يُفْرَحْ به"4.
وأما العلة الثالثة، وهي قوله: "إن هذا رُوِيَ من حديث الحسن ابن عمارة ... " إلخ: فقد أشار البيهقي إلى هذه العلة أيضاً5.
__________
(2/97) .
2 أي: غُطِّي.
(4/13) .
4 السنن: (4/13) .
5 المصدر السابق.
(2/521)
ولعلَّ هناك وجهاً للربط بين رواية ابن إسحاق، وبين رواية الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، وهو ما ذكره السهيلي في (الروض الأنف) 1 - مُعَقِّبَاً على رواية ابن إسحاق - فقال: "قول ابن إسحاق في هذا الحديث: حَدَّثَنِي من لا أَتَّهِم. إن كان هو الحسن بن عمارة - كما قاله بعضهم - فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره، فهو مجهول ... ".
وقال الحافظ ابن حجر: "والحامل للسهيلي على ذلك: ما وقع في مقدمة مسلم2، عن شعبة: أن الحسن بن عمارة حَدَّثَهُ عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على قتلى أحد. فسألت الحكم؟ فقال: لم يصلِّ عليهم"3.
ولكن على كلام السهيلي هذا يكون ابن إسحاق قد أَبْهَمَ الحسن ابن عمارة، وأسقط من الإسناد "الحكم بن عتيبة".
ولكن لحديث ابن عباس هذا طرقاً أخرى قد يَتَقَوَّى بها، من هذه الطرق:
1- ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طريق: أبي بكر بن عياش7،
__________
(6/43) .
2 صحيح مسلم: (1/23 - 24) والقصة فيه بأطول من هذا.
3 التلخيص الحبير: (2/117) .
(1/485) ح 1513 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.
(3/197 - 198) .
(4/12) .
7 ابن سالم الأسدي، الكوفي، المقري، الحنَّاط، مشهور بكنيته، والأصحُّ: أنها اسمه، ثقة عابد إلا أنه لما كَبِرَ ساءَ حفظه، وكِتَابُهُ صحيحٌ، من السابعة، مات سنة194هـ/ع. (التقريب624) .
(2/522)
عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُتِيَ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فَجَعَلَ يُصَلِّي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يُرفَعُونَ وهو كما هو موضوع". هذا لفظ ابن ماجه، وهو عند الحاكم والبيهقي بأطول من هذا، وفيه قصة صفية وبحثها يوم أحد عن حمزة رضي الله عنه.
وأورد ابن القَيِّم هذا الطريق قبل طريق ابن إسحاق السابق، وعزاه إلى البيهقي، ثم نقل قوله في أبي بكر ويزيد، فقال: "لا يحفظ إلا من حديثهما، وكانا غير حافظين". وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليسا بمعتمدين" وقال ابن حجر في (التلخيص) 1: "ويزيد فيه ضعف يسير".
وقال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح"2. كذا قال!
والذي يظهر عند النظر في هذا الإسناد: أن رَدَّهُ بأبي بكر بن عياش غير سائغ؛ فإن الرجل ثقة، إلا أنه قد ساء حفظه لما كَبِرَ، ولعلَّ القول فيه ما قاله ابن حبان رحمه الله: "والصواب في أمره: مُجَانَبةُ ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخل في جملة أهل العدالة ... "3.
قلت: وأما القول بالاحتجاج بما خالف فيه الثقات: فغير مقبول؛ لأنه حينئذٍ يكون من قبيل الشاذ.
__________
(2/117) .
2 مصباح الزجاجة: (2/34) .
3 الثقات: (7/670) .
(2/523)
وأما يزيد بن أبي زياد: فإنه ضعيف، ولكن لا يصلُ به الضعف إلى مرتبة من يُطْرَحُ حديثه بالكلية؛ لأن ضَعْفَهُ يسير كما قال ابن حجر1. ولذلك قال ابن عبد الهادي - في معرض رده على ابن الجوزي في تضعيفه هذا الحديث -: "وهو ممن يُكْتَبُ حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقروناً بغيره ... وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه"2.
فإذا تَبَيَّنَ ذلك، فإن هذا الإسناد مما يَصْلُحُ في المتابعات، ويعتضد بانضمام غيره إليه، وأما قول البوصيري: "صحيح" فإنه لا يخفى ما فيه.
2- ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن أبي عتيبة أو غيره، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، وفيه: "أَنَّه صَلَّى عليه سبعين صلاة، وأَنه كَبَّرَ عليه عشراً". قال الدارقطني عقبه: "لم يروه غير إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين".
وقد روي من وجه آخر عن: الحكم، عن مجاهد. أشار إلى ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 4 فقال: "رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في (سننه) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به، ولفظه كلفظ رواية الدارقطني الماضية.
__________
1 التلخيص الحبير: (2/117) .
2 نصب الراية: (2/311) .
(4/118) ح 47.
(2/311) .
(2/524)
وفي إسناده "الحسن بن عمارة" وهو ضعيف بالاتفاق.
3- ما أخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 1 من حديث: عبد العزيز بن عمران2، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس به.
قال الدارقطني عقبة: "عبد العزيز بن عمران ضعيف".
فهذه الطرق الثلاث: أحسنها الطريق الأول، من رواية أبي بكر ابن عَيَّاش، فيكون مقوياً لطريق ابن إسحاق المتقدم.
وهناك شاهدٌ مرسل لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو:
70- (9) حديث أبي مالك الغفاري، أنه قال: "كَانَ قَتْلَى أُحُد يؤتى منهم بتسعةٍ وعاشرهم حمزة، فَيُصَلِّي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُحْمَلُون، ثم يُؤْتَى بتسعةٍ فَيُصَلِّي عليهم وحمزة مكانه، حتى صَلَّى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: " هذا مرسل صحيح"3. ثم نقل عن البيهقي قوله: "هو أصحُ ما في الباب".
__________
(4/116) ح 42.
2 المدني، الأعرج، يُعرف: بابن أبي ثابت، متروكٌ، احْتَرَقَتْ كُتبه فَحَدَّثَ من حِفِظهِ فاشتَدَّ غَلَطُهُ، من الثامنة، مات سنة 197 هـ / ت. (التقريب 358) .
3 تهذيب السنن: (4/295) .
(2/525)
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (المراسيل) 1 من طريق: سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن2، عن أبي مالك3، وفيه: "فَصَلَّى عليهم سبع صلوات، حتى صَلَّى على سبعين رجلاً، منهم حمزة في كل صلاة صَلاّها".
وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: شعبة، عن حصين به. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "رجاله ثقات"5. وتقدم قول البيهقي6 فيه، وتصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - إياه.
وفي مقابلة هذه الأحاديث يأتي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليهم7. وظاهر صنيع ابن القَيِّم أنه يذهب إلى هذا الحديث ويقول به، وأما الأحاديث التي مَرَّتْ في الصلاة على حمزة وسائر شهداء أحد: فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يثبتها، بل يختار ضعفها، وذلك أنه قال: "والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصلِّ عليهم عند الدَّفْن، وقد قُتِلَ معه بأحدٍ سبعون نفساً، فلا يجوز أن تَخْفَى الصلاة عليهم،
__________
(ص 306) ح 427، (ص 310) ح 435.
2 السُّلَمي، أبو الهذيل الكوفي.
3 واسمه: غزوان، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من الثالثة/ خت د ت س. (التقريب 442) .
(2/78) ح9.
5 التلخيص الحبير: (2/117) .
6 انظر: السنن: (4/12) .
7 أخرجه البخاري في صحيحه: ك الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، ح 1343. (فتح الباري 3/209) ، وانظر بعده: ح 1347.
(2/526)
وحديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"1.
وقال مرة: " ... شهيد المعركة لا يُصَلَّى عليه؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على شهداء أُحُد ... فإن قيل: فقد ثبت في (الصحيحين) 2 من حديث عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يوماً، فَصَلَّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر ... قيل: أما صلاته عليهم، فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته، كَالْمُوَدِّعِ لهم ... فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّة الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين"3.
لكن كيف يستقيم هذا مع اختياره الذي صَدَّرَنَا به هذا البحث إذ يقول: "فأصح الأقوال: أنهم لا يُغَسَّلُون، ويُخَيَّرُ في الصلاة عليهم، وبهذا تتفق جميع الأحاديث"4. فلعله - رحمه الله - يرى الصلاة عليهم بعد دفنهم كما هو ظاهر حديث عقبة بن عامر الماضي قبل قليل؟
وحيث اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ فوردت
__________
1 تهذيب السنن: (4/296) .
2 خ: ك المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (فتح الباري 7/377) ح 4085. م: (4/1795) ح 2296، ك الفضائل، باب إثبات حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
3 زاد المعاد: (3/217) .
4 تهذيب السنن: (4/296) .
(2/527)
أحاديث تثبت الصلاة على الشهداء، وأخرى تنفي ذلك، فإن الروايات المثبتة تقدم على الروايات النافية؛ لأن الحجة للمثبت على النافي، حيث إن معه زيادة علم، فالذي تطمئن إليه النفس بعد هذا: جواز الصلاة على الشهداء لورود النصوص بذلك، فإذا لم يُصَلّ عليهم فلا حرج، والله أعلم.
(2/528)
7- باب ما جاء في تلقين الميت بعد دفنه
71- (10) عن أبي أمامة مرفوعاً: "إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُم فَسَوَّيْتُم التَّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَيْقُم أحدُكُم عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثم لْيَقُلْ: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ، ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْتَوي قَاعِدَاً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يقول: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ الله. وَلَكِن لا تَشْعُرُون، فَلْيَقُل: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيه من الدنيا: شَهادةَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِالله رَبَّاً، وبِالإسْلام دِيْنَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقرآن إِمَامَاً، فَإِن مُنْكَرَاً وَنَكِيراً يَأْخُذُ كلُّ واحدٍ منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نَقْعُدُ عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكونُ الله حجيجه دونهما". فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أُمَّهُ؟ قال: "ينسبه إلى حواءَ: يا فلان بن حواء ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فهذا حديث لا يصحُّ رفعه، ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت ... ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم، أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه. قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أي أمامة"1.
__________
1 زاد المعاد: (1/522 - 523) .
(2/529)
وقال مرةً: "حديث ضعيف"1.
وقال مرةً: "ضعيف باتِّفَاقِ أهل العلم بالحديث"2.
وقال مَرةً: " ... لا تقوم به حُجَّة"3.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (أكبر معاجمه) 4، وفي (الدعاء) 5 له من طريق:
محمد بن إبراهيم بن العلاء، عن إسماعيل بن عيَّاش6، عن عبد الله ابن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن عبد الله الأودي، أنه قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النَّزْع قال: إذا أنا متٌُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله: "إذا مات أحدٌ ... " الحديث.
وهذا الإسناد ضعيف، وفيه مجاهيل؛ فإنَّ محمد بن إبراهيم بن العلاء: هو الحمصي الزبيدي، ذكره الذهبي في (الميزان) 7 وقال: "قال محمد بن عوف: كان يَسْرِقُ الحديث". وعبد الله بن محمد القرشي لم أقف له على ترجمة.
__________
1 الروح: (ص 16) .
2 تحفة المودود: (ص149) .
3 تهذيب السنن: (7/250) .
(8/298) ح 7979.
(3/1367) ح 1214.
6 أبو عتبة الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم، من الثامنة، مات سنة 181هـ أو 182هـ/ ي 4. (التقريب 109) .
(3/447) .
(2/530)
وأما سعيد بن عبد الله الأودي: فهكذا وقع عند الطبراني في كتابيه، وقال بعضهم: سعيد الأزدي1، وأشار المنذري إلى الخلاف في اسمه، فقال في الجزء الذي صَنَّفَهُ في التلقين - ونقل عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2-: "قال أبو نعيم الحدَّاد: هذا حديث غريب من حديث حماد بن زيد، ولم أكتبه إلا من حديث سعيد الأزدي، وقال ابن أبي حاتم3: سعيد الأزدي، عن أبي أمامة الباهلي ... ". وقال المنذري: "هكذا قال: الأزدي، ووقع في روايتنا: الأودي، وهو في معنى المجهول".
فإن كان هو الأزدي: فقد بَيَّضَ له ابن أبي حاتم، وإن كان الأودي: فإنه أيضاً لا يُعْرَف، ولذلك قال الهيثمي رحمه الله - ووقع عنده: الأودي -: "رواه الطبراني في الكبير، وف إسناده جماعة لم أعرفهم"4.
وأورده الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 5 من طريق آخر، فقال: "أخرجه القاضي الخُلعي في الفوائد (55/2) عن: أبي الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، ثنا عتبة بن السكن، عن أبي زكريا، عن جابر بن سعيد الأزدي، قال: دخلت على أبي أمامة وهو في النَّزْع ... " الحديث.
فهذا قولٌ ثالت في اسم الراوي عن أبي أمامة، وأخشى أن يكون
__________
1 انظر: التلخيص الحبير: (2/136) .
2 ج 4 (ق 50/ب) .
3 انظر: الجرح والتعديل: (2/1/76) .
4 مجمع الزوائد: (3/45) .
5 ح (599) .
(2/531)
حصل تصحيف في إسناد الخُلعي هذا، ويكون صوابه: جابر عن سعيد الأزدي، فيكون هو نفسه "سعيد الأزدي" المذكور سابقاً؟ فالله أعلم.
قال الشيخ الألباني عقب سياقه هذا الإسناد: "وهذا إسناد ضعيف جداً، لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن، قال الدارقطني: متروكُ الحديث. وقال البيهقي: واهٍ، منسوب إلى الوضع. ثم أورد كلام الهيثمي السالف وقال: فاختلف في اسم الراوي عن أبي أمامة ... ".
وقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من الأئمة: فتقدم قول أبي نعيم الحداد أنه حديث غريب. وقال ابن الصلاح وقد سئل عنه: "ليس إسناده بالقائم"1. وقال النووي: "إسناده ضعيف"2. وقال الحافظ العراقيُّ في تخريج الإحياء3:" ... الطبراني هكذا بإسناد ضعيف". ونقل ابن علان في شرح الأذكار4 عن ابن حجر أنه قال: "حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً". وقال رحمه الله في فتح الباري5:"سنده ضعيفٌ جداً". وقال الصَنْعَانِي: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيفٌ، والعملُ به بدعةٌ، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"6. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث منكرٌ عندي، إن لم يكن موضوعاً"7.
__________
1 الأذكار للنووي: (ص138) .
2 المجموع: (5/257) .
(4/420) .
(4/196) .
(10/563) .
6 سبل السلام: (2/157) .
7 السلسلة الضعيفة: (2/65) .
(2/532)
ومع ذلك فقد حاول جماعة تقوية هذا الحديث، فقال ابن الملقن: "إسناده لا أعلم به بأساً"1. ثم ذكر له جملة من الشواهد "يعتضد بها" - ولم أر في واحدٍ منها ما يصلح شاهداً لهذا الحديث، وسأشير إلى شيء منها- وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح، وقد قَوَّاهُ الضياء في أحكامه ... "2 ولا أدري ما هذا من الحافظ رحمه الله؟ فقد نقلنا قبل قليل تضعيفه إياه في تخريجه لأذكار النووي، فلعله هنا تبع صاحب الأصل (البدر المنير) فنقل تصحيحه إسناده دون أن يتعقبه؟ فالله أعلم.
وأما ابن الصلاح رحمه الله، فإنه مع تضعيفه إياه قال: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام به قديماً"3. وقال النووي: "فهذا وإن كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث ... "4. فذكر بعضها.
أما عن الشواهد التي ذكروها لهذا الحديث:
- فمنها: حديث " ... واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل".
- ومنها: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم،
__________
1 البدر المنير: ج 4 (ق50/ب) .
2 التلخيص الحبير: (2/135 - 136) .
3 الأذكار للنووي: (ص138) .
4 المجموع: (5/257 - 258) .
(2/533)
وأعلم ماذا أراجع رسل ربي". أخرجه مسلم في (صحيحه) 1.
- ومنها: ما رواه سعيد بن منصور من طريق: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب وغيرهما، قالوا: "إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن لا إله إلا الله. ثلاث مرات، قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونَبِيِّ محمد، ثُمَّ يَنْصَرِف"2. إلى غير ذلك من الشواهد التي ساقوها.
وهذه الشواهد كما نرى كلها موقوفات، والمرفوع منها ليس فيه سوى الدعاء للميت بالتثبيت والمغفرة، وهذا لا علاقة له بالتلقين المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة، قال الشيخ الألباني: "واعلم أنه ليس للحديث ما يَشْهَدُ له، وكلُّ ما ذكره البعض إنما هو أثرٌ موقوفٌ على بعض التابعين الشاميين، لا يصلح شاهداً للمرفوع، بل هو يُعِلُّه، وينزل به من الرفع إلى الوقف ... على أنه شاهد قاصر"3. يشير إلى أثر سعيد بن منصور السابق.
قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الأثر، الذي هو أقرب ما يكون إلى حديث أبي أمامة، فكيف ببقية هذه الشواهد التي لا صلة لها بلفظ الحديث؟
__________
(1/112) ح 192 (121) وهو جزء من حديث طويل.
2 التلخيص الحبير: (2/136) .
3 السلسلة الضعيفة: (2/65) .
(2/534)
وأما قول النوويِّ: إن ذلك من فضائل الأعمال التي يُتَسَامَحُ فيها: فإنه مردود، قال الشيخ الألباني: "ولا يرد هنا ما اشتهر من القول بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ فإن هذا محله فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف؛ لأنه تشريع، ولا يجوز ذلك بالحديث الضعيف، لأنه لا يفيد إلا الظن المرجوح اتفاقاً، فكيف يجوز العمل بمثله"1.
وأما الذين قَوَّوه بعمل الناس إلى يومنا هذا، كقول ابن الصلاح: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديماً": فلا شكَّ أن العمل الذي يُعَوَّلَ عليه، ويُجعل الحديث بمقتضاه مقبولاً، هو عمل العلماء، وليس عمل كل أحد. ثم إنَّ أهل الشام وحدهم لا يمثلون الأمة كلها - أو علماء الأمة - حَتَّى يُجعل عملهم حجةً على الأمة. هذا بالإضافة إلى شِدَّة ضعفِ هذا الحديث، وجهالة رواته، وإنكار أكثر العلماء له، حتى قال الشيخ الألباني: "منكر ... إن لم يكن موضوعاً". وكم من حديث ضعيف لا يثبت قد عمل به عاملون، فهل يلزم من هذا أن تُتَّخَذَ البدع ديناً بحجة أن الناس يعملونها؟؟ كلاَّ، ففيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كفايةٌ.
ثم إن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد قال نحواً من ذلك!! فإنه وإن ضَعَّفَ الحديث كما مضى، إلا أنه قال في كتابه (الروح) 2: "فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كافٍ في العمل به ... "!
__________
1 السلسلة الضعيفة: (2/65) .
(ص 16) .
(2/535)
كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه يَنْفِي أن يكون ذلك من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في (زاد المعاد) 1: "ولم يكن - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يجلس عند القبر، ولا يُلَقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم". مع ما تقدم من تضعيفه لهذا الحديث، فلعله كان يقول به أولاً ثم رجع عنه، فالله أعلم.
فالخير كل الخير في اتِّبَاع هَدْيِه صلى الله عليه وسلم في الفِعْلِ والتَّرْكِ، وما أحسن ما قال الصنعاني رحمه الله: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيف، والعملُ به بدعة، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"2. والله أعلم.
__________
(1/522) .
2 سبل السلام: (2/157) .
(2/536)