الجمعة، 7 يناير 2022

20- ج2 منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل ..باب اول وثاني


منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
الفصل الثاني

التعريف بكتاب العلل للإمام الدَّارَقُطْني
علل الدارقطني (العلل الواردة في الأحاديث النبوية):
سنتعرض في هذا الفصل لدراسة كتاب العلل للدارقطني من جوانب علمية مختلفة من حيث اسمه، ومؤلفه، وقيمة الكتاب العلمية، ومحتوى الكتاب، ومصادر الإمام الدارقطني في الكلام على العلل والرواة، والطريقة التي كان يسلكها في بيان العلل وغير ذلك مما يعين الباحث على الإفادة منه، والأحاديث التي ذكر الدارقطني إنها معلولة وهي في أحد الصحيحين (البخاري أو مسلم).
المبحث الأول: اسم الكتاب ومؤلفه:
اسم الكتاب:
للكتاب اسمان: العلل للدارقطني، والعلل الواردة في الأحاديث النبوية، ويرجع هذا الاختلاف في الاسم إلى تصرف النُّساخ بالاختصار لاسم الكتاب على طرة بعض مجلداته وهذا مشاهد في كثير من المخطوطات والنسخ القديمة، فعلى سبيل المثال: مسمَّي العلل الواردة في الأحاديث النبوية فهو كما ثبت على بداية نسخ الكتاب المخطوطة، فمنها نسخة دار الكتب المصرية، كُتب على المجلد الأول: " المجلد الأول من العلل المورودة في الأحاديث النبوية "، وكُتب على المجلد الرابع منها: العلل الواردة في الأحاديث النبوية وكُتب على المجلد الخامس منها "المجلد الخامس من العلل في الأحاديث " وأما تسميته بالعلل فقد سماه كثير من الأئمة كما سنذكر فيما بعد في أهمية الكتاب.
مؤلف الكتاب:
نُسب الكتاب للدارقطني ولكن اشترك الإمامان الكرخي والبرقاني في وضع هذا التصنيف فقد قال الخطيب البغدادي: " سألت البرقاني قلت له: هل كان أبو الحسن الدارقطني يملى عليك العلل من حفظه فقال: نعم ثم شرح لي قصة جمع العلل فقال: كان أبو
(1/46)
منصور بن الكرخي يريد أن يصنف مسنداً معلَّلاً فكان يدفع أصوله إلى الدارقطني فيعلم له على الأحاديث المعللة ثم يدفعها أبو منصور إلى الوراقين فينقلون كل حديث منها في رقعة فإذا أردتُ تعليق الدارقطني على الأحاديث نظر فيها أبو الحسن ثم أملى علىَّ الكلام من حفظه فيقول: حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود الحديث الفلاني اتفق فلان وفلان على روايته وخالفهما فلان ويذكر جميع ما في ذلك الحديث فأكتب كلامه في رقعة مفردة وكنت أقول له: لم تنظر قبل إملائك الكلام في الأحاديث؟ فقال: أَتَذَكَّرُ ما في حفظي بنظري، ثم مات أبو منصور والعلل في الرقاع فقلت لأبي الحسن بعد سنين من موته: إني قد عزمت أن أنقل الرقاع إلى الأجزاء وأرتبها على المسند فأذن لي في ذلك وقرأتها عليه من كتابي ونقلها الناس من نسختي ". وقال أيضاً: " قال أبو بكر البرقاني: وكنت أكثر ذكر الدارقطني والثناء عليه بحضرة أبي مسلم بن مهران الحافظ فقال لي أبو مسلم: أراك تفرط في وصفه بالحفظ فتسأله عن حديث الرضراض عن ابن مسعود فجئت إلى أبي الحسن وسألته عنه فقال: ليس هذا من مسائلك وإنما قد وضعت عليه فقلت له: نعم فقال: من الذي وضعك على هذه المسألة؟ فقلت: لا يمكنني أن أسميه فقال: لا أجيبك أو تذكره لي فأخبرته فأملى علىَّ أبو الحسن حديث الرضراض باختلاف وجوهه وذكر خطأ البخاري فيه فألحقته بالعلل ونقلته إليها أو كما قال " (1).
وقال الخطبيب البغدادي: " فنقل البرقاني كلام الدارقطني ورتبه على المسند وقرأه على أبي الحسن وسمعه الناس بقراءته فهو كتاب "العلل" الذي دونه الناس عن الدارقطني" (2).
_________
(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (ج5 / ص 249).
(2) نفس المصدر السابق (ج6 / ص 59).
(1/47)
ويتضح مما سبق عدة أمور:
1. نسبة كتاب العلل للدارقطني صحيحة، لأنه هو الذي انتقى الأحاديث المعلولة من أصول الكرخي وتكلم عليها كما يظهر من النص السابق.
2. كتاب العلل مرتب على المسانيد، وقد رتبه الحافظ البرقاني بموافقة الإمام الدارقطني.
3. أحاديث الكتاب جمعت من الأصول التي جمعها الإمام الكرخي، وسؤالات البرقاني.
4. جمع الإمام البرقاني للكتاب وأنه هو الذي يصدر السؤال بكلمة " وسئل " ثم يقول: " فقال "، يقصد بها الدارقطني.
المبحث الثاني: قيمة الكتاب العلمية:
الكتاب في غاية الإتقان والنَّفاسة، ودرة ثمينة قلما توجد في هذا الفن، وقد وضع فيه الدارقطني خلاصة علمه، وأبان العلل بأسلوبٍ يجلي العلة ويبرزها، ويمتاز كذلك عن بقية الكتب المطبوعة في هذا الفن ويزيد عليها سعة وشمولا واستيعابا وتنظيما، وقد أثنى عليه العلماء بأجمل الثناء:
فقال محمد بن أبي نصر الحميدي: " ثلاثة كتب من علوم الحديث يجب التهمم بها: كتاب العلل، وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الدارقطني ... الخ " (1).
وقال ابن الصلاح عند ذكر كتب علل الحديث: " ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد ابن حنبل، وكتاب العلل عن الدارقطني " (2). وقال الذهبي: " وإذا شئت أن تبين براعة هذا الإمام الفرد فطالع العلل له فإنك تندهش ويطول تعجبك " (3).
_________
(1) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، طبعة مكتبة ابن سينا القاهرة (ص 160).
(2) أبو عمرو بن الصلاح، علوم الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح (ص 254).
(3) الذهبي، تذكرة الحفاظ (ج 3 / ص 993 - 994).
(1/48)
وقال الحافظ ابن كثير: " وقد جمع أزمِّة ما ذكرناه كله الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجل كتاب، بل أجل ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله، وقد أعجز من يريد أن يأتي بعده، فرحمه الله وأكرم مثواه " (1).
وقال البلقيني: " وأجل كتاب في العلل: كتاب الحافظ ابن المديني، وكذلك كتاب ابن أبي حاتم، وكتاب العلل للخلال، وأجمعها كتاب الحافظ الدارقطني " (2).
قلتُ: وقد قام الدكتور محفوظ الرحمن بإجراء مقارنة بين علل الدارقطني وكتب
الأئمة الآخرين، وأثبت أن أجمعها كتاب الإمام الدارقطني فمن أراد التفصيل فليرجع
إلى كتابه فإنه بحثٌ نفيسٌ غايةٌ، ولم يسبق إليه (3).
وقال العراقي في ألفيته: " وعلل وخيرها لأحمدا ... والدارقطني وتواريخ عدا " (4).
وقال السخاوي: " هو على المسانيد مع أنه أجمعها " (5).
_________
(1) أحمد محمد شاكر، الباعث الحثيث (ص 91).
(2) عمر بن رسلان البلقيني (ت: 805 هـ)، محاسن الاصطلاح المطبوع بحاشية مقدمة ابن الصلاح تحقيق د: عائشة عبد الرحمن، دار الكتب المصرية 1974 م (ص 203).
(3) محفوظ الرحمن زين الله السلفي، مقدمة تحقيق العلل (ج1 / ص 105 - 131).
(4) العراقي، ألفية الحديث، مع الفتح المغيث للسخاوي (ج2 / ص 311).
(5) السخاوي، فتح المعيث (ج2 / ص334).
(1/49)
المبحث الثالث: محتوى الكتاب:
ويحتوي كتاب العلل للدارقطني الذي بين أيدينا الآن على حوالي: " 177"، مسنداً تقريباً، تضم أكثر من " 4128 "، سؤالاً (1)، وقد اشتملت السؤالات على جميع أنواع العلل المختلفة الخفية والظاهرة، فكان منها المتفق والمفترق، والمدرج، والمضطرب والْمُصَحَّف، الْمُدَلَّس، وما فيه الإرسال والانقطاع والضعف وغيره، وقد رتب مادة الكتاب الحافظ البرقاني على المسانيد بعد موافقة الدارقطني على ذلك كما سبق ذكره، وأن السؤالات التي صُدَّرت بها نصوص الدارقطني في العلل من وضع الحافظ البرقاني، وقد ضمَّ الكتاب السؤالات عن تراجم الرواة، كما ضمَّ السؤالات عن الأحاديث إلا أن الأحاديث كانت الغالب من أصل السؤالات.
وكتاب العلل إلى اليوم لم يكتمل بعدُ، حيث إنَّ المصادر التي اعتمد عليها الدكتور محفوظ الرحمن رحمه الله تدل على النقص في أصل الكتاب، فقد أفاد د. محفوظ الرحمن زين الله (2) أنَّه: " اعتمد على عشرة نسخ خطية لكن معظمها غير كاملة فبعضها ينقص مجلداً وبعضها ينقص أكثر، وقد يكون المجلد نفسه ناقصاً من أوله أو أثناءه أو آخره، وأكمل هذه الكتب نسخة دار الكتب المصرية التي تقع في خمس مجلدات، ولكنها لم تسلم أيضاً من النقص أو الاضطراب في ترتيبها، فأما المجلدات الأول والثاني والثالث فقد دخلت فيما طبع من الكتاب، وأما المجلد الرابع فقد طبع بعضه، وذكر المحقق أنه اكتفى فيه بالمقابلة على نسختين فقط مما سبق وهما نسخة دار الكتب المصرية، ونسخة " خدا بخش بتنه " القديمة، لأن بقية النسخ إما منقولة عنهما أو لأن النقص كان بعد المجلدين الأول والثاني، وأما المجلد الرابع
_________
(1) فقد ذكر الدكتور محفوظ الرحمن رحمه الله، أن كتاب العلل للدارقطني يحتوي - مع نقصه - على "170 " مسندا تضم أكثر من " 3987 " سؤال في مقدمة تحقيق العلل (ج1/ ص5)، وما أثبته هنا، تعقيب عليه بعد التحقيق والدراسة لجميع الكتاب بعد التكملة.
(2) الدكتور عبدالله بن محمد بن حسن دمفو، مرويات الإمام الزهري المعلة (ج1 / ص 107).
(1/50)
من النسخة المصرية فلا يقابله إلا نسخة المكتبة الناصرية " بلكنو "، وأما المجلد الخامس فتنفرد به النسخة المصرية ".
والكتاب طبع في أحد عشر مجلداً، وهو القسم الذي طبعه الدكتور محفوظ الرحمن رحمه الله، ثم قام الشيخ محمد بن صالح الدَّباسي مشكوراً بإتمام بقية التحقيق للمخطوطات المذكورة آنفاً، فخرجت التكملة في خمسة مجلدات مع الفهارس، فيكون إجمالي أجزاء الكتاب ستة عشر جزءاً مع الفهارس.
وأخيراً سؤال يطرح نفسه، هل هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو الذي جمعه البرقاني في حياة الدارقطني أم اعتراه النقص!؟
والجواب: باستقراء النصوص التي وردت في هذه المسألة نجدها تنقسم على قولين:
القول الأول:
ذهب إليه ابن القطان ومن تبعه، أن الدارقطني لم يكمل الكتاب أصلاً، فقال: " فأما كتاب العلل له - يعني الدارقطني - فإنه لم يذكر فيه ابن عباس، وكذلك جماعة من الصحابة، أراه لم يبلغهم عمله " (1).
وقال أيضاً: " وذلك أن الدارقطني لم يجعل في كتاب العلل لابن عباس رسماً، ولا ذكر من حديثه إلا ما عرض في باب غيره من الصحابة، إما لم يبلغه عمله وإما لم يتحصل عنده ما يضع في الكتاب المذكور (2).
واحتج بعضهم بأن كتاب الدارقطني مبني على أصول أبي منصور الكرخي - وهو شيخه
- الذي مات ولم يتمه كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (3).
_________
(1) الحافظ علي بن محمد بن عبد الملك أبو الحسن، ابن القطان الفاسي (ت: 628)، بيان الوهم والإيهام طبعة دار طيبة، الرياض، تحقيق د. الحسين آيت سعيد، (ج1/ ص181).
(2) المصدر السابق، (ج1/ ص192).
(3) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (ج5 / ص249).
(1/51)
القول الثاني:
وهو أنَّ الكتاب قد اعتراه النقص في النسخ المخطوطة التي وصلت إلينا، ولم يكن الكتاب على أصول الكرخي فحسب، وإنما ضم إليه سؤالات البرقاني من أمثلة ذلك ما ورد من حديث الرضراض بن أسعد عن ابن مسعود , كما حكى البرقاني قصة سؤاله للدارقطني عنه كما نقله الخطيب عنه في تاريخه أنه قال: كنت أكثر ذكر الدارقطني والثناء عليه بحضرة أبي مسلم بن مهران الحافظ , فقال لي أبو مسلم: أراك تفرط فى وصفه بالحفظ فتسأله عن حديث الرضراض عن ابن مسعود؟ فجئت الى أبى الحسن وسألته عنه فقال: ليس هذا من مسائلك ... " (1).
القول الراجح:
وهو القول الثاني: أن الكتاب قد اعتراه النقص في النسخ المخطوطة التي وصلت إلينا، ويرجع ذلك إما لخطأ النساخ أو فقدان أجزاء منه، ومن القرائن والشواهد التي تؤيد ذلك عدة نصوص في كتاب العلل للدارقطني، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر:
القرينة الأولى:
ورد في حديث ((إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً)) (2)، سؤال رقم (3485) قول الدارقطني: " وحديث أبي بن كعب يجئ في مسنده إن شاء الله. " (3)، ومعلوم أنَّه ليس هناك مسند لأُبي بن كعب في نسخ الكتاب الذي بين أيدينا، مما يدل على النقصان في النسخة المخطوطة التي وصلت إلينا، وكلام أهل العلم ممن كان له دراسة بهذا المصنف الجليل يدل على ما ذهبنا إليه.
_________
(1) المصدر السابق (ج15/ ص260).
(2) البخاري، الجامع الصحيح (ج10/ ص605)،كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يُكره منه، رقم (6145). والترمذي، السنن (ج5/ص137)، كتاب، باب ما جاء إنَّ من الشعر حكمة، رقم (2844).
(3) أبو الحسن الدارقطني، علل الدارقطني، تكملة الدَّباسي (ج14 / ص146).
(1/52)
القرينة الثانية:
ورد في حديث ((أَلا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ؟)) (1)، سؤال رقم (4009) قول الدارقطني: " وقد بينا الخلاف في حديث ابن عباس " (2)، وليس في النسخ الموجودة لدينا أثر لمسند ابن عباس منفرداً، ولم نحصل على الخلاف المشار إليه في كتاب العلل بعد طول تفتيش، وقال الدكتور محفوظ الرحمن: " وكما أن مسند ابن عباس لا يوجد في العلل للدارقطني كذلك لا يوجد مسند عبدالله بن عمرو بن العاص مع أنَّه أيضاً من المكثرين، وغاية ما في الأمر أنَّ الدارقطني لم يفرد مسنداً لابن عباس كما عمل لعبدالله بن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك وغيرهما، ولكنه يذكر أحاديث ابن عباس في مسانيد أخرى. " (3)، وأما قول القائل: ربما كان الخلاف المذكور في حديث ابن عباس مما أُدخل في بعض المسانيد الأخرى، فاحتمال ظاهر البطلان، لأن أحاديث ابن عباس التي وقعت في كتاب العلل الذي بين أيدينا حوالي (116) ستة عشر ومائة حديثٍ تقريباً، وبعد سبر هذه الأحاديث لم نجد الخلاف المذكور آنفاً في الحديث.
ومما سبق يتضح لنا عدة أمور ونتائج:
1 - أنَّ النسخ المخطوطة الموجودة بين أيدينا الآن من كتاب العلل وقع بها النقص إجمالاً
2 - وأنَّ مسانيد أبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص لا وجود لهما في الكتاب.
3 - وأنَّ مسند ابن عباس لا يوجد منفرداً بل ذكر في مسانيد أخري تبعاً لا أصلاً.
4 - وأنَّ قول قائل أن الدارقطني لم يكمل الكتاب أصلاً، بعيد من واقع الحجة والبرهان.
5 - أنَّ كتاب العلل للدارقطني كتاب حافل كثير الفائدة في بابه.
_________
(1) مسلم، صحيح مسلم (مع شرح النووي)،كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (ج2 / ص288)، رقم (102).
(2) أبو الحسن الدارقطني، علل الدارقطني، تكملة الدَّباسي (ج15/ ص 260).
(3) محفوظ الرحمن، مقدمة العلل للدارقطني (ج1/ ص 84).
(1/53)
المبحث الرابع: مصادر الإمام الدارقطني في الكلام على العلل والرواة:
أولاً: المصادر التي صرح بها الدارقطني في كتابه:
ذكر الدكتور محفوظ الرحمن المصادر التي صرح بها الدارقطني في كتابه العلل، فأحببت أن أذكرها إتماماً للفائدة، وأذكر بعدها بعض التعليقات والاستدراكات تبعاً، فقال رحمه الله:
1 - كتاب المناسك لعبد الملك بن عبد العزيز بن جريح (ت: 150 هـ).
2 - مصنفات سعيد بن أبي عروبة (ت: 156 أو 157 هـ).
3 - الموطأ للإمام مالك بن أنس (ت: 179 هـ).
4 - الموطأ بروايات:
محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189 هـ)، عبدالرحمن بن القاسم بن خالد (ت:191 هـ)، عبد الله بن وهب (ت: 197 هـ)، معن بن عيسى الأشجعي (ت: 198 هـ) يحيى بن سعيد القطان (ت: 198 هـ)، محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204 هـ)، بشر بن عمر (ت: 209 هـ)، عبدالملك بن عبدالعزيز بن الماجشون (ت: 213 هـ) محمد بن المبارك الصوري (ت: 215 هـ)، عبدالله بن يوسف التنيسي (ت: 218 هـ) عبدالله بن مسلمة بن قعنب القعنبي (ت: 221 هـ)، يحيى بن عبدالله بن بكير ... (ت: 231 هـ)، يحيى بن يحيى الليثي (ت: 234 هـ)، قتيبة بن سعيد (ت: 240 هـ)، أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري (ت: 242 هـ)، أيوب بن صالح.
5 - كتاب عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي (ت: 194هـ)، عن يحيى بن سعيد الأنصاري (ت: 144 هـ).
6 - كتاب الطهارة لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت: 224 هـ).
7 - المسند لعلي بن المديني (ت: 234 هـ).
8 - كتاب أحمد بن منيع (ت: 244 هـ).
9 - الجامع الصحيح لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256 هـ).
(1/54)
10 - الصحيح لمسلم بن حجاج (ت: 261 هـ).
11 - كتاب الأدب لإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت: 285 هـ).
12 - كتاب الطهارة لإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت: 285 هـ).
13 - كتاب أبي بكر محمد بن عبدالله الشافعي (ت: 354 هـ) " (1).
استدراك: لم يذكر الدكتور محفوظ الرحمن رحمه الله، ثمانية وستين مصدراً تقريباً، وقد صرح الدارقطني بالاستفادة منها، فمنها على سبيل المثال لا الحصر (2):
1 - أصل نهشل بن دارم، وهو بن مالك بن حنظلة، من تميم، من عدنان (ت:؟) (3)
2 - الجنائز ليزيد بن هارون، وهو بن زاذان بن ثابت الواسطي (ت: 206هـ) (4).
3 - العين للخليل بن أحمد، وهو ابن عمرو بن تميم الفراهيدي (ت: 170هـ) (5)
4 - كتاب إبراهيم بن نصر الكنديّ، أبو إسحاق الرازي (ت: 280هـ) (6).
5 - كتاب أحمد بن محمد بن عبد الكريم، وهو ابن سهل الكاتب، أبو العباس (ت: 270هـ) صاحب كتاب (الخراج) (7)،قال ابن خلكان: "لم أعلم من حاله شيئا، وكتابه مشهور، وما ذكرته إلا لأجل كتابه فقد يَتَشَوَّف الواقف عليه إلى معرفة زمانه" (8)
_________
(1) محفوظ الرحمن زين الله السلفي، مقدمة تحقيق العلل (ج1 / ص 98 - 100)
(2) فهارس العلل للدارقطني (التكملة)،طبعة دار التدمرية 1428هـ (ج16/ ص 628 - 632).
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج10 / ص341).
(4) المصدر السابق (ج12/ص32).
(5) المصدر السابق (ج5 / ص235).
(6) المصدر السابق (ج12 /ص400).
(7) المصدر السابق (ج12/ 337).
(8) ابن خلكان، وفيات الأعيان (ج1/ ص29).
(1/55)
6 - كتاب أزهر، وهو ابن سعد الباهلي بالولاء، أبو بكر السمان (ت: 203هـ) (1)
7 - كتاب إسحاق الفروي، ابن محمد بن إسماعيل بن أبي فروة (ت: 226هـ) (2).
8 - كتاب الحسن بن أحمد بن صالح السبيعي، الهمداني الحلبي (ت:371هـ) (3).
9 _ كتاب الليث، الإمام ابن سعد الفهمي بالولاء، أبو الحارث (ت: 175هـ) (4).
10 - كتاب المفضل بن فضالة، ابن عبيد، أبو معاوية، القتباني المصري (ت:181هـ) (5).
11 - كتاب خلف بن محمد، وهو كردوس (ت: 216 أو 217 هـ) (6).
12 - مسند البزار، هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر (ت: 292 هـ) (7).
ثانياً: المصادر التي لم يصرح بها الدارقطني في كتابه:
ذكر الحافظ الذهبي في السير: " قال أبو بكر البرقاني: كان الدارقطني يملي عليَّ العلل من حفظه. قلت: إن كان كتاب " العلل " الموجود، قد أملاه الدارقطني من حفظه، كما دلت عليه هذه الحكاية، فهذا أمر عظيم، يقضى به للدارقطني أنه أحفظ أهل الدنيا وإن كان قد أملى بعضه من حفظه فهذا ممكن، وقد جَمع قبله كتاب " العلل " علي بن المديني حافظ زمانه " (8).
وذكر الحافظ البرقاني _عن طريقة إملاء الدارقطني للعلل - قوله: " فإذا أردتُ تعليق الدارقطني على الأحاديث نظر فيها أبو الحسن، ثم أملى عَلَيَّ الكلام من حفظه فيقول: حديث
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج5/ ص187).
(2) المصدر السابق (ج8/ ص206).
(3) المصدر السابق (ج1 / ص20).
(4) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (التكملة)، (ج12 /ص99).
(5) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج4 /ص295).
(6) المصدر السابق (ج7 /ص147).
(7) المصدر السابق (ج10 /ص370).
(8) الذهبي، سير أعلام النبلاء (ج16 / ص 455).
(1/56)
الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود الحديث الفلاني، اتفق فلان وفلان على روايته، وخالفهما فلان، ويذكر جميع ما في الحديث " (1).
وقيل للدارقطني: " حديث ابن مخلد عن أحمد بن منصور، عن النضر هل سمعته منه؟ قال: لا أحفظه الساعة وهو حديث باطل، ذهب عبدالرحمن بن مهدي وأبو داود إلي زياد بن ميمون فأنكر عليه هذا الحديث، فقال: اشهدوا علىّ أني رجعتُ عنه " (2).
قلتُ: ويتضح لنا من النصوص السالفة الذكر أن مصادر الدارقطني في التعليل كالآتي:
أولاً: أنَّ الدارقطني كان يعتمد على حفظه الأحاديث المعلولة عن مشايخه، وعلى استحضار الطرق في الحديث، فقد كانوا يتعلمون المعلول من الحديث كما يتعلمون الصحيح السالم من العلل، وهذا معلوم ومشاهد بالاستقراء وبالتواتر.
ثانياً: أنَّ الدارقطني اعتمد على بعض مصنفات أئمة الحديث والتي صرح بها كما سبق، واعتمد على مصادر لم يذكرها ربما استفاد منها، ومثال ذلك: كتاب العلل للإمام ابن أبي حاتم الرازي، وكتاب علل الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب الإمام الترمذي وغيرهم ممن كانت لهم كتبٌ مشهورة صنفت في العلل قبل الدارقطني، قفد ذكر ابن أبي شيبة اهتمام السلف بكتب أئمة الفن قبلهم فقال:" سمعت علياً _ ابن المديني _ يقول أبو عوانة باع كتابه، سمعت علياً يقول: كنت إذا قدمت الى بغداد منذ أربعين سنه كان الذي يذاكر أحمد بن حنبل فربما اختلفنا في الشيء فنسأل أبا زكريا يحيى بن معين فيقوم فيُخرِّجه" (3).
وقال الدكتور محفوظ الرحمن في مقدمة العلل: " والحقيقة أن الدارقطني استفاد كثيراً من مشايخه تلقياً ومشافهة ومن مصنفاتهم منهم: محمد بن مخلد، ويحيى بن صاعد، والمحاملي
_________
(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (ج12 / ص 37).
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل، (التكملة)، (ج15/ ص9).
(3) ابن أبي شيبة: محمد بن عثمان، أبو جعفر الكوفي (ت: 239 هـ)، سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني رواية جعفر بن محمد بن الخواص عنه، دار البشائر، بيروت (ص81).
(1/57)
وابن أبي داود، وأبو بكر الشافعي وغيرهم، كما أنه استفاد من مؤلفات المتقدمين - وإن لم يصرح بها - مثل مؤلفات سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وابن المبارك ووكيع، وأبي داود الطيالسي، وعبد الرزاق، والحميدي، ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وأحمد بن منصور الرمادي، وعمر بن شبَّة، ويعقوب بن شيبة، والترمذي والبزار وغيرهم - ممن يصعب إحصاؤهم - الذين يذكر أسماءهم في الأسانيد التي ساقها في هذا الكتاب، ولا نستطيع أن نحدد، لأنَّه كان يملي العلل من حفظه، فيجوز أن تكون استفادته من مؤلفاتهم، أو مما تلقاه من مشايخه الأفذاذ، والله أعلم " (1).
قلتُ: والتحقيق أنَّ الدارقطني صرح بأنَّهُ استفاد من كتب حماد بن سلمة، وكذلك من مسند البزار، فأما حماد بن سلمة فقد قال الدارقطني: " ولا يثبت هذا الحديث لأنه ليس في كتب حماد بن سلمة المصنفات " (2)، وأما البزار فقد قال الدارقطني: " رواه عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو الصواب، وحدث به أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في المسند في حديث مالك عن المقبري " (3)، وعلى كل حال يمكن حصر احتمالات المصادر التي استفاد منها الدارقطني من كتب الأولين ولم يصرح بها في ثلاثة احتمالات:
1 - احتمال أن الدارقطني كان يحفظ الطرق، وعلة الحديث من مشايخه بالاستيعاب الذي ليس فيه شك فيستحضر الطرق والعلة من الذاكرة والحافظة، ولا ينظر إلى مرجع.
2 - واحتمال أنَّه كان يحفظ لكنه غير مستوعب للطرق في الحديث فينظر في المصادر التي عنده فيستحضر بقية الطرق في الحديث ثم يملي الطرق والعلة بعد ذلك.
3 - واحتمال أنَّه لم يكن يستحضر الطرق والعلة في الحديث، فينظر في المصادر.
_________
(1) محفوظ الرحمن زين الله السلفي، مقدمة تحقيق العلل (ج1 / ص 100 - 101).
(2) أبو الحسن الدارقطني، العلل (ج5 / ص 346).
(3) المصدر السابق (ج10 / ص 370).
(1/58)
ويدل على ذلك على سبيل المثال لا للحصر عدة قرائن، وإلا فهي كثيرة نذكر منها:
القرينة الأولى:
أنَّ الدارقطني ذكر حديث " أبي صالح عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ)) (1)، فقال الدارقطني: وقال أحمد بن حنبل حدث به ابن جريج عن موسى بن عقبة وفيه وهم والصحيح قول وهيب، وقال وأخشى أن يكون ابن جريج دلسه عن موسى بن عقبة أخذه من بعض الضعفاء عنه، والقول كما قال أحمد " (2).
قلتُ: والمعلوم أن الدارقطني لم يدرك الإمام أحمد، فإنَّ الإمام أحمد توفي سنة 241 هجرية، وكان مولد الدارقطني سنة 306 هجرية فبينهما رجلين على أقل تقدير، وكون أنَّهما من بغداد، فلا شك أنه استفاد من بعض كتبه، فقد نقل الإمام الدارقطني في العلل ما يقارب ثلاثة وعشرين قولاً للإمام أحمد بن حنبل.
والقرينة الثانية: قال الإمام البرقاني: " قلت له فإنَّ البخاري فيما ذكره أبو عيسى عنه حكم بحديث الحسن بن عُبيد الله على حديث الأعمش قال الشيخ - يعني الإمام الدارقطني -: وقول الحسن بن عبيدالله عن قرثع غير مضبوطٍ، لأن الحسن بن عبيدالله ليس بالقوي ولا يقاس بالأعمش وروى هذا الحديث أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود عن أبي بكر وعمر" (3).
_________
(1) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس، (ج5/ص 494)، رقم (3433)، ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني عنعنة ابن جريج وهو مدلس.
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج8 / ص 204).
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج2 / ص 204).
(1/59)
قلتُ: وهذا الحديث بعينه في كتاب العلل الكبير للترمذي فقد قال: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَاهُ مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)) (1)، سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث عبدالواحد، عن الحسن بن عبيدالله، قال محمد - يعني البخاري -: والأعمش يروي هذا عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر، ولا يذكر فيه قرثعا، وعبد الواحد بن زياد يذكر عن الحسن بن عبيد الله هذا الحديث ويزيد فيه: عن قرثع. قال محمد -يعني البخاري-:وحديث عبدالواحد عندي محفوظ " (2).
والقرينة الثالثة: قال الإمام البرقاني: "وسئل عن حديث محارب بن دثار عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلى اللهِ الطَّلاَقُ)) (3).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبيد بن الوليد الوصَّافي، عن محارب كذلك، ورواه مُعَرَّف ابن واصل، واختلف عنه: فرواه محمد بن خالد الوهبيّ، عن مُعَرَّف، عن محارب، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو نعيم، عن معرف عن محارب مرسلاً، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " (4).
قلتُ: الحديث ضعيف مُعلٌّ بالإرسال، لكون المرسل أصح، وهو بعينه في علل الإمام ابن أبي حاتم قال: " وسألت أبي عن حديث رواه محمد بن خالد الوهبيّ، عن الوصافي عن محارب بن دثار، عن عبدالله بن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَبْغَضُ الْحَلاَلِ عِندَ اللهِ الطَّلاَقُ))، ورواه أيضاً محمد بن خالد الوهبيّ عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مثله، قال أبي إنَّما هو محارب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً (5).
_________
(1) أخرجه أحمد بن حنبل: المسند، طبعة دار البشير، عمان، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط، مسند العشرة المبشرين بالجنة، (ج1/ ص7)، حديث رقم (35)، وهو حديث عبدالواحد المحفوظ.
(2) الترمذي: محمد بن عيسى الترمذي، أبو عيسى، كتاب العلل الكبير (حديث رقم 427).
(3) أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت: 275هـ)، السنن، طبعة دار الفكر، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، كتاب الطلاق، باب كراهية الطلاق، (ج1/ ص661) (برقم 2178).
(4) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل، (التكملة) (ج13 / ص225) سؤال رقم (3123).
(5) ابن أبي حاتم: عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن ادريس الحنظلي الرازي (ت: 327 هـ)، كتاب العلل الطبعة الأولى، مطابع الجريسي الرياض سنة 1426 هـ (رقم المسألة 1297).
(1/60)
والقرينة الرابعة: قال الإمام البرقاني في العلل: " سئل عن حديث يروى عن مكحول عن أبي أيوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوضَأ)) (1)، فقال - الدارقطني -: يُروى عن ابن لهيعة، عن إسحاق بن أبي فروة، عن مكحول هكذا، ورواه سعيد بن عبد العزيز والنعمان، عن مكحول، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة وهو المحفوظ " (2).
قلتُ: والحديث بعينه عند الترمذي في العلل الكبير قال: " حدثنا محمد بن سهل بن عسكر البغدادي، حدثنا أبو مسهر، حدثني الهيثم بن حميد، حدثنا العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوضَأ)). وسألتُ محمداً عن هذا الحديث فقال: مكحول لم يسمع من عنبسة، روى عن رجل، عن عنبسة، عن أم حبيبة: ((مَنْ صَلى فِي يَوْمٍ وَلَيلةَ ثِنْتي عَشَرةَ رَكْعَةَ)). وسألت أبا زُرعة عن حديث أم حبيبة فاستحسنه، ورأيته كأنه يعده محفوظا " (3).
مما سبق يتضح لنا عدة نتائج هامة:
1 - أنَّ الدارقطني كان واسع الاطلاع والمعرفة، اعتمد على كثير من مصنفات الأولين.
2 - أنَّهُ كان يضم إلى حفظه من مشايخه الخلاف والمتون، حفظ مصنفات أهل الحديث.
3 - أنَّهُ كان دقيق العبارة، مُلمًّا بطرق الحديث، متوسّعاً في التخريج ومعرفة العلل.
_________
(1) أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، كتاب الطهارة، باب باب الوضوء من مس الذكر (ج1/ص95)، برقم (181)، والحديث فيه خلاف مشهور، والراجح فيه ثبوته.
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج6 / ص 124)، سؤال رقم (1023).
(3) الترمذي: محمد بن عيسى الترمذي، أبو عيسى، كتاب العلل الكبير، حديث رقم (37).
(1/61)
المبحث الخامس: الطريقة التي كان يسلكها الدارقطني في بيان العلل:
لم يكن للدارقطني طريقة واحدة يسير عليها في بيان العلل، بل كان ذلك بحسب ما اتفق له في المجلس، فكان يسلك الطريقة التي يراها مناسبة لبيان علة الحديث الذي يُسأل عنه، ولذا اختلفت الطرق التي كان يسلكها على ثلاث طرق، وسوف أجمل هذه الطرق (2): (1)
أولاً: الطريقة التي كان يسلكها الدارقطني غالباً في بيان العلة:
1 - كان الدارقطني يذكر العلل الموجودة في إسناد الحديث من، الوقف والرفع، أو الاتصال والإرسال، أو الانقطاع والاضطراب أو إبدال راوٍ براوٍ وغيرها من العلل، فمثال علة الموقوف والمرفوع، ما قاله لما سئل عن حديث: " الأغَّر بن سليك عن علي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((وَثَلاَثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ ولا يُحِبُّهُمْ الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ)) (2).
فقال: يرويه سماك بن حرب واختلف عنه فرواه شعبة عن سماك بن حرب، واختلف عن شعبة فرواه روح بن عبادة، عن شعبة عن سماك وعلي ابن الأقمر عن الأغرَّ بن سليك عن علي ورفعه إلى النَّيي صلى الله عليه وسلم، وخالفه غندر ومسلم بن إبراهيم وغيرهما، فرووه عن شعبة عن سماك عن الأغرَّ
_________
(1) سبق وأن أفرد الدكتور محفوظ الرحمن زين الله مبحثاَ عن منهج الدارقطني في أصل كتابه في مقدمة تحقيقه لعلل الدارقطني، وكذا استدراك الدكتور عبد الله بن محمد دمفو في كتابه مرويات الزهري المعلة عليه، وقد أفدت منهما وأوجزت، وزدت عليهما أشياء توصلت إليها بالدراسة والتحليل والسبر، وأيدتُ ذلك بأمثلة.
(2) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة الجنة، باب ما في كلام الحور العين (ج4/ص698)، برقم (2568)، أخرجه بتمامه. والنَّسائي: أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303هـ) في السنن (بشرح السيوطي وحاشية السندي) طبعة دار المعرفة، بيروت، الطبعة الخامسة سنة 1420 هـ كتاب الزكاة، باب ثواب من يعطي (ج5 /ص88)، برقم (2569)، والحديث بهذا الإسناد مُعَلٌّ بالوقف؛ لأن غُنْدَر وهو محمد بن جعفر أثبت من روح بن عباد في شعبة، قال ابن إبي حاتم: "إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُنْدَر حكم فيما بينهم"- شرح العلل لإبن رجب (ص368).
(1/62)
عن علي موقوفاً، وكذلك رواه أبو الأحوص، عن سماك، عن الأغرَّ، عن علي موقوفاً وهو أصح، حدثناه الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا روح ثنا شعبة، ثنا سماك بن حرب، وعلي بن الأقمر أنهما سمعا الأغرَّ بن سليك يقول: سمعت علياً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال أحدهما: ثلاثة لا يحبهم الله، وقال الآخر: ثلاثة يبغضهم الله ولا يحبهم، الشيخ الزاني، والغني الظلوم، والفقير المختال " (1).
ومثال علة الموصول والمرسل، قوله لما سئل عن حديث: " أسماء بنت عميس عن أبي بكر حين نفست بمحمد بن أبي بكر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثَّمَ لِتُهِلْ)) (2). فقال: حديث يرويه القاسم بن محمد بن أبي بكر واختلف عليه فيه فرواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن أبيه عن أبي بكر قال ذلك سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، وخالفه ابن عيينة ويحيى القطان وغيرهما فقالوا عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب مرسلا " (3).
ومثال ما وصف بعلةِ الانقطاع، قوله لما سئل عن حديث: " عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه - رضي الله عنهم - أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَقْرَأَهُ {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذَّبُ ...})) (4) فقال - الدارقطني -: حدث ابن محمد بن سنان القزاز، عن عثمان بن عمر، عن شعبة عن خالد، عن ابن أبي بكرة، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووهم فيه، وإنما رواه أصحاب شعبة، عن شعبة، عن خالد أنه سمع عبد الرحمن بن أبي بكرة فقط لم يتجاوز به ولم يرفعه والمنقطع أصح " (5).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج3 / ص 132)، سؤال رقم (319).
(2) أخرجه النَّسائي: أحمد بن شعيب النسائي في السنن، كتاب مناسك الحج، باب باب الغُسل للإهلال (ج5/ص136)، برقم (2662)، والحديث ضعيف مُعَلٌّ بالإرسال، لكون المرسل أصح.
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج1 / ص 270)، سؤال رقم (62).
(4) أبو داود، السنن كتاب الحروف والقراءات، (ج2/ص432)، برقم (3997)، والحديث ضعيف مُعَلٌّ بالوقف لكون المنقطع أصح من المرفوع، وتمام الآية {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} سورة الفجر آية 25، وضبطها بفتح الذال مع الشدة، وهي في قراءة الكسائي الكوفي ويعقوب.
(5) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج7 / ص 159)، سؤال رقم (1271).
(1/63)
ومثال علة الاضطراب، قوله لما سئل عن حديث: " سعيد بن المسيب، عن عمر - رضي الله عنهم - عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، مَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَا)). فقال - يعني الدارقطني -: هو حديث يرويه أبي حمزة ميمون، عن سعيد بن المسيب، رواه عنه منصور بن المعتمر والثوري، وعمرو بن أبي قيس، وخلاد الصفار وغيرهم، فقال سيف بن محمد: عن منصور والثوري، عن أبي حمزة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر. وقال جرير: عن منصور، عن أبي حمزة، عن سعيد بن المسيب، عن بلال. وقيل عن أبي حمزة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، عن بلال. وقال عمرو بن أبي قيس وخلاد: عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب، عن عمر الحديث ... والاضطراب في الإسناد من قِبَلهِ " (1).
قلتُ: الحديث لم أجده في الكتب الستة من طريق أبي حمزة ميمون، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، عن بلال بهذا اللفظ لكن أخرجه الطبراني في الكبير بلفظٍ آخر فقال: " حَدَّثَنَا عُمَرُ بن حَفْصٍ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بِلالٍ الأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بن الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ بِلالٍ، قَالَ: ((كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي تَمْرٌ، فَتَغَيَّرَ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى السُّوقِ، فَبِعْتُهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ فَلَمَّا قَرَّبْتُ إِلَيْهِ مِنْهُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا بِلالُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: مَهْلا، ارْدُدِ الْبَيْعَ، ثُمَّ بِعْ تَمْرًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حِنْطَةٍ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ تَمْرًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلا بَاسَ وَاحِدٌ بِعَشَرَةٍ)) " (2).
ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني الاضطراب في رواية الإسناد: عن عمر، عن بلال مرة، ومرة عن عمر وحده، ومرة عن بلال وحده، وقد حكم الدارقطني أنَّ الاضطراب
_________
(1) المصدر السابق (ج2 / ص 158)، سؤال رقم (185).
(2) أخرجه الطبراني: سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (ت: 260هـ)، المعجم الكبير طبعة مكتبة العلوم والحكم، الموصل سنة 1404هـ، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي (ج1/ص339) برقم (1017)، والحديث ضعيف بهذا اللفظ لاضطرابه كما ذكرنا سالفاً.
(1/64)
من أبي حمزة ميمون (1).
ومثال علة إبدال راوٍ براوٍ، قوله لما سئل عن حديث: " الحسن عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) (2). الحديث، فقال: حدث به أحمد بن عبدالصمد النَّهرواني وهو مشهور لا بأس به عن ابن عيينة، عن أيوب عن الحسن، ووهم فيه وإنَّما رواه ابن عيينة، عن أبي موسى إسرائيل، عن الحسن عن أبي بكرة " (3).
ومثال آخر كذلك لما سئل عن حديث: " ابن جُوشَن عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قال رَسُولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَقْضِيَنَّ أَحَدٌ فِي قَضَاءٍ بِقَضَاءَيْنِ وَلاَ يَقْضِي أَحَدٌ بَيْنَ خَصْمَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ)) (4). فقال - الدارقطني -: يرويه سفيان بن حسين، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن ابن جُوشَن، وهو عبدالرحمن بن جُوشَن الغطفاني من أصحاب أبي بكرة قاله عيينة بن عبدالرحمن، رواه إبراهيم بن صدقة البصري صاحب سفيان بن حسين عن سفيان بن حسين قيل للشيخ - يعني الدارقطني - فقد قال بعض الناس سفيان بن عيينة بدلاً من سفيان بن حسين، فقال: هذا غلط قبيح " (5).
_________
(1) وهو حمزة بن أبي حمزة ميمون، الجعفي الجزري من السابعة، كبار أتباع التابعين، متروك، كما في تهذيب التهذيب، طبعة دار الفكر ببيروت، الطبعة الأولى سنة 1404هـ (ج3 / ص25).
(2) أخرجه البخاري بالإسناد الثاني الصحيح في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الصلح، باب قول النَّبي للحسن ... ، (ج 5/ ص346)، برقم (2704). وأما الإسناد المعلول الذي من طريق أحمد بن عبدالصمد النَّهرواني عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن. فلم أجده بعد طول تفتيش.
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج7 / ص 161)، سؤال رقم (1275).
(4) أخرجه النَّسائي في السنن كتاب آداب القضاء، باب النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين (ج8/ص 638)، برقم (5436)، والحديث صحيح بهذا الإسناد، وأما الإسناد المبدل فيه ابن عيينة بدلاً من سفيان بن حسين فخطأ، لأن من ذكر ابن عيينة لم يسلك الجادة في هذا الإسناد.
(5) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج7 / ص 167)، سؤال رقم (1281).
(1/65)
2 - كان لا يذكر الأحاديث بالسند، بل يكتفي بذكر ما فيها من علة، ثم يبين الخلاف أو سبب العلة الموجودة في السند أو المتن، ومثال ذلك: قوله في حديث " عبدالله بن سلمة، عن معاذ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ أَخْوفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم ثَلاثٌ: جِدَالُ مُنَافِقٌ بالقُرْآنِ، وَزَلَّةُ عَالمٍ، وَدُنيا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ)) (1)، فقال- الدارقطني -: يرويه عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن معاذ. ورواه الأعمش: عن عمرو بن مرة مرفوعاً، تفرد به عنه معمر بن زائدة وكان قائد الأعمش عنه، ووقفه شعبة وغيره، عن عمرو بن مرة، عن ابن سلمة عن معاذ والموقوف هو الصحيح " (2).
3 - كان إذا انتهى من ذكر الطرق والاختلاف في الإسناد يحكم على الحديث، ويبيّن العلة فيه، ومثال ذلك: قوله: " حديث معاذ حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: ((كَيْفَ تَقْضِي؟ فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)). الحديث ... (3)،
فقال - الدارقطني -: يرويه شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ عن معاذ حدث به، كذلك عن شعبة ويزيد بن هارون ويحيى القطان ووكيع وعفان وعاصم بن علي وغندر، وأرسله عبدالرحمن بن مهدي وأبو الوليد والرصاصي، وعلي بن الجعد، وعمرو بن مرزوق، وقال أبو داود عن شعبة قال مرة عن معاذ وأكثر ما كان يحدثنا عن أصحابنا معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، وروى عن مسعر عن أبي عون مرسلا والمرسل أصح " (4).
_________
(1) أخرجه الطبراني: سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الأوسط (ج8/ص307)،برقم (8715).
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج6 / ص 81)، سؤال رقم (992).
(3) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الأحكام، باب ماجاء في القاضي كيف يقضي (ج3 / ص616)، برقم (1327)، والحديث بهذا الإسناد ضعيف مُعَلٌّ بالإرسال.
(4) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج6 / ص 88 - 89)، سؤال رقم (1001).
(1/66)
4 - كان يذكر الراوي الذي يقع اختلاف الإسناد عنه، ثم يذكر أوجه الخلاف فيه، كما في الأحاديث المذكورة سابقاً.
5 - إذا كان الحديث مداره على بعض المكثرين ذكرهم وذكر الاختلاف في أوجه الرواية عنهم، ومثال ذلك حديث: " شريح بن هانئ، عن علي بن أبي طالب عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فِي المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ)) (1)، والحديث مداره على الأعمش وأبي إسحاق السبيعي، فذكر الخلاف، ثم ذكر أوجه الخلاف عن كلٍ منهما.
6 - كان يقتصر في ذكر طبقة رواة الأوجه للرواة المكثرين، أو الطبقة التي دونها إذ العلة لا تخرج عنهما، ومثال ذلك قوله في حديث: " أبى سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((في رَجُلٍ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ)) (2)، فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه، فرواه سلمة بن كلثوم وهو شامي يهم كثيراً عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ووهم فيه والصحيح عن الزهري عن سالم عن أبيه " (3).
7 - غالباً لا يذكر من أخرج الحديث من أصحاب السنن أو المسانيد أو الأجزاء، وهو معلوم بالاستقراء، إذ كان يُشير إلى الخلاف في الحديث المعلول، ثم أوجه الاختلاف عن الرواة ولا يذكر المرجع أو المصدر، بل يكتفي بذكر الطرق والخلاف في الحديث، وقد سبق بيان ذلك في الأمثلة السابقة.
_________
(1) المصدر السابق (ج3 / ص 230 - 237)، سؤال رقم (379).
(2) أخرجه على الوجه الصحيح البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الإيمان (ج1/ ص93)، برقم (24)، وأما الإسناد المعلول فقد أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، طبعة دار الحرمين سنة 1415هـ، تحقيق طارق بن عوض، (ج5/ ص156)، برقم (4932).
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج8 / ص 23 - 24)، سؤال رقم (1387).
(1/67)
ثانياً: الطريقة التي كان الدارقطني أحياناً ما يسلكها في بيان العلة:
لم يسلك الدارقطني في الإجابة على المسائل طريقة واحدة بل سلك طُرقاً عدة كثيرة التنوع، وسوف أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - أحياناً إذا كان الحديث عن أكثر من راوٍ يذكرهم، ثم يذكر الاختلاف عنهم، ومثال ذلك قوله لما سئل عن حديث: " عبدالله بن زرير الغافقي، عن علي قال: ((أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَباً بِيَمِينِهِ وَحَرِيرًا بِشِمَالِهِ فَقَالَ هَذَا حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي)) (1)، فقال - الدارقطني -: يرويه يزيد بن أبي حبيب واختلف عنه رواه الليث ابن سعد، وعبد الحميد بن جعفر، ومحمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبدالعزيز بن أبي الصعبة، عن أبي أفلح الهمداني عن ابن زرير عن علي، واختلف عن ابن إسحاق فقال: ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي أفلح ولم يذكر بينهما عبدالعزيز ابن أبي الصعبة، ورواه زيد بن أبي أنيسة عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن زرير أسقط من الإسناد رجلين بين ابن أبي الصعبة وأبا أفلح، وقال ابن عيينة عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن رجل عن آخر لم يسمهما عن علي، ورواه عمر بن حبيب عن ابن إسحاق بإسناد آخر عن سعيد بن أبي هند، عن عبدالله بن شداد عن عبد الله بن مرة عن علي، ووهم في هذا الإسناد عمر بن حبيب وكان سيء الحفظ والصحيح عن ابن إسحاق قول يزيد بن هارون وجرير عنه لمتابعة عبدالحميد بن جعفر والليث إياهما " (2)
2 - وأحياناً يقول: حدث به فلان عن فلان ووهم والصواب كذا وكذا، ومثال ذلك ما قاله لما سئل عن حديث: " عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ
_________
(1) أخرجه النَّسائي في السنن، كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال (ج8/ ص539)، برقم (5159)، والحديث صحيح من الوجه الذي أخرجه النَّسائي، فإنه من طريق يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق، وهو ترجيح الدارقطني كما في إجابة السؤال رقم (394) التالي.
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج3 /ص260 - 262)، سؤال رقم (394).
(1/68)
فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ)) (1).
فقال - الدارقطني -: حدث به إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، ووهم فيه على مالك، والصحيح عن مالك عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد، وكذلك رواه أصحاب الموطأ والحفاظ عن مالك، عن الزهري، وكذلك رواه يونس ومعمر، عن الزهري، عن عطاء ابن يزيد عن أبي سعيد، وخالفهم عبد الرحمن بن إسحاق وهو عبَّاد، فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولا يصح فيه سعيد، والصحيح ما ذكرنا " (2).
3 - وأحياناً يتكلم في الراوي جرحاً وتعديلاً، ومثال ذلك: " حديث عطاء بن يزيد عن أبي أيوب رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ وَجَدَ طِيبًا فَلا عَلَيْهِ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِهَذَا السِّوَاكِ)) (3).
فقال - الدارقطني -: يرويه معاوية بن يحيى الصدفي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب قاله إسحاق بن سليمان الرازي عنه، وهو وهم وإنما رواه الزهري عن عبيد ابن السباق مرسلاً عن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ذلك مالك بن أنس وغيره، ومعاوية الصدفي ضعيف
_________
(1) أخرجه على الوجه الصحيح من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدرى: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي (ج2/ ص107)، برقم (611)، وكذلك أخرجه مسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الصلاة، باب استحاب القول مثل قول المؤذن (ج2/ ص320)، برقم (383)، وأما الوجه الخطأ فأخرجه ابن ماجة في السنن، كتاب الأذان، باب ما يقال إذا أذن المؤذن (ج1/ ص238)، برقم (718)، وأشار الترمذي إليه وقال:"ورواية مالك أصح" - السنن (ج1/ ص407)،برقم (208).
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج11/ 263 - 265)، سؤال رقم (2275).
(3) أخرجه الطبراني: المعجم الكبير (ج4/ص149)، برقم (3971)، والحديث ضعيف من هذا الوجه لضعف معاوية بن يحيى الصدفي، ذكره الحافظ في التهذيب (ج10 / ص189)، وخلاصة ذلك: أنَّه ضعيف وما حدث بالشام أحسن مما حدث بالرى، والحديث مُعَلٌّ بالإرسال كذلك.
(1/69)
حدثهم بالرَّي بأحاديث من حفظه وهم فيها على الزهري وأما روايته عن الزُّهري فهي من غير طريق إسحاق مستقيمة يشبه أن يكون من كتابه " (1).
قلتُ: والحديث فيه إعلالٌ بعلةٍ ظاهرة وهي ضعف معاوية الصدفي، وفيه علة خفية كذلك وهي علة الإرسال، وهذا دليل على أنَّ الدارقطني كان يُعِلُّ الحديث ببعض العلل الظاهرة ليشير إلى علة خفية كما كان يفعل المتقدمين من أهل الحديث، وسوف نبين ذلك بالتفصيل.
4 - وأحيانا يذكر أن فلاناً لقى فلاناً، ولم يسمع منه شيئاً ومثال ذلك ما قاله لما سئل عن حديث: " الحسن عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الله تعالى يقول انظروا إلى عبدي نام ساجدا وروحه عندي)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه عباد بن راشد، عن الحسن عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج6 /ص95)، سؤال رقم (1003).
(2) أخرجه ابن شاهين: عمر بن أحمد بن عثمان، أبو حفص (ت: 297هـ)، في ناسخ الحديث ومنسوخه، طبع مكتبة المنار الزرقاء، 1408هـ، فقال: "حدثنا محمد بن جعفر بن يزيد المطيري قال: حدثنا حماد بن الحسن، قال: حدثنا حجاج بن نصير، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نام العبد وهو ساجد يقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي روحه عندي وبدنه ساجداً لي"، (ج1/ص265) برقم (201)، كما ذكره الدارقطني هنا، والحديث رُوي عن أنس كذلك وهو ضعيف، أما قوله: " الحسن لم يسمع من أبي هريرة "، قلتُ: فليس هذا على الإطلاق، والخلاف مشهور بين أهل الحديث، والراجح أنه سمع منه قليل، فإن البخاري قد أخرج في صحيحه من حديث الحسن عن أبي هريرة، ومعلوم شرط البخاري في إثبات السماع، وقد أخرج النَّسائي في السنن، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع (ج6/ 480)، برقم (3461)، وفيه تصريح أن الحسن سمع من أبي هريرة، فقال النَّسائي: " أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا المخزومي وهو المغيرة بن سلمة قال حدثنا وهيب عن أيوب عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى اللهم عليه وسلم أنه قال: المنتزعات والمختلعات هُنَّ المنافقات قال الحسن: لم أسمعه من غير أبي هريرة ". والحديث ضعيف.
(1/70)
وقال: حزم بن أبي حزم عن الحسن بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت سماع الحسن من أبي هريرة، وقيل للشيخ أبي الحسن - الدارقطني - فقد قال موسى بن هارون إنَّه سمع منه، فقال: شعبة أعلم قال ولم يسمع الحسن من أبي هريرة، وحكي لنا عن محمد بن يحيى الذهلي أنه قال: لم يسمع منه " (1).
5 - وأحياناً يذكر اسم الراوي أو كنيته وإذا كان فيه خلاف فيبين وجه الصواب، ومثال ذلك ما قاله لما سئل عن حديث: " عبدالرحمن عن أبي هريرة: ((سَجَدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري وصفوان بن سليم، فرواه يزيد بن أبي حبيب وعمر بن صبح، عن صفوان بن سليم، عن عبدالرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، وبيَّن نسبه قرة بن عبدالرحمن رواه عن الزهري وصفوان بن سليم، عن عبدالرحمن بن سعد، عن أبي هريرة، ويكنى أبا حميد وليس بعبدالرحمن الأعرج صاحب أبي الزناد؛ لأن ذلك هو عبدالرحمن بن هرمز يكنى أبا داود وهما أعرجان وجميعاً يرويان عن أبي هريرة، وأما عبدالرحمن بن هرمز فإنما يروي هذا الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ عُمَرَ سَجَدَ فِي إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ))، روى ذلك عنه مالك ومعمر ويونس وغيرهم، عن الزهري حدث به عمر بن شبة، عن أبي عاصم، عن مالك عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة: ((أنَّ النَّبي اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ))، ووهم فيه عمر بن شبة وهماً قبيحاً، والصواب عن مالك ما رواه الثقات عنه عن الزهري، عن الأعرج عن أبي هريرة أن عمر سجد ... " (3).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج8/ ص 248 - 249)، سؤال رقم (1552).
(2) أخرجه على الوجه الصحيح مسلم، الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة (ج3/ص81)، برقم (109).
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج8/ ص 224 - 226)، سؤال رقم (1534).
(1/71)
ثالثاً: الطريقة التي كان الدارقطني نادراً ما يسلكها في بيان العلة:
1 - لا يذكر أسماء الرواة الذين اختلفوا في الحديث، أو سنده بل يقول: من روى هذا الحديث فقد وهم وقال ما لم يَقُلهُ أحد من أهل العلم، ومثال ذلك ما قاله في حديث:
" أنس عن عمر أنَّه سأل عن قوله تعالى: {وفاكهة وأبَّا} فما الأبّ؟ ثم قال هذا لعَمْرُ الله التكلف فخذوا أيها النَّاس بما تبين لكم فيه فما عرفتم فخذوا به وما لم تعرفوا فكِلُوا علمه إلى الله تعالى (1).
قال - الدارقطني -: من روى هذا الحديث فكِلُوه إلى خالقه فقد وهم، وقال ما لم يقله أحد من أهل العلم بالحديث، فإنه لا يعرف فيه إلا قوله فكِلُوه إلى عالمه، أوكِلوا علمه إلى الله عز وجل أو فدعوه " (2).
2 - قد يجمل ذكر بعض الرواة بعبارة من العبارات التي تدل على الإجمال كأن يذكر بعض رواة أحد الأوجه ثم يعقب بقوله: " وغيرهم " أو " آخرين "، ومثال ذلك ما قاله في حديث: " عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن عثمان أن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((اجْتَنِبُوا أُمَّ الْخَبَائِثَ فِإنَّهُ كَانَ رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ...)) الحديث (3).
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ
تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، (ج2/ص242)، برقم (2281)، بلفظ: " أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (سورة عبس آيةرقم 31)، فكل هذا قد عرفنا فما الأبّ؟ ثم نفض ما كان في يده فقال: هذا لعمر الله التكلف اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ".
(2) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج2/ص120)، سؤال رقم (153).
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، (ج5/ص10)، برقم (5586)، من طريق: عمر بن سعيد ابن سريح عن الزهري مرفوعاً، والموقوف أصح لأنَّ كبار الحفاظ عن الزهري قد أوقفه، أمثال: معمر بن راشد، ويونس الأيلي وهما أثبت الناس في الزُّهري، فالحديث بهذا الإسناد مُعَلٌّ بالوقف.
(1/72)
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث، عن أبيه واختلف عنه فأسنده عمر بن سعيد بن سريح عن الزهري، ووقفه يونس ومعمر وشعيب ابن أبي حمزة وغيرهم، عن الزهري والموقوف هو الصواب، وروى هذا الحديث عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحسن بن عمارة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " (1).
3 _ قد يذكر حديثاً ويسوق الاختلاف الذي حصل في إسناده، والحديث في أساسه لا يعتد به لأن متنه منكر فلا فائدة من معرفة نتيجة الاختلاف الذي حصل في الإسناد، ومثال ذلك: " حديث ابن المسيب عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الرِّجْلُ جُبَارٌ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه من رواية سفيان بن حسين عن الزُّهري عنه، فرواه محمد بن يزيد الواسطي وعباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، ورواه أبو أمية الطرسوسي، عن بشر بن آدم عن عبَّاد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة جمع بينهما وليس أبو سلمة بمحفوظ في هذا الحديث، حدثنا عبدالله بن محمد البغوي، قال: ثنا داود بن رشيد ثنا عبَّاد بن العوام، ثنا سفيان بن حسين، عن الزُّهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الرِّجْلُ جُبَارٌ)) " (3).
قلتُ: وأصل العلة في هذا الحديث هي أن سفيان بن حسين (4) روى هذا الحديث من طريق الزهري وهو ضعيف فيه، ثقة فيما عداه، قال الحافظ ابن حجر في التهذيب (ج4/ص96): " قال ابن أبي خيثمة، عن يحيى: ثقة في غير الزُّهري ".
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج3 / ص 41)، سؤال رقم (274).
(2) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الديات، باب في الدابة تَنْفَحُ بِرِجْلِهَا (ج2/ ص606)، برقم (4592)، والحديث ضعيف للعلة التي أشرنا إليها، والرَّجْلُ: الدابة تَنْفَحُ بِرِجْلِهَا.
(3) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج9 / ص 120 - 121)، سؤال رقم (1670).
(4) هو سفيان بن حسين بن الحسن، أبو محمد، ويقال: أبو الحسن، الواسطي (ت:153هـ).
(1/73)
المبحث السادس: الأحاديث التي انتقدها الدارقطني في العلل على أحد الصحيحين:
سنتعرض في هذا المبحث لبعض نماذج الأحاديث التي انتقدها الإمام الدارقطني في كتابه العلل على صحيح البخاري أو مسلم، ودراسة وتحليل ذلك، ثم نسوق رد الحفاظ والأئمة عليها والراجح فيها، وقد انتقد الدارقطني على البخاري إحدى وتسعين حديثاً على التحقيق فيما استوعبه الحافظ ابن حجر في هدي الساري، منها ما وافقه مسلم على تخريجه (1)، وعدة ما اجتمع لنا فيما انتقده الدارقطني على البخاري في كتابه العلل ستةً وثلاثين حديثاً (2)، رد غالبها الحافظ ابن حجر العسقلاني، وانتقد على مسلم فيما يربو عن مائتي حديث (3)، رد غالبها الإمام محيي الدين يحيي بن زكريا النووي في شرحه لصحيح مسلم، والإمام أبو مسعود الدمشقي في كتابهِ المفيد " الأجوبة عما أشكل الشيخ الدارقطني على صحيح مسلم بن الحجاج ".
أولا: الأحاديث التي انتقدها في كتاب العلل وقد أخرجها البخاري في أصل صحيحه:
الحديث الأول: قال البخاري في كتاب الطهارة: " حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَاللَّهِ يَقُولُ: ((أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ
_________
(1) الحافظ ابن حجر العسقلاني، هدي الساري، طبعة دار الحديث 1998م، القاهرة (ص347).
(2) انظر المسائل في كتاب العلل مع التكملة أرقام:} (686)، (2050)، (2045)، (2042) (3259)، (719)، (33)، (3825)، (3992)، (1844)، (2063)، (1176)، (526) (2996)، (2031)، (3652)، (2831)، (227)، (538)، (1275)، (2599)، (1118)، (925)، (4128)، (2975)، (3071)، (286)، (145)، (1193)، (1394)، (727)، (2044)، (952)، (2164)، (1703)، (2322) {.
(3) النووي: شرح صحيح مسلم، طبعة دار الحديث سنة 2001 م، القاهرة (ج1/ص49).
(1/74)
فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ هَذَا رِكْسٌ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ)) " (1).
قال الإمام البرقاني في العلل: " سئل عن حديث الأسود وعلقمة عن عبدالله في النهي عن الحجر والروثة في الاستنجاء، فقال - الدارقطني -: يرويه علقمة وغيره عن عبدالله فرواه عن علقمة عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبدالله، ورواه ليث بن أبي سليم عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود، عن عبدالله حدَّث به عنه كذلك زائدة وعبدالرحيم بن سليمان، وابن فضيل، وعبدالوارث، وأبو الأشهب جعفر بن الحارث وجرير بن عبدالحميد، ورواه زهير عن ليث، فقال: عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه وعبدالرحمن بن يزيد، ورواه جابر الجعفي، ومحمد بن خالد الضبي، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن عبدالرحمن بن الأسود، واختلف على أبي إسحاق، والاختلافُ عنه مذكور فيما بعد ...
ذكر الخلاف على أبي إسحاق في ذلك: روى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي واختلف عنه فيه اختلافا شديداً، فرواه زهير بن معاوية وأبو حماد الحنفي وأبو مريم، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله، وتابعهما شريك من رواية الحماني عنه وزكريا بن أبي زائدة من رواية ابنه يحيى عنه، واختلف عن يحيى واختلف عن زكريا وشريك، ورواه يزيد بن عطاء، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن ابن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبدالله، ورواه عمار بن رزيق، وورقاء بن عمر ومعمر بن راشد، وسليمان بن قرم، وإبراهيم الصائغ، وعبدالكبير بن دينار الصائغ، وأبو شيبة وإبراهيم بن عثمان، ومحمد بن جابر، وصباح بن يحيى المزني، وروح بن مسافر عن أبي إسحاق، عن علقمة عن عبد الله. وكذلك رُوي عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن علقمة عن عبدالله، وكذلك قال عباد بن ثابت
_________
(1) البخاري: الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الوضوء، باب لا يُستنجى بروث، (ج1/ص309)، برقم 156.
(1/75)
القطواني، وخالد العبد عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن علقمة عن عبدالله. وكذلك قال إسحاق الأزرق عن شريك، ورواه أبو أحمد الزُّبيري، وعبيد الله بن موسى، وعيسى بن جعفر القاضي الرَّازي، ووكيع بن الجراح، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة عن عبدالله.
ورواه الحميدي عن ابن عيينة، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، وخالفه زيد بن المبارك الصنعاني، ومحمد بن الصباح الجرجرائي وغيرهما، فرووه عن ابن عيينة عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله لم يذكر فيه إسرائيل.
وكذلك رواه الفضل بن موسى السناني، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن ابن يزيد عن عبدالله، وخالفه عبدالرحيم بن سليمان، وإسحاق الأزرق، وإسماعيل بن أبان فرووه عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن الأسود عن عبدالله. واختلف عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة في روايته لهذا الحديث عن أبيه، فقال: سهل بن عثمان عن يحيى بن زكريا عن أبيه عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن ولم ينسبه، عن الأسود، عن عبدالله. وقال منجاب: عن يحيى بن زكريا، عن أبيه، عن عبدالرحمن ابن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله. وقيل عن منجاب عن يحيى، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبدالله. فلم يذكر بين أبي إسحاق وبين الأسود أحداً، وروي عن ابني صالح بن حيي، ومالك بن مِغْول، ويوسف بن أبي إسحاق، وحديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن الأسود عن عبد الله. وكذلك منجاب عن شريك، عن أبي إسحاق عن الأسود، وكذلك قال: سلمة بن رجاء عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن الأسود، واختلف عن يونس بن أبي إسحاق في روايته لهذا الحديث عن أبيه فقال هارون بن عمران، عن يونس، عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن عبدالله. وقال الحسن ابن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه عن أبي عبيدة وأبي الأحوص عن عبدالله.
(1/76)
فأشبه أن يكون القولان عن يونس بن أبي إسحاق صحيحين، ورواه أبو سنان سعيد ابن سنان، عن أبي إسحاق، عن هبيرة بن يريم، عن عبدالله. فأمَّا حديث زهير بن معاوية ومن تابعه ممن رواه عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله.
فحدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل، ويعقوب بن إبراهيم البزار قالا: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: ((أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغائط وأَمَرَني أَنْ آتيه بثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَوجَدتُ حَجَرين وَلم أَجِدُ الثَالثَ فَأخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيتُ بهنَّ النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأخَذَ الحجَرَين وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذِهِ رِكْسٌ)) (1).
وقال الإمام الدارقطني في الإلزامات والتتبع: " وأخرج البخاري عن أبي نعيم، عن زهير، عن أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله: ((أتيت النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجرين وروثة))،أحسنها إسناداً الأول الذي أخرجه البخاري، وفي النفس منه شيء لكثرة الاختلاف عن أبي إسحاق، والله أعلم " (2).
قلتُ: وخلاصة القول أنَّ وجه انتقاد الإمام الدارقطني لهذا الحديث بسبب الاختلاف الشديد على أبي إسحاق السبيعي كما تقدم، فصار الحديث بهذا الاختلاف مضطرباً عنده، ولم يرجح رواية زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق التي رجحها الإمام البخاري في صحيحه، وقد أعل الحديث غيره بذلك أيضاً، فقال الإمام الترمذي في السنن: " وهذا حديثٌ فيه اضطراب، حدثنا محمد بن بشار العبدي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سألت أبا عبيدة بن عبدالله هل تذكر من عبدالله شيئاً؟ قال: لا سألت عبدالله بن عبدالرحمن
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج5 / ص 18 - 39)، سؤال رقم (686) باختصار شديد، وإلا فإنه ذكر الأوجه والطرق المختلفة في هذا الحديث بما يزيد عن سبعين طريقاً في هذا الحديث، فراجعها إن شئت.
(2) أبو الحسن الدارقطني، الإلزامات والتتبع، طبعة دار الكتب العلمية، تحقيق مقبل بن هادي الوادعي، الطبعة الثانية 1405 هـ (ج1/ ص 229 - 230) باختصار كذلك.
(1/77)
أي الروايات في هذا الحديث عن أبي إسحاق أصح؟ فلم يقض فيه بشيء وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا؟ فلم يقض فيه بشيء وكأنَّه رأى حديث زهير عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله أشبه ووضعه في كتاب الجامع " (1).
ثم قال الإمام الترمذي: "وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس، عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله؛ لأنَّ إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء وتابعه على ذلك قيس بن الربيع وسمعتُ أبا موسى محمد بن المثنى يقول: سمعت عبدالرحمن ابن مهدي يقول: ما فاتني الذي فاتني من حديث سفيان الثوري، عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل؛ لأنَّه كان يأتي به أتم، قال أبو عيسى: وزهير في أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأنَّ سماعه منه بآخِرةٍ قال: وسمعت أحمد بن الحسن الترمذي يقول: سمعت أحمد ابن حنبل يقول إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبالي أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق، وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله السبيعي الهمذاني، وأبو عبيدة ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه ولا يعرف اسمه، قال أبو عيسى: وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة عن عبدالله؛ لأنَّ إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء وتابعه على ذلك قيس بن الربيع" (2)
والجواب: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في هدي الساري: " وحكى ابن أبي حاتم، عن أبيه وأبي زرعة أنهما رجحا رواية إسرائيل، وكأنَّ الترمذي تبعهما في ذلك والذي يظهر أنَّ الذي رجحه البخاري هو الأرجح، وبيان ذلك أن مجموع كلام الأئمة مشعر بأنَّ الراجح على الروايات كلها إما طريق إسرائيل وهي عن أبي عبيدة عن أبيه.
وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه فيكون الإسناد منقطعا، أو رواية زهير وهي عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه عن ابن
_________
(1) الترمذي: محمد بن عيسى أبو عيسى (ت: 279هـ)، سنن الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بحجرين، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، (ج1 / ص 25).
(2) الترمذي: سنن الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بحجرين (ج1/ ص25).
(1/78)
مسعود فيكون متصلا وهو تصرف صحيح؛ لأنَّ الأسانيد فيه إلى زهير وإلى إسرائيل أثبت من بقية الأسانيد، وإذا تقرر ذلك كانت دعوى الاضطراب في هذا الحديث منتفية؛ لأنَّ الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربا إلا بشرطين: أحدهما: استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قدم، ولا يعل الصحيح بالمرجوح، ثانيهما: مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك وهنا يظهر عدم استواء وجوه الاختلاف على أبي إسحاق فيه؛ لأنَّ الروايات المختلفة عنه لا يخلو إسناد منها من مقال غير الطريقين المقدم ذكرهما عن زهير وعن إسرائيل، مع أنَّه يمكن رد أكثر الطرق إلى رواية زهير , والذي يظهر بعد ذلك تقديم رواية زهير؛ لأنَّ يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قد تابع زهيراً، وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية يحيى ابن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق كرواية زهير، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه من طريق ليث بن أبي سليم، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه عن ابن مسعود كرواية زهير عن أبي إسحاق وليث، وإن كان ضعيف الحفظ فإنَّه يعتبر به ويستشهد فيعرف أنَّ له من رواية عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه أصلاً، ثم إن ظاهر سياق زهير يشعر بأنَّ أبا إسحاق كان يرويه أولا عن أبي عبيدة عن أبيه، ثم رجع عن ذلك وصيره عن عبدالرحمن ابن الأسود عن أبيه، فهذا صريح في أن أبا إسحاق كان مستحضرا للسندين جميعا عند إرادة التحديث، ثم اختار طريق عبدالرحمن وأضرب عن طريق أبي عبيدة، فإمَّا أن يكون تذكر أنه لم يسمعه من أبي عبيدة أو كان سمعه منه وحدث به عنه ثم عَرف أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فيكون الإسناد
منقطعا، فأعلمهم أن عنده فيه إسناداً متصلاً، أو كان حدث به عن أبي عبيدة مدلساً له ولم يكن سمعه منه، فإن قيل إذا كان أبو إسحاق مدلسا عندكم فلم تحكمون لطريق عبدالرحمن بن الأسود بالاتصال مع إمكان أن يكون دلسه عنه أيضاً، وقد صرح بذلك أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني فيما حكاه الحاكم في علوم الحديث عنه قال: في قول أبي إسحاق ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبدالرحمن عن أبيه ولم يقل حدثني عبدالرحمن،
(1/79)
وأوهم أنه سمعه منه تدليس، وما سمعت بتدليس أعجب من هذا انتهى كلامه. فالجواب أنَّ هذا هو السبب الحامل لسياق البخاري للطريق الثانية عن إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق التي قال فيها أبو إسحاق: حدثني عبدالرحمن فانتفت ريبة التدليس عن أبي إسحاق في هذا الحديث، وبين حفيده عنه أنَّهُ صرح عن عبدالرحمن بالتحديث، ويتأيد ذلك بأنَّ الإسماعيلي لما أخرج هذا الحديث في مستخرجه على الصحيح من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن زهير استدل بذلك على أنَّ هذا مما لم يدلس فيه أبو إسحاق قال: لأنَّ يحيى بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لشيخه، وكأنَّه عرف هذا بالاستقراء من حال يحيى، والله أعلم.
وإذا تقرر ذلك لم يبق لدعوى التعليل عليه مجال؛ لأن روايتي إسرائيل، وزهير لا تعارض بينهما إلا أن رواية زهير أرجح؛ لأنَّها اقتضت الاضطراب عن رواية إسرائيل، ولم تقتض ذلك رواية إسرائيل فترجحت رواية زهير، وأما متابعة قيس بن الربيع لرواية إسرائيل فإنَّ شريكا القاضي تابع زهيراً، وشريك أوثق من قيس على أنَّ الذي حررناه لا يرد شيئاً من الطريقين إلا أنَّه يوضح قوة طريق زهير واتصالها وتمكنها من الصحة وبعد إعلالها، وبه يظهر نفوذ رأي البخاري وثقوب ذهنه والله أعلم، وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة ما يشهد لصحة حديث ابن مسعود فازداد قوة بذلك، فانظر إلى هذا الحديث كيف حَكم عليه بالمرجوحية مثل: أبي حاتم وأبي زرعة وهما إماما التعليل، وتبعهما الترمذي وتوقف الدارمي وحكم عليه بالتدليس الموجب للانقطاع أبو أيوب الشاذكوني ومع ذلك فتبين بالتنقيب والتتبع التام أنَّ الصواب في الحكم له بالراجحية فما ظنك بما يدعيه من هو دون هؤلاء الحفاظ النُّقاد من العلل، هل يسوغ أن يقبل منهم في حق مثل هذا الإمام مُسلماً؟ كلا والله، والله الموفق " (1).
قلتُ: وكلام الحافظ ابن حجر غايةٌ في بابه، وكأنه ذهب خالص، ولؤلؤ مرصوص ومحض توفيق من الباري عليه، ليضع الأمر في موضعه الصحيح، وينتظم مع ما أقره أهل
_________
(1) ابن حجر العسقلاني، هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص472 - 473).
(1/80)
العلم، مع أنَّ البخاري كان متقدماً على أهل زمانه في معرفة العلل، فإنهم كانوا لا يختلفون أن الإمام علي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذُّهلي كانا من أعلم الناس بعلل الحديث، وقد أخذ البخاري عنهما، إلى حد قول شيخه ابن المديني لما بلغه أن البخاري يقول: " ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني"، قال: " دعوا قوله فإنَّه ما رأى مثل نفسه " (1)، ومعلوم أن مجرد الخلاف لا يعني الاضطراب في الحديث وهذا لا خلاف عليه بين المحدثين، فقد قَالَ الحافظ العراقي: " وإنّما يُسَمَّى مضطرباً إذا تساوتِ الروايتان المختلفتانِ في الصحةِ بحيثُ لم تترجَّحْ إحداهُما على الأخرى، أما إذا ترجحت إحداهما بكون راويها أحفظ، أو أكثر صُحْبَة للمروي عَنْهُ، أو غَيْر ذَلِكَ من وجوه الترجيح؛ فإنَّه لا يطلق عَلَى الوجه الراجح وصف الاضطراب ولا لَهُ حكمه، والحكم حينئذ للوجه الراجح " (2).
الحديث الثاني: قال البخاري في كتاب الجمعة: " حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ حَدَّثَنَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ أَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى)) " (3).
قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل عن حديث المقبرى عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ اغْتَسَلَ الرَّجُلُ، وَغَسَّلَ رَاسَهُ وَتَطَيبَ وَلَبِسَ مِنْ صَالِح ثِيَابَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلِى الصَّلاَةِ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ واسْتَمَعَ مِنَ الإمَامِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَة ثَلاثَة
_________
(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء، (ج23/ 413).
(2) الحافظ العراقي، شرح التبصرة والتذكرة، طبعة دار الكتب العلمية سنة 2002 م، تحقيق د. ماهر ياسين الفحل وغيره، (ج1/ص240).
(3) البخاري: الجامع الصحيح (مع الفتح) كتاب الجمعة، باب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة، حديث رقم 910 (ج2/ص451).
(1/81)
أَيَّامٍ)). فقال - يعني الدارقطني -: اختلف فيه على سعيد المقبري، واختلف عنه، فرواه صالح بن كيسان، عن سعيد المقبرى، عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه عبدالله بن سعيد المقبري، واختلف عنه فرواه معارك بن عباد عن عبدالله بن سعيد المقبري، عن أبيه عن جده، عن أبي هريرة، وخالفه زفر بن الهذيل، فرواه: عن عبدالله بن سعيد عن جده وهو أبو سعيد. ورواه ابن جريج عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة وعن عمارة بن عامر الأنصاري، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه عبيدالله، وعبدالله ابنا عمر، وعمر بن بكر مديني، وأبو أمية بن يعلي الثقفي، كلهم عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وخالفهم محمد بن عجلان، فرواه عن سعيد المقبري عن أبيه، عن عبدالله بن وديعة، عن أبي ذر قاله يحيى القطان وإسماعيل بن عياش عن ابن عجلان، واختلف عن ابن عيينة، فقال الحميدي: عنه عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، أراه عن أبيه، وقال أبو عبيد الله المخزومي، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن ابن وديعة ولم يقل عن أبيه. ورواه ابن أبي ذئب عن المقبري، واختلف عنه، فقال: حماد بن مسعدة، عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن عبد الله ابن وديعة عن سلمان الفارسي، وخالفه عثمان بن عمر، وعبد الله بن نافع وشبابة بن سوار رووه عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبيه عن عبد الله بن وديعة، عن سلمان الفارسي.
وكذلك رواه الضحاك بن عثمان عن سعيد المقبري عن أبيه، وزاد الضحاك في آخر الحديث قال المقبري: فحدث بذلك عمارة بن عمرو بن حزم وأنا معهم. فقال عمارة: أوهم ابن وديعة، سمعته من سلمان يقول: وزيادة ثلاثة أيام. والحديث عندي حديث ابن أبي ذئب، والضحاك بن عثمان لأن للحديث أصلا محفوظا عن سلمان يرويه أهل الكوفة، ووهم ابن جريج في قوله عن المقبري عن أبي هريرة، وعمارة بن عامر، وإنما أراد عمارة بن عمرو بن حزم كما قال الضحاك بن عثمان" (1).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج10 / ص 344 - 350)، سؤال رقم (2045) باختصار.
(1/82)
وقال الإمام الدارقطني في الإلزامات والتتبع: " وأخرج البخاري، عَن آدم، عَن ابن أبي ذئب، عَن المقبري، عَن أبيه، عَن ابن وديعة، عَن سلمان، عَن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم في غسل الجمعة، قال: وقد اختلف، عَن ابن أبي ذئب فيه أيضًا. وقال ابن عجلان، عَن سعيد، عَن أبيه، عَن ابن وديعة، عَن أبي ذر وقيل، عَن عُبيد الله، عَن سعيد، عَن أبي هريرة، قاله، عبد الله بن رجاء، وروى الدراوردي، عَن عُبيد الله، عَن سعيد، عَن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ، وقال الضحاك بن عثمان، عَن المقبري، عَن أبي هريرة وقال أبو معشر، عَن المقبري، عَن أبيه، عَن ابن وديعة، عَن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ " (1).
والجواب: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في هدي الساري: " ورواه البخاري أيضا من حديث ابن المبارك عن ابن أبي ذئب به، وقد اختلف فيه على ابن أبي ذئب أيضا، فقال: أبو علي الحنفي فيما رويناه في مسند الدارمي عنه مثل رواية آدم، وكذا رويناه في صحيح ابن حبان من طريق عثمان بن عمر عن ابن أبي ذئب، ورواه أحمد في مسنده عن أبي النضر وحجاج بن محمد جميعا عن ابن أبي ذئب كذلك وقال: أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عن سعيد عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن سلمان وهذه رواية شاذة، لأن الجماعة خالفوه؛ ولأنَّ الحديث محفوظ لعبدالله بن وديعة لا لعبيدالله بن عدي، وأما ابن عجلان فلا يقارب ابن أبي ذئب في الحفظ، ولا تعلل رواية ابن أبي ذئب مع إتقانه في الحفظ برواية ابن عجلان مع سوء حفظه، ولو كان ابن عجلان حافظاً لأمكن أن يكون ابن وديعة سمعه من سلمان، ومن أبي ذر فحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا.
وقد اختار ابن خزيمة في صحيحه هذا الجمع، وأخرج الطريقين معاً: طريق ابن أبي ذئب من مسند سلمان، وطريق ابن عجلان من مسند أبي ذر رضي الله عنهما، وأما أبو معشر فضعيف لا معنى للتعليل بروايته، وأما رواية عبيدالله بن عمر فهو من الحفاظ إلا أنَّهُ اختلف عليه كما ترى فرواية الدراوردي لا تنافي رواية ابن أبي ذئب؛ لأنَّها قصرت عنها فدل على أنَّه لم يضبط إسناده فأرسله، ورواية عبد الله بن رجاء إن كانت محفوظة، فقد سلك الجادة في أحاديث
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، الإلزامات والتتبع (ج1 / ص 206).
(1/83)
المقبري فقال: عن أبي هريرة فيجوز أن يكون للمقبري فيه إسناد آخر، وقد وجدته في صحيح ابن خزيمة من رواية صالح بن كيسان، عن سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة، وإذا تقرر ذلك عرف أنَّ الرواية التي صححها البخاري أتقن الروايات، والله أعلم" (1).
الحديث الثالث: قال البخاري في كتاب الجمعة: " حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ: ((قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ))، تَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَسُهَيْلٌ، وَمَالِكٌ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهم)) " (2).
قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل عن حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ)).
فقال - يعني الدارقطني -: يرويه ابن عجلان، وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، واختلف عنهم، فرواه: أبو عاصم النبيل، وابن عيينة، ويحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهم خالد بن الحارث، فرواه: عن ابن عجلان موقوفاً، وقال ابن عيينة من بينهم في حديثه: لا تسافر المرأة فوق ثلاث، والباقون لم يقرروا وأطلقوا السفر، وأما ابن أبي ذئب فرواه: عنه يحيى القطان، وموسى بن داود، ووكيع بن الجراح، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وخالفهم ابن أبي إياس، فرواه: عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة وكذلك قال: علي بن حرب، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، أما مالك فرواه أصحاب الموطأ عنه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة منهم: القعنبي، وابن وهب، وأبو مصعب، والشافعي، ومعن، وابن المبارك، وخالفهم عبد الله بن نافع الصائغ، وبشر بن عمر الزهراني،
_________
(1) الحافظ ابن حجر العسقلاني، هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص 476).
(2) البخاري: الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الطهارة، باب في كم يقصر الصلاة (ج2/ص651)، برقم (1088).
(1/84)
وإسحاق الفزاري رووه عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة، وكذلك روي عن أبي جعفر الثقفي، عن مالك إلا أنه قال فيه: أحسب عن أبيه، وقيل عنه: أحسبه عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ولا يصح هذا القول.
ورواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، واختلف عن كثير ابن زيد فرواه أبو علي الحنفي، عن كثير، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، وخالفه أبو أحمد الزبيري فرواه: عن كثير، عن سعيد، عن أبي هريرة، ورواه يونس بن عبيد، واختلف عنه، فرواه ابن علية، وأبو همام محمد بن الزبرقان الأهوازي، عن يونس عن رجل من أهل المدينة لم يسمياه، عن المقبري، عن أبي هريرة.
وسماه عنبسة بن عبدالواحد، عن يونس فقال: عن محمد رجل من أهل المدينة وقيل عنه: محمد بن زياد ولا يصح، ورواه أبو مروان الغساني، عن يونس فقال: عن محمد بن سعيد، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، ووهم في هذا القول، والصحيح قول ابن علية، عن يونس.
ورواه سهيل بن أبي صالح، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال فيه: ((لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ بَرِيداً)).
ورواه سُهيل بإسنادٍ آخر أيضاً عن أبيه عن أبي هريرة: ((لاَ تُسَافِرُ امْرَأَةٌ بَرِيداً))، فقد وهم على سهيل؛ لأنَّ المحفوظ عن أبي صالح عن أبي هريرة: ((لاَ تُسَافِرُ امرأةٌ ثلاثاً)).
كذلك رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أيضاً، واختلف عن الأعمش في الإسناد، فقال: عثام بن علي، ومالك بن سعير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وخالفهما أبو معاوية فقال: عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ... " (1).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج10/ ص333 - 339)، سؤال رقم (2042) باختصار
(1/85)
وقال الإمام الدارقطني في الإلزامات والتتبع: " وأخرجا جميعاً حديث ابن أبي ذئب، عَن سعيد، عَن أبيه، عَن أبي هريرة، عَن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُسَافُرُ وَلَيسَ مَعَهَا مَحْرَمٍ)) الحديث. وزاد مسلم، عَن ليث، عَن سعيد مثله فقال: وقد رواه مالك ويحيى بن أبي كثير وسهيل، عَن سعيد، عَن أبي هريرة " (1).
قلتُ: وخلاصة العلة التي أشار إليها الإمام الدارقطني، أن سعيد المقبري رواه مرة عن أبيه عن أبي هريرة، ومرة عن أبي هريرة ولم يدخل أبيه، فأشكل أن سعيداً لم يحفظ الحديث.
الجواب: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في هدي الساري: "لم يهمل البخاري حكاية هذا الاختلاف بل ذكره عقب حديث بن أبي ذئب، والجواب عن هذا الاختلاف كالجواب في الحديث الثاني فإنَّ سعيداً المقبري سمع من أبيه عن أبي هريرة وسمع من أبي هريرة فلا يكون هذا الاختلاف قادحاً، وقد اختلف فيه على مالك فرواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث بشر بن عمر عنه عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وقال بعده: لم يقل أحد من أصحاب مالك في هذا الحديث عن سعيد عن أبيه غير بشر بن عمر انتهى. وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه من حديث بشر بن عمر أيضاً وصحح ابن حبان الطريقين معاً، والله أعلم " (2).
ثانياً: الأحاديث التي انتقدها في كتاب العلل وقد أخرجها مسلم في أصل صحيحهٍ:
الحديث الأول: قال الإمام مسلم في صحيحه كتاب الصيام: " وحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ يَعْنِي الْجُعْفِيَّ، عَنْ زَائِدَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلاَ تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ)) " (3).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، الإلزامات والتتبع (ج1/ص134).
(2) الحافظ ابن حجر العسقلاني، هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص478).
(3) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم مع شرح النووي، كتاب الصيام باب كراهية صيام يوم الجمعة منفرداً حديث رقم (148) (ج4/ص 274).
(1/86)
قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل عن حديث ابن سيرين عن أبي هريرة: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْرَد يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ)).
فقال - يعني الدارقطني -: يرويه عوفٌ الأعرابي، عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قاله هوذة بن خليفة عنه، واختلف عن أيوب السختياني، فرواه الحسن بن عيسى الحربي عن ابن عيينة عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وخالفه عبد الله بن محمد المسور الزهري، فرواه عن ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي الدرداء عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وخالفه الحميدي، فرواه: عن ابن عيينة عن أيوب، عن ابن سيرين مرسلاً عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، واختلف عن ابن عون فرواه المسيب بن شريك عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي الدرداء عن النَّبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، وغيره يرويه عن ابن عون عن ابن سيرين مرسلاً.
أخرجه مسلم في صحيحه ولا يصح، والصواب عن ابن سيرين عن أبي الدرداء وسلمان
وهو مرسل عنهما؛ لأنَّ ابن سيرين لم يسمع من واحد منهما " (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني من جهة الإسناد: أنَّ الإمام مسلم أورد الحديث من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضى الله عنه، والصحيح ما رواه غيره عن ابن سيرين عن أبي الدرداء وسلمان وهو مرسل عنهما، فصار معلولاً بالإرسال.
والجواب: قال أبو مسعود الدمشقي: " وحسين الجعفي من الأثبات الحفاظ، وقول معاوية عن زائدة، عن هشام، عن محمد، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومما يقوي حديث حسين، وحديث الصوم فله أصل عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم والبخاري من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة.
وقد أخرجا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن صوم يوم الجمعة من حديث جابر، وهذا ما يبين أن الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن له أصلاً وإنَّما أراد مسلم إخراج حديث هشام عن
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل (ج10/ 42 - 43)، سؤال رقم (1843).
(1/87)
محمد بن سيرين لتكثر طرق الحديث (1).
الحديث الثاني: قال الإمام مسلم في كتاب الأيمان: " وحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ وحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ ح وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَفِي حَدِيثِ عِيسَى ثُمَّ يُسْتَسْعَى فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" (1). (2)
قال الإمام البرقاني في العلل: " وسُئل - الدارقطني - عن حديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصَاً لَهُ مِنْ عَبْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثَمَنٍ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ)).
فقال - يعني الدارقطني -: يرويه قتادة، واختلف عنه في إسناده ومتنه، فأما الخلاف في إسناده: فإن سعيد بن أبي عروبة، وحجاج بن حجاج، وجرير بن حازم، وأبان العطار، وهماما، وشعبة رووه: عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، وخالفهم الحجاج بن أرطاة رواه: عن قتادة عن موسى بن أنس مكان النضر بن أنس ووهم. وأما هشام الدستوائي فرواه: عن قتادة عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة ولم يذكر بينهما أحدا، وأما الخلاف في متنه: فإن سعيد بن أبي عروبة، وحجاج ابن حجاج وأبان العطار، وجرير بن
_________
(1) أبو مسعود الدمشقي: محمد بن عبيد (ت: 401هـ)، الأجوبة عما أشكل الشيخ الدارقطني على صحيح مسلم بن الحجاج طبعة دار الوراق، بيروت سنة 1998م، تحقيق: إبراهيم بن علي بن محمد آل كليب، الحديث الثالث (ص13).
(2) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم مع شرح النووي، كتاب الأيمان باب من أعتق شركاً له في عبد حديث رقم (1504) (ج6/ ص 153).
(1/88)
حازم، وحجاج بن أرطاة اتفقوا في متنه، وجعلوا الاستسعاء مدرجاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم , وأما شعبة وهشام فلم يذكرا فيه الاستسعاء بوجه، وأما همام فتابع شعبة وهشاما على متنه، وجعل الاستسعاء من قول قتادة، وفصل بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون همام قد حفظه قال ذلك أبو عبد الرحمن المقرئ وهو من الثقات عن همام، ورواه محمد بن كثير وعمرو بن عاصم عن همام فتابعه شعبة على إسناده ومتنه، ولم يذكر فيه الاستسعاء بوجه " (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني من جهة الإسناد: أن الإمام مسلم أورد الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة، وخالفه هشام الدستوائي فرواه عن قتادة عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة ولم يذكر النضر بن أنس فيه، والجوابُ عن ذلك: فأما ذكرهُ خلاف حجاج بن أرطاة الفقيه فليس بشيء لأنه وصف بقلة الحفظ، والضعف، قال الذهبي في السير: " كان من بحُورِ العلمِ، تُكُلِّمَ فِيْهِ لِبَاوٍ فِيْهِ، وَلتَدليسِه، ولِنَقصٍ قَلِيلٍ فِي حِفْظِه، ولم يُترك " (2). وقال الحافظ ابن حجر " قال أبو حاتم: إذا قال حدثنا فهو صالح وليس بالقوي " (3). وأما مخالفة هشام الدستوائي فمرجوحة لمخالفته سعيد بن أبي عروبة وهو أوثق الناس في قتادة، قال يحيى بن معين: " سعيد بن أبي عروبة أثبت الناس في قتادة " (4)، فتبين أن إخراج مسلم الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة أرجح من غيره وأصوب، فعلم تقدم الإمام مسلم على غيره في معرفة العلل.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل، (ج10/ ص 313 - 317)، سؤال رقم (2031).
(2) الذهبي، سير أعلام النبلاء (ج13/ص81)، والبَاو: الكبر والتَّعظيم، في النهاية (ج1/ص92).
(3) ابن حجر العسقلاني، تعريف اهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، طبعة مكتبة المنار، عمان، تحقيق: د. عاصم بن عبدالله القريوتي (ص49).
(4) ابن رجب الحنبلي، شرح علل الترمذي (ص 361).
(1/89)
وأما من جهة المتن: فقد اعتبر الدارقطني لفظة " الاستسعاء " (1) هذه زيادة مدرجة في المتن من قول قتادة، وما قاله هو الصواب، فقد قال الإمام النووي في شرح مسلم: " قال القاضي عياض: وقال الأصيلى وابن القصار وغيرهما: من أسقط السعاية من الحديث أولى ممن ذكرها , لأنها ليست في الأحاديث الأُخر من رواية ابن عمر وقال ابن عبد البر: الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكروها , وقال غيره: وقد اختلف فيها عن سعيد بن أبى عروبة عن قتاده فتارة ذكرها وتارة لم يذكرها، فدل على أنها ليست عنده من متن الحديث كما قال غيره , وهذا آخر كلام القاضى والله أعلم " (2).
الحديث الثالث: قال الإمام مسلم في صحيحه كتاب الجمعة: " وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ ح وحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى قَالاَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا مَخْرَمَةُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ لِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَسَمِعْتَ أَبَاكَ ((يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَانِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ)) " (1). (3)
قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث أبي بردة عن أبي موسى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ((فِي السَّاعَةِ الَتِي فِي يَومِ الْجُمُعَةِ، وَأَنَّهَا مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإمَامِ إِلِى أَنْ تَنْقَضِي الصَّلاَةَ)).
_________
(1) قال الإمام النووي قال العلماء: " ومعنى الاستسعاء فى هذا الحديث أن العبد يكلف الاكتساب والطلب حتى تحصل قيمة نصيب الشريك الآخر , فإذا دفعها إليه عتق , هكذا فسره جمهور القائلين بالاستسعاء، وقال بعضهم: هو أن يخدم سيده الذي لم يعتق بقدر ما له فيه من الرق , فعلى هذا تتفق الأحاديث ".
(2) النووي: محيي الدين بن شرف، شرح صحيح مسلم، باب ذكر سعاية العبد (ج5/ص395).
(3) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم مع شرح النووي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة (ج3 /ص404).
(1/90)
فقال - الدارقطني -: يرويه مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة، عن أبي موسى عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ تفرد به عبد الله بن وهب عنه، وهو صحيح عنه. ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، واختلف عنه: فرواه إسماعيل بن عمرو، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وخالفه النعمان بن عبد السلام فرواه: عن الثوري بهذا الاسناد موقوفا، وخالفهما يحيى القطان، فرواه عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة قوله، وتابعه عمار بن رزيق فرواه: عن أبي إسحاق، عن أبي بردة قوله.
وكذلك رواه معاوية بن قرة، ومجالد، عن أبي بردة من قوله، وحديث مخرمة بن بكير أخرجه مسلم في الصحيح والمحفوظ من رواية الآخرين عن أبي بردة قوله غير مرفوع حدثنا أحمد بن محمد بن مسعد الفزاري، قال ثنا عبدالله بن محمد بن زكريا، ثنا إسماعيل ابن عمرو ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: ((السَّاعَةُ الَتِي يُرْجَى فَيَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَندَ نُزُولِ الإِمَامِ))، حدثنا أحمد بن محمد بن مسعدة قال: ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن الأصبهاني، قال حدثنا أبو سفيان صالح بن مهران، ثنا النعمان، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: الساعة التي تذكر في الجمعة ما بين نزول الإمام عن منبره إلى دخوله في الصلاة موقوف" (1).
الجواب: قال الإمام محي الدين النووي في الشرح: " قوله عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: لم يسنده غير مخرمة، عن أبيه، عن أبي بردة.
ورواه جماعة: عن أبي بردة من قوله، ومنهم من بلغ به أبا موسى ولم يرفعه، قال: والصواب أنَّه من قول أبي بردة كذلك. رواه يحيى القطان، عن الثوري، عن أبي إسحاق عن أبي بردة، وتابعه واصل الأحدب، ومجالد روياه، عن أبي بردة من قوله.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني، كتاب العلل، (ج7/ 212 - 213)، سؤال رقم (1297).
(1/91)
وقال النعمان بن عبدالسلام، عن الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه موقوفاً، ولا يثبت قوله عن أبيه، وقال أحمد بن حنبل، عن حماد بن خالد قلتُ لمخرمة: سمعت من أبيك شيئا؟ قال: لا، هذا كلام الدارقطني.
وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين أنَّه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنَّه يحكم بالرفع والاتصال لأنها زيادة ثقة، وقد سبق بيان هذه المسألة واضحا في الفصول السابقة في مقدمة الكتاب وسبق التنبيه على مثل هذا في مواضع أخر بعدها، وقد روينا في سنن البيهقي، عن أحمد بن سلمة قال: ذاكرت مسلم بن الحجاج حديث مخرمة هذا فقال مسلم: هو أجود حديث وأصحه في بيان ساعة الجمعة " (1).
قلتُ: وما أشار إليه الإمام النووي من أنَّ الدارقطني يتبع القاعدة المعروفة له، ولأكثر المحدثين أنَّه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، ليس ذلك على الإطلاق، وليست هي قاعدة مطردة عنده، وإنَّما كان الدارقطني يتبع قرائن ترجح الموقوف أو المرسل، ويرجح أو يُعل تبعاً للمتابعات والشواهد والقرائن، وسوف نفرد له فصلاً كاملاً إن شاء الله لبيان منهجه في قرائن الترجيح.
_________
(1) النووي: محيي الدين بن شرف، شرح صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة (ج3 /ص 404).
(1/92)
وأختم هذا المبحث المبارك إن شاء الله بكلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في رده على الأحاديث التي انتقدها الدارقطني فقال: " ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب، فإن جميعها وارد من جهة أخرى وهي ما ادعاه الإمام أبو عمر بن الصلاح وغيره من الإجماع على تلقي هذا الكتاب بالقبول والتسليم لصحة جميع ما فيه فإن هذه المواضع متنازع في صحتها فلم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب، وقد تعرض لذلك ابن الصلاح في قوله إلا مواضع يسيرة انتقدها عليه الدارقطني وغيره، وقال في مقدمة شرح مسلم له مآخذ عليهما يعني على البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول انتهى وهو احتراز حسن" (1).
_________
(1) الحافظ ابن حجر العسقلاني، هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص469).
(1/93)
==============
اتلباب الثاني


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
الباب الثاني
العلة وأجناسها عند الإمام الدارقطني
وفيه فصلان:
الفصل الأول: مفهوم العلة عند الإمام الدارقطني.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم العلة من جهة الإسناد.
المبحث الثاني: مفهوم العلة من جهة المتن.
الفصل الثاني: أجناس العلل الخفية والظاهرة في الإسناد والمتون.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أجناس العلل التي ذكرها الحاكم وأمثلتها عند الدارقطني.
المبحث الثاني: أجناس العلل التي لم يذكرها الحاكم وأمثلتها عند الإمام الدارقطني.
المبحث الثالث: أجناس العلل الخفية في المتون.
المبحث الرابع: أجناس العلل الظاهرة.
(1/95)
الفصل الأول
مفهوم العلة عند الإمام الدارقطني
سنتعرض في هذا الفصل لمفهوم العلة من جهة الإسناد والمتن عند المحدثين المتقدمين وعلى رأسهم الإمام الدارقطني، ودراسة ومقارنة ذلك بمذهب المتأخرين من المحدثين، فإنَّه مما لا شك فيه أنَّ مفهوم العلَّة عند الإمام الدارقطني لم تختلف كثيراً عن مفهوم العلَّة عند المتقدمين من أئمة الحديث أمثال: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني، والإمام ابن أبي حاتم الرازي، والإمام أبي زُرْعَة الرَّازي، والإمامين البخاري ومسلم، والإمام الترمذي وغيرهم من المحدثين، فإنَّ مذهبهم في العلة واحد لا يختلف من حكم إمام إلى غيره، بل ينتظم في طريقٍ واحد، وفهمٍ ثاقب للعلل بأنواعها وأجناسها المختلفة التي قد تطرأ على الأحاديث والأخبار.
المبحث الأول: مفهوم العلة من جهة الإسناد.
مفهوم العلة من جهة الإسناد عند المحدثين المتقدمين يشمل كل ما يطرأ على الإسناد مما يقدح فيه من أسباب الوهم والخطأ، أومن ضعفٍ وجرحٍ في الراوي، مما يدل على عدم حفظ أو ضَبط الراوي لمرويَّاته، وسواء كانت هذه العلة من ثقةٍ معروفٍ بالإتقانِ، أو كانت من ضعيفٍ مجروح بالاتفاقِ، أو كانت هذه العلَّة ظاهرة واضحة جلية، أو كانت خفية غامضة دقيقة، كل ذلك يسمى عندهم علَّة، إلا أن الغالب مما يطلق عليه علَّة عندهم الأسباب الخفية الغامضة، ونرى في كتب أئمة العلل الشيء الكثير مما يدل على ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقد أطلق بعض المحدثين والفقهاء المتأخرين بعض الألفاظ في مفهوم العلة، مما يوهم خلاف ما بيناه في تعريف مفهوم العلة عند المتقدمين فقالوا: " صحيحٌ معلولٌ " أو " علةٌ غير قادحة "، " وعلةٌ غير مؤثرة "، وما شابه ذلك.
فأما لفظة: " صحيحٌ معلولٌ "، فقد ذكر أبو يعلى الخليلي في بيان العلل: " أنَّ الأحاديث المروية عن رسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ على أقسام كثيرة، صحيح متفق عليه، وصحيح معلول، وصحيح
(1/97)
مختلف فيه، وشواذ وأفراد، وما أخطأ فيه إمام، وما أخطأ فيه سيء الحفظ يُضعَّف من أجله، وموضوع وضعه من لا دين له ... ، فأما الحديث الصحيح المعلول فالعلة تقع للأحاديث من أنحاء شتى لا يمكن حصرها، فمنها أن يروي الثقات حديثا مرسلاً وينفرد به ثقة مسنداً، فالمسند صحيح وحجة، ولا تضره علة الإرسال " (1)
قلتُ: ثم ضرب بعض الأمثلة التي تبين مقصده، والخلاصةُ في ذلك: أنًّ الحديث قد يُروى مرسلاً، ويروى موصولاً كذلك، لكنَّ الموصول أصح عند النَّظر في القرائن والأدلة، ولم يقصد ما ذهب إليه بعض المتأخرين من الفقهاء من إطلاق الحكم في أنَّ بعض العلل لا تقدح، بل الناظر في الأمثلة التي ضربها تدل على أن مذهبه مثل المتقدمين في أنَّ العلة كلها تقدح في الحديث بلا ريب، إذا ثبتت العلة، أولم يكن ثَمَّ ترجيح بين الرِّوَايات المختلفة.
وأما لفظة: " علةٌ غير قادحة "، فقصدهم فيها العلة التي تقدح في الإسناد، ولا تقدح في متن الحديث لثبوت المتن من رواية أخري صحيحة، كما مَثَّل لذلك السيوطي فقال: " وقد يقدح في الإسناد خاصة ويكون المتن صحيحاً، كحديث يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو بن دينار حديث: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ)) (2)، غلط يعلى إنما هو عبدالله ابن دينار ... هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان كأبي نعيم الفضل بن دُكَين، ومحمد ابن يوسف الفريابي، ومخلد بن يزيد وغيرهم " (3).
_________
(1) أبو يعلى الخليلي: خليل بن عبدالله بن أحمد بن إبراهيم القزويني (ت: 446 هـ)، الإرشاد في معرفة علماء الحديث، طبع مكتبة الرشد، الرياض الطبعة الأولى 1409هـ، تحقيق: د. محمد سعيد عمر إدريس، (ج1/ 157 - 163).
(2) أخرجه أحمد في المسند، من طريق سفيان عن عبد الله بن دينار (ج2/ص9)،برقم (4566).
(3) السيوطي: عبدالرحمن بن أبي بكر الخضري (ت: 910 هـ)، تدريب الراوي في شرح تقريب النووي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، تحقيق: عبدالوهاب عبداللطيف (ج1/ ص254).
(1/98)
فظهر أنَّ العلة قدحت في الإسناد، وإن كان الخطأ هو إبدال ثقة مكان ثقة آخر؛ لأنَّ هذا الخطأ يدل على وهم الراوي وعدم ضبطه لهذا الحديث.
وقال ابن الصلاح: " ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر، وقد تقع في متنه ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً، كما في التعليل بالإرسال والوقف، وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن " (1).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في النكت: " قوله - يعني ابن الصلاح -: " ثم قد تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر وقد تقع في المتن ... " إلى آخره قلت: إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح، وقد لا تقدح، وإذا قدحت فقد تخصصه وقد تستلزم القدح في السند، وكذا القول في المتن سواء، فعلى هذا يكون للعلة ستة أقسام:
1 - فمثال ما وقعت في الإسناد ولم تَقْدِح مطلقاً: ما يوجد مثلاً من حديث مدلّس بالعنعنة، فإن ذلك عِلَّةٌ تُوجِبُ التوقف عن قبوله، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أن العلة غير قادحة.
وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته، فإنَّ ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحفُّ الإسناد تبين أنَّ تلك العلة غير قادحة.
2 - ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن: ما مثل به المصنف من إبدال راوٍ ثقة براوٍ ثقة وهو بقسم المقلوب أليق، فإن أبدل راوٍ ضعيف براوٍ ثقة وتبين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً، إن لم يكن له طرق أُخرى صحيحة، كما روى يعلى بن عبيد الطَّنَافِسي، عن الثوري، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النَّبِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا))، فغلط يعلى في قوله: عمرو بن دينار إنمَّا هو عبد الله بن دينار، كما رواه الأئمة من أصحاب الثوري، يعني فلا يضر في صحة المتن؛ لأنَّ عبد الله وعَمْراً كلاهما ثقة.
_________
(1) العراقي، التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص 117).
(1/99)
3 - تقع العلة في الإسناد وتقدح فيه وفي المتن، ومن أغمض ذلك أن يكون الضعيف موافقاً للثقة في نعته.
ومثال ذلك: ما وقع لأبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي، أحد الثقات عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، وهو من ثقات الشاميين قدم الكوفة، فكتب عنه أهلها، ولم يسمع منه أبو أسامة، ثم قدم بعد ذلك عبدالرحمن بن يزيد بن تميم، وهو من ضعفاء الشاميين، فسمع منه أبو أسامة، وسأله عن اسمه فقال: عبدالرحمن بن يزيد، فظن أبو أسامة أنَّه ابن جابر فصار يحدِّث عنه وينسبه من قبل نفسه، فيقول: حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر فوقعت المناكير في رواية أبي أسامة عن ابن جابر، وهما ثقتان فلم يفطن لذلك إلا أهل النقد، فميزوا ذلك ونصوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد.
4 - ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تَقْدَح فيهما: ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين، إذا أمكن ردُّ الجميع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها.
5 - ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد: ما يرويه راوٍ بالمعنى الذي ظنَّه يكون خطأ، والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإنَّ ذلك يستلزم القدح في الراوي، فيعلل الإسناد.
6 - ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد: ما ذكره المصنف من أحد الألفاظ الواردة في حديث أنس رضي الله عنه وهي قوله: ((لاَيَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَلاَ فِي آخِرِهَا)) (1)،فإنَّ أصل الحديث في الصحيحين فلفظ البخاري: ((فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ})) (2).
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: (ج3/ 223)، برقم (13361).
(2) ابن حجر العسقلاني، النكت، طبعة دار الرَّاية، الرياض، (دت)، (ص288).
(1/100)
وأما لفظة: " علةٌ غير مؤثرة "، فالمراد منها أنَّه ثبت أنَّ الراجح فيها صحة الرواية فلم تؤثر هذه العلة على الحديث حيث زالت شبهة أنه معلول، ومثاله قول الإمام الذهبي: " فإن كانت العلة غير مؤثرة، بأن يرويه الثبت على وجه، ويخالفه واه، فليس بمعلول، وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل، فلم يصب؛ لأنَّ الحكم للثبت فإن كان الثبت أرسله مثلاً، والواهي وصله، فلا عبرة بوصله لأمرين: لضعف راويه؛ ولأنَّه معلول بإرسال الثبت له.
ثم اعلم أنَّ أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم للأثبات، وإن كان الحديث قد رواه الثبت بإسناد، أو أوقفه، أو أرسله، ورفقاؤه الأثبات يخالفونه، فالعبرة بما اجتمع عليه الثقات، فإنَّ الواحد قد يغلط، وهنا قد ترجح ظهور غلطه فلا تعليل، والعبرة بالجماعة، وإن تساوى العدد، وإن اختلف الحافظان، ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر، فهذا الضرب يسوق البخاري ومسلم الوجهين منه في كتابيهما، وبالأولى سَوْقُهما لما اختَلَفا في لفظِهِ إذا أمكن.
ومن أمثلة اختلاف الحافظين: أن يسمي أحدهما في الإسناد ثقة، ويبدله الآخر بثقة آخر أو يقول أحدهما: عن رجل، ويقول الآخر عن فلان، فيسمي ذلك المبهم، فهذا لا يضر في الصحة، فأمَّا إذا اختلف جماعة فيه، وأتوا به على أقوال عدة، فهذا يوهن الحديث، ويدل على أنَّ راويه لم يتقنه، نعم لو حَدَّثَ به على ثلاثِة أوجهٍ تَرجعُ إلى وجهٍ واحد، فهذا ليس بمُعْتَلّ كأن يقول مالك، عن الزهري، عن ابن المسَّيب، عن ... أبي هريرة ويقول عقيل: عن الزهري، عن أبي سلمة، ويرويه ابن عيينة: عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة معا " (1).
قلتُ: فأمَّا قولهُ رحمه الله: " وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل، فلم يصب ... "، فليس بصواب؛ لأنَّ ذكر رواية الضعيف من باب ذكر الأوجه التي وردت
_________
(1) الذهبي: الموقظة طبعة دار البشائر الإسلامية، بيروت، طبعة سنة1405هـ، (ص52 - 53).
(1/101)
في الحديث لتكون قرائن الترجيح أوسع، فإنَّه مما لا شك فيه عند المحدثين أن الثقة قد يخطئ، كما أن الضعيف قد يصيب، غير أنَّ خطأ الضعيف أكثر من الثقة.
والمعيار الذي يُبنى عليه الحكم على خطأ الراوي في الرواية، هو مقارنة المرويَّات والقرائن المرجحة، ومعرفة المخالفة والتفرد، ونحن نرى الكثير من أئمة هذا الشأن يصنعون مثل ما صنع الدارقطني في العلل، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل في كتابه العلل، وابن أبي حاتم في العلل وغيرهم من المحدثين المتقدمين، وهذا المسلك أدق، والله أعلم.
ولقد وصف الحافظ ابن رجب طريقتهم في الحكم على التفرد فقال: " وأمَّا أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد -وإن لم يرو الثقات خلافه-: إنَّه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ". (1)، وهذا مما يدل على دقة منهج المحدثين المتقدمين في مفهوم العلة وتعليلهم وتصحيحهم للأحاديث، وسوف أسوق بيان ذلك بالأمثلة والبراهين الدالة عليه:
1. الدليل على أنهم كانوا يعتبرون مخالفة الثقة لمن هو أوثق في إعْلال المرويَّات:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عاصم بن عمر بن الخطاب، عن عمر - رضي الله عنهم - عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فضل ما يقال عند الأذان.
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبدالرحمن، واختلف عن عمارة، فرواه إسماعيل بن جعفر، عن عمارة، عن خُبَيب، عن حفص بن عاصم، عن أبيه، عن عمر - رضي الله عنهم -، فوصل إسناده ورفعه إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، حدث به عنه كذلك إسحاق بن محمد الفروي، ومحمد بن جهضم، ورواه إسماعيل بن عياش، عن عمارة بن غزية، عن خُبَيب بن
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، طبعة دار الكلمة مصر، سنة 1418هـ (ص272 - 273).
(1/102)
عبدالرحمن مرسلاً، عن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -. ووقفه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية، عن خُبَيب، وحديث إسماعيل بن جعفر المتصل قد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، وإسماعيل بن جعفر أحفظ من يحيى بن أيوب وإسماعيل بن عياش وقد زاد عليهما وزيادة الثقة مقبولة، والله أعلم " (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ الحديث رواه بعض الثقات متصلاً، ورواه آخرون مرسلاً، والذين رووه متصلاً أوثق ممن أرسلوه.
وقد رجح الشيخان المتصل فأخرجاه، وأما قوله وزيادة الثقة مقبولة، فسوف يأتي الحديث عنها ضمن الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((إنّي لَمُسْتَتِرٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، إِذْ جَاءَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ ...)) الحديث، وفيه فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ ...} (2) الحديث.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج2/ 182 - 183) سؤال رقم (205).
(2) أخرجه البخاري على الوجه الصحيح في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب تفسير القرآن، باب وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ... الآية، (ج8/ ص659)، برقم (4817)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، (ج9 / ص134 - 135)، برقم (2775)، والترمذي في السنن، تفسير القرآن، باب ومن سورة حم السجدة، (ج5 / ص375) برقم (3248)، ثلاثتهم من طريق سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود به، وأما الوجه المعلول فقد أخرجه كذلك الترمذي في السنن، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة حم السجدة، (ج5 / ص375)، برقم (3249)، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير عن عبدالرحمن بن يزيد قال: قال عبدالله نحوه. قلتُ: وهو الإسناد المعلول الذي أشار إليه الدارقطني، والذي أُدخل فيه عبدالرحمن بن يزيد بدلاً من وهب بن ربيعة.
(1/103)
قال - الدارقطني -: يرويه الأعمش واختُلِف عنه، فرواه الثوري، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله، وتابعه عبدالله بن بشر الرَّقي، عن الأعمش، ورواه أبو معاوية الضرير، وقطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن عمارة عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله. قال قطبة: قلتُ للأعمش أنَّ سفيان الثوري يقول هو وهب بن ربيعة، قال: فأطرق ثم همهم ساعة، ثم رفع رأسه فقال: صدق سفيان هو وهب بن ربيعة، وخالفهم أبو مريم عبدالغفار فرواه: عن الأعمش، عن عمارة، عن زيد ابن وهب الجهني، عن عبدالله. رواه الحسن بن عمارة والمسعودي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله. ووهما فيه، ورواه شعبة، عن الأعمش، عن رجل، عن عبدالله والقول قول سفيان الثوري وعبدالله بن بشر، ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عبدالله.
حدثنا محمد بن إبراهيم بن نَيْرُوْزٍ، ... وأبو علي محمد ابن سليمان بن علي المالكي بالبصرة قالا: ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا سفيان الثوري، حدثني الأعمش، عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ فَتَكَلَّمُوا بِكَلامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمْ أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلامَنَا هَذَا فَقَال الْآخَرُ إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْ أَصْوَاتَنَا لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ فَقَال عَبْدُاللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلِ اللَّهُ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ}،حَتَى بَلَغَ {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}))] فصلت الآيات: (21 - 23) [.
ولفظ ابن نَيْرُوْزٍ: حدثنا محمد بن سليمان المالكي، ومحمد بن إبراهيم بن نَيْرُوْز، قالا: أنبأ أبو موسى محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبدالله نحوه. تفرد به يحيى القطان، عن سفيان، عن منصور أخرجه البخاري عن عمرو بن علي، عن يحيى. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن خلاد عن يحيى، حدثنا أبو علي بن الصواف، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني محمد بن عبدالله ابن نمير، ثنا قبيصة،
(1/104)
عن قطبة، قال: قال رجل للأعمش حين حَدَّثَ بحديث عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله: ((كُنْتُ مُسْتَتِراً)) إنِّ سفيان يحدث به عنك عن وهب بن ربيعة، قال: فهمهم الأعمش ساعة، ثم قال: هو كما قال سفيان " (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ الحديث رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله. أدخل فيه وهب بن ربيعة بين عمارة بن عمير وعبدالله بن مسعود. وخالفه أبو معاوية الضرير، فرواه: عن الأعمش، عن عمارة، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله، فأدخل عبدالرحمن بن يزيد بدلاً من وهب بن ربيعة، وخالفه كذلك غيره، وخلاصة الأمر أنَّ أصحاب الأعمش على سبعِ طبقات، وسفيان الثوري من الطبقة الأولى وهو على رأسهم، ثم يأتي أبو معاوية في الطبقة الثالثة، لذا كانت رواية سفيان مقدمة على كلِّ من روى هذا الحديث؛ لأنَّه أوثق الناس في الأعمش، قال الحافظ ابن رجب: " قال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول: أحفظ أصحاب الأعمش الثوري ". وقال أيضاً: " قال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: لم يكن أحد أعلم بحديث الأعمش من سفيان الثوري " (2).
المثال الثالث: قال البرقاني في العلل: " وسُئل - الدارقطني - عن حديث أبي الأسود الديلي، عن عمر - رضي الله عنه - عن النبَّي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَيُّمَا رَجُلٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ منْ جِيرَانِهِ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ)) (3).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج5 /ص 279 - 280) سؤال رقم (881).
(2) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص 375).
(3) أخرجه على الوجه المحفوظ: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، (ج3/ص261)، برقم (1368)، بلفظ " أَيُّمَا مسلم شهد له "، وكذا النسائي في السنن، كتاب الجنائز، باب الثناء، (ج4/ص352)، برقم (1933)، كلاهما من طريق داود بن أبي الفرات، عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود، وأما لفظ " أَيُّمَا رجل" فلم أجده.
(1/105)
فقال - الدارقطني -: هو حديث رواه عبدالله بن بريدة واختلف عنه: فرواه داود بن أبي الفرات وهو ثقة عن ابن بريدة، واختُلِف عن داود فقال: يعقوب الحضرمي، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، ووهم في ذكر يحيى بن يعمر في إسناده لكثرة من خالفه من الثقات الحفاظ عن داود منهم: عفان بن مسلم، وعبدالصمد بن عبدالوارث، وزيد بن الحباب، ويونس بن محمد المؤدب، وأبو عبدالرحمن المقري، وأبو الوليد الطَّيالسي، وشيبان بن فروخ وغيرهم، فإنَّهم رووه عن داود، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود لم يذكروا بينهما أحداً. وكذلك رواه سعيد بن رزين، عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود كرواية الجماعة عن داود. ورواه عمر بن الوليد، عن عبدالله بن بريدة مرسلاً، عن عمر لم يذكر بينهما أحداً. والمحفوظ من ذلك ما رواه عفان ومن تابعه عن داود بن أبي الفرات، وقد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح مثل ما رواه عفان، عن داود، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود، والله أعلم " (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ يعقوب الحضرمي أدخل في الإسناد يحيى بن يعمر بين عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ وأَبِي الأَسْوَدِ، وهو وهم؛ لأنَّه خالف رواية جماعة من الثقات منهم عفان بن مسلم وغيره، كما أخرجه البخاري فقال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ هُوَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: ((قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْنَا وَثَلاثَةٌ قَالَ: وَثَلاثَةٌ، فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ: وَاثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ)).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ ص 248 - 249) سؤال رقم (247).
(1/106)
وفيه ترجيح رواية الثقات على رواية الثقة إذا خالفهم في الإسناد، وأما قوله وأخرجه مسلم فوهم من الدارقطني رحمه الله، فإن مسلم لم يخرج الحديث، وإنَّما أخرجه البخاري في صحيحه، والنَّسائي في السنن كما ذكرنا آنفاً.
2. الدليل على أنَّهم كانوا يعتبرون مخالفة الثقة للضعيف في إعْلال المرويَّات:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني في العلل: " وسُئل - الدارقطني - عن حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فَضَلُ العَالمِ عَلَىَ العَابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ حُضَر جُوادٍ مِائَةَ عَامٍ)) " (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه فرواه: هشام بن سعد، عن الزهري مرسلاً عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال مبشر بن إسماعيل، عن عبدالله بن محرر، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمرسل أصح" (2).
قلتُ: ووجه ذلك أنَّ الحديث مداره على الزهري، رواه عبدالله بن محرر، عن الزهري مرفوعاً، ورواه هشام بن سعد، عن الزهري مرسلاً. وقد رجَّح الدارقطني حديث هشام بن سعد المرسل على مرفوع عبدالله بن محرر وهو ضعيف، فقد قال ابن معين: ليس بثقة وضعفه (3)، وقال ابن أبى حاتم: سألت أبا زُرعة عن عبدالله بن محرر؟ , فقال ضعيف الحديث , وامتنع من قراءة حديثه , وضَرَبْنَا عليه، وقال أبو حاتم: متروك الحديث منكر الحديث , ضعيف الحديث ترك حديثه عبدالله بن المبارك (4)، أما هشام بن سعد فمختلف فيه
_________
(1) أخرجه ابن عدي: عبدالله بن عدي بن محمد أبو أحمد الجرجاني (ت: 365هـ)، الكامل في ضعفاء الرِّجال دار الفكر بيروت، الطبعة الثالثة 1409هـ، تحقيق: يحيى مختار غزاوي (ج3/ص60).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص267)، برقم (1749).
(3) ابن عدي:، الكامل في ضعفاء الرِّجال، (ج4 /ص132).
(4) ابن أبي حاتم: عبدالرحمن بن أبي حاتم بن محمد بن إدريس، أبي محمد الرَّازي (ت: 327هـ) الجرح والتعديل، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الهندية الأولى سنة 1371هـ (ج5/ 176).
(1/107)
والخلاصة أنه حسن الحديث، وأخرج له مسلم متابعات في الصحيح.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّمَا الأَعْمَالُ بِالْنِّياتِ)) الحديث ... ... فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص، عن عمر، وهو حديث صحيح عنه.
وحدث بهذا الحديث شيخ من أهل الجزيرة يقال له: سهل بن صقير، عن الدراوردي وابن عيينة وأنس بن عياض، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ووهم على هؤلاء الثلاثة فيه وإنَّما رواه هؤلاء الثلاثة وغيرهم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري لا عن محمد بن عمرو، وإنِّمِا رواه عن محمد بن عمرو بن علقمة الربيع بن زياد الهمداني وحده، ولم يتابع عليه إلا من رواية سهل بن صقير عن هؤلاء الثلاثة، وقد وهم عليه فيه، والصحيح حديث يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، وروى عن حجاج بن أرطاة، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر. قال: ذلك زيد بن بكر بن خنيس، عن حجاج.
وروى هذا الحديث مالك بن أنس، واختلف عنه فرواه: عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، ولم يتابع عليه، وأمَّا أصحاب مالك الحفاظ عنه فرووه: عن مالك، عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، وهو الصواب.
حَدَّثَنَا أبو وهيب يحيى بن موسى، حَدَّثَنَا محمد بن الوليد، قال: ثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت محمد بن إبراهيم، يقول: سمعت علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
(1/108)
وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) " (1).
قلتُ: انظر كيف ذكر وهم وخطأ سهل بن صقير، وهو أبو الحسن الخلاطي بصري الأصل ضعيف قال فيه الحافظ ابن حجر العسقلاني: " قال ابن عدي: حدثنا عنه القاسم ابن عبدالرحمن الفارقي بأحاديث فيها بعض الإنكار، وسهل ليس بالمشهور وأرجو أنَّه لا يتعمد الكذب، وإنَّما يغلط أو يشتبه عليه الشيء فيرويه، وقال أبو بكر الخطيب: يضع الحديث، وقال ابن ماكولا: فيه ضعف" (2).
المثال الثالث: قال الإمام ابن أبي حاتم في العلل: " وَسَأَلْتُ أَبِي، وَأَبَا زُرْعَةَ عَنِ الحَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان الثوري، وشريك، عَن الأعمش، عَن الحكم بْن عُتيبة، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي المسح عَلَى الخفين. قَالا: وَرَوَاهُ أَيْضًا عِيسَى بْن يُونُسَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وابن نُمير، عَن الأعمش، عَن الحكم عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجرة، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ زائدة، عَن الأعمش، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن البراء، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قلت لَهما: فأيُّ هَذَا الصَّحِيحُ؟
قَالَ أَبِي: الصحيح من حَدِيث الأعمش، عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب، قُلْتُ لأَبِي: فمن غير حَدِيث الأعمش قَالَ: الصحيح ما يَقُولُ شُعْبَة، وأبان ابْن تغلب، وزيد بْن أَبِي أنيسة أَيْضًا، عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب، وَقَالَ أَبِي: الثوري، وشعبة أحفظهم.
قُلْتُ لأَبِي: فإن ليث بْن أَبِي سليم يُحدّث فيضطرب، يحدث عَنْهُ يَحْيَى بْن يعلى، عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أَبِي بَكْرٍ، وعمر
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص191 - 193)، سؤال رقم (213).
(2) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج4 /ص223).
(1/109)
فِي المسح. وَرَوَاهُ معتمر، عَنْ لَيْثٍ، عَن الحكم، وحبيب بْن أَبِي ثابت، عَن شريح بْن هانئ، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الصحيح حَدِيث الأعمش، عَن الحكم، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبٍ، عَن بلال، قَالَ أَبِي وأَبُو زُرْعَةَ: ليث لا يُشْتَغَل بِهِ فِي حَدِيث مثل ذي كثير هُوَ مضطرب الحديث.
قُلْتُ لأَبِي زُرْعَةَ: أليس شُعْبَة، وأبان بْن تَغْلِب، وزيد بْن أَبِي أنيسة، يَقُولُونَ عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب؟
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الأعمش حافظ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وعيسى بْن يُونُسَ، وابن نُمير، وهؤلاء قد حفظوا عَنْهُ، ومن غير حَدِيث الأعمش، والصحيح عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب، وَرَوَاهُ منصور، وشعبة، وزيد بْن أبي أُنيسة، وغير واحد، إِنَّمَا قلت من حَدِيث الأعمش " (1).
قلتُ: والظاهر من كلام ابن أبي حاتم أن رواية ليث بْن أَبِي سليم، معلولة بالاضطراب، على الرغم من أنَّه ضعيف، فقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام أهل الحديث فيه، فقال: " قال معاوية بن صالح عن ابن معين: "ضعيف"، إلا أنَّهُ يُكتب حديثه، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن يحيى بن معين: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه.
وكذا قال عمرو بن علي وابن المثنى وعلي بن المديني، وزاد عن يحيى بن معين: مجالد أحب إلي من ليث وحجاج بن أرطاة، وقال: أبو المعتمر القطيعي كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم " (2). ولم يُنظر لكون أنَّه ضعيف، لاحتمال إصابته في الرواية، كما يحتمل خطأ الثقة، ولم يكن أَبُو حَاتِم وأَبُو زُرْعَةَ ليدركا خطأه لمجرد أنَّه ضعيف، بل كان الحكم عليه بعد
_________
(1) ابن أبي حاتم: العلل، طبعة الجريسي، الرياض، 1427هـ، (ص193)، برقم (11).
(2) ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم أبو بكر، ويقال أبو بكر الكوفي (ت:148)، أخرج له البخاري في التعاليق ومسلم والأربعة في السنن، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج8 /ص418).
(1/110)
مقارنة مرويَّاته، بغيره ومعرفة الموافقة والمخالفة للثقات الأثبات، ولا يكون ذلك إلا بعد السبر الحثيث لمرويَّات الحديث.
المثال الرابع: قال الإمام مسلم في التمييز: " حدثنا زهير بن حرب، ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة قال: كتب إلي موسى بن عقبة يقول: حدثني بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ فِي الْمَسْجِدِ)). قلت لابن لهيعة: مسجد في بيته؟ قال: مسجد الرَّسُول صَلَى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ.
قال مسلم: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعا وابن لهيعة الْمُصَحِّفُ في متنه الْمُغَفَّل في إسنادهِ. وإنَّما الحديث: ((أنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَرَ فِي الْمَسْجِدِ بِخُوصَةٍ، أَوْ حَصِيرٍ يُصَلِّي فِيهَا)) (1)، وسنذكر صحة الرواية في ذلك إن شاء الله " (2).
ثم قال أيضاً: " الرواية الصحيحة في هذا الحديث ما ذكرنا عن وهيب وذكرنا عن عبدالله بن سعيد، عن أبي النضر، وابن لهيعة إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر، وهي الآفة التي نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث، أو عرض عليه، فإذا كان أحد هذين - السماع أو العرض - فخليق أن لا يأتي صاحبه التصحيف القبيح، وما أشبه ذلك من الخطأ الفاحش إن شاء الله. وأما الخطأ في
_________
(1) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، (ج10/ص584)، برقم (6113)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، (ج3 / ص325 - 326)، برقم (781)، أبو داود في السنن، كتاب الصلاة، باب في فضل التطوع في البيت، (ج1 / ص458)، برقم (1447)، ثلاثتهم من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت به، وغيرهم.
(2) مسلم بن الحجاج: التمييز (مع منهج النقد عند المحدثين)، طبعة مكتبة الكوثر، الرياض، (ص 187)، حديث رقم (55).
(1/111)
إسناد رواية ابن لهيعة فقوله: كتب إلي موسى ابن عقبة يقول: حدثني بسر بن سعيد وموسى، إنِّما سمع هذا الحديث من أبي النضر يرويه عن بسر بن سعيد" (1)
قلتُ: ومعلوم أن ابن لهيعة: وهو عبدالله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرمي (ت: 173 - 174هـ)، مختلف في توثيقه وتجريحه (2)، والراجح فيه أنَّه ضعيف مختلط، فمن حدث عنه قبل احتراق كتبه (3)، فهو صحيح، ومن حدث عنه بعد ذلك فهو ضعيف، والذين حدثوا عنه قبل احتراق كتبه قليل وهم العبادلة عبدالله ابن المبارك، وعبدالله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ، قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: " وقد سمع منه قبل احتراق كتبه ابن المبارك والمقرئ، كذا قال الفلاس وغيره، وقاله ابن معين في رواية عنه.
ومنهم من قال: "حديثه في عمره كله واحد، وهو ضعيف"، وهو المشهور عن يحيى ابن معين، وأنكر أن تكون كتبه احترقت وقال: " لا يحتج به ".
وقال أبو زُرعة: " سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا أن ابن وهب وابن المبارك كانا يتبعان أصوله، وليس ممن يحتج به ".
وقال ابن مهدي: " ما أَعْتَدُ بشيءٍ سمعته من حديث ابن لهيعة، إلا سماع ابن المبارك ونحوه ".
وروى عن أحمد أنَّه قال: " سماع العبادلة من ابن لهيعة عندي صالح: عبدالله بن وهب
_________
(1) مسلم بن الحجاج: التمييز (مع منهج النقد عند المحدثين)، (ص 188)، حديث رقم (57).
(2) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج5 /ص327).
(3) قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج5/ ص 329): " احترقت كتب ابن لهيعة سنة تسع وستين ومات سنة ثلاث أو أربع وسبعين، وقال البخاري: عن يحيى بن بكير احترقت كتب ابن لهيعة سنة سبعين ومائة، وكذا قال يحيى بن عثمان بن صالح السهمي عن أبيه، ولكنه قال: لم تحترق بجميعها إنما احترق بعض ما كان يقرأ عليه، وما كتبت كتاب عمارة بن غزية إلا من أصله وقال أبو داود: قال ابن أبي مريم لم تحترق ".
(1/112)
وعبدالله بن يزيد المقرئ، وعبدالله ابن المبارك ".
وقال ابن حبان: " سبرت أخباره فرأيته يدلس على أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، ثم كان لا يبالي، ما دُفع إليه قرأه، سواء كان من حديثه أو لم يكن من حديثه! فوجب التنكيب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه، لما فيها مما ليس من حديثه " (1).
3. الدليل على أنهم كانوا يعتبرون بعض أسباب الجرح الظاهرة في إعْلال المرويَّات:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث جابر عن أبي بكر - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) " (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه محمد بن إسماعيل الوساوسي، عن زيد بن الحباب عن عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن شرحبيل، عن جابر، عن أبي بكر عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يتابع عليه الوساوسي هذا ضعيف. وغيره يرويه عن شرحبيل ابن سعد مرسلاً ولا يذكر فيه جابراً ولا أبا بكر" (3).
قلتُ: وهذا الحديث بعينه في كتاب البحر الزخار مسند البزار قال: " وروى عبدالرحمن بن الغسيل، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر، عن أبي بكر - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، وهذا الحديث إنَّما حدث به رجل كان بالبصرة، عن زيد بن الحباب وكان
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص140 - 141).
(2) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الزَّكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، (ج3 / ص322)، برقم (1417)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الزَّكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، (ج4 / ص109)، برقم (1016)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وغيرهما.
(3) أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج1 / ص 221 - 222)، سؤال رقم (27).
(1/113)
متهما فيه، يقال: أن ليس له أصل من هذا الوجه فأمسكنا عن ذكره " (1).
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عمر عن أبي بكر - رضي الله عنهم - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنَّا لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ)) (2) الحديث بطوله.
فقال - الدارقطني -: رواه مالك بن أنس وأبو أويس وزياد بن سعد، عن الزهري عن مالك بن أوس، عن عمر، عن أبي بكر حدث به عن مالك كذلك جماعة منهم: بشر بن عمر، وعمرو بن مرزوق، وإسحاق بن محمد الفروي، والهيثم بن حبيب غزوان فأسندوا هذه الألفاظ عن عمر، عن أبي بكر. وغيرهم يرويه عن مالك فيسندها عن عمر عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وروى هذا الحديث: معمر، وابن أبي عتيق، وشعيب بن أبي حمزه، وأسامة بن زيد وغيرهم، فأسندوا هذه الألفاظ عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكروا في الحديث عن عمر، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - أنَّه قال: ((أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَعْمَلُ كَمَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، ورواه عبدالملك بن عمير، عن الزهري فأسنده عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي بكر أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ))، لم يذكر بينهما عمر بن الخطاب ... حدث به عن عبد الملك بن عمير كذلك تَلِيدُ بن سليمان وحده، ولم يكن بالقوي في الحديث - كان يشتم - عثمان بن عفان وأبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما " (3).
قلتُ: وتَلِيدُ بن سليمان هو المحاربى، أبو سليمان، ويقال أبو إدريس، الكوفى، وهذا رافضي خبيث يشتم الخلفاء الرَّاشدين رضوان الله عليهم، قال المزِّي: " قال أبو داود: رافضى
_________
(1) أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار (ت: 292)، مسند البزار (حديث رقم 64).
(2) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح) في مواضع، منها كتاب المغازي، باب حديث بني النّضير، (ج7 / ص378)، برقم (4034)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الجهاد والسير، باب قول النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، منها (ج6 / ص320)، برقم (1759)، وغيرهما.
(3) أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج1 / ص 168 - 171)، سؤال رقم (6).
(1/114)
خبيث، رجل سوء، يشتم أبا بكر وعمر. قال النَّسائى: ضعيف. ... وقال يعقوب بن سفيان: رافضى خبيث، سمعت عبيد الله بن موسى يقول لابنه محمد: أليس قد قلت لك، لا تكتب حديث تَلِيد هذا. وقال صالح بن محمد الحافظ: كان سيىء الخلق، وكان أصحاب الحديث يسمونه: بَلِيدُ بن سليمان، لا يحتج بحديثه، وليس عنده كبير شىء. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حدثنا تَلِيدُ بن سليمان، وهو عندي كان يكذب " (1).
والحديث في البحر الزَّخار مسند البزار: " حدثنا محمد بن المثنى قال: نا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال: نا حماد يعني ابن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ".
وحدثناه إبراهيم بن زياد قال: نا عبد الوهاب بن عطاء قال: نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر، وعمر رحمة الله عليهما نحوه. وهذا الحديث لا نعلم أحداً، رواه فوصله إلا حماد بن سلمة وعبدالوهاب، وغيرهما يرويه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مرسلاً " (2).
مما سبق يتضح:
أنَّ الدارقطني عند ذكره للمرويَّات الضعيفة كشاهد في الترجيح بين المرويَّات المختلفة، كان يتبع في ذلك منهج المتقدمين من المحدثين النقاد في التعليل وهو أوسع وأدق.
وأنَّ مذهب المتأخّرين في مفهوم العلة من جهة الإسناد يختلف عن المتقدمين في عدة أمور:
أولاً: أنَّ المتأخّرين لا يعتبرون مخالفة الضعيف علة، لاعتبارهم أنَّ العلة أو الشذوذ هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو مخالفة الثقة للثقات، دون اعتبار لروايَّات الضعفاء مما ضيق
_________
(1) المزِّي: جمال الدين يوسف بن عبدالرحمن، أبو الحجاج (ت: 742)، تهذيب الكمال، مؤسسة الرسالة الطبعة الرابعة 1406هـ، تحقيق د. بشار عواد معروف (ج4 / ص 322 - 323).
(2) أحمد بن عمرو أبو بكر البزار: البحر الزَّخار مسند البزار (حديث رقم 18).
(1/115)
واسعاً، وهو قول الحاكم وابن الصلاح والذهبي وغيرهم، بخلاف النقاد المتقدمين فأنهم يعتبرون في الترجيح بكل الرِّوايات الواردة في الحديث بما في ذلك الضعيفة.
ثانياً: أنَّ النقاد المتأخّرين يشترطون في العلة أن تكون خفية غامضة، وهو قول ابن الصلاح، والعراقي، والذهبي وغيرهم، بخلاف النقاد المتقدمين فإنهم كانوا يعتبرون بالعلل كلها الغامضة والظاهرة على السواء.
نتائج هامة:
- أنَّ النّقاد المتقدمين كانوا يعتبرون بخطأ الضعيف في تعليل الرواية، لمعرفة الراجح من الاختلاف بين المرويّات، بخلاف المتأخرين فإنهم لا يعتبرون برواية الضعيف في التعليل.
- أنَّ طريقة المتقدمين أدق وأوسع من طريقة المتأخرين في الترجيح بين المرويَّات التي طرأت عليها العلة، سواء وقع فيها: الخلاف، أو الخطأ في الرواية أو التفرد.
- أنَّ منهجهم في معرفة الراجح في الخلاف، أو الاضطراب هو جمع جميع المرويَّات التي رويت في هذا الحديث سواء كانت صحيحة أو ضعيفة من جهة السند.
- أنَّ الدارقطني مثل غيره من النقاد المتقدمين، كان يعتبر الأسباب الغامضة والظاهرة في بيان العلة التي قد تطرأ على المرويَّات في الحديث.
- العلة في مفهومِ المتقدمين من جهة الإسناد أعم مِنْها عِنْدَ المتأخرين، وَهُوَ أقرب إلى معناها اللغوي والاصطلاحي عند المحدثين.
(1/116)
المبحث الثاني: مفهوم العلة من جهة المتن.
وأما مفهوم العلة من جهة المتن عند المحدثين المتقدمين، وعلى رأسهم الدارقطني فتشمل كل ما يطرأ على متن أو نص الحديث مما يقدح فيه من أسباب الوهم والخطأ والقلب أو إدخال حديث في حديث، أو اضطراب، أو إدراج وغيره، وكل ذلك داخل في العلة.
ولا شك أنَّ النُّقاد المتقدمين كان لهم جهد عظيم في نقد المتن بجانب نقد الإسناد، إلا أنَّ نقد الإسناد كان الأكثر، فأشكل ذلك على المستشرقين ومن تبعهم من المستغربين، أنَّ أهل الحديث: " مجرد نَقَدَة أسانيد ولا اهتمام لهم بنقد المتون "، فلعل هذا المبحث يوضح مدى اهتمامهم البالغ بنقد المتون، وبذلهم الجهد الجهيد لتصفية أحاديث رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مما شابها من الموضوع والباطل، ومما يُفَنِّد هذا القول وغيره في حق أهل الحديث.
منهج نقاد أهل الحديث في معرفة علة متن الحديث:
ومن الجدير بالذكر أن نسلط الضوء على طريقة أهل الحديث في معرفة علة متون الأحاديث، بخلاف طريقة أهل الأهواء في زماننا، والذين يضعفون متون الأحاديث لمجرد ظنهم أنها مخالفة للعقل كما زعموا، ولله در المُتَنَبّي (1) حين قال:
وَمَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ... يَجِد مُرّاً بِهِ الماءَ الزُلالا
وقال أيضاً:
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً ... وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ (2)
_________
(1) هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب (ت: 354 هـ)، الشاعر الحكيم، وله الأمثال السائرة والحكم البالغة المبتكرة، وفيات الأعيان (ج1/ 120).
(2) الواحدي: علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن (ت:468)، شرح ديوان المتنبي، طبعة دار الرائد العربي، بيروت، تحقيق: ياسين الأيوبي (ص113)، وهي من بحر الوافر.
(1/117)
ولا يشك عاقل فضلاً عن مثقفٍ، أنَّ لكل أهل فن أساليبهم وشروطهم الخاصة، لمعرفة ما هو صحيح عندهم أو ضعيف، فمن أراد نقد الأحاديث فعليه بطريقة القوم لا يخرج عنها، ويجب أن يكون ذا تيقظ وفهم، مع الدين والتقوى والإنصاف، وإلا فلا قيمة لما يقول، ولا يُلْتفَت إليه البتة، وقد أتعب نفسه بلا غاية.
كما قال فيهم الإمام الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ (1):
فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْها ... وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالْمِدَادِ
ولقد أوضح النُّقاد المحدّثون من أين لهم بذلك العلم، في القصة الطويلة التي فيها سؤال الرجل للإمام أبي حاتم: " من أين علمت هذا؟، أخبرك الراوي بأنَّه غلط أو كذب؟!، فقال أبو حاتم: "إنا لم نجازف، ولم نقله إلا بفهم" (2). وقال أيضاً: "وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا" (3).
وقال أبو عبدالله الحاكم: "والحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير" (4).
وقال الخطيب البغدادي: " السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانتهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " (5).
وقال ابن الصلاح رحمه الله: " ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم لغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه
_________
(1) الذهبي: تذكرة الحفاظ، (ج1/ص4).
(2) السخاوي: فتح المغيث شرح ألفية الحديث، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ، (ج1 / ص 235).
(3) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل، (ج1/ ص350).
(4) ابن الصلاح: معرفة علوم الحديث، (ص13).
(5) العراقي: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، (ص 117).
(1/118)
ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه" (1).
قلتُ: ويتضح من النصوص سالفة الذكر مدى اهتمام النُّقاد ببيان الطرق التي أوصلتهم للحكم على الأحاديث بأنها معلولة، ولم يكن مجرد هاجس عقل أو هوى، وقد أفرد النقاد المتقدّمون مصنفات في نقد المتون، منها على سبيل المثال: عَقَدَ الإمامُ مسلم في كتابه التمييز أبواباً لنقد المتون، وإصلاح غلط المحدثين للإمام الخطابي (ت:388هـ) وللخطيب البغدادي (ت:436هـ): الفصل للوصل المدرج في النقل وغيرهم، ويتجلى ذلك بضرب بعض الأمثلة في طريقة القوم ومناهجهم، وكيف كانوا يكتشفون الخطأ أو الوهم في الرواية؟، ويمكن تحديد المحاور التي كان يُدندن حولها النقاد كالآتي:
- معرفة مدى التفرد في الرواية، وترجيح الصحيح منها.
- معرفة المخالفة في الرواية، وترجيح الثابت منها.
- سبر المتابعات والشواهد والقرائن التي تؤيد ترجيح رواية على أخرى.
أمثلة نقد الدارقطني لمتون الأحاديث:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ)) (2).
_________
(1) العراقي: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، (ص116).
(2) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة، (ج2 / ص68)، برقم (580)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ، (ج3 / ص112)، برقم (607)، كلاهما من طريق مَالِك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وأخرجه غيرهما من هذا الوجه، وأخرجه على الوجه المعلول النَّسائي في السنن، كتاب الجمعة، باب من أدرك ركعة من صلاة الجمعة (ج3 / ص125) برقم (1424)، من طريق سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أي أنَّه نفس مخرج الحديث، وبهذا ظهر تقدم الشيخين على غيرهما من أهل الحديث.
(1/119)
فقال - الدارقطني - اختلف فيه على الزهري، فرواه يحيى بن سعيد الأنصاري، وعبيد الله بن عمر ومالك بن أنس، واختلف عنه: فقال خالد بن خداش عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنَ العَصْرِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ)).
وفي هذا الحديث وهم في المتن والإسناد، فأما الإسناد فإنمَّا رواه خالد بن خداش، عن
حماد بن زيد، عن مالك بموافقة أصحاب الموطأ، وكذلك رواه ابن عيينة، وابن جُرَيج والوليد بن كثير، وشعيب بن أبي حمزة، وسعيد بن عبد العزيز، وإبراهيم بن أبي عبلة، وثابت بن ثوبان، وأيوب بن عتبة.
واختلف عن الأوزاعي: فرواه الحفاظ عنه، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَلاَةِ رَكْعَةً))، وقال محمد بن عبدالله بن ميمون الأسكندراني، عن الوليد عنه: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً)) ووهم في هذا القول، وقال أبو المغيرة، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، ووهم في ذكر سعيد.
واختلف عن يونس، فرواه ابن المبارك (1)، وعبدلله بن رجاء، وابن وهب، والليث ابن سعد، وعثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة على الصواب. وخالفهم عمر بن حبيب، فقال عن يونس بهذا الاسناد: ((مَنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ))، فقال ذلك محمد بن ميمون الخياط عنه، ووهم في ذلك والصواب، ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاةِ ...)).
ورواه بقية بن الوليد، عن يونس، فوهم في إسناده ومتنه، فقال عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً))، والصحيح قول ابن المبارك ومن تابعه.
_________
(1) هو عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي، (ت:181 هـ) أحد الأئمة الأثبات، قال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلا على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوهم معه، وقال أبو حاتم: عن إسحاق بن محمد بن ابراهيم المروزي نعى ابن المبارك إلى سفيان بن عيينة، فقال:" لقد كان فقيها عالماً عابداً زاهداً شيخاً شجاعاً شاعراً "، قلتُ: أخرج له أصحاب الكتب الستة، وغيرهم، تهذيب التهذيب (ج5 / ص344 - 338).
(1/120)
واختلف عن معمر فرواه ابن المبارك عن جماعة فيهم معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ ...)).
وتابعه عبد الرزاق، عن معمر، وخالفهما وهيب بن خالد في الإسناد دون المتن، فقال عن معمر، عن الزهري، واختلف عن يزيد بن الهاد في إسناده. فرواه: حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ ...)).
وتابعه الليث، عن ابن الهاد من رواية يونس المؤدب عنه، وقال ابن بكير، عن الليث عن ابن الهاد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورواه قرة بن عبدالرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وزاد فيه: ((قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الإمَامُ صُلْبَهُ)).
ورواه ياسين بن معاذ الزيات، واختلف عنه فقيل عن وكيع، عن ياسين، عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً))، وقيل عن وكيع أيضاً، عن سعيد أو أبي سلمة بالشك.
وكذلك رواه أسيد بن عاصم، عن بكر بن بكار، وقال الزعفراني، عن بكر، عن ياسين، عن الزهري، عن سعيد وحده بلا شك. وكذلك قال يوسف بن أسباط، عن ياسين وقال الأبيض بن الأغر، عن ياسين، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده.
ولم يختلف عن ياسين أنه قال من أدرك من الجمعة، وروي عن الزبيدي، وأسامة بن زيد، وصالح بن أبي الأخضر، وعمر بن قيس عن الزهري، عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً ...)).
وخالفهم الحجاج بن أرطاة في الإسناد دون المتن، وعبدالرزاق بن عمر، ويحيى بن أبي أنيسة، وسليمان بن أبي داود، فقالوا عن الزهري، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ ...)).
(1/121)
وكذلك قال نوح بن أبي مريم، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، إلا إنَّه أتى بلفظ آخر، فقال: ((مَنْ أَدْرَكَ الإمَامَ جَالِسَاً قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ أَدْرَكَ أَي الصَّلاةَ وَفَضْلَهَا))، ونوح متروك، ورواه عمر بن حبيب، عن الزهري، عن سعيد " الجمعة ".
والصحيح قول عبيدالله بن عمر، ويحيى الأنصاري، ومالك ومن تابعهم على الإسناد والمتن، وحدث معمر بهذا الحديث أيضا، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الفَجْرِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَمِنَ العَصْرِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا)) ... " (1).
قلتُ: والعلة التي في هذا المثال هي: الوهم في السند والمتن معاً، فأما العلة التي في المتن فهي الاضطراب في لفظ الحديث، فقد رواه جماعة بلفظ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ "، وآخرون بلفظ " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً "، وآخرون بلفظ " مَنْ أَدْرَكَ الإمَامَ جَالِسَاً قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ أَدْرَكَ "، وقد تعذر الجمع بين الألفاظ.
وقد رجح الإمام الدارقطني اللفظ الصحيح المحفوظ من طريق ابن المبارك، وعبدالله بن رجاء، وابن وهب، والليث بن سعد، وعثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " ((مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ رَكْعَةً ...))، على الألفاظ الأخرى، وذلك لعدة أدلة وقرائن منها:
الأول: أنَّ مدار الحديث على الزهري فرواه عبدالله بن المبارك على الوجه المحفوظ، وتابعه جمع من طريق معمر بن راشد عن الزهري، وتابع معمر الإمام مالك بن أنس، وهما من أثبت الناس في الزهري (2)، كما أخرج الشيخان الحديث من طريق مالك عن الزهري، ثم إنَّ الذين خالفهم، قد اشتهر عنهم الخطأ والوهم في الرواية.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج9 / ص 213 - 222)، سؤال رقم (1730).
(2) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص 346).
(1/122)
الثاني: أنَّ عدد من تابع ابن المبارك من طريق معمر، ومالك، عن الزهري، أكثر ممن خَالَفُهم، فظهر بذلك مدى دقة نقد الدارقطني، وهو يشير إلى علة متن الحديث، ويذكر الأدلة والقرائن بالأسانيد على ما ذهب إليه من الترجيح.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كَانَ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)).
فقال - الدارقطني -: يرويه أبو حصين واختلف عنه فرواه: سلام بن سليمان، عن
إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وخالفه أبو بكر بن عياش فرواه: عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس وهو الصحيح.
وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي غسان، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس. ورواه أبو جعفر الرازي: عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ آخر، وهو: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَمَا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدكَ))، والصحيح حديث أبي الضحى، عن ابن عباس (1).
قلتُ: والذي أشار إليه الإمام الدارقطني في نقد هذا المتن أنَّ الصحيح ما رواه أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس موقوفاً، بلفظ " (({حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})) (2)، والألفاظ الأخرى مرفوعة، ولكنها معلولة كما هو واضح من النَّص ونرى أن ما ذهب إليه الدارقطني لم يتفرد به، بل
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج10 / ص 98 - 100)، سؤال رقم (1893).
(2) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب التفسير القرآن باب {الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الآية (ج8 / ص264)، برقم (4563).
(1/123)
سبقه إليه البخاري حيث لم يخرج إلا الموقوف وترك المرفوع، على الرغم أن أصل كتابه في المرفوع، والله أعلم.
المثال الثالث: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ((مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصَاً لَهُ مِنْ عَبْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثَمَنٍ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه قتادة، واختلف عنه في إسناده ومتنه.
فأما الخلاف في إسناده فإنَّ سعيد بن أبي عَرُوبة، وحجاج بن حجاج، وجرير بن حازم وأبان العطار وهماما، وشعبة رووه: عن قتادة عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وخالفهم الحجاج بن أرطاة، رواه عن قتادة، عن موسى بن أنس مكان النضر بن أنس
ووهم، وأما هشام الدستوائي فرواه: عن قتادة، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، ولم يذكر بينهما أحدا، وأما الخلاف في متنه: فإنَّ سعيد بن أبي عروبة وحجاج بن حجاج وأبان العطار، وجرير بن حازم، وحجاج بن أرطاة اتفقوا في متنه، وجعلوا الاستسعاء مدرجاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأما شعبة وهشام فلم يذكرا فيه الاستسعاء بوجه.
وأما همام فتابع شعبة وهشاما على متنه، وجعل الاستسعاء من قول قتادة، وفصل بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ويشبه أن يكون همام قد حفظه قال ذلك أبو عبدالرحمن المقرئ، وهو من الثقات عن همام.
ورواه محمد بن كثير وعمرو بن عاصم عن همام فتابعه شعبة على إسناده ومتنه، ولم يذكر فيه الاستسعاء بوجه. " (2).
_________
(1) أخرجه على الوجه الصحيح: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم (مع شرح النووي)، كتاب الأيمان باب من أعتق شركاً له في عبد حديث رقم (1504) (ج6/ ص 153).
(2) أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج10/ ص313 - 317)، سؤال رقم (2031).
(1/124)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أن لفظة " الاستسعاء " مدرجةٌ في الحديث، وليست من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فصلت الكلام فيها وبينت العلة في الحديث والراجح في الخلاف، وذلك في المبحث السادس من الباب الأول (ص82) من الدراسة فارجع إليها إن شئت.
نتائج هامة:
- أنَّ كُتُبَ النُّقاد المتقدمين قد احتوت على الكثير من أمثلة نقد المتون، لا كما ادعى المستشرقون، وإنمَّا أتي ذلك من قبل جهلهم بمصنفات أهل الحديث.
- أنَّ كثيراً من المسائل العلمية الخاصة بعلل المتون في مصنفات أهل الحديث لم تدرس دراسة علمية دقيقة تحقق الراجح فيها والمرجوح.
- أنَّ نسبة ما تكلم فيه الدارقطني من نقد المتون في كتابه العلل لا يقل بحال عن (عشرة في المائة) من مجموع الكتاب.
- ولقد ظهرت لي بعض المسائل العلمية أثناء بحثي، ولم تكن من أصل دراستي، وأحببت أن أذكرها لعل غيري يقوم بها:
1 - دراسة وسبر جميع الأحاديث التي تكلم فيها المتقدمون من أهل الحديث في مصنفات العلل فيما يخص نقد المتون وبيان الراجح والمرجوح منها.
2 - دراسة وتخريج الأحاديث المعلولة في الكتب الستة والتي تكلم فيها أئمة العلل والراجح فيها.
3 - دراسة علاقة إعلال الأئمة متون الحديث بعلل الأسانيد من نفس مخرج الحديث.
4 - جمع وسبر أجناس العلل في المتون من مصنفات أهل الحديث في العلل.
5 - تحقيق الراجح من الزيادات في المتون التي وردت في أحاديث الكتب الستة.
(1/125)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...