الجمعة، 7 يناير 2022

25//قواعد العلل وقرائن الترجيح


قواعد العلل وقرائن الترجيح
الدكتور: عادل عبد الشكور الزرقي
(/)
(مقدمة وتعريف)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِالله من شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ محَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
وَبَعْدُ.
فَإنَّهُ لمَّا كان عِلْمُ الحَدِيثِ من أَجَلِّ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَأَفْضَلِهَا. وَكان عِلْمُ عِلَلِ الأَحَادِيثِ من أَصْعَبِ فُرُوعِ هذا العِلْمِ التي تَفَرَّعَتْ مِنْهُ.
كان مِنَ الَّلازِمِ على أَهْلِ العِلْمِ الاهتِمَامُ بهَذَا الأَمْرِ، خِدْمَةً لدِينِ الله وَسُنَّةِ نَبِّيهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذا الكتاب (1) جمعت قواعد هذا العلم العملية، وقرائنه الترجيحية، من كلام أهله السابقين، مما شرد وندر في كتب العلل والتواريخ
_________
(1) أصل هذا الكتاب جزء من رسالة "دكتوراه" في الحديث وعلومه، مقدمة إلى كلية أصول الدين، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وقد أجيزت بمرتبة الشرف الأولى، بفضل الله (الكاتب /د. عادل الزرقي) .
(1/5)
والسؤالات والمسائل والمصطلح وغيرها.
وسلكت فيه مسلك التوسع في جمع أصوله العملية لا النظرية غالباً، مع الاختصار في التقرير والتمثيل.
وجعلت لكل موضوع مبحثاً مستقلاً، تيسيراً للفهم، وترتيباً للذهن.
معتمداً على العلماء السابقين، مراعياً في ذلك اصطلاحات علمائه اللاحقين وفهمهم.
والمرجو من كل قارئ يجد فيه نقصاً أو خلالاً أن يسدِّده بدعوة صادقة، وأن يبعث إليَّ بما تجود به نفسه من فائدة على عنوان دار المحدِّث، لتداركه في زمن لاحق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/6)
1- تَعْرِيفُ العِلَّةِ:
العِلَّةُ في اللُّغَةِ: - قال في القَامُوسِ: «والعِلَّةُ - بالكَسْرِ -: المَرَضُ. عَلَّ يَعِلُّ، واعتلَّ، وأعلَّه الله تعالى فهو مُعَلٌّ، وعَلِيل، ولا تقل: مَعْلُول ... » (1) . وقال النَّوويُّ عن "مَعْلُول": «هو لحن» ، وتبعه السّيوطي (2) . بينما عبَّر ابن الصلاح بقوله: «والمَعْلُول مرذول عند أهل العربية واللُّغة» ، وعلق العراقي على ذلك بقوله: «واعتُرِض عليه بأنه قد حكاه جماعة من أهل اللُّغة، منهم قُطْرُب (3) ، بينما حكاه اللَّبْلي (4) والجوهري (5) في الصِّحاح والمُطَرِّزي (6)
في المُغْرِب» ، ثم قال العراقيُّ: «والجواب عن
_________
(1) القاموس: مادة «علل» .
(2) تدريب الراوي (1/294) .
(3) هو أبو علي محمد بن المستنير البصري، أحد العلماء بالنحو واللغة، توفي سنة 206هـ - تاريخ بغداد (3/298) .
(4) هو أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري، ولد بلَبْلَة غرب الأندلس عام 623هـ، وتوفي سنة 691هـ، له تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح - مقدمة فهرس اللبلي (ص5) وما بعدها.
(5) هو أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد الجوهري الفارابي، من بلاد الترك، إمام في علم اللغة، وخطه يضرب به المثل في الحسن، توفي سنة 398 هـ - إنباه الرُّوَاة للقفطي (1/229) .
(6) هو ناصر بن عبد السَّيِّد الخوارزمي الحنفي، شيخ المعتزلة، له شرح المقامات، توفي سنة 610هـ - السير (22/28) ..
(1/7)
المصنِّف - أي ابن الصَّلاح - أنه لا شكَّ في أنَّه ضعيف وإنْ حكاه بعض من صنَّف في الأفعال كابن القُوطيَّة (1) . وقد أنكره غير واحد من أهل اللُّغة كابن سيده (2) والحَريري (3) وغيرهما» (4) . وفيما قاله نظر، ولعلَّ قول الزَّركشي أَقرب حيث قال: «والصَّواب أنه يجوز أن يقال: علَّه، فهو مَعْلُول، من العِلَّة والاعتلال، إلا أنه قليل ... ويشهد لهذه العِلَّة قولهم: عليل كما يقولون قتيل وجريح ... وظهر بما ذكرناه أن قول المصنِّف: "مرذول"، أجود من قول النَّووي في اختصاره: "لحن"، لأن اللَّحن ساقط غير معتبر البتة، بخلاف المرذول. وأما قول المحدِّثين: "علَّله فلان بكذا"، فهو غير موجود في اللغة، وإنَّما هو مشهور عندَهم بمعنى ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصَّبي بالطَّعام. لكنَّ استعمال المحدِّثين (5) له في هذا المعنى على سبيل الاستعارة» (6) .
وأقدم من وجدته استعمل كلمة معلول بمعنى مريض - ممن يحتجُّ بكلامه في اللُّغة - مع العلم والإمامة في الدِّين - الإمامُ الشَّافعي، حيث قال في كتاب الرَّهن من كتابه "الأمِّ": «ومن يجوز ارتهانه ثلاث أصناف: - صحيح وآخر مَعْلُول وآخر فاسد ... » ، إلى أنْ قال: «فهذا الرَّهن
_________
(1) هو أبو بكر محمد بن عمر الأندلسي النحوي، كَانَ رأساً في اللغة والنحو، ذا عبادة ونسك، توفي سنة 376هـ - السير (16/219) .
(2) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل المرسي الضرير، عالم باللغة، توفي سنة 458هـ - السير (18/144) .
(3) هو أبو محمد القاسم بن علي البصري، صاحب المقامات، توفي سنة 516هـ - السير (19/460) .
(4) التقييد (ص116) .
(5) لم أجد عمَّن سلف من المحدثين من استعملها، فالمراد من تأخر منهم، فلا ينسب إليهم هذا الاستعمال بإطلاق.
(6) النكت للزركشي (2/205-206) .
(1/8)
الصَّحيح الذي لا علة فيه، وأما المَعْلُول ... » (1) .
فهذا النَّصُّ يردُّ على كلِّ من أنكره لغةً، فاللفظة قليلة الاستعمال، صحيحة لغة، لا مرذولة.
وأقدم من وجدته استعمل لفظة: "معلّ" هو العقيليُّ (2) ، وهي صحيحة.
أما لفظة: «مَعْلُول» فقليلة عند السلف من المحدثين (3) ، فيما يظهر.
العِلَّة في الاصطلاح:
عرَّف العراقي (4) العِلَّة في منظومته الألفية بقوله: -
وهي عبارة عن أسباب طرت ... فيها غموض وخفاء أثَّرت (5) .
فيؤخذ مما قال أن العِلَّةَ: سببٌ خفيٌ وغامضٌ مؤثِّرٌ في الحديث الذي
_________
(1) الأم (3/184) ، وقد قال عبد الملك بن هشام النحوي وأبو عبيد القاسم: «الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة» - مناقب الشافعي لابن أَبي حاتم (ص136) . ولم أجد شاهداً - بعد البحث - من الشعر القديم المحتج به على المراد هنا.
(2) الضعفاء (3/287) .
(3) من أقدم من ذكر هذه اللفظة:
1. البخاري فيما نقله عنه الترمذي في علله الكبير (1/551-ترتيبه) ، والخليلي في الإرشاد (3/961) .
2. أَبُو داود في رسالته (ص34) .
3. الترمذي في جامعه في موضعين (97و1119) ، ولم أجده عن غيرهم من العلماء ممن هو في طبقتهم المتقدمة.
(4) وهو مقتضى كلام الحاكم وابن الصلاح وغيرهما، كما سيأتي.
(5) فتح المغيث (1/258) .
(1/9)
ظاهره السَّلامة. فللعلة ركنان هما: -
1. الخفاء والغموض.
2. القدح في الحديث، سنداً أو متناً.
ويلزم عليه أنه إن تخلَّف أحدهما فلا يسمى الحديث مُعَلاً اصطلاحاً.
وهذا التَّعريف الذي استقرَّ مؤخراً - وهو ما سار عليه غالب العلماء.
فهو يخصِّص العلَّة ويحصرها بوصفين، أما السابقون من المحدِّثين فإن العِلَّة عندهم أعمُّ مما اشتهر بعد، فهي: «كلُّ ما أثَّر - ولو لم يقدح - في الحديث سنداً أو متناً، لفظاً أو معنىً، ظهر أم خفي» .
حيث نجد في كتب الحديث والعلل الكثيرَ من تعليلِ أحاديثٍ بغيرِ ما تقدَّم في التعريف الأول (1) ، فيعللون بعلل غير خفية بل في غاية الوضوح كالرَّاوي المتروك (2) ، ويعللون بغيْر قادحٍ كتغيير الصَّحابي.
ويشهد لذلك تسميةُ التِّرمذيِّ المنسوخَ معلولاً لعدم العمل به (3) ، لا لعدم صحته، لاشتمال الصَّحيح على أحاديث منسوخة (4) .
_________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (122-التقييد) والنكت لابن حجر (2/771) وتوضيح الأفكار (2/27) .
(2) قال ابن أَبي حاتم: «سألت أَبي عن حديث رَوَاهُ عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه أن علياً انكسرت إحدى زنديه فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يمسح على الجبائر فقال أَبي: هذا حديث باطل، لا أصل له، وعمرو بن خالد: متروك الحديث» - العلل (1/46) . وسئل الدارقطني عن حديث آخر من حديث ابن عباس عن أَبي بكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» . فقال: يرويه الوليد بن سلمة الأردني، وهو متروك الحديث عن عمر بن قيس سندل، وهو ضعيف أيضاً ويضطرب في إسناده ... » - العلل للدارقطني (1/213) .
(3) فتح المغيث (1/272) .
(4) النكت للزركشي (2/215) .
(1/10)
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه قوله: «حديث ابن مسعود في التطبيق منسوخ» (1) .
ونصَّ ابن الصلاح على ما سبق، فقال: «إنَّ بعضهم - أي المحدِّثين - أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح» (2) .
ولعلَّ تخصيص المتأخِّرين هذا النوع باسم العلل لأن أكثر أحاديث كتب العلل من هذا النَّوع، كما هو ظاهر وصرَّح به السخاوي (3) ، أو لأنه أدقُّها وأغمضُها، وقد اعتَرَض بعضُهم بشدة على هذا التخصيص، ولكلٍ وجهٍ ما يؤيده، ولعل ما ذهب إليه المتأخرون نوع من الحصر والتقييد، لا تغيير في المنهج بالمعنى العام، وإلا فما سلف من صنيعهم أولى، وصنيع الخلف أسهل للتعلم والفهم، والخلاف في النهاية غير مؤثر إذا سلم النهج العام.
وعلى ما سبق، فالحديث المعلُّ اصطلاحاً متأخراً هو: "الحديث الذي ظاهره السَّلامة، اطُّلع على قادح في صحته سنداً أو متناً".
فلا يكون الحديث معلولاً - اصطلاحاً - إلا إذا توفر فيه شرطان هما: -
1. السَّلامة في الظاهر بتحقق شروط صحة الحديث - سنداً (4) - أولاً.
_________
(1) العلل (1/91) .
(2) مقدمة ابن الصلاح (ص-التقييد) .
(3) فتح المغيث (1/271) .
(4) عبَّر العراقي عن ذلك بقوله: «ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر» - التقييد (ص116) ، ولذا لا يشتغل بتعليل رواية الضعفاء كما قال أَبُو حاتم لابنه: «ليس عبد الله في هذا الوزن أن يشتغل بخطئه، عامة حديثه على هذا» - العلل (2/266) .
(1/11)
2. الوقوف على قادح في أحد هذه الشروط - غالباً - ثانياً.
قال الحاكم: «وإنَّما يعلَّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإنَّ حديث المجروح ساقط واهٍ (1) ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثِّقات، أنْ يحدِّثوا بحديثٍ له علة فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولاً ... » (2) .
ويظهر أن الحاكم أول من خصَّص هذا المصطلح، وتبعه من بعده دون أن يستدرك عليه، بل إنَّ ابن حجر قال بعد كلام لابن الصلاح: «وفي هذا ردٌّ على من زعم أن المعلول يشمل كلَّ مردود» (3) ، وقال أيضاً: «المعلول ما علته قادحة خفية» (4) ، وعلى هذا التعريف الأخير سار الرُّكبان من أهل الحديث.
تنبيه: لا يلزم من الإشارة إلى وجود علة في حديث أن يكون معلاً مطلقاً.
قال العلائي: «وإنَّما يقوى القول بالتَّعليل عند عدم المعارض، وحيث يجزم المعلِّلُ بتقديم التَّعليل، أو أنَّه أظهر، فأمَّا إذا اقتصر على الإشارة إلى العِلَّة فقط، بأن يقول - مثلاً - في الموصول: رواه فلان مرسلاً، أو نحو ذلك، ولا يبيِّن أي الرِّوايتين أرجح، فهذا موجود في كلامهم، ولا يلزم منه رجحان الإرسال على الموصول» (5) ، وبنحوه لابن حجر (6) أيضاً.
* * *
_________
(1) يعرف ضعف المحدِّث - غالباً - بمخالفة بقية الثقات، كما قال الدارقطني عن راوٍ: «يحدِّث بأحاديث يسندها، ويوقفها غيْره» - سؤالات الحاكم للدارقطني. (334) .
(2) معرفة علوم الحديث (ص112-113) .
(3) النكت لابن حجر (2/709) .
(4) النكت لابن حجر (2/771) .
(5) النكت لابن حجر (2/777) .
(6) المصدر السابق.
(1/12)
2- أهمية علم العلل وصعوبته:
يعتبر علم العلل من أجلِّ أنواع علوم الحديث (1) ، وأدقِّها وأشرفها. وإنَّما يضطَّلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثَّاقب (2) .
قال ابن حجر عن هذا العلم: «هو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقِّها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة بمراتب الرُّواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون. ولذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشَّأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة الرَّازيَّين والدَّارقطني» ، قال: «وقد تقصر عبارة المعلِّلِ عن إقامة الحجَّة على دعواه، كالصَّيرفيِّ في نقد الدِّينار والدِّرهم» (3) .
قال ابن المديني: «لأنْ أعرف علة حديث هو عندي أحب إليَّ من أن أكتب عشرين حديثاً ليس عندي» (4) .
وقال ابن مهدي: «لأَنْ أعرفَ علةَ حديثٍ واحدٍ أحبُّ إليَّ من أن أستفيد عشرة أحاديث» (5) .
وقال الحاكم: «هو عِلْمٌ برأسه غير الصَّحيح والسَّقيم، والجرح والتَّعديل» .
_________
(1) قاله الخطيب في الجامع (2/450) .
(2) علوم الحديث لابن الصلاح (ص 116) .
(3) نزهة النظر لابن حجر (ص 89) ، وقوله بقصور العبارة أمر نسبي نادر، والنص كرره في النكت (2/711) بنحوه.
(4) العلل لابن أَبي حاتم (1/10) .
(5) المعرفة للحاكم (ص112) والجامع للخطيب (2/452) والسير (9/206) وشرح العلل (1/199) .
(1/13)
وقال أيضاً: «معرفة علل الحديث من أجلِّ هذه العلوم» (1) .
ولأهمية هذا العلم كان بعض المحدِّثين يعقدون مجالس خاصة به.
قال ابن عبد الحكم: «ما رأينا مثل الشَّافعي كان أصحاب الحديث ونقَّاده يجيئون إليه فيعرضون عليه فربما أعلَّ نقد النُّقاد منهم ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجَّبون منه» (2) .
وقال الخطيب: «أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصَّرف ونقد الدِّنانير والدِّراهم، فإنه لا يعرف جودة الدِّينار والدِّراهم بلون ولا مسٍّ ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق أو سعة، وإنَّما يعرفه النَّاقد عند المعاينة، فيعرف البَهْرَجَ الزَّائِفَ والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به» (3) .
واقترن بهذه الأهمية صعوبات كثيرة لا يكاد يدركها إلا الحافظ ومن خاض غمار هذا الأمر وعاناه.
قال ابن المديني: «أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة - لا أسميه - حديثاً، قال فغضب له جماعة، قال: فأتوه، فقالوا: يا أبا سعيد من أين قلت هذا في صاحبنا‍‍؟ قال فغضب عبد الرحمن بن مهدي وقال: أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي فقال: انتقد
_________
(1) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص112و119) .
(2) تاريخ دمشق (51/335) ، والنص يحتمل أن المراد بالعلة فيه الفقهية ونحوها.
(3) الجامع (2/382) .
(1/14)
لي هذا. فقال: هو بهرج. يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم» (1) .
قال ابن نمير: قال عبد الرحمن بن مهدي: «معرفة الحديث إلهام. لو قلت للعالم يعلِّل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة» ، قال ابن نمير: «وصدق، لو قلت له من أين قلت؟ لم يكن له جواب» (2) .
وعقَّب السخاوي على قول ابن مهدي الأخير: «يعني يعبر بها غالباً، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض» (3) .
وقال ابن مهدي أيضاً: «إنكارنا للحديث عند الجهَّال كهانة» (4) .
وقال ابن نمير: «معرفة الحديث بمنزلة الذهب، إنما يبصره أهله، وليس للبصير فيه حجة ... » (5) .
ومما يدلُّ على قولِ ابنِ مهدي ما حكاه أبو زرعة الرَّازي، وسأله رجل: «ما الحجَّة في تعليلكم الحديث» ؟ قال: «الحجَّة أن تسألني عن حديث له علَّة، فأذكر علته. ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميِّز كلام كلٍ مِنَّا على ذلك الحديث، فإن وجدَّت بيننا خلافاً في علته، فاعلم أنَّ كلاً مِنَّا تكلَّم على مراده، وإن وجدَّت الكلمة متَّفقة فاعلم حقيقة هذا العلم» . قال: ففعل
_________
(1) الجامع للخطيب (2/383) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (1/10) والجامع للخطيب (2/383) .
(3) فتح المغيث (1/236) .
(4) المصدران السابقان، وعني بالجهال من لا علم لهم بالعلل.
(5) الجامع للخطيث (2/384) .
(1/15)
الرجل فاتفقت كلماتهم. فقال: «أشهد أن هذا العلم إلهام» (1) .
وقال نعيم بن حماد لابن مهدي: «كيف تعرف صحيح الحديث من سقيمه؟ قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ» (2) .
وقال الحاكم: «إن الصَّحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنَّما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السَّماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصَّحيحة غير المخرَّجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم، لزم صاحب الحديث التَّنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته» (3) .
وقال ابن رجب عن الحفَّاظ: «فإنَّ هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختصُّ البصير الحاذق بمعرفة النُّقود، جيِّدها ورديئها ومشوبها ... ، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبِّر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلاً لغيره» ، قال: «وبكل حال، فالجهابذة النُّقاد والعارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جداً ... » (4) .
وقوله: «لا يقيم عليه دليلاً لغيره» ، أراد به الدَّليل القطعي اليقيني على ما ذكر من وَهْمٍ أو خطأ للراوي. أما الدليل بالقرائن والخبرة فهذا ما لا
_________
(1) المعرفة للحاكم (ص113) والجامع للخطيب (2/384) ، وقد عبر السخاوي عن ذلك بتعبير آخر فقال: «أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم ردُّه، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها» - فتح المغيث (1/274) ، وفي عبارته شيء، فلو عبر بما عبر السلف لكان أولى وأدق.
(2) الجرح (1/252) والمجروحين (1/32) .
(3) المعرفة للحاكم (ص59-60) .
(4) جامع العلوم (27) .
(1/16)
يُنفى علمهم به.
وقال ابن قيِّم الجوزية: «وربَّما يظنُّ الغالط الذي ليس له ذَوق القوم ونقدهم أَنَّ هذا تناقضٌ منهم، فإنهم يحتجُّون بالرَّجل ويوثقونه في موضع، ثم يضعِّفونه بعينه ولا يحتجُّون به في موضع آخر. ويقولون: إن كان ثقة وجب قبول روايته جملة، وإن لم يكن ثقة وجب ترك الاحتجاج به جملة. وهذه طريقة فاسدة مُجمعٌ بين أهل الحديث على فسادها، فإنهم يحتجُّون من حديث الرجل بما تابعه غيره عليه وقامت شهوده من طرقٍ ومتونٍ أخرى، ويتركون حديثه بعينه إذا روى ما يخالف النَّاس أو انفرد عنهم بما لا يتابعونه عليه. إذِ الغلط في موضع لا يوجب الغلط في كل موضعٍ والإصابة في بعض الحديث أو في غالبه لا توجب العصمة من الخطأ في بعضه ولا سيَّما إذا عُلم من مثل هذا أغلاطٌ عديدةٌ ثم روى ما يخالف النَّاس ولا يتابعونه عليه فإنَّه يغلب على الظن أو يجزم بغلطه.
وهنا يعرِض - لمن قَصُرَ نقدُهُ وذَوقه عن نقد الأئمَّة وذوقهم في هذا الشَّأن - نوعان من الغلط ننبِّه عليهما لعظيم فائدة الاحتراز منهما:
1. أحدهما: - أن يرى مثل هذا الرَّجل قد وثق وشهد له بالصدق والعدالة أو خرج حديثه في الصَّحيح فيجعل كلَّ ما رواه على شرط الصَّحيح، وهذا غلط ظاهر فإنه إنَّما يكون على شرط الصَّحيح إذا انتفت عنه العلل والشُّذوذ والنَّكارة وتوبع عليه فأما مع وجود ذلك أو بعضه فإنه لا يكون صحيحاً ولا على شرط الصَّحيح. ومن تأمَّل كلام البخاري ونظرائه في تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم في صحيحه، علم إمامته وموقعه من هذا الشأن وتبيَّن به حقيقة ما ذكرنا.
2. النوع الثاني من الغلط: - أن يرى الرَّجل قد تكلِّم في بعض حديثه
(1/17)
وَضُعِّفَ في شيخ أو في حديث فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد كما يفعله بعض المتأخِّرين من أهل الظَّاهر وغيرهم وهذا أَيضاً غلط. فإن تضعيفَه في رجل أو في حديث ظهر فيه غلطُه لا يوجب التَّضعيف لحديثه مطلقاً. وأئمَّة الحديث على التَّفصيل والنَّقد واعتبار حديث الرَّجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثِّقات. وهذه كلمات نافعة في هذا الموضع، تبيِّن كيف يكون نقد الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه ومعلوله من سليمه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورَاً فَمَا لَهُ من نُورٍ) » (1) .
والنَّص التالي عن أبي حاتم الرَّازي - على طوله - يبيِّن أهمية هذا العلم وصعوبته، بل وغرابته أَيضاً على عموم النَّاس، حيث قال: «جاءني رجل من جلِّة أصحاب الرَّأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه عليَّ، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال: من أين علمت أَنَّ هذا خطأ وأَنَّ هذا باطل وأَنَّ هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأنَّي غلطت وأنَّي كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا! ما أدري هذا الجزء من رواية مَن هو؟ غير أني أعلم أَنَّ هذا خطأ، وأَنَّ هذا الحديث باطل، وأَنَّ هذا الحديث كذب فقال: تدَّعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادِّعاء الغيب، قال: فما الدَّليل على ما تقول؟ قلت: سلْ عمَّا قلتُ مَنْ يحسن مثلَ ما أحسنُ فإن اتفقنا علمت أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثلَ ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثلَ ما قلتَ؟ قلت: نعم. قال: هذا
_________
(1) الفروسية (ص44-45) ، وفي النسخة أغلاط كثيرة أصلحت من طبعة أخرى.
(1/18)
عجبٌ! فأخذ فكتب في كاغدٍ (1) ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلَّم به أبا زرعة في تلك الأحاديث. فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: هو كذب. قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما. فقلت: فقد دلَّك، أنَّا لم نجازف، وإنَّما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدَّليل على صحة ما نقوله، بأنَّ ديناراً نَبَهْرَجاً (2)
يحمل إلى النَّاقد فيقول: هذا دينار نَبَهْرَج، ويقول لدينار: هو جيد فان قيل له: من أين قلت أَنَّ هذا نبهرج! هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا فان قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار قال: لا، قيل: فمن أين قلت: أَنَّ هذا نَبَهْرَج؟ قال: علماً رزقت. وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك. قلت له: فتحمل فصَّ ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج ويقول لمثله: هذا ياقوت، فان قيل له: من أين علمت أَنَّ هذا زجاج وأَنَّ هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيَّأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأَنَّ هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه» اهـ.
قال ابن أبي حاتم عَقِبَ ذلك: «تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنه مغشوش ويعلم جنس الجوهر بالقياس
_________
(1) الكاغد القرطاس، كذا في القاموس (ص402) .
(2) قال ابن الأعرابي: «البَهْرَجُ الدرهم المُبْطَلُ السِّكَّةِ، وكلُّ مردود عند العرب بَهْرَجٌ ونَبَهْرَجٌ. والبَهْرَجُ: الباطلُ والرَّدِيءُ من الشيء» - اللسان (2/217) ..
(1/19)
إلى غيره فان خالفه بالماء والصَّلابة علم أنه زجاج ويقاس صحة الحديث:
أ- بعدالة ناقليه.
ب- وأن يكون كلاماً يصلح (1) أن يكون من كلام النُّبوة.
ويعلم سقمه وإنكاره بتفرُّد مَن لم تصحَّ عدالته بروايته، والله أعلم» (2) .
فأشار - رحمه الله - إلى قرائن معرفة ذلك بالقياس على رواية بقية الرواة، والقياس لا يحسنه كل أحد، ولا يصبر عليه السِّنين إلا القليل.
وقال العلائي: «التَّعليل أمر خفي، لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث دون من لا اطلاع له على طرقه وخفاياه» (3) .
ومما سبق يتبيَّن أَنَّ هذا العلم شاقٌّ وأنَّ معرفة علة الحديث قد لا تظهر إلا بعد سنين.
قال الخطيب: «فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا توقف عليها إلا بعد النَّظر الشَّديد، ومضي الزَّمن البعيد» ، ثم أسند عن ابن المديني قوله: «ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة» (4) .
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في حديث ذكره: «ولم أزل أفتِّش عن هذا الحديث، وهمَّني جدَّاً حتى رأيته في موضع ... » (5) .
_________
(1) هذا القيد مهم جداً في تصحيح الأحاديث التي أسانيدها قوية في الظاهر، وقد غفل عنه كثير من المعاصرين.
(2) الجرح (1/349-351) .
(3) النكت لابن حجر (2/782) .
(4) الجامع للخطيب (2/385) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (2/270) .
(1/20)
وقال أيضاً: «قلت لأبي زرعة: أيهما عندَك أشبه؟ قال: الله أعلم. ثم تفكَّر ساعةً، فقال: حديث الدَّراوردي أشبه ... » (1) .
ولربما رجَّح العالم ما خفي على من هو أعلم منه بالحديث أو ما خالفه هو بعد زمن، كما حصل لأبي حاتم الرَّازي، حيث سأله ابنه عن حديث اختلف فيه، هل هو عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أو عن جابر -رضي الله عنه- قال: «قلت لأبي أيهما أصحُّ؟ قال: عبد الله أصحُّ ... ثم قال ابن أبي حاتم: سألت أبي مرةً أخرى عن هذا الحديث فقال: يحيى القطَّان ومعتمر وغيرهما يقولون عن التَّيمي عن أبي نضرة عن جابر عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أشبه بالصَّواب» (2) .
وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه احمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد أبي أحمد الطَّالقاني عن محمد بن مهاجر عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمى وكانت له صحبة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وارتبطوا الخيل وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوثان) . قال أبي: سمعت هذا الحديث من فضل الأعرج وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي وكان يقع في قلبي أنه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول، وكان أصحابنا يستغربون فلا يمكنني أن أقول شيئاً لما رواه أحمد، ثم قدمت حمص فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة قال حدثني محمد بن مهاجر قال حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (2/266) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (2/416) .
(1/21)
قال أبي: فعلمت أن ذلك باطل وعلمت أن إنكاري كان صحيحاً وأبو وهب الكلاعى هو صاحب مكحول الذي يروى عن مكحول واسمه عبيد الله بن عبيد وهو دون التابعين يروى عن التابعين وضربه مثل الأوزاعي ونحوه فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل كيف خَفِيَ عليه فإني أنكرته حين سمعت به قبل أن أقف عليه» (1) .
وهذا الحافظ ابن حجر على سعة علمه بالعلل وطرق التَّرجيح فيه يقول في حديث: «وقد رجَّح البخاري أنه عن جابر، وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجَّحا أنه عن أبي هريرة، ولم يظهر لي في ذلك ترجيح، والله أعلم» (2) .
وكان هذا العلم ذا أهمية وصعوبة لعدَّة أمور منها:
1- أنه يتعلق بكلام رسول -صلى الله عليه وسلم-، «والثقة إذا حدَّث بالخطأ، فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ، يعمل به على الدَّوام للوثوق بنقله، فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشرع» (3) .
2- ظهور صحة الحديث بالنَّظر إلى ظاهر السَّند والمتن، وفي هذه الحالة يبعد لدى النَّاظر احتمال وجود علة خفية، ويكثر وقوعه ممن أكثر من الحكم على الأحاديث من المتأخِّرين كالسّيوطي ومن سار على نهجه في التَّصحيح بظواهر الأسانيد فحسب، أو بتتبع الشَّواهد دون تمحيصها وتتبع عللها الخفيَّة، أو أهمل إعلال الأئمَّة لها اتكالاً على قوة الطُّرق عنده وكثرة الشَّواهد.
_________
(1) العلل لابن أبي حاتم (2/312) .
(2) الفتح (2/611) .
(3) الفتح (1/265) حديث (107) .
(1/22)
3- اختلال العمل بمنهج المحدثين قرناً بعد قرن، باعتماد كثير من المتأخِّرين على ظواهر الأسانيد من حيث لا يشعرون، ودخول علم المنطق في علوم الحديث من خلال كتب المصطلح المتأخِّرة خاصَّة، فأهمية إبراز علة الحديث تزداد بقدر ذلك الاعتماد المشار إليه.
4- تفرُّق كثير من الأحاديث المعلَّة في بطون عشرات الكتب، ولا شكَّ أن التَّنقير عن ذلك واستخراجه من الصُّعوبة بمكان.
وهذا العلم قد قلَّ من يفهمه ويُعنى به في العصور السَّابقة، فكيف بهذا الزمن قال أبو حاتم: «جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قلَّ من يفهم هذا، ما أعزَّ هذا. إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقلَّ أن تجد من يحسن هذا ... » (1) .
وقال ابن حجر: «لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم» (2) .
ولا يفهم من النصوص السابقة في صعوبة علم العلل وغرابته أنه لا قيام لشأنه بعد رحيل أهله الأوائل. فإن أصوله وقواعده باقية وطرائق أصحابه متداولة، تعتمد على الفهم والذكاء والخبرة وطول الممارسة ودقة التنقير.
وقد تصعب العلة وتدق، بحيث لا يقدر على حل رمزها وكشف
_________
(1) الجرح (1/356) .
(2) النكت (2/711) .
(1/23)
غامضها إلا القليل من أهل هذا العلم.
وليتنبه إلى أن أهمية علم العلل لا يعني نشر هذا العلم بين العامة، لعدم فهمهم حقيقته، ولاحتمال ورود الشك عندهم في الحديث وأصوله.
قال أبو داود: «ضررٌ على العامة أن يكشف لهم كلُّ ما في هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا» (1) .
* * *
_________
(1) رسالة أبي داود لأهل مكة (ص30) .
(1/24)
3- أقسام الحديث المعل:
تنوعت أساليب العلماء في تقسيم الأحاديث المعلَّة على ما يلي:
1. تقسيمها - حسب أثر العِلَّة - قسمين اثنين هما:
أ- علة قادحة، كالإرسال في السَّند، وتغيير المعنى في المتن (1) .
ب- علة غير قادحة، كتعيين الصَّحابي (2) .
وهذا التقسيم عبر عنه ابن حجر بـ: «مراتب العلل» (3) .
2. تقسيمها حسب موضعها إلى علل في السَّند وعلل في المتن.
أ- فمن علل السَّند: - رفع الموقوف ووصل المنقطع وإبدال راوٍ بآخر وإسقاط راوٍ أو زيادته وإبدال سند بآخر أشهر منه، ونحو ذلك.
ب- ومن علل المتن: - إدراج متن بآخر، والرِّواية بالمعنى مع تغيير
_________
(1) هذه النوع الأخير قليل جداً في الأحاديث المعلة بحمد الله، مما يدلُّ على اهتمامهم بألفاظ الحديث أكثر من الأسانيد، ومن أشهر الأمثلة في ذلك قول ابن أَبي حاتم في علله (1/64و66) : «سألت أَبي عن حديث رواه علي بن عياش عن شعيب بن أَبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كان آخر الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار. فسمعت أَبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل كتفاً ولم يتوضأ، كذا رواه الثقات عن ابن المنكدر عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيبٌ حدَّث به من حفظه فوهم فيه» .
(2) النكت لابن حجر (2/746-747) .
(3) الفتح (10/631) .
(1/25)
المراد، ومخالفة الصَّحابي لما رواه، والتَّفرد بزيادة في المتن.
3. تقسيم ينظر فيه إلى قوة تأثير العِلَّة في الحديث على التالي:
أ- ما يغلب على الظَّنِّ قبول علته.
ب- ما يغلب على الظَّنِّ رده.
ج- ما يجزم بِرَدِّه.
د- ما يتوقف فيه لقوَّة تردُّده (1) .
وهذا التَّقسيم مرتبط بقرائن التَّعليل الآتي ذكرها بعد، وعلى هذا اختلف العلماء في اعتبار العلة وعدم اعتبارها، استناداً على قوة العِلَّة وأثرها في صحة الحديث، مع احتمال اتفاقهم على وجود أصل العِلَّة في حديث معين.
4. تقسيم بالنَّظر إلى نوع العِلَّة الظَّاهرة - وجعل كل قسم نوعاً من أنواع علوم الحديث - ومن هذه الأقسام:
1- اختلاف الوصل والإرسال.
2- المضطرب (2) .
_________
(1) نصب الراية (1/237) .
(2) قال ابن حجر: «الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربا إلا بشرطين:
1- أحدهما استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قدِّم ولا يعلُّ الصحيح بالمرجوح.
2- ثانيهما - مع الاستواء - أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك» - هدي الساري (ص509) .
(1/26)
3- زيادة الثِّقَات (1) .
4- الشَّاذ (2) والمنكر.
5- المقلوب (3) .
6- المدرج (4) .
7- المزِيد في متَّصل الأسانيد.
8- المصحَّف والمحرَّف.
وواضح أن هذه الأنواع جزء من الحديث المعل (5) وإن اشتهر عند علماء المصطلح إفرادها في أبواب مستقلة وهي في الواقع جزء من العلل - الذي جعلوه مستقلاً - لأمور منها:
1- أن الذين ألَّفوا في العلل أو تكلَّموا فيها عَرَضَاً، قد ذكروا أحاديث
_________
(1) هذا المبحث من أشكل مسائل علم العلل، وسيأتي تفصيل القول فيه عند الكلام عن قرينة الحفظ (ص 37) .
(2) قليل جداً استخدام المحدثين السابقين لهذه اللفظة فيما اصطلح عليه بعد، أما النوعان السابقان فكثيران جداً في الأحاديث المعلة كما هُوَ معلوم لمن نظر في كتب العلل وغيرها.
(3) ممن ذكر هذا النوع في التعليل ابن أَبي حاتم (1/70و151و2/24) عن أبيه، والدارقطني (5/89) كلاهما في علله.
(4) ممن ذكر هذا النوع في التعليل ابن المديني (ص77) وابن أَبي حاتم (2/149) والدارقطني (2/95) في عللهم.
(5) أما قول الحاكم في المعرفة (ص119و120) بأن الشاذ يغاير المعلل من حيث إن المعلل وقف على علته بخلاف الشاذ، فلا دليل عليه من صنيع من سلف، ولم يفصل الحاكم في دليله، بل إنه أسند عقب كلامه عن الشافعي أنه قيد الشاذ بقيدين هما: -
1- المخالفة.
2- من الثقة خصوصاً، وهذا جزء من علم العلل كما سبق، وأكثر الروايات الشاذة قد عرف سبب شذوذها، وقول الشافعي بالمخالفة يدل على خلاف كلام الحاكم.
(1/27)
فيها أكثر ما تقدَّم.
2- أن هذه الأنواع إنَّما عرفت بالنَّظر إلى رواية المخالف، وهذا بلا شك داخل في علم علل، حيث إنَّه يقوم على جمع الرِّوايات، والنَّظر في الاختلاف، ومن ثم الحكم كما سيأتي تفصيله فيما بعد (1) .
3- أن في الحكم على حديث بشيء من الأنواع السَّابقة في بعضه تعليل لسند ظاهره الصِّحة، اضطُّلع على علته الخفية بالاعتبار، ويبقى بعد التَّعليلِ النَّظرُ في أثر العِلَّة، أقادحة هي أم لا.
4- أنَّ إفراد جزء من علم بالتأليف، لا يعني أنه مستقل عنه في قواعده. فإفراد علماء الحديث السَّابقين بعض جزئيات العلل بالتأليف لا يفهم منه أنه علم مستقل يذكر بجانب علم العلل في كتب المصطلح.
ومن المآخذ المترتبة على إهمال ما سبق أمران:
1- أنه عند التَّمثيل بأحاديث معلَّة لا تذكر بعض الأنواع السَّابقة، لأنها من علم آخر - اصطلاحاً - عند البعض.
2- أن ذلك قد يُوحي لدى البعض أيضاً أن قواعد هذه الأنواع وأسس التَّرجيح فيها غير التي في علم العلل. وهذا غير صحيح باعتبار الأصل، وإن كان قد يتميَّز كل نوع بجزئية تخصُّه لا تخرجه عن أصل علم العلل، ونوع المدرج يبين صحة ما سبق ذكره، حيث ظن البعض أن الرواية التي تبين الإدراج فاصلة في الأمر، وأغفل قرائن قبولها أو ردِّها، فليس كل من ميز وبين الإدراج في الرواية يقبل قوله إذا خالف من هو أرجح.
_________
(1) (ص25) .
(1/28)
ولعل إفرادهم هذه الأنواع من باب جمع الأمثلة المتشابهة، وفي هذا لطافة علمية ظاهرة وتجديد، وممن قام بذلك الحافظ ابن حجر، فقال السَّخاوي: «وقد أفرد شيخنا من هذا الكتاب - أي علل الدَّارقطني - ما له لقب خاص كالمقلوب والمدرج والموقوف، فجعل كلاً منها في تصنيف مفرد، وجعل العلل المجرَّدة في تصنيف مستقل ... » (1) .
وذكر ابن حجر (2) والسَّخاوي (3) أن في العلل للدَّارقطني أمثلة للمضطَّرب. وقال الصَّنعاني عن علمي العلل والمضطَّرب: «والبحثان متقاربان، والاضِّطراب نوع من العلل» (4) .
وذكر أبو عبد الله الحاكم أجناساً كثيرةً للعلل تمثيلاً فحسب (5) .
وقال ابن حجر عند قول ابن الصلاح "ويصلح مثالاً للمعلل": «لا يختصُّ هذا بهذا المثال، بل كلُّ مقلوب لا يخرج عن كونه معللاً، أو شاذاً، لأنه إنما يظهر أمره بجمع الطُّرق واعتبار بعضها ببعض، ومعرفة من يوافق ممن يخالف ... » (6) .
فالحاصل أنَّ كلَّ اختلاف على الرَّاوي داخل في علم العلل بصنيع من سلف من علماء الحديث وعلله، سواء كان الاختلاف قادحاً أم لا، وسواء
_________
(1) فتح المغيث (1/275) .
(2) النكت لابن حجر (2/774) .
(3) فتح المغيث (1/275) .
(4) توضيح الأفكار (2/37) .
(5) المعرفة للحاكم (ص113-119) .
(6) النكت لابن حجر (2/874) .
(1/29)
كان في السَّند أم المتن. وأما إدخال روايات الضُّعفاء في كتب العلل فلأَنَّ هذا يسمى علة من حيث الأصل، ولأنَّ الاصطلاح لم يستقرَّ بعد، والأمر سهل، ولا مشاحة في الاصطلاح، إن لم يترتب على ذلك تأثير في النهج العلمي التطبيقي، والحاجة إلى تنويع العلم وتقسيمه من سمات العصور المتأخرة - كما هو معلوم - في شتى العلوم، والإنكار على هذا فيه تشديد.
* * *
(1/30)
4 - المؤلفات في العلل:
لعل ما أُلِّفَ في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أكثر المؤلفات التي تركها علماء السَّلف الصالح لمن بعدهم. ومن بين هذه المؤلَّفات ما كتبه المحدثون في علل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. إلا أنَّ ما ألِّف في العلل قليل بالنِّسبة لبقية تلك المؤلَّفات، كما أنَّ ما سَلِم منها وبقي حتى الآن لا يكاد أن يذكر كذلك. ولا شكَّ أَنَّ هذا يترك شيئاً من الحزن في قلب أهل العلم، أن فاتهم ما فيها من علم.
قال الخطيب وذكر مصنفات ابن المديني: «وجميع هذه الكتب قد انقرضت ولم نقف على شيء منها إلا على أربعة أو خمسة حسب ولعمري إنَّ في انقراضها ذهاب علوم جمة وانقطاع فوائد ضخمة» (1) .
وقال أَيضاً بعد ذكر العشرات من كتب ابن حبان المفقودة: «مثل هذه الكتب الجليلة كان يجب أن يكثر بها النسخ ويتنافس فيها أهل العلم ويكتبوها لأنفسهم ويخلدوها أحرازهم، ولا أحسب المانع من ذلك إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد لمحل العلم وفضله وزهدهم فيه ورغبتهم عنه وعدم بصيرتهم به، والله أعلم» (2) .
ولا شكَّ أنَّ هذه المؤلفات تعطي لنا تصوراً مجملاً عن نشأة علم
_________
(1) الجامع للخطيب (2/467) .
(2) الجامع للخطيب (2/471) .
(1/31)
العلل، وأنه بدأ في عصر مبكر جداً بالنِّسبة لبقية علوم الحديث التي فرَّعها علماء الحديث بعد سنين من بداية نشأتها. فبينما انتشرت كثير من فروع علوم الحديث بعد زمن، فإنَّ علم العلل - على قدم نشأته - قوبل بعكس ذلك، حيث قلَّ الاهتمام به وضعُف جانبه كثيراً، مع قول علماء الحديث بأهميته وعظم شأنه بين علوم الحديث!!
ومن أشهر المؤلفات في علل الحديث ما يلي:
1. العلل لعبد الله بن المبارك (1) .
2. علل الحديث ليحيى القطان (2) .
3. العلل ليحيى بن معين (3) .
4. العلل لابن المديني، بعدة روايات عنه (4) ، في عدة أجزاء (5) ، وله أَيضاً علل حديث ابن عيينة في (13) جزءاً.
5. العلل لأحمد بن حنبل، بعدة روايات عنه (6) ، طبع بعضها. ويغلب عليها الجرح والتَّعديل ومسائل فقهية وغير ذلك، جمعها الخلال في ثلاثة مجلدات، جمع فيها ما تفرق من الرِّوايات عن أحمد. انتخب منه ابن
_________
(1) ذكره مغلطاي في إكماله (11/148) ، وأشك في التسمية أو النسبة.
(2) شرح العلل لابن رجب (2/805) وتسمية ما ورد به الخطيبُ دمشقَ (89) .
(3) شرح العلل (2/805) .
(4) كرواية ابنه عبد الله بن علي عنه، ذكرها حمزة في سؤالاته للدارقطني (323) .
(5) سؤالات حمزة السهمي (323) وتاريخ بغداد (6/280و10/9) والكفاية (ص379) والجامع للخطيب (2/466و467) والمعرفة للحاكم (ص71) ، ولعل المطبوع برواية ابن البراء جزء من هذه العلل.
(6) سردها الذهبي في السير (11/330-331) .
(1/32)
قدامة، وطبع بعضه.
6. علل الحديث ومعرفة الشيوخ لابن عمَّار الشَّهيد الموصلي (1) . وله علل أحاديث صحيح مسلم أَيضاً، وهو مطبوع.
7. العلل لأبي حفص الفلاس (2) .
8. العلل للبخاري، ذكره أبو القاسم بن منده، وذكر أنه يرويه عن محمد بن عبد الله بن حمدون عن أبي محمد عبد الله بن الشرقي عنه (3) . وكتابه التاريخ الكبير من أهم مصادر العلل وتراجم الرُّواة وغير ذلك.
9. علل حديث الزُّهري لمحمد بن يحيى الذُّهلي (4) ، برواية الخفَّاف (5) .
10. العلل لمسلم بن الحجاج (6) .
11. التمييز لمسلم أَيضاً، طبع جزءٌ منه برواية مكي بن عبدان، وهو من كتب العلل كما ذكر الخطيب (7) .
_________
(1) تاريخ بغداد (5/417) وقال ابْنُ حَجَرٍ في ترجمته عن أحد تلاميذه: «الحسين بن إدريس الهروي له عنه سؤالات في العلل والرجال» - التهذيب (3/610) .
(2) تسمية ما ورد به الخطيب دمشق (88) .
(3) هدي الساري (ص686) والمعجم المفهرس لابن حجر (ل66) وصلة الخلف للروداني (ص303) .
(4) نقل منه ابن خزيمة في صحيحه (2/126) وفي سؤالات السلمي (231) ، ونقل قول الدارقطني: «من أحب أن يعرف قصور علمه عن علم السلف فلينظر في علل الزُّهْرِي» .
(5) فهرست ابن خير (ص203) .
(6) الفهرست للنديم (1/322) وصيانة صحيح مسلم لابن الصلاح (ص59) وتذكرة الحفاظ (1/590) .
(7) الجامع لخطيب (2/273) وصيانة صحيح مسلم لابن الصلاح (ص59) .
(1/33)
12. المسند المعلل ليعقوب بن شيبة (1) ، عثر على قطعة منه من مسند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وهو برواية حفيده أبي بكر محمد بن أحمد بن يعقوب، وقد طبع ما وجد منه.
13. العلل لأبي زرعة الرَّازي (2) .
14. العلل لأبي بشر إسماعيل بن عبد الله الأصبهاني، المعروف بسمُّويه (3) .
15. العلل لأبي حاتم الرَّازي، برواية محمد بن إبراهيم الكتَّاني (4) .
16. العلل لابن ماجة القزويني (5) .
17. العلل الكبير برواية أبي حامد التَّاجر أحمد بن عبد الله المروزي، والعلل الصَّغير، وهما لأبي عيسى التِّرمذي (6) .
18. العلل لأبي إسحاق إبراهيم الحربي (7) .
_________
(1) تكلم عنه الخطيب في تاريخه (14/281) .
(2) تسمية ما ورد به الخطيب دمشق (85) .
(3) فتح المغيث للسخاوي (3/311) .
(4) الإعلام (ص435-436) وتوضيح المشتبه (1/225و5/185و7/174) كلاهما لابن ناصر الدين الدمشقي.
(5) ذكره الزركشي في التذكرة (ص218- الباب الثامن في الفتن) ، ونقل منه نصاً!
(6) طبع الكبير بترتيب أَبي طالب القاضي التميمي، أما الصغير فمطبوع آخر الجامع، وشرحه ابن رجب الحنبلي.
(7) التهذيب لابن حجر في عدة مواضع منها (1/61) ، والإكمال (4/42و8/10و11/210) وشرح سنن ابن ماجة (1/225) كلاهما لمغلطاي وحاشية البوصيري على تحفة التحصيل لابن العراقي (ص261) .
(1/34)
19. العلل لابن أبي عاصم (1) .
20. المسند الكبير المعلل، لأبي بكر البزَّار - برواية محمد بن أيوب الصَّموت -، وقد طبع بعضه باسم: «البحر الزَّخار» .
21. العلل لأبي علي عبد الله بن محمد البلخي الحافظ (2) .
22. العلل لأبي إسحاق إبراهيم بن أبي طالب النَّيسابوري (3) .
23. العلل لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة (4) .
24. مسند حديث الزُّهري بعلله والكلام عليه للنَّسائي (5) .
25. العلل لزكريا السَّاجي (6) .
26. العلل لأبي جعفر العُقيلي (7) .
27. العلل لابن أبي حاتم الرَّازي، مطبوع، وراويه هو أبو أحمد الحسين بن علي التميمي (8) . وقد شرع ابن عبد الهادي في وضع شرح عليه (9) ، فاخترمته المنيَّة بعد أن كتب منه
_________
(1) ذكره في الآحاد في عدة مواضع منها (1/238و240و317) .
(2) السير (13/529) .
(3) السير (13/550) .
(4) الفهرست للنديم (1/320) .
(5) فهرست ابن خير (ص145) .
(6) الكامل لابن عدي (1/430) وتاريخ بغداد (1/349) ونقل منه اللالكائي في السنة (1366) ، وقال الذهبي عنه إنه كتاب جليل يدلُّ على تبحُّره في هذا الفن - التذكرة (2/710) .
(7) ذكره في الضعفاء (4/351) .
(8) تاريخ بغداد للخطيب (9/67-68) .
(9) وقد طبع ما وجد منه.
(1/35)
مجلداً على يسير منه (1) .
28. العلل لأبي علي النَّيسابوري (2) .
29. علل حديث الزُّهري في (20) جزءاً، وعلل حديث مالك في (10) أجزاء، وعلل ما أسند أبو حنيفة في (10) أجزاء، وما خالف الثوريُ شعبة في (3) أجزاء، وما خالف شعبة الثوريَ في جزأين، وموقوف ما رفع، وكلها لابن حبَّان البستي (3) .
30. المسند الكبير المعلل لأبي علي الماسرجسي، في (1300) جزء (4) .
31. العلل لأبي الحسين محمد بن محمد الحجَّاجي (5) .
32. العلل لأبي أحمد الحاكم الكرابيسي (6) .
33. العلل، والتتبع للدَّارقطني، وهما مطبوعان.
34. الأجوبة لأبي مسعود الدِّمشقي، أجاب فيها عن انتقادات الدَّارقطني على صحيح مسلم، وهو مطبوع.
35. العلل لأبي عبد الله الحاكم (7) .
_________
(1) فتح المغيث للسخاوي (3/311-312) .
(2) الجامع للخطيب (2/273) .
(3) الجامع للخطيب (2/468) .
(4) السير للذهبي (16/288) .
(5) تاريخ بغداد للخطيب (3/223) .
(6) السير (16/372) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/976) .
(7) ذكره في المدخل إلى الصحيح (110) .
(1/36)
36. تمييز المزِيد في متَّصل الأسانيد (1) ، والفصل للوصل المدرج في النَّقل وهو مطبوع، وهما للخطيب.
هذه أهم الكتب التي ذكرت في علم العلل حتى عصر الخطيب، الذي قال عنه ابن نقطة: «لا شبهة عند كلِّ لبيب أن المتَّأخرين من أَصحاب الحديث عيالٌ على أبي بكر الخطيب (2) .
* * *
_________
(1) ذكره في كتابه الموضح (1/285) وقال عنه ابن رجب إنه مصنَّف حسن - شرح العلل (1/427) .
(2) التقييد لابن نقطة (1/170) .
(1/37)
============


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
قواعد العلل وقرائن الترجيح
5 - طرق معرفة علة الحديث:
هذا المبحث من أهم المواضيع في علم العلل، لأنه الثَّمرة والُّلب في تلك الدِّرَاسَة، وهو كذلك من أصعب مسائله.
وقبل الحديث عنه يستحسن معرفة سبب إعلال الأئمة للحديث.
والجواب عنه بأن السبب الباعث على إعلالهم للمرويات التي ظاهر سندها الصحة هو: "الغرابة".
وسبب هذا الاستغراب أمران هما: - المخالفة والتفرد.
ولذا اشتد نكير المحدثين على من اعتمد أو تتبع الأحاديث الغرائب والأفراد والفوائد، لتضمن أكثرها المعلَّ من الأحاديث.
قال أحمد: «إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون هذا الحديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث» .
وقال أيضاً: «تركوا الحديث، وأقبلوا على الغرائب، ما أقلَّ الفقه فيهم» .
وقال أيضاً: «شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها» (1) .
وقال ابن معين: «ما أكذب الغرائب» (2) .
_________
(1) الكفاية (ص172) .
(2) رواية الدوري (541) .
(1/39)
فالمخالفة والتفرد تستدعي استغراب العالم، والغرابة تدل على بعض المخالفة. سواء كانت في السند أو المتن.
وأهم الأسباب التي قد تذكر في أسباب الإعلال راجعة - فيما يظهر لي - إلى سبب واحد هو المخالفة، وينشأ عنها كثيراً لا دائماً: التفرد، فبالاهتمام بهما، يتمكن المرء من دراسة تعليلات العلماء ومعرفة علة الحديث وطريقة ذلك.
وطريقة معرفة علة الحديث إجمالاً تعتمد على أمور ثلاثة:
1- جمع طرق الحديث المختلفة بتوسع عند الحاجة.
2- تحديد مدار الخلاف على من يكون، والنَّظر في كل رواية هل فيها خلاف آخر. والنَّظر في حال رواتها وبلدانهم واختصاصهم بالرَّاوي المختلف عليه. قال ابن حجر: «مدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف» (1) ، ويتنبه إلى التأكد من سلامة المرويات جملة، وأن الاختلاف على أصحاب المدار غير مؤثر في أصل الخلاف، وإلا احتاج إلى دراسة مستقلة.
3- التَّرجيح بين الرُّواة أو الجمع بين رواياتهم على أسس علمية وقواعد منهجية مستنبطة من صنيع علماء العلل السَّابقين فحسب، دون نظر إلى قواعد المنطق واحتمالات العقل.
وإلى هذا أشار الخطيب البغدادي بقوله: «والسَّبيل إلى معرفة علة الحديث:
_________
(1) النكت (2/711) .
(1/40)
1- أن تجمع بين طرقه.
2- ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضَّبط» (1) .
أما الأمر الأول: - فمن شواهده من كلام المحدِّثين السَّابقين قول ابن المبارك: «إذا أردت أن يصحَّ لك الحديث، فاضرب بعضه ببعض» (2) .
وقال أحمد: «الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ... » (3) .
وقال ابن المديني: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه» (4) .
وقال ابن معين: «اكتب الحديث خمسين مرةً، فإن له آفاتٍ كثيرة» .
وقال أَيضاً: «لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه» (5) .
ويوضِّحه قوله أيضاً: «إنَّ حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميِّز خطأَه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء، علمت أن الخطأ من حماد نفسه (6) ، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم خلافهم، علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميِّز بين ما أخطأ هو بنفسه، وبين ما أُخْطِئَ عليه» (7) .
_________
(1) الجامع للخطيب (2/452) .
(2) الجامع للخطيب (2/452) .
(3) المجروحين لابن حبان (1/33) والجامع للخطيب (2/315) .
(4) الجامع للخطيب (2/316) .
(5) المجروحين لابن حبان (1/33) والضعفاء لابن شاهين (ص42) والجامع للخطيب (2/315) والإرشاد للخليلي (2/595) .
(6) تأتي قصة تدل على هذا التقعيد (ص 28) .
(7) المجروحين لابن حبان (2/32) ، وأعلها الذهبي بالانقطاع - السير (7/456) .
(1/41)
قال الميموني: «تعجب إليَّ أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل ممن يكتب الاسناد ويدع المنقطع، ثم قال: وربما كان المنقطع أقوى إسنادا وأكبر! قلت: بينه لي كيف؟ قال: تكتب الإسناد متصلاً وهو ضعيف ويكون المنقطع أقوى إسناداً منه وهو يرفعه ثم يسنده وقد كتبه هو على أنه متصل وهو يزعم أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه لو كتب الاسنادين جميعاً عرف المتصل من المنقطع يعني ضعف ذا وقوة ذا» (1) .
وقال أبو حاتم: «لو لم نكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه» (2) .
وهذه القصة على طولها تدلُّ على ما ذكر من النَّظر إلى مَن أخطأ ومَن أُخْطِئَ عليه. قال عبد الرحمن بن مهدى: «ما رأيت صاحب حديث أحفظ من سفيان الثَّوري حدَّث يوماً عن حماد بن أبى سليمان عن عمرو بن عطيَّة عن سلمان الفارسي قال: البصاق ليس بطاهر. فقلت: يا أبا عبد الله هذا خطأ! فقال لي: كيف! عمَّن هذا؟ قلت: حمَّاد عن ربعي عن سلمان. قال: من يحدَّث به عن حماد؟ قلت: حدثنيه شعبة عن حمَّاد عن ربعي، قال: أخطأ شعبة فيه ثم سكت ساعة، ثم قال: وافق شعبة على هذا أحد، قلت، نعم، قال: من؟ قلت: سعيد بن أبى عروبة وهشام الدَّسْتَوائي وحمَّاد بن سلمة، فقال: أخطأ حماد هو حدثني عن عمرو بن عطيَّة عن سلمان، قال عبد الرحمن: فوقع في نفسي، قلت: أربعة يجتمعون على شيء واحد. يقولون عن حماد عن ربعي، فلما كان بعد سنة أخرى سنة إحدى وثمانين ومائة أخرج إليَّ غندر كتاب شعبة فإذا فيه عن حماد عن ربعي،
_________
(1) الجامع للخطيب (1576) .
(2) فتح المغيث (2/370) .
(1/42)
وقد قال حمَّاد مرة: عن عمرو بن عطيَّة، قال عبد الرحمن: فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله. كنت إذا حفظت الشَّيء لا تبالي من خالفك» (1) .
وقال أيوب السَّختياني: «إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره» (2) .
وبما ذُكر ظهرَ علم الجرح والتَّعديل وعلم العلل.
قال أبو زرعة: «نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر، وفي غير مصر، ما أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له» (3) .
ومن رام - في هذا الزمن - جمعَ عُشْرِ ما ذكر أبو زرعة لما استطاع.
فبرواية الغير تظهر علة الحديث غالباً كما قال أبو حاتم الرازي في حديث: «وروى أبو معاوية الضَّرير عن هشام بن عروة فأظهر علة هذا الحديث» (4) .
* * *
6 - طرق معرفة علة الحديث:
الأمر الثاني: - وهو تحديد المدار الذي حصل عليه الخلاف، فيكون بالنَّظر في الرَّاوي المشترك بين الطُّرق، ومعرفة الوجه الإسنادي الذي يأتي بعد ذكر اسمه، وتحديد الرُّواة الذين اختلفوا عليه في كل إسناد وضمِّ كل راوٍ إلى الرَّاوي الذي وافقه في روايته عن ذلك الشَّيخ نفسه، لذلك الوجه الإسنادي، وتكرار ذلك حتى تتمَّ معرفة الأوجه التي اختلف فيها على ذلك
_________
(1) تاريخ بغداد (9/168) .
(2) سنن الدارمي (649) ، وهذا النص يصلح قاعدة لكل العلوم.
(3) الجرح والتعديل لابن أَبي حاتم (1/335) ، كذا ذكر أبو زرعة، بينما قال أحمد في رواية المروذي (456) : «إيش كان عنده من الحديث» ، ولعله يعني به المرفوع.
(4) المراسيل (ص118) .
(1/43)
الشَّيخ ومعرفة عددها، والتَّنبُّه إلى احتمال وجود خلاف على التَّلاميذ أيضاً، واستبعاد ما قد يظنُّ أنه اختلاف وهو خلاف ذلك، كما لو ذكر أحد الرُّواة الاسم، والآخر ذكر كنيته، فيظنُّ من لا يعرفه التَّعدد.
ومن شواهد هذا الأمر في طلب تحديد المدار قول أبي حاتم في حديثٍ رواه الحُميديُّ عن ابن عيينة: «هذا عندي من ابن عيينة، وابن الطَّبَّاع ثبت، فقال ابنه عبد الرحمن: قلت أنا: حدثنا ابن المقريء عن ابن عيينة كما رواه الحُميديُّ، وحدثنا سعد بن محمد البيروتي قال: حدثنا حامد بن يحيى عن ابن عيينة كما رواه الحُميديُّ. فدلَّ - لاتفاق هؤلاء الثلاثة - أنَّ الخطأ من ابن الطَّبَّاع» (1) .
الأمر الثالث: - الموازنة بين هذه الطُّرق بالفهم والمعرفة، وتطبيق قواعد وطرائق المحدِّثين السَّابقين في التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة، وتنزيل كلامهم في الجزئيات على تلك الرِّوايات، حيث إنَّ كلامهم في تلك الجزئيات بمجموعه يدلُّ على قواعد منهجية ساروا عليها دون خلاف أو اختلاف منهم لها من حيث الأصل، ولا يعني ذلك أنَّ بعض الحفاظ قد لا يخالف إحدى القواعد في حديث ما، فإذا خالف رجعنا إلى الأصل الذي أُخذ من خلال التَّطبيقات المتكرِّرة المتعدِّدة من ذلك الحافظ وبقية الحفاظ الآخرين. ومعرفة هذه القواعد والضوابط والإحاطة بمراتب الرُّواة في شيوخهم ليس بالأمر اليسير.
فإنَّ «حذَّاق النُّقاد من الحفَّاظ لكثرة ممارستهم للحديث - ومعرفة بالرِّجال وأحاديث كل واحد منهم - لهم فهمٌ خاص يفهمون به أَنَّ هذا
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/215) .
(1/44)
الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعلِّلون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنَّما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي اختصوا بها عن سائر أهل العلم» (1) .
واللهُ عز وجل قد خصَّ بمعرفة هذا العلم «نفراً يسيراً من كثيرٍ ممن يدَّعي علم الحديث، فأما سائر النَّاس ممن يدَّعي كلام الحارث المحاسبي (2) والجنيد (3) وذي النُّون (4) وأهل الخواطر، فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به، فحينئذٍ يتكلَّم بمعرفته» (5) .
فإذا ظهر لنا صحة حديث بعد النَّظر في إسناده وطرقه، ووجدنا أن جماعةً من حفَّاظ الحديث على تضعيفه أو تعليله بعلة، بدون خلاف معتبر بينهم، فإنَّه من المتحتِّم علينا الأخذ بقولهم وترك ما عداه، حيث إنَّ «اتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة» (6) .
قال ابن حجر: «فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمَّة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا
_________
(1) شرح العلل لابن رجب (2/757-758) .
(2) هو أبو عبد اللهِ الحارث بن أسد البغدادي شيخ زاهد، مات سنة 243هـ - السير (12/110) .
(3) هو الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القواريري، إمام زاهد، تفقه على أبي ثور، ومات سنة 298هـ - السير (14/66) .
(4) هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل فيض بن أحمد النوري أبو الفيض، روى عن مالك والليث، وروى عنه الجنبد، مات سنة 245هـ - السير (11/532) .
(5) شرح العلل لابن رجب (1/34) .
(6) قاله أَبُو حاتم فيما نقله عنه ابنه في المراسيل (307) .
(1/45)
صحَّحه ... ، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلَّل ... ، وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه» (1) .
والسبب في ذلك أن الله عز وجل «بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقَّاداً تفرَّغوا، فأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين. فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النَّظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفَّاظ الوقت، مع الفهم، وجودة التَّصور، ومداومة الاشتغال، وملازم التقوى والتواضع، يوجب لك - إن شاء الله - معرفة السُّنن النبوية، ولا قوة إلا بالله» (2) .
قال ابن تيمية: «وقد يترك- أي البخاريَّ أو مسلماً - من حديث الثِّقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظنُّ من لا خبرة له أنَّ كلَّ ما رواه ذلك الشَّخص يحتجُّ به أصحاب الصَّحيح، وليس الأمر كذلك. فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمَّة الفن ... » (3) .
وقال أيضاً: « ... فإنهم أيضاً يضعِّفون من حديث الثِّقَة الصَّدوق الضَّابط أشياء تبيَّن لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلُّون بها، ويسمُّون هذا "علم العلل"، وهو أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط، وغلط فيه، وغلطه قد عُرِفَ» (4) .
_________
(1) النكت لابن حجر (2/711) .
(2) فتح المغيث للسخاوي (1/274) ، وقوله بالتقليد، أراد به المحمود منه وهو الاقتداء!
(3) مجموع الفتاوى (18/42) .
(4) مجموع الفتاوى (13/352-353) .
(1/46)
وقال ابن القيِّم عند حديث عن مطر الورَّاق: «ولا عيب على مسلمٍ في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضَّرب ما يعلم أنه حفظه (1) ، كما يطَّرح من أحاديث الثِّقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثِّقة، ومن ضعَّف جميع حديث سيِّء الحفظ. فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية طريقة أبي محمد ابن حزمٍ وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشَّأن، والله المستعان» (2) .
وتقوم قواعد المحدِّثين في التعليل والتَّرجيح على قاعدة عامة مهمة تجمع علوم الحديث كلَّها، وهي: «إعمال القرائن للجمع أو الترجيح» .
وهذه القاعدة قد نَصَّ على فحواها جماعةٌ من علماء الحديث والمصطلح.
قال ابن الصَّلاح عن العلل: «ويستعان على إدراكها بتفرُّد الرَّاوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضمُّ إلى ذلك تنبِّه العارف بهذا الشَّأن ... » (3) .
وبنحوه قال العراقيُّ (4) .
فظهر من كلامهما أن العلَّة تدرك بثلاثة أمور هي:
1. التَّفرد، وهو أمر غالبي، فكم من حديث معل رواه اثنان أو ثلاثة، وقد لا يكون فيه مخالفة، فهو أخص من المخالفة من وجه.
_________
(1) يعضده قول الإمام أحمد في حسين بن قيس: «متروك الحديث، وله حديث واحد حسن» - الكامل لابن عدي (3/218) .
(2) زاد المعاد (1/364) .
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص116-التقييد والإيضاح) .
(4) التبصرة والتذكرة للعراقي (1/226) .
(1/47)
2. المخالفة، وهو أخص من التفرد من وجه، فقد يتفرد راوٍ بحديث يعله الحفاظ، ولا يخالف في إسناده أحدٌ، فبينهما عموم وخصوص وجهي.
3. القرائن.
وقال العلائي عند كلامه عن الاختلاف: «فإن استوى مع استواء أوصافهم وجب التَّوقف حتى يترجَّح أحد الفريقين بقرينة من القرائن، فمتى اعتضدت إحدى الطَّريقين بشيء من وجوه التَّرجيح حكم بها، ووجوه التَّرجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها، بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كلُّ حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات» (1) .
وقال ابن عبد الهادي عند ذكر زيادة الثِّقات: « ... وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصُّها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم» (2) .
فَفُهِم مما قال الفرقُ بين الحكم العام والقاعدة الكلية.
وقال ابن حجر: «ثم الوهم إن اطُّلع عليه بالقرائن الدَّالة على وهم راويه من وصل مرسل أو منقطع، أو إدخال حديث في حديث، أو نحو ذلك من الأشياء القادحة، وتحصل معرفة ذلك بكثرة التَّتبع وجمع الطُّرق، فهذا هو المعلَّل» (3) .
_________
(1) النكت لابن حجر (2/712) وتوضيح الأفكار (2/38) ، وسيأتي ضابط هذه الأوجه - من حيث علم العلل - (ص 36) .
(2) نصب الراية (1/336) .
(3) نزهة النظر (ص89) بتصرف.
(1/48)
وقال أيضاً: «والذي يجري على قواعد المحدِّثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والردِّ، بل يرجِّحون بالقرائن» (1) .
وقال: «فتبيَّن أن ترجيح البخاريِّ لوصل هذا الحديث على إرساله لم يكن لمجرد أن الوصل معه زيادة ليست مع المرسل، بل بما يظهر من قرائن التَّرجيح» (2) .
أما قول ابن دقيق العيد عن قبول الزِّيادة: «ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول» (3) ، فلا يفهم منه خلاف ما سبق. لأنه نفى الحكم المطرد (العام) ، وهو ما عبر عنه بقوله: «قانوناً» .
ويوضحه قول البقاعي: «لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنَّما يديرون ذلك على القرائن» (4) .
وخلاصة ما سبق نقله، أنَّ الحكم في علل الحديث ليس قولاً واحداً مطرداً في كلِّ حديث، بل كلُّ حديث له حكم خاص به، يعرف ذلك من قواعد عامة كلية استقرائية، مجموعة من كلام الحفَّاظ، من خلال أحكامهم على الجزئيات، بتلمس الأسباب التي دعتهم إلى ترجيح رواية على أخرى مع سلامة المرجوح ابتداءً.
قال العلائي: «التعليل أمر خفي، لا يقوم به إلا نقاد أئمَّة الحديث
_________
(1) النكت لابن حجر (2/687) .
(2) النكت لابن حجر (2/607) .
(3) النكت لابن حجر (2/604) .
(4) توضيح الأفكار (1/340) .
(1/49)
دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياه» (1) .
* * *
7 - من مهمات علم العلل:
ومما يجب التَّنبُّه له هنا - ويعدُّ من مهمات علم العلل - أمورٌ منها:
الأول: - أن قواعد هذا العلم وأصوله وضوابطه الكلية والفرعية لا تؤخذ إلا عن أهله السابقين الراسخين. فلا تؤخذ عن أقوال المعتزلة وأشباههم ممن ألف في الأصول، وكانوا لا يعرف شيئاً عن الحديث وعلومه، بل إن بعضهم كان عدواً له ولأهله بقوله بردِّ أخبار الآحاد (2) . ومع هذا يتكلَّمون عن قواعد الحديث والرِّواية بكلام منطقي نظري في الأذهان، لا نصيب له في الأعيان.
فكما نأخذ القراءات عن القرَّاء، والفقه عن أهله وهكذا، ولا نتقدَّم على أقوالهم، ومن خالفهم جملةً رُدَّ قولهم وصار خارجاً عن العلم ورسمه، فكذلك يقال لكل من خالف طرائق المحدِّثين السَّابقين تماماً.
قال الإمام مسلم: «أعلم رحمك الله أنَّ صناعةَ الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين بها دون غيره» (3) .
قال ابن القيِّم: «طريق الأصوليين وأكثر الفقهاء أنهم لا يلتفتون إلى علَّةٍ للحديث إذا سلمت طريق من الطُّرق منها فإذا وصله ثقة أو رفعه لا
_________
(1) النكت لابن حجر (2/606) ، وقد سبق.
(2) من أهم مؤلفاتهم في النكاية بأهل الحديث كتاب: "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" لأبي القاسم البلخي المعتزلي، وقد طبع مؤخراً!!
(3) التمييز (ص218) .
(1/50)
يبالون بخلاف من خالفه ولو كثروا، والصَّواب في ذلك مع أئمة هذا الشَّأن العالمين به وبعلله، وهو النَّظر والتَّمهر في العلل والنَّظر في الواقفين والرَّافعين والمرسلين والواصلين أنهم أكثر وأوثق وأخص بالشَّيخ وأعرف بحديثه إلى غير ذلك من الأمور التي يجزمون معها بالعلَّة المؤثِّرة في موضع وبانتفائها في موضع آخر لا يرتضون طريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء» (1) .
الثاني: - أن مصطلح الاختلاف والمخالفة أعمُّ عند المحدِّثين منه عند غيرهم من الفقهاء والأصوليين - ممن لم يمشِ على طريقتهم في علم الحديث -.
فأيُّ فرقٍ مؤثِّرٍ بين روايتين - سنداً أو متناً - يعدُّ اختلافاً عند المحدِّثين يحتاج إلى ترجيح بينهما - غالباً -، وإن تعذَّر قيل بالجمع، هذا إذا لم يكن الاختلاف داخلاً في علم مشكل الحديث (2) .
فوصل المرسل أو المنقطع يعدُّ مخالفة، ورفع الموقوف يعدُّ مخالفة، والزِّيادة في المتن تعدُّ مخالفة كما نصَّ على ذلك أكثر المحدِّثين السَّابقين الذين تكلَّموا في العلل، فنجدهم يقولون: «خالفه فلان» ، ثم يذكرون رواية من أرسل أو أوقف أولم يذكر ما ذكر غيره، وهكذا مما تواتر في كتبهم.
قال أحمد وذُكِرَ له حديثُ نافعٍ عن ابن عمر: «من باع عبداً وله مالٌ
_________
(1) حاشية أَبي داود (10/25) ، مع التصويب.
(2) هذا العلم من أهم علوم متن الحديث، ومهمته الإجابة عن متون الأحاديث المشكلة من حيث الدلالة، أو الجمع بين الأحاديث التي تتعارض في الأذهان عند البعض، وربما اعتمد في الإجابة على قواعد علل الحديث السابق ذكرها، ومن أشهر الكتب المؤلفة فيه كتاب: «اختلاف الحديث» للإمام الشافعي وكتاب: «مشكل الحديث» لأبي جعفر الطحاوي، رحمهما الله تعالى، وقد طبع باسم: «شرح مشكل الحديث» ، وليس في مخطوطاته هذا الاسم!!
(1/51)
فماله للبائع» ، فقال: «خالفه سالم، هكذا رواه الزُّهري عن سالم عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم» (1) .
وقال ابن المديني في حديث: «رواه حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة، وخالفه الأعمش فرواه عن أبي سلمة عن كعب» (2) .
وقال البخاري: «وروى محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوع في التيمم. وخالفه أيوب وعبيد الله والنَّاس فقالوا: عن نافع عن ابن عمر فعله» (3) .
وقال ابن معين: «قد روى شعبة أيضاً في القطع في ربع دينار فصاعداً حديث الزُّهري، لم يروه غيره، وقد خالفه غيره ولم يرفعه أبو سفيان ... » (4) .
وقال الدَّارقطني: « ... وقد اتفق عنه رجلان ثقتان فأسنده عن عمر، ولولا أن الثوري خالفه، فرواه عن زيد العمي فلم يذكر فيه عمر، لكان القول قول من أسند عن عمر، لأنه زاد. وزيادة الثِّقَة مقبولة» (5) .
وقال الخطيب: «وخالفه معمر بن راشد فرواه عن الحكم عن عكرمة قوله، لم يذكر فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا أبا هريرة» (6) .
وكل كتب العلل مليئة بمثل هذه النصوص التي تدلُّ أن المخالفة عند المحدِّثين أعمُّ منها عند غيرهم من الفقهاء والأصوليين.
_________
(1) رواية المروذي (274) .
(2) العلل (129) .
(3) التاريخ الكبير (1/50) .
(4) رواية ابن طهمان (58) .
(5) العلل (2/74) .
(6) تاريخ بغداد (1/268) .
(1/52)
الثالث: - إن كثيراً من المحدِّثين يذكرون المخالف بمبهماً بقولهم: «خالفه النَّاس أو خالفه الثِّقات أو خالفه غيره» (1) ، ويعتمدون ذلك، ولم يرُدُّ من بعدهم قولهم بحجَّة أنَّ ما ذكر مبهم، والمخالف ثقة مسمىً، فدلَّ هذا على اعتماد ما ذكر إلا إذا ثبت بالأدلَّة أو كلام السَّابقين ما يخالف قول المعِلِّ.
الرابع: - أنَّ الأصل عند المحدِّثين التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة - لحديث واحد - ثم الجمع بينها عند تكافئ (2) الأدلَّة، خلاف ما تقرَّر في الفقه وأصوله من الجمع بين المتون المتعارضة بادئ الرَّأي، ثم التَّرجيح عند تعذر ذلك بقواعد مقررة هنالك، لأن قواعد هذا العلم غير ذاك، ولا يلزم من ذلك خطأ أحد المنهجين.
فالنَّاظر في كتب العلل وترجيحات علماء الحديث، يجد أن نسبة القول بالجمع بين الرِّوايات المختلفة قليلة جداً بالنِّسبة لما رجَّحوه من روايات، فهذا بيان للواقع الذي استند على أدلة وقرائن أدَّت إلى هذه النَّتيجة الاستقرائية.
فلا يصار إلى القول بالجمع بين الرِّوايات أو القول بالاضِّطراب إلا بعد محاولة التَّرجيح بالقرائن الآتي ذكرها.
قال ابن حجر في بيان ذلك: «وإذا كان شعبة - وهو أتقن من غيره - حَفِظَ عن خبيب فيه الشَّكَّ، فذاك دليل على أنَّ خبيباً لم يضبطه، فلا يحتاج إلى الجمع الذي جمعه ابن خزيمة، ثم هجم ابن حبَّان فجزم به» (3) .
_________
(1) الأمثلة على ذلك كثيرة جداً منها: - العلل لابن أَبي حاتم (1/19و66و2/44و208) وعلل الدارقطني (2/14و4/143) .
(2) يأتي قول لابن خزيمة ينص على ذلك (ص 40) .
(3) النكت لابن حجر (2/881) ، وربما خالف ابن حجر ما قرره هنا، فيجمع في شرح للبخاري بين روايات مختلفة، فينقده بعضهم بالتكلُّف في ذلك، وهذا ظاهر في مواضع يسيرة فحسب، ولعله في القصص أكثر منه في غيره.
(1/53)
وقال أيضاً: «الاختلاف عند النُّقاد لا يضر إذا قامت القرائن على ترجيح إحدى الرِّوايات أو أمكن الجمع على قواعدهم» (1) .
وقال أيضاً: «وأما المخالفة وينشأ عنها الشُّذوذ والنَّكارة، فإذا روى الضَّابط والصَّدوق شيئاً، فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدِّثين، فهذا شاذ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ، فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكراً» (2) .
الخامس: - أنَّ على من أراد الاشتغال بعلم العلل، والتبحر فيه وضبطه بشكل تام أن يهتم بأمور في الحديث تعدُّ من مهماته، ومن ذلك:
أ. معرفة الثقات من الضعفاء.
ب. معرفة مواليدهم ووفياتهم وبلدانهم.
ج. معرفة المكثرين من رواة الحديث (3) .
د. معرفة مراتب أصحابهم فيهم (4) ، كأصحاب الزهري وقتادة ونحوهما.
هـ. معرفة أشهر الأسانيد.
و. معرفة المدلسين والمختلطين.
ز. معرفة المنقطع من الأسانيد (5) .
* * *
_________
(1) هدي الساري (ص531) .
(2) هدي الساري (ص544) .
(3) قد قمت بجمع أشهرهم في كتاب "طبقات المكثرين" - طبع دار طويق.
(4) قمت بجمعهم في كتاب كبير بعنوان "مراتب الثقات".
(5) قمت بجمعها في كتاب فجاوز عددها ثلاثة آلاف سند منقطع، نص العلماء عليها.
(1/54)



( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
قواعد العلل وقرائن الترجيح
8 - قرائن التَّرجيح والموازنة بين الرِّوايات المختلِفة:
ويظهر بعد التَّتبع والسبر أن القرائن المسلوكة عند علماء العلل نوعان:
أ- قرائن أغلبية.
وهذه القرائن يعود الجمع والتَّرجيح إليها في أكثر الأحاديث، وهي ستة:
1. العدد:
وهي تعدُّ من أقوى القرائن المسلوكة للتَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة. واعتمدها كثير من الحفَّاظ السَّابقين. ومن أشهرهم يحيى القطَّان حيث قال: «كنَّا نظنُّ أنَّ الثَّوريَّ وهم فيه لكثرة من خالفه» (1) .
ونصَّ عليها الشافعي فقال: «والعدد أولى بالحفظ من الواحد» (2) .
وقال أيضاً: «إنَّما ندع تثبيت ما خالفه فيه غيره مما هو أكثر منه عدداً فأمَّا ما لم يكن يخالفه فيه أحد وهو لفظ غير الَّلفظ الذي خولف فيه وأمر غير الأمر الذي خولف، فنثبته إذا لم يكن فيه مخالف» (3) .
وقال أيضاً: «إنَّما يغلط الرَّجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو يأتي بشيء
_________
(1) العلل للدارقطني (5/211) .
(2) اختلاف الحديث (ص127) وشرح العلل (1/425) .
(3) السنن المأثورة (481) - برواية المزني - والأم (8/563) .
(1/55)
في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ، وهم عدد وهو منفرد» (1) .
وقال أبو حاتم محتجاً بهذه القرينة في حديثٍ: «اتفق ثلاثة أنفس على التَّوصيل» (2) .
وقال ابن معين في حديث: «الناس يحدثون به مرسلاً» (3) .
وقال البيهقي: «وكما رجَّح الشَّافعي إحدى الرِّوايتين على الأُخْرَى بزيادة الحفظ، رجَّح أيضاً بزيادة العدد» (4) .
وقال أيضاً: «والجماعة أولى بالحفظ من الواحد» (5) .
وقال الخطيب: «ويرجَّح بكثرة الرُّواة لأحد الخبرين، لأن الغلط عنهم والسَّهو أبعد، وهو إلى الأقلِّ أَقرب» (6) .
وقال الدَّارقطني في حديث: «واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه ابن أبي كثير يدلُّ على ضبطهم للحديث» (7) .
وسئل الدَّارقطني عن الحديث إذا اختلف فيه الثِّقات، فقال: «ينظر ما اجتمع عليه ثقتان فيحكم بصحته، أو ما جاء بلفظة زائدة، فتقبل تلك
_________
(1) اختلاف الحديث (ص294) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (2/391) .
(3) رواية الدوري (2973) .
(4) القراءة خلف الإمام للبيهقي (316) .
(5) الشعب (4/7) .
(6) الكفاية (ص476) .
(7) السنن (3/44) .
(1/56)
الزِّيادة من متقن، ويحكم لأكثرهم حفظاً وثبتاً على من دونه» (1) .
وقال الذهبي: «وإن كان الحديث قد رواه الثَّبت بإسناد، أو وقفه أو أرسله، ورفقاؤه الأثبات يخالفونه، فالعبرة بما اجتمع عليه الثِّقات، فالواحد قد يغلط ... » (2) .
وقال الصَّنعاني: «الملاحظ القرائن. والكثرة أحد القرائن» (3) .
وهذه القرينة إنما تفيد إذا كانت الرواة محتجاً بهم من الطرفين (4) المختلفين، أما مع الضعف فالأمر يحتاج إلى قرائن أخرى.
2. الحفظ:
وهذه القرينة - أيضاً - تعدُّ من أهم القرائن في التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة، ويشمل الحفظ هنا حفظ الصدر، وحفظ الكتاب.
أما حفظ الصدر (5) ، فقال ابن رجب: «قاعدة: إذا روى الحفَّاظ الأثبات حديثاً بإسناد واحد، وانفرد واحد منهم بإسناد آخر، فإن كان المنفرد ثقة حافظاً فحكمه قريب من حكم زيادة الثِّقات في الأسانيد والمتون ... » ، قال: «ويقوى قبول قوله إن كان المرويُّ عنه واسع الحديث يمكن أن يحمل الحديث من طرق عديدة كالزُّهري والثَّوري وشعبة والأعمش» (6) .
_________
(1) النكت لابن حجر (2/689) ، والنص ورد في سؤالات السلمي (435) بنحوه.
(2) الموقظة (ص52) .
(3) توضيح الأفكار (1/344) .
(4) قاله الزيلعي في نصب الراية (1/360) .
(5) يأتي ذكر حفظ الكتاب (ص45) .
(6) شرح العلل (2/719) .
(1/57)
وهنا اختلف الحفَّاظ في بعض الأحاديث قبولاً ورداً، لأجل اعتبار هذا الأمر، فقال ابن رجب بعد ذلك: «وقد تردَّد الحفَّاظ كثيراً في مثل هذا، هل يردُّ قول من تفرد بذلك الإسناد لمخالفة الأكثرين له؟ أم يقبل قوله لثقته وحفظه.
ومثَّل رحمه الله لذلك بحديث ميمونة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السَّمن.
حيث رواه أصحاب الزُّهري عنه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ميمونة. كذا رواه مالك وابن عيينة والأوْزاعي.
وخالفهم معمر، رواه عن الزُّهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة.
قال ابن رجب: «فمن الحفَّاظ من صحَّح كلا القولين، ومنهم الإمام أحمد ومحمد بن يحيى الذُّهليُّ وغيرهما، ومنهم من حكم بغلط معمر لانفراده بهذا الإسناد، منهم البخاريُّ» (1) .
ووافقه على اختياره التِّرمذيُّ في الجامع حيث قال عن رواية معمر: «غير محفوظ» ، ثم نقل قول البخاريِّ: «أخطأ فيه معمر. والصَّحيح حديث الزُّهريِّ عن عبيد الله ... » (2) . كما وافقهم أبو حاتم الرَّازيُّ على ذلك (3) .
_________
(1) شرح العلل (2/722) .
(2) الجامع للترمذي (1798) والعلل الكبير (2/758-ترتيبه) .
(3) العلل لابنه (2/12) .
(1/58)
وقال الدَّارقُطني في حديث: «وعند الزهري فيه أسانيد أخرى صحاح» ، ثم ذكر جملة منها (1) .
والذي يظهر أن سعة رواية المحدِّث الحافظ كالزُّهري وقَتادة - مثلاً - قرينة خاصة - كما سيأتي - تدلُّ على صحة الوجهين عنه، ومخالفة الرَّاوي الواحد لجماعة من الثِّقات الحفَّاظ، قرينة عامة أقوى منها، تدلُّ على وهم الوجه الذي أتى به عنه، فَيُحتاج إلى قرينة أخرى تسند ما قاله.
ومما يعضد رواية الجماعة أنَّ الَّليث رواه عن الزُّهري عن سعيد مرسلاً - كما ذكر الإسماعيليُّ (2) - فلعلَّ مَعْمَراً وهِم فزاد أبا هريرة.
وأكثر مسائل علم العلل دخولاً في هذه القرينة: زيادة الثِّقات.
هل تقبل مطلقاً، أم تردُّ مطلقاً، أم يفصَّل في ذلك، ومن أين يؤخذ هذا التَّفصيل ومن المعتبر قوله في هذا الأمر. آلمحدِّثون أم الفقهاء والمتكلمون من الأصوليين.
يعدُّ الشَّافعي من أوائل من قعَّد لهذه المسألة حيث قال: «ويكون إذا شرك أحداً من الحفَّاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه - وُجِدَ حديثه أنقصَ - كانت هذه دلائل على صحَّة مخرج حديثه» (3) .
قال ابن عبد الهادي معقِّباً على ذلك: «وهذا دليل من الشافعيِّ رحمه الله على أن زيادة الثِّقَة عنده لا يلزم أن تكون مقبولةً مطلقاً كما يقوله كثير
_________
(1) العلل (1/44) .
(2) فتح الباري (9/826) ، عند حديث (5538) .
(3) الرسالة (1272) .
(1/59)
من الفقهاء من أصحابه وغيرهم، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه، ولم يعتبر المخالف بالزِّيادة، وجعل نقصان هذا الرَّاوي من الحديث دليلاً على صحَّة مخرج حديثه، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضرَّ ذلك بحديثه، ولو كانت الزِّيادة عنده مقبولة مطلقاً لم يكن مخالفته بالزِّيادة مضراً بحديثه» (1) .
وقال الشافعي أيضاً: «إنَّما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو يأتي بشيء في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ، وهم عدد وهو منفرد» (2) .
وقال ابن حجر معقباً على كلامه: «فأشار إلى أن الزِّيادة متى تضمَّنت مخالفةَ الأحفظ أو الأكثر عدداً أنها تكون مردودة» (3) .
وحيث إنَّ هذه المسألة من أهم مسائل علم العلل، فإنَّ نقل كلام علماء الحديث وعلله مما يزيد الأمر وضوحاً، فمن المفيد جداً ذكر شيءٍ من ذلك نظرياً وعملياً.
أما النَّظري فمن ذلك:
ما قاله أبو زرعة الرَّازي: «إذا زاد حافظ على حافظ قُبِلَ» (4) .
وقال أيضاً: «حديث أبي إسحاق عن جرير مرفوع أصح من
_________
(1) الصارم المنكي (ص100) .
(2) اختلاف الحديث (ص294) .
(3) النكت لابن حجر (2/688) .
(4) العلل لابن أَبي حاتم (1/318و2/302) .
(1/60)
موقوف، ولأن زيد بن أبي أنيسة أحفظ من مغيرة بن مسلم» (1) .
وقال مسلم: «والحديث للزائد الحافظ» (2) . وقال أيضاً: «والزِّيادة في الأخبار لا تلزم إلا عن الحفَّاظ الذين لم يكثر عليهم الوهم في حفظهم» (3) .
وقال التِّرمذي: «وربَّ حديث إنَّما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنَّما يصح إذا كانت ممن يعتمد على حفظه ... » (4) .
وقال أبو زرعة: «زيادة الحافظ على الحافظ تقبل» (5) .
وقال البزَّار: «زيادة الحافظ مقبولة إذا زادها على حافظ، فإنَّما زادها بفضل حفظه» (6) .
وقال ابن طاهر: «إن الزِّيادة إنَّما تقبل من الثِّقة المجمع عليه» (7) .
وقال ابن خزيمة: «لسنا ندفع أن تكون الزِّيادة في الأخبار مقبولة من الحفَّاظ، ولكنَّا إنَّما نقول إذا تكافأت الرُّواة في الحفظ والإتقان والمعرفة بالأخبار فزاد حافظ متقن عالم بالأخبار كلمة قُبِلَت زيادته، لا أنَّ الأخبار إذا تواترت بنقل أهل العدالة والحفظ والإتقان بخبر، فزاد راوٍ ليس مثلهم في الحفظ والإتقان زيادة أنَّ تلك الزِّيادة تكون مقبولة» (8) .
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/267) .
(2) التمييز (ص199) .
(3) التمييز (ص189) وشرح العلل (1/435) .
(4) العلل الصغير بشرح ابن رجب (1/418) .
(5) العلل لابن أبي حاتم (2/302) .
(6) البحر الزخار (1/54) .
(7) النكت لابن حجر (2/693) .
(8) القراءة خلف الإمام للبيهقي (316) .
(1/61)
وقال ابن المنذر: «والحافظ إذا زاد في الحديث شيئاً فزيادته مقبولة» (1) .
وقال ابن عبد البر في كلام له: « ... ليست حجَّة، لأنَّ الذي لم يذكره أحفظ، وإنَّما تقبل الزِّيادة من الحافظ المتقن» (2) .
وقال أيضاً: «إنَّما تقبل الزِّيادة من الحافظ إذا ثبتت عنه، وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله» (3) .
وقال ابن عبد الهادي بعد سياق الاختلاف: «والصَّحيح التَّفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الرَّاوي الذي رواها ثقة حافظاً متقناً، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثِّقَة ... » (4) .
وخالف في تقريراتهم كثير من مقلِّدة الفقهاء ومتكلِّمة الأصوليين فقالوا: «تقبل زيادة الثِّقة مطلقاً، مالم تخالف (5) رواية من هو أولى» .
ولا يعني هذا أنه لم يقع - تنظيراً - بعضُ كبار المحدِّثين فيما وقع فيه المتكلِّمون والأصوليون، من نقل أقوالهم على أنَّها مذاهب معتمدة وهي لا تعرف إلا عنهم. فإنَّ علم الكلام قد أثَّر على كثير من متأخري علماء هذه الأمة.
_________
(1) الأوسط (2/270) ، وعنده: والحفاظ ...
(2) التمهيد (6/5-6) .
(3) التمهيد (3/306) .
(4) نصب الراية (1/336) .
(5) تقدم (ص 33) أن تفسيرهم للمخالفة أخص من تفسير المحدثين.
(1/62)
قال ابن رجب في تقرير ذلك: «وكلام أحمد وغيره من الحفَّاظ يدور على اعتبار قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً» ، قال: «وقد صنَّف في ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفاً حسناً سمَّاه: "تمييز المزِيد في متصل الأسانيد"، وقسمه قسمين:
أحدهما: - ما حكم فيه بصحة ذكر الزِّيادة في الإسناد، وتركها.
والثاني: - ما حكم فيه بردِّ الزِّيادة وعدم قبولها.
ثم إنَّ الخطيب تناقض، فذكر في كتاب "الكفاية" للنَّاس مذاهب في اختلاف الرُّواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحدٍ من متقدمي الحفَّاظ، وإنَّما مأخوذة من كتب المتكلِّمين. ثم إنه اختار أن الزِّيادة من الثِّقة مقبولة مطلقاً كما نصره المتكلِّمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف تصرُّفه في كتاب "تمييز المزِيد". وعاب تصرُّفَهُ في كتاب "تمييز المزِيد" بعضُ محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب "الكفاية"» ، ثم قال: « ... ومن تأمَّل كتاب البخاريِّ تبيَّن له - قطعاً - أنَّه لم يكن يرى زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة، وهكذا الدَّارقطني. فدلَّ على أنَّ مرادهم زيادة الثِّقَة في مثل تلك المواضع الخاصَّة، وهي إذا كان الثِّقة مبرزاً في الحفظ» (1) .
ولكثير من المتكلِّمين والفقهاء وبعض المتأخِّرين المنتسبين لعلم الحديث ممَّن خالف المحدِّثين في منهجهم في العلل عموماً وفي زيادة الثِّقات خصوصاً حججٌ مأخوذة من علم الكلام لا تنطبق على منهجهم الاستقرائي الواقعي.
_________
(1) شرح العلل (1/427-429) .
(1/63)
فمن ذلك:
1. قولهم أن الزَّائد معه زيادة علم، ومن حفظ حجَّة على من لم يحفظ.
والجواب: أن ما ذكر ليس هو موطن النِّزاع، لأنَّه صحيح عند ثبوت الزِّيادة عن الرَّاوي المختلف عليه، أما مع قرينة الاختلاف فهذا ما ينازع فيه المحدِّثون، فيقال إنَّ الزِّيادة لم تثبت أصلاً ليقال ما ذكروه.
بل إنَّ في قولهم تناقضاً لأنهم «شرطوا في الصَّحيح ألا يكون شاذاً، وفسَّروا الشُّذوذ بأنه ما رواه الثِّقة، وخالفه من هو أضبط، وأكثر عدداً، ثم قالوا: تقبل الزِّيادة مطلقاً. فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عدداً، أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل. أيقبلونه أم لا؟ أم هل يسمُّونه شاذاً أم لا؟ والحقُّ في هذا أنَّ زيادة الثِّقة لا تقبل دائماً» (1) .
2. قولهم عمَّن وقف الحديث إنه رأي للرَّاوي، وأن الواقف قد قصر في حفظه أو شكَّ في رفعه.
وجوابه أَنَّ هذا «مقابل بمثله، فيترجَّح الوقف بتجويز أن يكون الرَّافع تبع العادة، وسلك الجادَّة. وهذا إذا كان للمتن إسناد واحد، أما إذا كان له إسنادان منفصلان تماماً، فلا يجري فيه هذا الخلاف غالباً» (2) .
3. قولهم: إن الرَّاوي: «إذا كان ثقةً وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً، فكذلك انفراده بالزِّيادة. وهو احتجاج مردود، لأنه ليس كلُّ حديث تفرد به أي ثقة - كان - يكون مقبولاً. ثم إن الفرق بين تفرُّد الرَّاوي
_________
(1) النكت لابن حجر (2/612-613) .
(2) النكت لابن حجر (2/610-611) .
(1/64)
بالحديث من أصله وبين تفرُّده بالزِّيادة ظاهر، لأن تفرُّده بالحديث لا يلزم منه تطرُّق السَّهو والغفلة إلى غيره من الثِّقات إذ لا مخالفة لهم، بخلاف تفرُّده بالزِّيادة إذا لم يروها من هو أوثق وأكثر عدداً، فالظنُّ غالب بترجيح روايتهم على روايته، ومبنى هذا الأمر على غلبة الظن» (1) .
قال ابن حجر مبيناً هذه المسألة: «والحقُّ في هذا أن زيادة الثِّقة لا تقبل مطلقاً دائماً، ومن أطلق ذلك من الفقهاء والأصوليين فلم يصب، وإنَّما يقبلون ذلك إذا استووا في الوصف، ولم يتعرض بعضهم لنفيها لفظاً أو معنى» (2) .
وقال أيضاً: «تفرُّد واحد عنه بها - أي الزِّيادة - دونهم مع توفر دواعيهم على الأخذ عنه، وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقُّف عنها» (3) .
وقال السخاوي بعد كلام له: «رواه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ورواه من هو دونهم في الضبط والإتقان والعدد على وجه يشتمل على زيادة في السند، فكيف تقبل زيادتهم وقد خالفهم من لا يغفل مثلهم عنها، لحفظهم وكثرتهم، والغرض أن شيخهم الزهري ممن يجمع حديثه ويعتني بمروياته بحيث يقال: إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها، ولما تطابقوا على تركها، قال شيخنا [أي ابن حجر] : والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة» (4) .
وقد تقدَّم قول ابن عبد الهادي: « ... وتقبل في موضع آخر لقرائن
_________
(1) النكت لابن حجر (2/690-691) .
(2) النكت لابن حجر (2/613) .
(3) النكت لابن حجر (2/692) .
(4) الأجوبة المرضية (1/201) .
(1/65)
تخصُّها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم» (1) .
أما العملي فمن ذلك:
ردُّ جماعةٍ من حفَّاظ الحديث زياداتٍ - في الأسانيد وفي المتون - لرواةٍ ثقاتٍ، ولم يردْ عن هؤلاء الحفَّاظ - عند الاختلاف - احتجاج بحجج المتكلِّمين وغيرهم، بل إذا قبلوها فذلك لمكان من زادها من الحفظ والعدد وغير ذلك من القرائن، فكلُّ حديث أعلُّوه بالإرسال أو الوقف هو ردٌّ لزيادة في السَّند، وهو متواتر في كتبهم.
ومن ذلك ردُّ البخاريِّ زيادةً لشعبة عن سلمة بن كهيل فقال: «وزاد فيه علقمة، وليس فيه» (2) .
وقال أبو داود: «سمعت أحمد وقد ذكرت له ما زاد هشيم - في حديث عبيد ابن عمير عن عمر في المفقود - على يحيى بن سعيد، فقال: يحيى أحفظ من هشيم» (3) .
وقال الآجري: «سمعت أبا داود يقول: حماد بن سلمة وهم فيه، زاد: "وأبوالها"» (4) .
وقال ابن منده في حديث: «رواه جماعة عن أبي الأحوص وفيه زيادة أنَّ الحمار يقال له: عفير، ورواه أبو مسعود عن أبي داود عن شعبة وفيه هذه
_________
(1) نصب الراية (1/336) .
(2) التاريخ الكبير (3/73) .
(3) سؤالات الآجري (ص345) .
(4) سؤالات الآجري (439) .
(1/66)
الزِّيادة، وهو وَهْمٌ» (1) .
وقال ابن عمَّار الشهيد: «حديث سليمان التَّيمي عن قَتادة عن أبي غلاب حديث أبي موسى وفيه من الزِّيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" ... وقوله: "وإذا قرأ فأنصتوا" هو عندَنا وهم من التَّيمي ... » (2) .
وفي مقابل ذلك قبول بعض الحفَّاظ لزيادة الضعيف، لأنَّ النَّقص أسهل.
قال ابن أبي حاتم لأبيه: «لِمَ حكمت برواية ابن لهيعة؟ فقال: لأن في رواية ابن لهيعة زيادة رجل، ولو كان نقصان رجل كان أسهلَ على ابن لهيعة حفظُهُ» (3) .
إلا أن هذه القرينة ربما أهملت لأسباب أخرى يراها الناقد، فلا يعترض على الحافظ في ترجيحه إذا كان على أصل ثابت وله فيه حجة مسلوكة، وإن كان قوله في حديث معين مرجوحاً.
قال ابن معين مرجحاً من هو أقل حفظاً: «القول قول مستلم بن سعيد، وصحَّف شعبة» (4) .
وقال النسائي في حديث: «قَتادة أثبت وأحفظ من أشعث، وحديث أشعث أشبه بالصواب» (5) .
_________
(1) الإيمان لابن منده (108) .
(2) العلل لابن عمار (ص73) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/171) .
(4) رواية الدوري (4849) .
(5) الصغرى (6/59) .
(1/67)
وأما حفظ الكتاب (1) ، فإن الكتابة من أهم وسائل الضَّبط والإتقان، وبدونها وقع كثير من المحدِّثين في الوهم والخطأ.
فإذا اختلف راويان فأكثر على شيخ، نظر فيمن كان يكتب عنه، فإذا وجد، كان جانبه أقوى من هذه الحيثية.
قال أحمد عن عبيد الله الأشجعي الكوفي: «كان يكتب في المجلس، فمن ثَمَّ صحَّ حديثه» (2) ، وتعليله هنا كالنصِّ على القرينة، لذا قال ابن معين عنه بأنه أعلم النَّاس بسفيان الثَّوريِّ من أهل الكوفة (3) .
ومن دلائل هذه القرينة قول ابن المبارك: «إذا اختلف النَّاس في حديث شعبة، فكتاب غُنْدَر حكم بينهم» .
وذكر ابن خِراش عن الفلاس قوله: «كان يحيى وعبد الرحمن ومعاذ بن خالد وأصحابنا إذا اختلفوا في حديث شعبة، رجعوا إلى كتاب غُنْدَر، فحكم بينهم» .
ولذا أصبح من أقلِّ أصحاب شعبة خطأً كما قال الإمام أحمد.
وقدَّمه أبو زرعة - في حديث - على اثنين، هما أبو داود الطَّيالسي ويحيى بن زكريا، خالفاه في شعبة (4) .
ومما ذكر في أوهامه النادر عنه قول أبي حاتم: «هذه الزِّيادة التي زاد
_________
(1) هذا عطف على حفظ الصدر الوارد (ص37) .
(2) تاريخ بغداد (10/312) .
(3) تاريخ بغداد (10/312) والتهذيب (3/20) .
(4) العلل لابن أَبي حاتم (1/25) .
(1/68)
غُنْدَر عن شعبة في الإسناد، ليس بمحفوظ» (1) .
ومن شواهد الاعتماد على الكتاب، الخلافُ على الَّليث بن سعد في حديث، أهو عن سعد بن مالك مرفوعاً أم سعيد بن أبي سعيد مرسلاً؟ قال أبو زرعة: «في كتاب الليث في أصله: سعيد بن أبي سعيد، ولكنْ لُقِّنَ بالعراق: عن سعد» (2) .
وقال يزيد بن هارون: «أدركت البصرة وإذا اختلفوا في حديث، نطقوا بكتاب عبد الوارث» (3) .
وقال منصور: «قلت لإبراهم النخعي: مالسالم بن أبي الجعد أتمَّ حديثاً منك؟ قال: لأنه كان يكتب» (4) .
وقال أبو حاتم: «وأما الحفَّاظ وأصحاب الكتب فكانوا يميِّزون كلام الزُّهري من الحديث» (5) .
وقال أيضاً مرجحاً بالكتاب: «مالك صاحب كتاب» (6) .
وهذا أحمد يرجِّح بسبب الكتابة.
قال أبو طالب لأحمد: «من أحبُّ إليك، يونس أو إسرائيل في أبي
_________
(1) الجرح لابن أَبي حاتم (3/507) والعلل أيضاً (1/428) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (1/188) .
(3) التمييز (ص178) ، وعبد الوارث هو ابن سعيد.
(4) علل الترمذي (1/153-الشرح) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (2/30) .
(6) العلل لابن أَبي حاتم (1/32) .
(1/69)
إسحاق؟ قال: إسرائيل، لأنه كان صاحب كتاب» (1) .
وهذه القرينة ربما خانت صاحبها فأثرَّت عليه، كما حصل لجرير بن عبد الحميد الضَّبِّي حيث قال: «اضطرب عليَّ حديث أشعث وعاصم، فقلت لبهز بن أَسَد البصري، فخلَّصها لي، وكانت في دفتر واحد» (2) .
من أهم القرائن التي بُنِي عليها علم العلل في التَّرجيح بين الرُّواة المختلفين على شيوخهم المكثرين.
3. الاختصاص:
وهذه من أهم القرائن التي بُنِي عليها علم العلل في التَّرجيح بين الرُّواة المختلفين على شيوخهم المكثرين.
وقد اهتم علماء الحديث وعلله بمعرفة طبقات الحفَّاظ ومراتب أصحابهم. فقسم ابن المدينيِّ والنَّسائيُّ (3) أصحاب نافع تسع طبقات مع اختلافهما في ذكر رواة كل طبقة.
كما قسم النَّسائي أصحاب الأعمش سبع طبقات (4) .
وهذا الاختصاص يعود إلى عدَّة قرائن، منها قوة الحفظ أو الكتابة - وقد تقدَّم ذكرها - أو طول الملازمة وقِدَمِهَا، أو قرابة الرَّاوي، ونحو ذلك من الأسباب الكثيرة.
والاهتمام بهذه القرينة ومعرفة طبقات أصحاب الحفَّاظ ومنازلهم من شيوخهم، ومراتبهم بين بعض، يعطي المرء قوَّة وملكة في تعليل الحديث
_________
(1) التهذيب (1/133) .
(2) رواية ابن محرز (547) .
(3) في كتابه: الطبقات (ص53) .
(4) الطبقات (ص78) وشرح العلل (1/104-105) .
(1/70)
والتَّرجيح عند الاختلاف، دون كثير عناء أو جهد، قد يبذله من جهل ذلك.
فإذا روى جماعة عن حافظٍ له أصحاب، وتفرد راوٍ عنه - دونهم - بزيادة أو وجه، وجب التَّوقف عن قبولها لأنَّ «تفرَّد واحد عنه بها دونهم مع توفر دواعيهم على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التَّوقف عنها» (1) .
قال ابن رجب: «اعلم أن معرفة صحة الحديث وسقمه تحصل من وجهين: - أحدهما: معرفة رجاله وثقتهم وضعفهم، ومعرفة هذا هيِّنٌ (2) ، لأنَّ الثِّقات والضُّعفاء دٌوِّنوا في كثير من التَّصانيف، وقد اشتهرت بشرح أحوالهم التَّواليف.
الوجه الثاني: معرفة مراتب الثِّقات، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في السَّند، وإما في الوقف والرَّفع، ونحو ذلك. وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث ... » (3) .
ويستخدم علماء الحديث هذه القرينة بقولهم - مثلاً -: - فلان أثبت، أو أحفظ فيه، أو كان يعرض، أو كان يكتب، أو لازمه كثيراً، ونحو ذلك مما يدلُّ على التَّميز عن غيره في شيء يقتضي تقديمه عند الاختلاف.
قال ابن القيِّم في تقرير قاعدة هذه القرينة: «ولا تنافي بين قول من ضعَّفه وقول من وثَّقه، لأنَّ من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزُّهري
_________
(1) النكت لابن حجر (2/692) وقد سبق نقله.
(2) هذا أمر نسبي لا مطلق.
(3) شرح العلل (2/467-468) .
(1/71)
وتضعيفه فيه، وهذه مسألة غير مسألة تعارض الجرح والتَّعديل، بل يظنُّ قاصر العلم أنها هي، فيعارض قول من جرَّحه بقول من عدَّله، وإنَّما هذه مسألة أخرى غيرها وهي الاحتجاج بالرَّجل فيما رواه عن بعض الشُّيوخ وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن آخر، وهذا كإسماعيل بن عيَّاش، فإنه عند أئمَّة هذا الشَّأن حجَّة في الشَّاميين أهل بلده وغير حجَّة فيما رواه عن الحجازيين والعراقيين وغير أهل بلده.
ومثل هذا تضعيف من ضعَّف قبيصة في سفيان الثَّوريِّ واحتجَّ به في غيره كما فعل أبو عبد الرحمن النَّسائي.
وهذه طريقة الحذاق من أَصحاب الحديث أطباء علله يحتجُّون بحديث الشَّخص عمن هو معروف بالرِّواية عنه وبحفظ حديثه وإتقانه وملازمته له واعتنائه بحديثه ومتابعة غيره له ويتركون حديثه نفسه عمَّن ليس هو معه بهذه المنزلة» ، إلى آخر كلامه الذي سبق (1) .
ومن الأمثلة عليها قول ابن معين: «حماد بن سلمة أعرف بعلي بن زيد من حماد ابن زيد» (2) .
وقال أبو حاتم: «المسعودي أفهم بحديث عون» (3) .
ويدخل في هذه القرينة من سمع من الراوي قبل الاختلاط، فيرجح جانبه لاختصاصه بالسماع منه قبل تغيره، وقد تفرد هذه القرينة، والأمر سهل.
_________
(1) الفروسية (ص44) ، وقد سبق ذكر بعض كلامه (ص 10) .
(2) رواية ابن الجنيد (840) .
(3) العلل لابن أبي حاتم (2/179) .
(1/72)
ومن أمثلته قول أبي حاتم: «إسرائيل أقدم سماعاً من زهير في أبي إسحاق» ، ثم ذكر اختلاط أبي اسحاق (1) .
من أهم القرائن التي بُنِي عليها علم العلل في التَّرجيح بين الرُّواة المختلفين على شيوخهم المكثرين:
4. سلوك الجادة:
وهذا تعبير استعمله جماعة من العلماء كابن حجر (2) ، وقال أيضاً: «تبع العادة» (3) .
ومن تعابير المحدِّثين السابقين قول ابن المديني: «سلك المحجَّة» (4) .
أما أبو حاتم فقد أكثر من قوله: «لزم الطَّريق» (5) .
وقال الحاكم: «أخذ طريق المجرة» (6) ، والفرق بين العبارات يسير.
قال ابن رجب: «قول أبي حاتم: مبارك لزم الطَّريق، يعني به أن رواية ثابت عن أنس سلسلة معروفة مشهورة، تسبق إليها الألسنة والأوهام، فيسلكها من قلَّ حفظه، بخلاف ما قاله حمَّاد بن سلمة، فإن في إسناده ما يستغرب، فلا يحفظه إلا حافظ، وأبو حاتم كثيراً ما يعلِّل الأحاديث بمثل هذا، وكذلك غيره من الأئمَّة» (7) .
وقال أيضاً: «لا ريب أن الذين قالوا فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه
_________
(1) العلل لابن أبي حاتم (1/103) .
(2) بذل الماعون (ص212) .
(3) النكت لابن حجر (2/610) .
(4) نتائج الأفكار لابن حجر (2/194) ومن المعاني الواردة في مادة (حجج) : الطريق - القاموس (حجج) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (1/107و203و428و2/109و249و267) .
(6) معرفة علوم الحديث (ص118) .
(7) شرح العلل (2/726) .
(1/73)
جماعة حفاظ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا الإسناد، فإن رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أو عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، سلسلة معروفة تسبق إليها الألسن، بخلاف رواية سعيد عن أبيه عن ابن وديعة عن سلمان، فإنها سلسلة غريبة، لا يقولها إلا حافظ لها متقن» (1) .
وهذا السلوك قسمان هما:
1. سلوك للجادة في المتن، وهو قليل، فإن الأصل في الأحاديث المروية الرفع، فإذا جاء تفصيل من بعض الثقات، برفع بعضه ووقف بعضه الآخر، فإن هذا قرينة على سلوك غيره للجادة برفعه كله. ومن أمثلته العملية قول الدَّارقُطني عن حديث أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب يوم الخميس قائماً يقول: يا أيها الناس إنما هما اثنتان الهدى والكلام وأصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة الحديث بطوله، قال: «يرويه أبو إسحاق واختلف عنه. فرواه إدريس الأودي وموسى بن عقبة ورفعا الخطبة كلها إلى النبي صلى الله عليه ورواه شعبة وإسرائيل وشريك من كلام عبد الله إلا قوله ألا أنبئكم ما العضة هو النميمة فإنهم رفعوه إلى النبي صلى الله عليه. وكذلك قوله: إن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقاً، وقول شعبة ومن تابعه أولى بالصواب» (2) .
2. سلوك للجادة في السند، وهو الغالب. فإنه إذا اختلف على قَتادة - مثلاً - في حديث، فرواه بعض أصحابه عنه بسند غير مشهور، وآخر
_________
(1) فتح الباري لابن رجب (8/111) .
(2) العلل (5/323) .
(1/74)
رواه عنه عن أنس رضي الله عنه، فإنَّ جانب من رواه بالوجه الأخير يضعُف، لاحتمال أن يكون وهِم بسبب شهرة هذا السَّند عن قَتادة.
ومثله ما لو روى ثقة عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره يرويه بسند آخر أقل شهرة، ولذلك أمثلة كثيرة.
منها ما رواه جرير بن حازم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا أقيمت الصَّلاة فلا تقوموا حتى تروني (1) .
ضرب على هذا الحديث أبو الوليد الطيالسيُّ (2) ، وأعلِّه أحمد (3) والبخاريُّ والترمذيُّ (4) وأبو داود (5) والدَّارقطنيُّ (6) بأن جريراً وحجاجاً الصَّوَّاف كانا عند ثابت البناني، فحدَّث به حجاج عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قَتادة عن أبيه ... ، فوهم جرير فظنَّ أنَّ الحديث: عن ثابت عن أنس. وإنَّما روى ثابت عن أنس قال: «كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصَّلاة يتكلَّم مع الرَّجل حتى ينعس بعض القوم» (7) .
وثابت عن أنس جادة، حيث قال الإمام أحمد - في رواية الميموني -: «هؤلاء الشيوخ إنما يلحقون عن ثابت عن أنس إسناداً عرفوه» (8) .
_________
(1) أخرجه أبو داود (1113) وابن ماجة (1117) والترمذي (517) والنسائي (1419) .
(2) نقله عنه أبو داود كما في سؤالات الآجري (577) .
(3) العلل لعبد الله (2/172) ومسائل أَبي داود (ص288) .
(4) العلل الكبير للترمذي (1/276-278-ترتيبه) ، ونقل تعليل البخاري.
(5) حيث قال: «والحديث ليس بمعروف عن ثابت» - السنن (1113) .
(6) العلل (ج4/ل35) .
(7) العلل الكبير للترمذي (1/278-ترتيبه) ، وحديث أنس الأخير أخرجه البخاري في جامعه (642و634) ومسلم (376) ، وقد رواه جرير على الصواب عند الترمذي (517) .
(8) إكمال مغلطاي (4/103) .
(1/75)
ومن أقدم النُّصوص التي أشارت إلى هذه القرينة قول يحيى القطَّان: «كنت إذا أخطأت، قال لي سفيان الثوريُّ: أخطأت يا يحيى، فحدَّث يوماً عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنَّما يجرجر في بطنه نار جهنَّم» (1) ، قال يحيى بن سعيد: فقلت: أخطأت يا أبا عبد الله، هذا أهون عليك، قال: فكيف هو يا يحيى؟ قال: فقلت أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن زيد بن عبد الله بن عمر عن أمِّ سلمة (2) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فقال لي: صدقت يا يحيى ... » (3) .
ومن الأمثلة القديمة أيضاً قول الحميديُّ: «قيل لسفيان - أي ابن عيينة -: إن عبد الرحمن بن مهدي يقول: إن سفيان أصوب في هذا الحديث من مالك! قال: سفيان: وما يدريه؟ أدرك صفوان؟ قالوا: لا، لكنه قال: إن مالكاً قال: عن صفوان عن عطاء بن يسار، وقال سفيان: عن أنيسة عن أم سعيد بنت مُرَّة عن أبيها. فمن أين جاء بهذا الإسناد؟ فقال سفيان: ما أحسن ما قال! لو قال لنا صفوان عن عطاء بن يسار كان أهون علينا مِن أنْ نجيء بهذا الإسناد الشَّديد» (4) .
_________
(1) رواه كذلك عن نافع به، برد بن سنان - أخرجه عنه الطبراني في الأوسط (4189) والصغير (563) وفي مسند الشاميين (355) والخطيب من طريقه في تاريخه (1/377) ، وفي سنده العلاء بن برد، قال ابن ججر: «ذكره بن حبان في الثقات وقال محمود بن غيلان: ضرب أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة عليه واسقطوه» - اللسان (4/223) .
(2) أخرجه من طريق نافع البخاري في جامعه (5634) ومسلم (2065) .
(3) تاريخ بغداد (14/136-137) .
(4) شرح العلل (2/728) .
(1/76)
وقد يقع في سلوك الجادَّة جماعة عن راوٍ واحد، كما قال ابن حجر: « ... ورواه سفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ومحمد بن عبيد عن عبيد الله بن عمر بإسقاطه وكأنهم سلكوا الجادَّة، لأن عبيد الله بن عمر معروف بالرِّواية عن نافع مكثر عنه» (1) .
ومن الغريب هنا قول ابن حجر عند حديثٍ: «قال ابن عبد البر: رواية عبد العزيز خطأٌ بيِّن، لأنَّه لو كان ثمَّ عبد الله بن دينار عن ابن عمر ما رواه عن أبي صالح أصلاً انتهى. وفي هذا التَّعليل نظر وما المانع أن يكون له فيه شيخان. نعم الذي يجري على طريقة أهل الحديث أن رواية عبد العزيز شاذة لأنه سلك الجادَّة ومن عدل عنها دلَّ على مزيد حفظه» (2) .
فكيف يقول بأن في تعليله نظراً وهو موافق لطريقة أهل الحديث كما ذكر.
وهو قد قال في موضع آخر من كتبه: «وأما المخالفة وينشأ عنها الشُّذوذ والنَّكارة، فإذا روى الضَّابط والصَّدوق شيئاً، فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدِّثين، فهذا شاذ، وقد تشتدُّ المخالفة أو يضعف الحفظ، فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكراً» (3) .
وقال أيضاً: «والأول أقعد بطريقة المحدِّثين» (4) .
_________
(1) الفتح (10/446) .
(2) فتح الباري (3/344) .
(3) هدي الساري (ص544) .
(4) تغليق التعليق (5/363) .
(1/77)
وقوله: «وما المانع ... » ، يجاب عنه بقول ابن القيِّم: «وهذه التجويزات لا يلتفت إليها أئمة الحديث وأطباء علله ... ولهم ذَوق لا يحول بينه وبينهم فيه التجويزات والاحتمالات» (1) .
وبقول البلقيني: «ولو فتحنا باب التأويلات لاندفع كثير من علل الحديث» (2) .
ومن القواعد المتعلقة بهذه القاعدة، قول أحمد: «أهل المدينة إذا كان الحديث غلطاً يقولون: ابن المنكدر عن جابر. وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما» (3) .
وقال أيضاً: «كان ابن المنكدر رجلاً صالحاً، وكان يعرف بجابر، وكان يحدِّث عن يزيد الرَّقاشي، فربَّما حدَّث بالشَّيء مرسلاً، فجعلوه عن جابر» (4) .
وقد أكثر ابن عدي من قوله: «أسهل عليه» (5) ، في نقده لمن سلك الجادَّة في الأسانيد من الرُّواة.
وقال أبو حاتم في حديث اختلف فيه على هشام بن عروة: «هذا الحديث أفسد حديث روح بن عبادة وبيَّن علته، وهذا الصَّحيح، ولا يحتمل أن يكون عن أبيه عن عائشة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيروى عن يحيى عن
_________
(1) حاشية أبي داود (1/169) .
(2) فتح المغيث (3/81) وتدريب الراوي (1/344) .
(3) شرح العلل لابن رجب (2/502) .
(4) مسائل أحمد برواية أَبي داود (ص302) .
(5) في عدة مواضع من كتابه الكامل، منها (1/331و2/144و397) .
(1/78)
سعيد عن عائشة، ولو كان عن أبيه كان أسهل عليه حفظاً» (1) .
وقد يرجِّح الحفَّاظ رواية من سلك الجادَّة على رواية من أتى بإسناد غريب، أو تقل الرِّواية به، كما سيأتي في قرينة غرابة السَّنَد (2) .
كما قد ترجح هذه القرينة على العدد الكثير لقوتها.
قال البخاري: «حدثنا عاصم بن علي حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل ومن يا رسول الله قال الذي لا يأمن جاره بوائقه"، تابعه شبابة وأسد بن موسى وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة» (3) .
وعلق ابن حجر على ذلك بقوله: «وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه: "عن أبي هريرة" فكان ينبغي ترجيحهم. ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة فمن قال عنه: "عن أبي هريرة" سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه: "عن أبي شريح" زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح كما سيأتي بعد باب، فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه "عن أبي شريح" ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين، وإن
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (2/354) .
(2) (ص 53) .
(3) الجامع الصحيح (6016) .
(1/79)
كانت الرواية عند أبي شريح أصح» (1) .
وبكلِّ حالٍ فإن وقوع الخطأ في الأسانيد المشهورة (2) كان بسبب سلوك الجادة، لتعلقه بذهن الرواة، خصوصاً ممن خفَّ ضبطه عن المكثرين، فكيف بالضُّعفاء إذا رووا عنهم!
5. غرابة السند واتفاق البلدان:
غرابة السند: مع أنَّ وصف الحديث بالغرابة مما قد يضعف جانبه، إلا أنه ربما يقوى جانبه عند الاختلاف. ومعنى ذلك أنه إذا اختلف على راوٍ في حديث، وروى أحد أصحابه وجهاً غريباً صحيحاً، لا احتمال فيه لسلوك الجادَّة، ومثل هذا الوجه يندر الوهم فيه، ويعد الخطأ فيه نادراً، فإن روايته تكون أقوى من هذه الجهة.
وشاهده قول عبد الله بن أحمد: «سألت أبي عن حديث هشيم عن حصين عن عمرو بن مرة عن علقمة بن وائل عن أبيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرفع. قال: رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. خالف حصينٌ شعبة. فقال: شعبة أثبت في عمرو بن مرة من حصين. القول قول شعبة، من أين يقع شعبة على: أبي البختري عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل» (3) .
_________
(1) الفتح (10/546) .
(2) قمت بجمع أشهرها في كتاب "المشهور من أسانيد الحديث" - طبع دار طويق.
(3) العلل لعبد الله بن أحمد (1/181) .
(1/80)
وقال أبو حاتمٍ في حديثٍ: «لو كان عن ابن عمر كان أسهل عليه من أبي الصِّديق ... » (1) .
وقال أيضاً: «حديث عثمان بن حكيم أشبه، لأن حفظ زيد بن ثابت أسهل من يزيد بن ثابت» (2) .
وهذا الحوار الذي دار بين أبي حاتم وابنه يبيِّن شيئاً من هذه القرينة، واختلاف الحفَّاظ فيها لاختلاف قوتها.
قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقيل لأبي: إن أبا زرعة قال: هذا خطأ! قال أبي: الذي عندي إنه ليس بخطأ، وكنت أرى قبل ذلك أنه خطأ، إنَّما هو معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل لأبي: كذا قاله أبو زرعة. قال أبي: وليس هو عندي كذا، الذي عندي أنه صحيح - الذي كان الحديثين جميعاً - كانا عند معاوية بن صالح، وكان الثوري حافظاً، وكان حفظ هذا أسهلَ على الثوري من حديث العلاء، فحفظ هذا ولم يحفظ ذاك، ومما يدلُّ أَنَّ هذا الحديث صحيح؛ أَنَّه يرويه الحمصيون عن عبد الرحمن بن جبير عن عقبة رضي الله عنه، ومحال أن يغلط بين هذا الإسناد إلى إسناد آخر، وإنَّما أكثر ما يغلط النَّاس إذا كان حديثاً واحداً من اسم شيخ إلى شيخ آخر، فأما مثل هؤلاء فلا أرى يخفى على الثوري» (3) .
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/315) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (1/359) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (2/60) .
(1/81)
فرجح أبو حاتم الوجهين عن معاوية خلافاً لأبي زرعة بقرينة أن الوهم من الثوري في سند كامل غريب مثل ذلك محال عادةً، بخلاف الوهم في رجل واحد في السَّند.
ومن الغرابة المقوِّيَّة قول ابن رجب: « ... فإنَّ في إسناده ما يُستغرب، فلا يحفظه إلا حافظ» (1) .
وقال أيضاً: «لا ريب أن الذين قالوا فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه جماعة حفاظ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا الإسناد، فإن رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أو عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، سلسلة معروفة تسبق إليها الألسن، بخلاف رواية سعيد عن أبيه عن ابن وديعة عن سلمان، فإنها سلسلة غريبة، لا يقولها إلا حافظ لها متقن» (2) .
ومن أقوى الأمثلة على ما ذكره ترجيح الدارقطني (3) - حرب بن شداد- على هشام وشيبان بسبب زيادته اسم غريب، مع أن هشاماً أثبت بكثير، وقد تابعه آخر.
ومن أمثلة الغرابة المضعِّفة للحديث قول أبي حاتم: «أبو سلمة عن ثوبان لا يجيء» (4) .
وقال أيضاً: «واصل عن أبي قلابة لا يجيء» (5) .
ويدخل في هذا الباب قول البرقاني للدَّارَقُطْنِي: «قلت موسى بن ثروان، قال: ويقال ابن سروان عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عائشة -رضي الله عنها- إسناد محمول حمله النَّاس» (6) .
_________
(1) شرح العلل (2/726) .
(2) فتح الباري لابن رجب (8/111) .
(3) العلل الواردة (11/243) .
(4) العلل لابنه (1/364) .
(5) العلل لابنه (1/376) .
(6) سؤالات البرقاني (500) .
(1/82)
ومن هذا الباب الاختلاف في تسمية الشيخ على وجهين، وقد روى عن أحدهما دون الآخر فهو غريب، فيرجح جانب المتصل لغرابة ذاك السند، ومن شواهده قول أبي حاتم: «لا يشبه هذا الحديث حديث الأعمش، لأن الأعمش، لم يروِ عن أبي تميمة شيئاً، وهو بأبي إسحاق أشبه» (1) .
ويلحظ أن هذه القرينة عكس لقرينة سلوك الجادة - السابقة - إلى حدٍّ ما.
6. اتفاق البلدان:
وهذه القرينة من القرائن القوية، التي قد تخفى على كثير ممن يعمل بالعلل.
فمما لاشكَّ فيه أنَّ أهل البلد أعلم بحديث شيوخهم، كما أنهم أعلم بفتواهم من حيث الأصل.
فإذا اختلف على مالك، رجَّحنا المدنيين منهم. وإذا اختلف على قَتادة رجَّحنا البصريين منهم، وإذا اختلف على الأعمش أو أبي إسحاق رجَّحنا الكوفيين منهم، وهكذا، مالم تأتِ قرينة أقوى تعارض ذلك.
قال حماد بن زيد: «بلديُّ الرجل أعرف بالرَّجل» (2) .
وقال أبو زرعة الدمشقي أحمد في تفضيل عبيد الله بن عمر عن نافع: «هو من أهل
_________
(1) العلل لابن أبي حاتم (2/125) .
(2) الكفاية للخطيب (ص133) .
(1/83)
البلد، يريد أن أهل البلد أعلم بحديثهم» (1) .
وقال أبو حاتم في صالح: «أحبُّ إليَّ من عقيل لأنه حجازيٌّ» (2) ، قدَّمه في الزُّهريِّ وهو مدني.
وقال أيضاً: «الأوزاعي من أهل بلده، والأوزاعي أفهم به» (3) .
وقال ابن حبان: «الثوري كان أعلم بحديث أهل بلده من شعبة وأحفظ لها منه» (4) .
وقال ابن عدي: «هو من أهل بلدنا ونحن أعرف به» (5) .
وقال أبو سعد السَّمعانيُّ: «هو أعرف بأهل بلده» (6) .
ومن أمثلته العملية اختلاف آدم بن أبي إياس الخراسانيُّ وموسى التَّبوذكيُّ البصري على حماد بن سلمة - وهو بصري - في رفع حديث ووقفه.
وقد رجَّح البخاري (7) رواية موسى بوقف الحديث على رفع آدم. والسَّبب في ذلك أن موسى (8) بصري.
كما غلَّط أبو حاتم الرَّازي ابنَ المبارك في حديثٍ، وعلَّل ذلك بقوله: «لأنَّ أهل الشَّام أَعرف بحديثهم» ، وقال: «وأهل الشَّام أضبط لحديثهم
_________
(1) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1075) .
(2) التهذيب (2/199) .
(3) العلل لابن أبي حاتم (494) .
(4) الإحسان (8/179) .
(5) الكامل (4/398) .
(6) الأنساب (3/173) .
(7) التاريخ الكبير (1/224) .
(8) التهذيب (4/170) .
(1/84)
من الغرباء» (1) وقال أيضاً: «الأوْزاعي أعلم به، لأنَّ شدَّاداً دمشقي وقع إلى اليمامة، والأوْزاعي من أهل بلده، والأوْزاعي أفهم به ... » (2) .
وقال أيضاً مرجِّحاً على الثوريِّ غيرَه في نافع: «أهل المدينة أعلم بحديث نافع من أهل الكوفة» (3) . وقال أيضاً: «يحيى بن حمزة أفهم بأهل بلده» (4) .
فهذه القرائن الخمسة العامة هي أصول قرائن الترجيح، ومن أهم ضوابطه.
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/80و369) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (1/173) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/311) .
(4) العلل لابن أَبي حاتم (2/52) .
(1/85)



( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
قواعد العلل وقرائن الترجيح
ب - قرائن خاصة.
وهذه القرائن يصعب حصرها في عددٍ، وإنَّما تعرف من كل حديثه بعينه، وهي كثيرة، فينبغي الحرص على أهمها، وقد يدخل بعضها في القرائن الأغلبية.
ومن أهم هذه القرائن - تمثيلاً - مما قد يتكرر في أحاديث أخرى:
1) رواية الراوي عن أهل بيته: وبيان ذلك أن الإنسان أعلم بأهل بيته، غالباً.
فإذا روى راوٍ حديثاً عن رجل من أهل بيته، وخالفه آخر فيه، فإن الأول أرجح من حيث هذه القرينة.
ومن شواهده قول ابن حجر - عن حديث: «لا نكاح إلا بولي» (1) : «الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم من صنيع البخاريِّ في هذا الحديث الخاص ليس بمستقيم، لأنَّ البخاريَّ لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة، وإنَّما حكم له بالاتصال لمعانٍ أخرى رجحت عنده حكم الموصول. منها أن يونس بن أبي إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولاً، ولا شكَّ أن آل الرَّجل أخص به من غيرهم» (2) .
وقال ابن حجر أيضاً مبيِّناً سبب تخريج البخاريِّ لرواية معلَّة:
_________
(1) أخرجه أَبُو داود في السنن كتاب النكاح / باب في الولي (2076) والترمذي في جامعه كتاب النكاح / باب 14 (1101) من حديث أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2) النكت لابن حجر (2/606) .
(1/86)
«وترجَّح ذلك عنده بقرينة، كونها تختصُّ بأبيه فدواعيه متوفِّرة على حملها عنه» (1) .
2) الرواية بالمعنى: ومن أمثلته ما رواه هشيم بن بشير عن الزُّهري حديث: «لا يتوارث أهل ملتين» (2) ، فقد رواه كلُّ أصحاب الزُّهري عنه بلفظ: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (3) .
قال أحمد: «لم يسمع هشيم من الزُّهري حديث علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» ، قال أبي: وقد حدثنا به هشيم» (4) .
وقال ابن حجر: «وقد حكم النَّسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه، وعندي أنه رواه من حفظه بلفظٍ ظنَّ أنه يؤدِّي معناه. فلم يصبْ، فإن الَّلفظ الذي أتى به أعمُّ من اللفظ الذي سمعه. وسبب ذلك أن هشيماً سمع من الزُّهري بمكة أحاديث، ولم يكتبها، وعلق بحفظه بعضها، فلم يكن من الضَّابطين عنه، ولذلك لم يخرج الشَّيخان عنه شيئاً» .
ويشهد لقول ابن حجر ما رواه عمرو بن عون عن هشيم قال: «سمعت من الزهري نحواً من مئة حديث، فلم أكتبها» (5) .
_________
(1) هدي الساري (ص534) .
(2) أخرجه النسائي في الكبرى (4/82) والطحاوي في شرح المعاني (3/266) .
(3) أخرجه البخاري: كتاب الحج / باب توريث دور مكة (1588) ومسلم في أول كتاب الفرائض (1613) .
(4) العلل لعبد الله (2/341) .
(5) تاريخ بغداد (14/86) والتهذيب (4/280) .
(1/87)
ووقع هشيم بسبب الرِّواية بالمعنى في وهم آخر.
فقد روى سفيان بن عيينة قال حدثنا عمرو قال سمعت أبا فاتخة سعيد بن علاقة يقول سمعت ابن عباس يقول: «يصوم المجاور المعتكف» .
فحكى سفيان أن هشيماً يقوله عن عمرو عن أبي فاتخة أن ابن عباس قال: لا اعتكاف إلا بصوم.
قال سفيان: «أخطأ هشيم، وهو كما قلت لك» (1) .
وقال ابن أبي حاتم: «سمعت أبي يذكر حديث عبد الرَّزَّاق عن معمر عن الزُّهري عن أنس أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أشار في الصَّلاة بأصبعه. قال أبي: اختصر عبد الرَّزَّاق هذه الكلمة من حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه ضَعُفَ فقدَّم أبا بكرٍ يصلي بالنَّاس فجاء النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. قال أبي: أخطأ عبد الرَّزَّاق في اختصاره هذه الكلمة لأنَّ عبد الرَّزَّاق اختصر هذه الكلمة وأدخله في باب من كان يشير بأصبعه في التَّشهد وأوهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أشار بيده في التشهد وليس كذاك هو ... » (2) .
وقال التِّرمذي: «حدثنا محمود بن غَيلان حدثنا عبد الرَّزَّاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" (3) . سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: جاء مثل
_________
(1) المعرفة ليعقوب (3/110) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (1/160) .
(3) أخرجه أحمد (2/309) والترمذي في جامعه (1532) وابن ماجة (2104) وابن حبان في صحيحه (4341) .
(1/88)
هذا من قبل عبد الرَّزَّاق وهو غلط، إنَّما اختصره عبد الرَّزَّاق من حديث مَعْمَر (1) عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان بن داود حيث قال: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة» (2) .
ونقل ابن حجر عن شيخه العراقي قوله في شرح التِّرمذيِّ: «بأنَّ الذي جاء به عبد الرَّزَّاق في هذه الرِّواية ليس وافياً بالمعنى الذي تضمَّنته الرِّواية التي اختصره منها، فإنه لا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم لو قال سليمان: إن شاء الله لم يحنث أن يكون الحكم كذلك في حقِّ كل أحد غير سليمان، وشرط الرِّواية بالمعنى عدم التَّخالف، وهنا تخالف بالخصوص والعموم. قلت: وإذا كان مخرج الحديث واحدا فالأصل عدم التعدد ... » (3) .
وقال ابن حجر في حديث: «قلت: هذا يوهم أن هؤلاء أرسلوه وليس كذلك، فقد أخرجه الشيخان من رواية حماد بن زيد وسفيان بن عيينة ومسلم من حديث أيوب وابن جريج كلهم عن عمرو بن دينار موصولا، وإنما أراد الدارقطني أن شعبة خالف هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصره، وهم إنما أوردوه على حكاية قصة الداخل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بصلاة ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهي قصة محتملة للخصوص وسياق شعبة يقتضي العموم في حقِّ كلِّ داخل، فهي مع اختصارها أزيد من روايتهم وليست بشاذة، فقد تابعه على ذلك روح بن القاسم عن عمرو بن دينار» (4) .
_________
(1) أخرج روايته البخاري (4944) ومسلم (1654) .
(2) العلل الكبير (2/656-ترتيبه) والجامع (1532) .
(3) فتح الباري (11/737) .
(4) هدي الساري (ص516) .
(1/89)
3) اختلاف المجلس: ومعنى ذلك أن يروى الرَّاوي حديثاً موصولاً - مثلاً في مجلس، ثم يرسله في مجلس آخر، فيرجح الوصل لاختلاف المجلس، ولأنه ثبت أنَّ التَّلميذ لم يهم عليه في الوصل أو الإرسال.
ومن شواهده الحديث السَّابق حيث رواه شعبة وقال: «سمعت الثَّوريَّ يسأل أبا إسحاق ... » فذكره مرسلاً (1) .
قال التِّرمذي عن رواية من وصله عن أبي إسحاق: «أصحُّ، لأنَّ سماعهم من أبي إسحاق في أوقات مختلفة، وإن كان شعبة والثوري أحفظ وأثبت من جميع هؤلاء ... ، فإن هؤلاء عندي أشبه، لأن شعبة والثوري سمعا هذا الحديث من أبي إسحاق في مجلس واحد ... » (2) .
قال ابن رجب: «والذين وصلوه جماعة، فالظَّاهر أنهم في مجالس متعدِّدة» (3) .
وقال ابن حجر: «ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدِّث في مجالس متعدِّدة على ما أخذ عنه عرضاً في محل واحد» (4) .
ولم أقف على أمثلة واضحة أو صحيحة يمكن الجزم فيها بهذه القرينة.
وينبغي هنا التنبُّه إلى أمرين اثنين:
_________
(1) جامع الترمذي (1102) .
(2) المصدر السابق والكفاية للخطيب (ص254) .
(3) شرح العلل (1/425) .
(4) النكت لابن حجر (2/607) .
(1/90)
1. أنه لا تقبل دعوى تعدُّد المجلس - التي يتوصل بها البعض لقبول الزيادات - إلا بدليل. أما فتح باب الاحتمالات فسهلٌ على كل أحد.
قال ابن حجر مبيناً ذلك: «فإن قيل: إذا كان الرَّاوي ثقة، فلم لا يجوز أن يكون للحديث إسنادين عند شيخه حدَّث بأحدهما مروياً وبالآخر من رأيه (1) .
قلنا: هذا التَّجويز لا ننكره، لكن مبنى هذا العلم على غلبة الظَّنِّ وللحفَّاظ طريق معروفة في الرُّجوع إلى القرائن في مثل هذا، وإنما يعوَّل في ذلك على النُّقَّاد المطَّلعين منهم» (2) .
وقال أيضاً: «إذا كان مخرج الحديث واحداً فالأصل عدم التَّعدُّد ... » (3) .
قال أيضاً: «فإن أمكن الجمع بالحمل على التَّعدُّد مع بعده وإلا فالصَّحيح الأول» (4) .
2. أنَّ اضَّطراب الرَّاوي وتردُّده في ذكر الزِّيادة - مثلاً - في عدَّة مجالس مما يوجب التَّوقف في صحتها وقبولها منه، لا في ثبوتها عنه. وفرق بين الأمرين.
4) سعة رواية المختلف عليه: ومعنى ذلك أن يُختلف على راوٍ كثير الرِّواية واسع الحفظ - كقَتادة والزهري ونحوهما - على وجهين من قِبَلِ أصحابه الثِّقات، فيقبل الوجهان
_________
(1) في الأصل: مراراً، ولا معنى لها.
(2) النكت لابن حجر (2/876) .
(3) فتح الباري (11/737) .
(4) العجاب (ص273) .
(1/91)
عنه لأجل هذا الأمر.
ولا يعني هذا عدم التَّرجيح لأنه هو الأصل كما سبق (1) .
ومن أمثلته ما تقدَّم قبلُ في قرينة الحفظ (2) ، والخلاف في حديث ميمونة -رضي الله عنها-.
ومن ذلك أيضاً قول ابن حجر: « ... الزُّهري صاحب حديث فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطَّراده في كل من اختلف عليه في شيخه إلا أن يكون مثل الزُّهري في كثرة الحديث والشُّيوخ» (3) .
وقال أبو حاتم: «كان أبو إسحاق واسع الحديث، يحتمل أن يكون سمع من أبي بصير، وسمع من ابن أبي بصير عن أبي بصير، وسمع من العيزار عن أبي بصير ... » . بينما ضعَّف أبو زرعة الوجه الأخير فقط عنه (4) .
وقال أبو حاتم أيضاً: «وفي حديث قَتادة مثل ذا كثير، يحدِّث بالحديث عن جماعة ... » (5) .
5) شذوذ السند:
ومعنى ذلك أن يُروى الحديث بوجه قد عرف أنه خطأ، ولا يصحُّ حديث بهذا الإسناد.
_________
(1) ص 34.
(2) ص 37.
(3) الفتح (13/18) .
(4) العلل لابن أَبي حاتم (1/102) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (1/236) .
(1/92)
ويعرف ذلك بأمرين هما:
1. الاستقراء، وهو لحفَّاظ الحديث السَّابقين يسير.
2. تنصيص علماء الحديث على ذلك.
ومن ذلك قول أبي حاتم: «عكرمة عن أنس ليس له نظام» (1) .
وقول البَرْديجي عن سلسلة: قَتادة عن الحسن عن أنس: «لا يثبت منها حديث أصلاً من رواية الثِّقات» وقال عن سلسلة: قَتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: «هذه الأحاديث كلها معلولة» وقال ابن المديني عن سلسلة: يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: «لم يصحَّ منها شيء مسند بهذا الإسناد» (2) .
كذا نقله عنه البَرْدِيجي مطلقاً ثم خصَّه بإسناد معين، وقد أخرج البخاري في المتابعات في جامعه حديث: «يعقد الشيطان على قافية أحدكم ... » (3) ، من هذا الطريق نفسه!! فلعلَّ ابن المديني أراد الغالب.
6) فقدان الحديث من كتب الراوي: وهذا وروده قليل. ومن أمثلته حديث: «الأئمة من قريش» .
له عدة طرق منها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، وجاء بأسانيد
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/273) .
(2) شرح العلل (2/732-733) وإكمال مغلطاي (12/320) .
(3) الجامع الصحيح (3269) ، وأورد له طريقاً آخر (1142) عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
(1/93)
منها رواية إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أنس (1) .
وهذا سند ظاهره الصحة، إلا أن الإمام أحمد أعلَّه بقوله: «ليس هذا في كتب إبراهيم، ولا ينبغي أن يكون له أصل» (2) .
وقال أيضاً: «كتب ابن جريج مدونة فيها أحاديثه، من حدَّث عنهم، ثم لقيت عطاء، ثم لقيت فلاناً، فلو كان محفوظاً عنه لكان هذا في كتبه ومراجعاته» (3) .
وقال الذهلي معلاً لحديث نواصي الخيل: «لم يكن في أصل عبد الرزاق» (4) .
وقال ابن معين معلاً لحديث: «لم يوجد في كتاب الدراوردي، وأخبرني من سمع كتاب العلاء من الدراوردي إنما كانت صحيفة، ليس هذا فيها» (5) .
وكان أبو حاتم من أكثر العلماء اهتماماً بهذه القرينة، فمن ذلك قوله معِلاً: «لو كان صحيحاً لكان في مُصنَّفات ابن أبي عَروبة» (6) .
وقال أيضاً: «وكان الوليد [أي ابن مسلم] صنَّف كتاب الصَّلاة، وليس فيه هذا الحديث» (7) .
_________
(1) أخرجه الطَّيالسي (2133) ، ومن طريقه البزار (1578-زوائد) - كلاهما في المسند -.
(2) مسائل أَبي داود (ص289) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/408) .
(4) أجوبة البرذعي (ص748) .
(5) رواية ابن طهمان (362) .
(6) العلل لابن أَبي حاتم (1/32) .
(7) العلل لابن أَبي حاتم (1/170) .
(1/94)
وقال أيضاً: «هذا الحديث ليس هو في كتاب أبي صالح عن الليث، نظرت في أصل الليث، وليس فيه هذا الحديث» (1) .
وكذلك قال الدَّارقطني: «ولا يثبت هذا الحديث، لأنه ليس في كتب حماد بن سلمة المصنفات» (2) .
7) مخالفة الراوي لما روى: وليس المراد هنا ما يذكره الأصوليون، بل إن حفَّاظ الحديث قد يعلُّون الحديث المرفوع - من جهة الثبوت لا الدلالة - إذا ورد عن الرَّاوي نفسه ما يدلُّ على وهم الرفع، أو على مخالفته الصريحة، سواء اختلف في رواية الرفع أم لا.
قال ابن رجب (3) مبيناً ذلك: «قاعدة: في تضعيف حديث الرَّاوي إذا روى ما يخالف رأيه. قد ضَعَّفَ الإمام أحمد وأكثر الحفَّاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا» ، ثم ذكر أمثلة لذلك ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة رفعت صبياً للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ألهذا حج؟ قال " نعم، ولك أجر ". فقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير الاختلاف على إبراهيم ابن عقبة والثوري في وصله وإرساله. ثم قال: «أخشى أن يكون هذا مرسلاً في الأصل ... » ثم ذكر رواية أبي ظبيان وأبي السفر عن ابن عباس قال: «أيما صبي حج ثم أدرك فعليه الحج» قال البخاري عَقِبَه: «وهذا المعروف عن ابن عباس» (4) .
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (2/353) .
(2) العلل (5/346) .
(3) شرح العلل (2/796) .
(4) التاريخ الكبير (1/198-199) ، والمرفوع أخرجه مسلم في صحيحه (1336) وغيره.
(1/95)
فرجح البخاري الإرسال للاختلاف فيه، وجعل الموقوف المخالف قرينة على ترجيحه، لا سبباً وحيداً لذلك.
ومن المعلوم أن الرِّواية مقدَّمة على الرأي المجرَّد إذا ثبتا جميعاً. ولكن الحفَّاظ جعلوا مخالفة الرَّاوي لما روى، قرينةً على وهم الرِّواية لا مُقَدَّمَةً عليها، وفرق بين الأمرين واضح، هذا مع ما قد يحتفُّ بالطُّرق من قرائن أخرى يتبين بها الصَّواب.
ومن الأمثلة على ذلك مما قد تخفى مخالفته، ما رواه مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب: «قل يا أيها الكافرون» ، و «قل هو الله أحد» (1) .
قال مسلم معِلاً هذه الرِّواية: «وهذا الخبَرُ وهمٌ عن ابن عمر. والدليل على ذلك الرِّوايات الثابتة عن ابن عمر أنه ذكر ما حفظ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من تطوع صلاته بالليل والنهار، فذكر عشر ركعات، ثم قال: «وركعتي الفجر، أخبرتني حفصة ... » قال مسلم: «فكيف سمع منه أكثر من عشرين مرة قراءته فيها؟ ثم يخبر أنه حفظ الركعتين من حفصة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم» (2) .
وبنحو هذا أعلَّ أبو حاتم الرَّازي أَيْضَاً (3) .
وكذا أعلَّ البخاري حديث أبي هريرة مرفوعاً: «من استقاء فقد
_________
(1) أخرجه ابن أَبي شيبة في المصنف كتاب الصلاة / باب ما يقرأ فيهما (2/50) ومسلم في التمييز (ص207) .
(2) التمييز (ص208) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/118) .
(1/96)
أفطر» (1) ، بأنه قد روي عن أبي هريرة أنه كان لا يرى القيء يفطر الصائم (2) .
بل ربَّما أعلَّ الحفَّاظ رواية مختلفاً فيها بقرينةِ مخالفةِ التَّابعيِّ لما روى، كما أعلَّ الدَّارقطني حديث أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه كره السَّدل.
قال الدَّارقطني: «وروي هذا الحديث عن عطاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وفي رفعه نظر، لأن ابن جريج روى عن عطاء بن أبي رباح أنه كان يسدل في الصَّلاة» (3) .
وقال ابن حجر: «قال الدارقطني في العلل: رواه يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال الدارقطني: وتابعه بقية عن عبيد الله، والصحيح عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى. وقد روى طلق بن حبيب قال: قلت لابن عمر: هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير شيئاً؟ قال: لا. قال: فهذا يدلُّ على وهم بقية ويحيى بن سليم في إسناده» (4) .
8) وجود تفصيل أو قصة في السند أو المتن:
فمن روى خبراً مرسلاً - مثلاً - بقصة، فإن روايته مقدَّمة على من ذكر الخبر وحده موصولاً مجرداً من القصة. لأنَّ ذلك دلالة على حفظ الأول.
قال أحمد: «إذا كان في الحديث قصة دلَّ على أن راوية حفظه» (5) .
_________
(1) التاريخ الكبير (1/91-92) .
(2) العلل الكبير للترمذي (1/343-ترتيبه) .
(3) العلل (8/338) .
(4) التلخيص (51) .
(5) هدي الساري (ص525) .
(1/97)
قال الخطيب البغدادي: «وقد يُرَجَّح أحد الخبرين بأن يكون مروياً في تضاعيفه قصة مشهورة متداولة معروفة عند أهل النقل، لأنَّ ما يرويه الواحد مع غيره أقرب في النفس إلى الصحة مما يرويه الواحد عرياً عن قصة مشهورة» (1) .
ومن شواهد اعتبار هذه القرينة في المتن قول ابن أبي حاتم (2) : «سألت أبي عن حديث رواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل، ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قَتادة عن الحسن عن سمرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل. قلت أيهما أصح؟ قال أبي: قَتادة أحفظ من أشعت، وأحسب الحديثين صحيحين، لأن لسعد بن هشام قصةً في سؤاله عائشة عن ترك النِّكاح يعني التبتل» .
وقال الدَّارقُطني: «حديث حجاج غير مدفوع، لأنه أتى بالقصة على وجهها، وشعبة اختصرها» (3) .
أما في السند فمن ذلك قول ابن حجر مرجحاً لرواية: «وهذا يشعر بأن من قال: عن أبيه عن جده سلك الجادة، وإلا فلو كان عنده عن أبيه عن جده لما احتاج أن يرحل فيه إلى المدينة، ويكتفي فيه بحديث مرسل» (4) .
ومثل قول ابن حجر هنا قول أبي حاتم: «لو كان عند قيس عن
_________
(1) الكفاية (ص475) .
(2) العلل (1/402) .
(3) العلل (11/104) .
(4) الفتح (9/476) ، كتاب الطلاق / باب 9.
(1/98)
المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يحتج أن يفتقر إلى أن يحدث عن عمر موقوف» (1) .
ومن أمثلة الترجيح بورود تفصيل في رواية دون أخرى قول الدَّارقُطني: «والصحيح قول من فصله» (2) .
وقال أيضاً: «وحديثهما أولى بالصواب، لأنهما فصلا ما بين حديث أبي مسعود وغيره» (3) .
9) التفرد: وهذه القرينة لا تَرِدُ في الاختلاف بين الرُّواة، بل تَرِدُ في الحديث الفرد الواحد الذي لا طرق له أخرى. ومن أكثر الحفَّاظ تعليلاً بها الإمام البخاري، فهو كثيْراً ما يقول في كتبه: «لا يتابع عليه» (4) مع عدم ذكر أي اختلاف على الرُّواة.
وأشدُّ ما يكون ضعفُ ذلك إذا تفرد صدوق أو نحوه عن حافظ كبيْر - كالزُّهري ومالك - له أصحاب كثيرون يحملون حديثه ولا يروون ما روى - ما تتوفر الهمم والدواعي على رواية ما رواه، فإن الحفَّاظ - غالباً - ما يردُّون هذه الرِّواية ويعلُّونها بالتَّفرد.
فمن ذلك قول أحمد في حديث: «أصحاب أبي هريرة المعروفون ليس هذا عندهم» (5) .
_________
(1) العلل لابن أبي حاتم (1/136) .
(2) العلل (5/131) .
(3) العلل (6/184) .
(4) من ذلك في تاريخه الكبير (1/110و127و139) .
(5) المنتخب من علل الخلال (137) .
(1/99)
وقال ابن معين: «هذا وهم، لو كان هذا هكذا لحدَّث به الناس جميعاً عن سفيان» (1) .
ومن شواهد ذلك أيضاً قول أبي حاتم في حديث رواه إسماعيل بن رجاء: «أين كان الثوريُّ وشعبة عن هذا الحديث» (2) .
وقال أيضاً: «فلو كان هذا الحديث عن الحرِّ كان أول ما يسأل عنه، فأين كان هؤلاء الحفَّاظ عنه» (3) .
وقال أيضاً: «ولو كان هذا الحديث عند شعبة كان أول ما يسأل عن هذا الحديث» (4) .
ومن شواهد الصريحة في ذلك قول أبي حاتم عن حديث رواه قُرَّان بن تمَّام عن أيمن بن نابل ... قال: «لم يروِ هذا الحديث عن أيمن إلا قُرَّان، ولا أراه محفوظاً، أين كان أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث» (5) .
قال ذلك وأيمن ليس بالمشهور المكثر. فكيف إذا تفرد راوٍ مختلف فيه، عن مثل الزهري وقَتادة ونحوهما من الحفَّاظ المكثرين، فكلام أبي حاتم وغيره فيه من باب أولى.
وقد يقبل التفرد لسبب آخر.
_________
(1) رواية الدوري (1671) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (1/92) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (2/392) .
(4) العلل لابن أَبي حاتم (2/401) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (1/296) .
(1/100)
قال ابن رجب: «مما يستدل به الأئمة كثيراً على صحة رواية من انفرد بالإسناد، إذا روى الحديث بالإسناد الذي روى به الجماعة» (1) .
10) غرابة المتن: ومعنى هذا أن يكون في لفظ الحديث من الغرابة ما تجعل كونه مرفوعاً بعيداً، حيث إنَّ حفَّاظ الحديث لكثرة ممارستهم لهذا العلم، تكون لديهم ملكة قوية في فقه المتون وعادة النصوص النبوية لفظاً ومعنىً.
ومن شواهد ذلك حديث أبي هريرة مرفوعاً: «إنَّما سمِّي البيت العتيق لأنه عتق من الجبابرة» (2) ، أرسله معمر ووصله غيْره، فأعله أبو حاتم الرَّازي بقوله: «حديث معمر عندي أشبه، لأنه لا يحتمل أن يكون عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرفوع» (3) .
وفي حديث ابن عباس مرفوعاً: «خير الجيوش أربعة آلاف ... » (4) ، قال أبو حاتم: «مرسل أشبه، لا يحتمل هذا الكلام [أن] يكون كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم» (5) .
وقال أيضاً في حديثٍ: «ولا أحسبه إلا وهم، يشبه كلام الزُّهري» (6) .
_________
(1) شرح العلل (2/720) .
(2) أخرجه البخاري في الكبير (1/201) والبزار في مسنده (2215) من حديث عبد الله بن الزبير.
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/275) .
(4) أخرجه الترمذي في جامعه (1555) وأعله بالإرسال.
(5) العلل لابن أَبي حاتم (1/347) .
(6) العلل لابن أَبي حاتم (1/380) .
(1/101)
ومن هذا الباب أن يكون المتن مما يشتهر مثله عند رواة بلده، فيأتي من بلد آخر، فيستغرب من هذه الحيثية، أن كيف لم يروه أهله، وهم أولى به.
فقد قال قتادة: إن إنساناً وقع في بئر زمزم، فمات، فأمر ابن عباس بالعيون فسُدَّت، وأن ينزح الماء. قال ابن عيينة عقبه: ولا يعرف أهل مكة هذا الحديث، وإنما جاء من قِبَلِ العراق (1) .
وهذا المبحث إنما يقدر عليه من عاش مع الحديث وعلله وطرقه وألفاظ رواته السنين الطويلة، مع ملازمة أهل الفهم به، والعكوف عليه، فيصير لديهم ملكة لا يعبر عنها بأمر سوى ما يهجم على قلوبهم ويسبق على ألسنتهم.
11) اختلاف ألفاظ الروايتين: ومن أمثلته الاختلاف على قَتادة - على وجهين - في حديث، فسأل ابن أبي حاتم أباه عن الراجح فقال: «الحديثان عندي صحيحان، لأنَّ ألفاظهما مختلفة» (2) .
12) اضطراب إحدى الروايتين: وأصل ذلك أن الاضِّطراب مما يوهن الرِّواية، وإن لم يستلزم القدح فيها بالكلية.
فإذا رُوِيَ حديثٌ عن قَتادة - مثلاً - ورواه عنه سعيد بن أبي عَروبة وهشام الدَّسْتَوائي، واختلف على سعيد بن أبي عَروبة، فإن جانب هشام الدَّسْتَوائي هنا أقوى من هذه الحيثية فيقدم لذلك.
_________
(1) تاريخ ابن أبي خيثمة (424-المكيون) .
(2) العلل (2/442) .
(1/102)
وإذا كان الاختلاف عليه قد وصل إلى حدِّ الاضِّطراب؛ فإن روايته مرجوحة قولاً واحداً كما هو معلوم.
قال ابن خلاد الباهلي: «سمعت يحيى - وهو ابن سعيد القطَّان - لا يقدِّم على يحيى بن سعيد أحداً من الحجازيين، فقيل له: الزُّهريُّ؟ فقال: الزُّهريُّ خولف عنه، ويحي لم يختلف عنه» (1) .
وقال ابن محرز: «وسمعت يحيى - يعني ابن معين - وقيل له: من كان أثبت أصحاب إبراهيم في إبراهيم، وأحبُّهم إليك؟ قال: منصور، فقيل له: فمن بعده؟ فقال: الأعمش، وذلك أنه لم يختلف على منصور» (2) .
قال ابن مهدي: «إنَّما يستدلُّ على حفظ المحدِّث إذا لم يختلف عليه الحفَّاظ» (3) .
وقال الخطيب عند ذكره لبعض قرائن ترجيح أحد الخبرين: «ومما يوجب ذلك أيضاً، أن يكون سنده عارياً من الاضِّطراب، وسند الآخر مضطرب، واضطراب السَّند أن يذكر راويه رجالاً فيلبس أسماءهم وأنسابهم ونعوتهم تدليساً للرواية عنهم ... » (4) .
وقال ابن حجر: «فحديث لم يختلف فيه على راويه - أصلاً - أصحُّ من حديث اختلف فيه في الجملة، وإن كان ذلك الاختلاف في نفسه يرجع
_________
(1) تاريخ بغداد (14/105) .
(2) رواية ابن محرز (1/119) .
(3) الكفاية (ص475) .
(4) الكفاية (ص475) .
(1/103)
إلى أمر لا يستلزم القدح» (1) .
ولذا رجح العلماء رواية على أخرى بحجة أن الراوي روى مثل هذا السند في حديث آخر فوهم فيه.
أما إذا اضطرب الثقات على راوٍ فيه كلام، فإن إلصاق السبب به أولى.
قال الدَّارقُطني بعد ذكر خلاف: «والاضطراب فيه من جهة ابن عقيل» (2) .
13) وجود أصل للرواية: ومعنى ذلك أن يختلف على راوٍ في زيادة رجل في سند الحديث أو في ذكر الوجه الذي أتى به، ويكون لذلك الرجل المزِيد أو الوجه الآخر أصل بأن ذكر في روايات أخرى من غير ذلك الطريق، فيكون ذلك قرينة على حفظ الرَّاوي لما ذكر.
قال أبو حاتم: «أنا إلى حديث الشَّعبي بلا عروة أميل، إذ كان للشَّعبي أصلٌ في المسح» (3) .
وقال أبو حاتم في حديث اختلف في ذكر أبي رافع فيه، فاحتج برواية أخرى موقوفة خارجة عن ذلك الخلاف بقوله: «كان حديث أبي رافع رضي الله عنه أشبه، لأن حميد الطويل رواه عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن
_________
(1) النكت لابن حجر (2/810) .
(2) العلل (7/19) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/13) .
(1/104)
أبي موسى رضي الله عنه موقوفاً» ، ووافقه أبو زرعة على ذلك (1) .
وقال أبو حاتم أيضاً: «حديث موسى أشبه، لأن الحديث يروى عن سعيد من طرق شتَّى، ولا يعرف عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء» (2) .
ويشبه هذا ترجيح العلماء رواية على أخرى بحجة أن هذا السند قد روي به أحاديث أخرى، لم تصل إلى درجة سلوك الجادة.
14) وجود رواية تجمع الوجهين المختلفين: ومعنى ذلك أن يختلف على راوٍ في حديث على وجهين - سواء أمكن التَّرجيح بينهما أم لم يمكن - ونجد رواية أخرى تجمع الوجهين جميعاً عن الشَّيخ نفسه. فتكون هذه قرينة على صحة الوجهين عن ذلك الشَّيخ.
ومن شواهد ذلك قول أبي حاتم: «لولا أن ابن الهاد جمع الحديثين، لكنا نحكم لهؤلاء الذين يروونه» (3) .
وقال التِّرمذي: «سألت أبا زرعة عن هذين الحديثين، أيهما أصح؟ حديث أنس أو حديث أبي سعيد؟ فقال: كلاهما صحيح، وقد رواهما عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه الحديثين جميعاً. وسألت محمداً، فقال مثله» (4) .
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/234) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (2/366) .
(3) العلل لابن أَبي حاتم (1/133و193) .
(4) العلل الكبير (1/400-ترتيبه) .
(1/105)
وقال الترمذي أيضاً بعد حديثٍ: «وكلا الوجهين صحيح، لأن إسرائيل جمعهما» (1) .
وقال ابن خزيمة بعد حديث اختلف فيه على وجهين عن النخعي: «غير مستنكر لإبراهيم النخعي - مع علمه وطول مجالسته أصحاب ابن مسعود - أن يروي خبراً عن جماعة من أصحاب ابن مسعود» (2) .
15) تصحيح الحفاظ لإحدى الروايات: حيث إنَّ حفَّاظ الحديث السابقين من أعلم النَّاس بعلمهم، فإن تصحيحهم لوجه من أوجه الخلاف يعد قرينة لمن أتى بعدهم على قوة هذا الوجه على غيرهم، حيث إنَّ علمهم بالعلل والخلاف، وقرائن التَّرجيح، تجعل تصحيحهم في أعلى درجات القوة. وهذا يختلف بحسب المصحح ومنهجه، وقوة كتابه الذي اشترط فيه الصحة.
فليس تصحيح ابن حبَّان والحاكم وغيره كتصحيح ابن المديني والبخاري ومسلم وأمثالهم من الكبار.
فإذا اختلف على قَتادة مثلاً على وجهين متقاربين في القوَّة، وقد صحَّح البخاري أو مسلم أو غيرهما من الحفَّاظ أحد الوجهين، استدللنا بذلك على صحة هذا الوجه لأن علمهم بالعلة غالب على الظن، ومنهجهم في التَّرجيح من أصح المناهج، فلا عذر بعد ذلك لمن خالفهم إلا عند اختلافهم مع قوة قرينة الوجه الآخر.
_________
(1) الجامع (1105) .
(2) التوحيد (1/183) .
(1/106)
ومن شواهد ذلك قول ابن حجر في حديث أخرجه البخاري بزيادة: «وأغرب الأصيلي فيما حكاه ابن بطال فقال: ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوْزاعي؛ لأن شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحدة.
قال وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر العمامة، وهي أيضا مرسلة؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو. قلت: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين، وأبو سلمة مدني، ولم يوصف بتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو، وقد روى بكير بن الأشج عن أبي سلمة أنه أرسل جعفر بن عمرو بن أمية إلى أبيه يسأله عن هذا الحديث فرجع إليه فأخبره به، فلا مانع أن يكون أبو سلمة اجتمع بعمرو بعد فسمعه منه، ويقويه توفر دواعيهم على الاجتماع في المسجد النبوي، وقد ذكرنا أن ابن منده أخرجه من طريق معمر بإثبات ذكر العمامة فيه، وعلى تقدير تفرد الأوْزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته، لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته، فتقبل ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الرِّوايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية» (1) .
فقول ابن حجر: «بهذه التعليلات الواهية» ، يريد بها قرائن التَّرجيح التي يعملها ابن حجر نفسه في كثير من المواضع من شرحه. ولكن لما كانت الرِّواية في الصَّحيح والقرائن مخالفة لما صحَّحه البخاري في الظَّاهر، ردَّ ابن حجر ذلك بقرينة تصحيح البخاري الذي استند على قرائن أخرى.
16) تشابه الاسمين: ومعنى ذلك أن يختلف على راوٍ، في تسمية شيخٍ، ويكون اسمهما
_________
(1) الفتح (1/408) .
(1/107)
متقارباً، فَيَهِمُ الرَّاوي إلى الأشهر منهما.
ومن أمثلة ذلك قول ابن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه يزيد بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع وعطاء عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خِفت الصبح فأوتر بواحدة". فقلت: لا نرى أَنَّ هذا خطأ لأنه هذا الحديث رواه جماعة عن عطيَّة ونافعٍ عن ابن عمرَ وليس في شيء من الأخبار ذكر عطاء، ويشبه أن يكون يزيد بن عطاء أراد أن يقول عن عطيَّة، فقال عن عطاء - والله أعلم -» (1) .
وقال أبو حاتم: «فلعله قاله: عن عبد الله بن مسعود، فظنَّ أنه يقول: عن عبد الله بن غافل» (2) .
وقال أبو زرعة: «أما القلب، فقوله عن أبي بردة، أراد ابن بريدة» (3) .
وقال الدَّارقطني في حديث: « ... وإنَّما الصَّواب: شعبة عن بيان، فوهم ابن سيف في بيان فجعله سيار ... » (4) .
ومن الأوهام في تعيين الرَّاوي بسبب الاتفاق في الاسم ما رواه أبو سلمة التَّبوذكيُّ قال: حدثنا أبان قال حدثنا شدَّاد بن عبد الله بن الهاد ... فقال أبو حاتم: «كذا قال أبو سلمة: ابن الهاد، وهو خطأ، هو عندي شدَّاد أبو عمَّار» (5) .
_________
(1) العلل (1/98) .
(2) العلل لابن أَبي حاتم (2/231) .
(3) العلل (2/24) .
(4) سؤالات حمزة السهمي للدارقطني (34) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (1/357) .
(1/108)
17) رواية أهل المدينة: والمراد بذلك أن يخالف أهل المدينة غيرهم في حديث - وإن اختلف مخرجه. فيرجح جانبهم لأنَّ علم الحديث نبع من تلك الأرض وأهلها، فجانبهم عند الاختلاف أقوى.
ومن شواهد ذلك الاختلاف في ذكر عمَّار وبلالٍ في حديثٍ، فأهل الكوفة ذكروا عماراً مسنداً، وأهل المدينة ذكروا بلالاً بروايةٍ مرسلةٍ. فرجَّح أبو زرعة بينهم بأمرٍ جديدٍ فقال: «رواه المدنيون على أنه بلال، وهم أعلم، وإن كان روايتهم مرسلاً، فلولا أنهم سمعوه من أَصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقولونه» (1) .
18) احتمال التدليس ممن وصف به: فإذا اختلف على راوٍ - رُمِيَ بالتدليس - بزيادة بينه وبين شيخه، وكانت القرائن متقاربة، فإن القول بالزيادة في السند محتمل، لاحتمال التدليس من ذلك الراوي، فيكون أسقطه مرة.
قال الدَّارقُطني وسئل عن حديث الخوارج فقال: «وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي واختلف عنه.
فرواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عن علي.
ورواه سعاد بن سليمان عن أبي إسحاق عن قيس بن سويد عن علي ووهم.
_________
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/100) .
(1/109)
ورواه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق فضبطه عن أبي إسحاق فقال عن أبي قيس الأودي عن سويد بن غفلة عن علي. وهو الصواب» (1) .
19) التصريح بالسماع: فإذا روى راوٍ بزيادة في السند، وأسقطها آخر مع التصريح عن الشيخ الأعلى، أو صرح عن شيخ آخر، كان ذلك قرينة على صحة هذه الرواية - مالم تعارض بأقوى -، ويقوى ذلك إذا كان المسقط مدلساً قد عنعن.
قال ابن حجر في ذكر خلاف على سالم: «وليس لجرير بن زيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد خالف فيه الزهري، فقال عن سالم عن أبي هريرة والزهري يقول عن سالم عن أبيه. لكن قَوِيَ عند البخاري أنه عن سالم عن أبيه وعن أبي هريرة معاً، لشدة إتقان الزهري ومعرفته بحديث سالم، ولقول جرير بن زيد في روايته: كنت مع سالم على باب داره فقال: سمعت أبا هريرة، فإنها قرينة في أنه حفظ ذلك» (2) .



( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
قواعد العلل وقرائن الترجيح
تعارض القرائن:
وللتَّرجيح قرائن خاصة أخرى يمكن استنباطها من تعليلات الحفَّاظ، والنظر في سياق كلامهم، واستخراج أسباب ترجيحهم رواية على أخرى، مع التَّنبُّه إلى أنَّه قد تقدَّم قرينةٌ على أخرى لأسبابٍ تظهر من كل حديثٍ بعينه.
ومن الأمثلة على اختلاف الحفاظ في الترجيح بسبب الاختلاف في تقديم القرائن قول ابن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه
_________
(1) العلل (3/229) .
(2) الفتح (10/322) ، حديث (5790) .
(1/110)
الثوري عن الزبير ابن عدي عن أبي رزين عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين.
قال أبو زرعة: ورواه عنبسة بن سعيد قاضي الري عن عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن أبي رزين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو زرعة: حديث عنبسة وعمرو أشبه عندي إذا اتفق عليه النفسان، وهما الرواة عن الزبير، وأخاف أن يكون اشتبه على الثوري عاصم عن زر، ولعله من الزبير.
قال أبي: حديث الثوري أصح عن أُبيّ، وهو أحفظهم وأعلى من هؤلاء بدرجات والحديث بأُبي أشبه إذْ كان قد رواه عاصم عن زر عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس لحذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين معنى» (1) .
فاختلافا في قرينة الترجيح، فبينما اعتمد أبو زرعة على العدد والاختصاص، اعتمد أبو حاتم على الحفظ والمتابعة القاصرة.
ومما سبق يتبين إجمالاً إنه ينبغي في الترجيح بين الرواة الثقات عند خفاء القرائن العامة النظرُ في تراجمهم لاستنباط قرائن خاصة دقيقة تساعد على الحكم بدقة، كما لو كان الراوي معروفاً بقصر الأسانيد، أو وقفها، كما هو مذهب بعض السلف، وصرَّح به أحمد بن حنبل فقال: «وقد كان مذهبهم أن يقصروا بالحديث ويوقفوه» (2) .
وقال الدَّارقُطني إنَّ ابن سيرين وابن عون ومالك ربما أوقفوا المرفوع أو أرسلوا الموصول (3) .
_________
(1) العلل (2/54-55) .
(2) رواية المروذي (78) وشرح العلل (2/689) .
(3) علل الدَّارقُطني (10/14و23و6/63) .
(1/111)
ويمكن للناظر في هذه القرائن أن يقسمها إلى ما يلي:
أ/ باعتبار القرب والبعد، قسمان:
1- قرائن داخلية: تعرف من الرِّوايات التي تذكر مع العلة، فيُرجَّح بينها من خلال ذلك دون حاجة - أحياناً - إلى تتبع الطُّرق وجمعها، ومن أمثلتها قرينة البلد والاختصاص.
2- قرائن خارجية: قد يتعذر الحكم على الحديث بدونها، ومن أمثلتها قرينة العدد والاختلاف على الرَّاوي ونحو ذلك.
ب/كما أنها باعتبار الظهور والخفاء قسمان آخران:
1- قرائن ظاهرة: كالقرائن العامة.
2- قرائن خفية: كالرواية عن أهل بلده.
ج/ وباعتبار التنصيص، قسمان:
1- قرائن نص العلماء على عليها، كقولهم: «فلان أحفظ» .
2- قرائن مسكوت عنها، تعلم بالقياس والاستنباط.
والأمثلة على القرائن السابقة من كلام أهل العلم على الأحاديث كثيرة جداً، ولعل فيما ذُكر كفاية في الدلالة على أصل كل مسألة، والله أعلم.
وصلى الله على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/112)
عِلَلُ أَلْفَاظِ حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه في المَسْحِ (*)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى من رحمته وفضله أن بيَّن للناس ما يحتاجون إليه من أمور دينهم أتمَّ البيان، وأكمله، فأرسل رسله وأنزل كتبه، حجة للعالمين.
وكان من الأمور التي بيَّنها الله - تعالى- لعباده المؤمنين، أحكام الطهارة، فذكرها -سبحانه- في آيات من كتابه، وفصَّلها رسوله صلى الله عليه وسلم في جملة من أحاديثه.
ومن أهم مسائل الطهارة التي بيَّنها صلى الله عليه وسلم: المسح على الخفين. وصار من أهميتها أنْ ذكرها العلماء في كتب العقيدة؛ رداً على من أنكر ما جاءت به السُّنة من جواز المسح.
فهذا سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله - قيل له: متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ فذكر أموراً عدة منها ألا يترك المسح على الخفين (1) .
وقال أبو عصمة: «سألت أبا حنيفة: مَن أهل الجماعة؟ قال: من فضَّل أبا بكر وعمر وأحبَّ علياً وعثمان رضي الله عنهما، وآمن بالقدر خيره وشره من الله، ومسح على الخفين، ولم يُكَفِّرُ مؤمناً بذنب، ولم يتكلم في الله بشيء» (2) .
وقال أبو الحسن الأشعري -رحمه الله-: «واختلفوا في المسح على الخفين، فقال: أكثر أهل الإسلام بالمسح على الخفين، وأنكر المسح على الخفين الروافض والخوارج» (3) .
وقال أيضاً: «ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر» (4) ومن أشهر الأحاديث الثابتة في شأن هذه السُّنة، حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حيث ذكر فيه بعض ما لم يروه غيره من الصحابة رضي الله عنه.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا المبحث ليس في المطبوع
(1) أخرجه اللالكائي في السنة (324) .
(2) أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص163) .
(3) مقالات الإسلاميين (2/161) .
(4) المقالات (1/348) .
(/)
قال عبد الرحمن بن مهدي: «عندي 13 حديثاً عن المغيرة في المسح» (1) .
وقال ابن المديني: «حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة» (2) .
وقال أبو نعيم بعد أن سرد 23 تابعياً: «رووا عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين، منهم من ساق القصة، ومنهم من اقتصر على المسح على الخفين والجوربين» (3) .
وقال ابن عبد البر بعد سرد بعض طرقه: «وكلهم يصف ضيق الجبة ويصف إمامة عبد الرحمن بن عوف، والقصة على وجهها بألفاظ متقاربة ومعنى واحد، إلا قليلاً منهم ممن اختصر القصة، وقصد إلى الحكم في المسح على الخفين وعلى الناصية» (4) .
ولأهمية هذا الحديث، قمت بجمع طرقه عن المغيرة رضي الله عنه - من كتب الحديث والسنة - التي ذكر فيها المسح، فأربى عدد رواته على الأربعين راوياً.
أخرج الشيخان عن ثلاث من رواته فحسب، وهم:
1.عروة بن المغيرة (5) .
2. مسروق (6) .
3. الأسود بن هلال (7) .
ولفظ الحديث المشهور الذي رواه الثقات وخرجه أصحاب الكتب السبعة وغيرهم، يدور على "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ".
__________
(1) المعجم للإسماعيلي (2/703) ، ويعني بالحديث الطريق والسند.
(2) الكبرى للبيهقي (1/284) .
(3) معرفة الصحابة (6229) .
(4) التمهيد (11/130) .
(5) البخاري (182و203) ومسلم.
(6) البخاري (363) ومسلم (273) .
(7) مسلم (274) .
(/)
وزاد بعض الرُّواة عن المغيرة القصَّة كاملة، يقول فيه المغيرة رضي الله عنه: «تخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلَّفت معه، فلما قضى حاجته قال:" أمعك ماء "؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفَّيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه، فضاق كمُّ الجبَّة، فأخرج يده من تحت الجبَّة وألقى الجبَّة على منكبيه، وغسل ذراعيه، ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه، ثم ركب وركبت، فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصَّلاة، يصلِّي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة، فلما أحسَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخَّر، فأومأ إليه، فصلَّى بهم، فلما سلَّم قام النَّبي صلى الله عليه وسلم وقمت، فركعنا الرَّكعة التي سبقتنا» .
فزاد فيه أيضاً المسح على العمامة والرأس، وهي رواية جماعة أيضاً عن المغيرة في الصحيح.
ومن الرواة من ذكر قصة عبد الرحمن بن عوف ولم يذكر المسح فيه (1) .
واقتصرت في هذا البحث على الألفاظ الخارجة عن رواية الجماعة سواء كانت في الصحيحين أم لا.
وفي البدءِ أذكر ترجمة موجزة لراوي الحديث: المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
قال ابن سعد عنه: «المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، ويُكْنَى أبا عبد الله، وأول مشاهده الحديبية، وولَّاه عمر بن الخطاب البصرة، ثم عزله عنها، وولَّاه بعد ذلك الكوفة، فَقُتِلَ عمر وهو على الكوفة، فعزله عثمان بن عفان عنها، وولاها سعد بن أبي وقاص، فلما ولي معاويةُ ولَّى المغيرةَ بن شعبة الكوفة، فمات بها» (2) .
وقال أيضاً: «كان يقال له مغيرة الرأي، وكان داهية لا يشتجر في صدره أمران إلا وجد في أحدهما مخرجاً» (3) .
__________
(1) كما وقع في رواية عند الدارمي (1451) .
(2) الطبقات الكبرى (6/20) .
(3) الطبقات الكبرى (4/284) .
(/)
وقال ابن جرير: «كان ضخم القامة عبل الذراعين بعيد ما بين المنكبين أصهب (1) الشعر جعده، وكان لا يفرقه. أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها وبيعة الرضوان، وله فيها ذكر، وحدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه أولاده: عروة وعقار وحمزة، ومن الصحابة: المسور بن مخرمة، ومن المخضرمين فمن بعدهم: قيس بن أبي حازم، ومسروق، وقبيصة بن ذؤيب، ونافع بن جبير، وبكر بن عبد الله المزني، والأسود بن هلال، وزياد بن علاقة، وآخرون» (2) .
ونقل الخطيب الإجماع على أنه مات بالكوفة سنة خمسين (3) .
وقال ابن حِبَان: «له سبعون سنة، وكان من دهاة قريش» (4) أ. هـ.
روى المغيرة رضي الله عنه حديث المسح على الخفين عن رسول صلى الله عليه وسلم، ورواه عنه جماعة، ولبعضهم ألفاظ وزيادات على البعض.
وهذا بيان لتلك الألفاظ، وطرقها وتخريجها وبيان عللها، سالكاً فيه طريق الإيجاز والاختصار مع تمام البيان للمراد، مجانباً للتطويل والحواشي غير المهمة، ساكتاً فيه عن حال الرواة الثقات الذين ترجم لهم المزي وابن حجر في التهذيبين.
اللفظة الأولى: عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:" أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخفِّ وأسفله".
كذا رواه جماعة عن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن ورَّاد به، منهم:
1. الوليد بن مسلم - أخرجه أحمد (4/251) ، والبخاري في الأوسط (980) - تعليقاً -، والترمذي (97) ، وابن ماجة (550) ، وابن الجارود (84) ، وأبو داود (167) ، وقال: «بلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء» .
__________
(1) حمرة في سواد - أساس البلاغة (ص260) "صهب"، والعبل: الضخم من كل شيء - لسان.
(2) الإصابة (6/198) .
(3) تاريخ بغداد (1/191) .
(4) المشاهير (269) .
(/)
قال الترمذي في جامعه وفي العلل الكبير (1/180) : «هذا حديث معلول» ، ونقل عن البخاري وأبي زرعة قولهما: "ليس بصحيح، لأنَّ ابن المبارك روى هذا الحديث عن ثور قال: حُدِّثت عن رجاء عن كاتب المغيرة مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه "المغيرة".
وقال أحمد: «لم يسمع ثور من رجاء» - التمهيد (1/14) والتنقيح (1/194) .
وأعلَّ ابن حجر في التلخيص (219) رواية من صرَّح فيه بالتحديث.
وقال أبو حاتم: «ليس بمحفوظ، وسائر الأحاديث عن المغيرة أصح» - العلل لابنه (135) .
وكذا وصفه أبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (78) والعلل الكبير (1/180) .
وقال أحمد أيضاً: «لا أرى الحديث يثبت» - تاريخ بغداد (2/135) .
وضعَّفه أيضاً ابن القيم في حاشيته على تهذيب السنن (1/284) ، ونقله عن الشافعي أيضاً، ثم قال: «الأحاديث الصحيحة كلُّها تخالفه» ، فهذا السند ضعيف.
2. عتبة بن السكن - أخرجه تمام في فوائده (1/239) مرسلاً، بإسقاط المغيرة رضي الله عنه.
وعتبة قال عنه الدارقطني: متروك، وضعفه البزار، وابن حبان، والبيهقي - اللسان (4/152) - فالسند ضعيف.
3. محمد بن عيسى بن سُميع، أشار إليه الدارقطني في علله (7/109) ، ومحمد صدوق - التهذيب (3/670) - ولم أجد من وصله، وتفرُّد ابنِ سُميع لا يحتمل هنا.
4. عبد الله بن المبارك، رواه عن ثور لكنه قال: حُدِّثت عن رجاء عن كاتب المغيرة مرسلاً - ذكره البخاري في الأوسط (980) ، والترمذي في جامعه (97) ، والدارقطني في علله (7/110) ، والبيهقي في الكبرى (1/290) ، والخطيب في تاريخه (2/135) .
وهذا الوجه احتج به البخاري وأبو زرعة على تضعيف رواية الوليد الموصولة -كما سبق-.
وقال الدارقطني في علله (7/111) : «وحديث رجاء بن حيوة الذي فيه ذكر أعلى الخف وأسفله لا يثبت، لأن ابن المبارك رواه عن ثور بن يزيد مرسلاً» .
(/)
وحكى أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه سُئِلَ عن حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله، فقال: هذا الحديث ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال: عن ابن المبارك أنه قال عن ثور: حُدِّثتُ عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة وليس فيه المغيرة، قال أحمد: وأما الوليد فزاد فيه عن المغيرة وجعله: ثور عن رجاء ولم يسمعه ثور من رجاء لأن ابن المبارك قال فيه عن ثور: حدثت عن رجاء» - التمهيد (1/14) ، وتاريخ بغداد (2/135) .
قال ابن القيم: «فهذا حديث قد ضَعَّفَهُ الأئمة الكبار -البخاري، وأبو زرعة، والترمذي، وأبو داود، والشافعي- ومن المتأخرين أبو محمد ابن حزم، وهو الصواب؛ لأن الأحاديث الصحيحة كلها تخالفه» - حاشية تهذيب السنن (1/193) .
اللفظة الثانية: قال أحمد في مسنده (4/254) : «ثنا أبو المغيرة ثنا مُعان بن رفاعة حدثني علي بن يزيد عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتيت خباءً فإذا فيه امرأة أعرابية قال: فقلت: إنَّ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد ماء يتوضأ، فهل عندك من ماء؟ قالت: بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تظلُّ السماء ولا تقلُّ الأرض رُوحا أحبَّ إليَّ من روحه، ولا أعزَّ، ولكن هذه القربة مسك ميتة، ولا أحبُّ أن أنجس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:" ارجع إليها فإن كانت دبغتها فهي طهورها "، قال: فرجعت إليها فذكرت ذلك لها، فقالت: أي والله، لقد دبغتها، فأتيته بماء منها وعليه يومئذ جبة شامية وعليه خفان وخمار، قال: فأدخل يديه من تحت الجبة - قال: من ضيق كميها - قال: فتوضأ فمسح على الخمار والخفين» .
(/)
وهذا اللفظ بطوله منكر، مخالف لكلِّ الروايات عن المغيرة رضي الله عنه.
فعلي بن زيد هو الألهاني ضعيف - التقريب (4817) .
ومُعان مختلف فيه، فقد ضعفه ابن معين، وأبو حاتم، وابن حبان، وابن عدي، والجوزجاني، ويعقوب، والأزدي، وقال عنه أحمد، وأبو داود، ومحمد بن عوف: لا بأس به، ووثقه ابن المديني، ودحيم - التهذيب (4/104) .
فالرجل إلى الضعف أقرب لكثرة من قال بذلك.
اللفظة الثالثة: زيادة: "هكذا أمرني ربي عز وجل"، وجاءت من طريقين:
أ- الطريق الأولى: روى جماعة عن بكير بن عمر البجلي عن عبد الرحمن بن أبي نُعم عن المغيرة بن شعبة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، فقلت: يارسول الله، نسيت؟ قال:" بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل ".- أخرجه أحمد (4/246و253) ، وأبو داود، (157) ، والعقيلي (1/153) ، وابن عدي (2/202و203) ، والحاكم في المستدرك (1/170) - وصححه -، وأبو نعيم في الحلية (7/335) ، والخطيب في جامعه (1147) .
وهذا اللفظ شاذ من هذا الوجه فبكير ضعيف - التقريب (759) .
وقد خالف الجماعة عن بكير راوٍ آخر هو: منديل، حيث قال عن بكير عن الشعبي عن عروة عن المغيرة بالزيادة - أخرجه الطبراني في الكبير (20/374) ، ومندل ضعيف - التقريب (6931) ، وقد اضطرب فرواه مرةً أخرى كرواية الجماعة عند الطبراني (20/417) .
ب- الطريق الثانية: قال ابن عدي في الكامل (6/196) : حدثنا الحسن بن الحباب المقري قال ثنا الربيع بن ثعلب قال ثنا عمرو بن جميع الحلواني عن الأعمش عن أبي ظبيان عن المغيرة بن شعبة قال: «توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح، فقلت: نسيت يا رسول الله؟ فقال: " بل أنت نسيت، هكذا أمرني ربي عز وجل"» .
وهذا سند واهٍ، فعمرو بن جميع: متروك - اللسان (4/411) .
(/)
وقد خالفه في إسناده ومتنه جماعة، رووه عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن المغيرة رضي الله عنه، ولم يذكروا فيه " أمرني ربي " - أخرجه البخاري (363و388و2918و5798) ، ومسلم (273) . فذكر النسيان لا يصح أصلاً، وقوله: " أمرني ربي " لا تثبت في هذا الحديث، وإن كان معناه صحيحاً.
اللفظة الرابعة: ذكر التوقيت، وجاءت من طريقين:
أ - الطريق الأولى: رواه عمر بن رُدَيح عن عطاء بن أبي ميمونة عن أبي بردة عن المغيرة قال: «آخر غزاة غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نمسح على خفافنا للمسافر: ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم: يوم وليلة، ما لم يخلع» - أخرجه الطبراني في الكبير (20/418) ، والبيهقي (1/290) .
وقوله: " ما لم يخلع " منكر، لم يأت له شاهد بخلاف أوله، فله شواهد صحيحة عن غير المغيرة رضي الله عنه.
وعمر مختلف فيه.
فقال ابن معين: صالح الحديث، وذكره ابن شاهين في الثقات وقال ابن حبان: مستقيم الحديث، بينما ضعفه أبو حاتم، وقال عنه ابن عدي: يخالف الثقات في بعض ما يرويه -اللسان (4/306) .
وقال البيهقي عقبه: «تفرد به عمر بن رُدَيح وليس بالقوي» .
فذكر التوقيت عن المغيرة رضي الله عنه شاذ، لعدم ذكره في بقية الروايات عنه.
ب - الطريق الثانية: قال أسلم في تاريخ واسط (ص242) : حدثنا الحسين بن المبارك قال: ثنا عبد الله بن رجاء عن عمر بن أبي زائدة عن ابن أبي السفر عن الشعبي عن عقَّار بن المغيرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: «للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن» .
وهذا اللفظ بهذا السند شاذ أيضاً، فقد روى مسلم في صحيحه (274) الحديث عن إسحاق بن منصور عن عمر ... به، بدون ذكر التوقيت بل فيه: أنه وضَّأ النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ومسح على خفيه، فقال: إني أدخلتهما طاهرتين.
(/)
وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (4/27) قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا عبد الله بن رجاء ... به مطولاً، وليس فيه ذكر التوقيت، لكنه ثبت في أحاديث متواترة عن غير المغيرة رضي الله عنه.
اللفظة الخامسة: زيادة " ثم لم أمش حافيا بعد ".
قال أحمد في مسنده (4/246) ثنا عبدة بن سليمان أبو محمد الكلابي ثنا مجالد عن الشعبي عن المغيرة بن شعبة قال: وضَّأت النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه ومسح على خفيه، فقلت: يا رسول الله، ألا أنزع خفيك؟ قال:" لا إني أدخلتهما وهما طاهرتان، ثم لم أمش حافيا بعد ". ثم صلى صلاة الصبح» .
وهذه الزيادة لا تصح، لأن مجالداً خالف كلَّ من روى الحديث عن الشعبي في السند والمتن، منهم:
أ/ زكريا - أخرجه البخاري (206) ومسلم (274) .
ب/ عمر بن أبي زائدة - أخرجه مسلم (274) .
ج/ عبد الله بن عون - أخرجه النسائي (82) .
د/ يونس - أخرجه أبو داود (151) .
كلهم رووه عن الشعبي عن عروة عن أبيه المغيرة، فزادوا في السند لا المتن.
ومجالد ضعيف الحديث - التهذيب (4/24) ، فهذه اللفظة لا تصح.
اللفظة السادسة: زيادة "الجوربين والنعلين"، وجاءت من طريقين:
1- الطريق الأولى: قال الإسماعيلي في معجمه (2/703) : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن مرداس الواسطي أبو بكر - من حفظه إملاءً - قال: سمعت أحمد بن سنان يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: عندي عن المغيرة بن شعبة ثلاثة عشر حديثاً في المسح على الخفين، فقال أحمد الدورقي: حدثنا يزيد بن هارون عن داود بن أبي هند عن أبي العالية عن فضالة بن عمرو الزهراني عن المغيرة بن شعبة "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين". قال: فلم يكن عنده فاغتمَّ» .
وهذا سند حسن رجاله ثقات عدا فضالة، حيث سكت عنه البخاري في الكبير (7/124) وقال: فضالة بن عمير الزهراني، وقيل ابن عبيد.
(/)
وكذا قال ابن أبي حاتم في الجرح (7/77) ، وزاد: بصري.
وذكره ابن حبان في الثقات (5/296) ، وقال العجلي: «بصري تابعي ثقة» - الثقات (1478) .
لكن اللفظة معلة بأمور منها:
أ. المخالفة لبقية مَنْ رواه عن المغيرة رضي الله عنه بدونها.
ب. أنَّ الطبراني في الكبير (20/425) روى الحديث، فذكر الرأس والخفين، ولم يذكر الجوربين.
ج. أنَّ الحديث جاء في المذاكرة بين المحدِّثين، وقد قال ابن حبان: «ولقد كنا نجالسهم - أي حفاظ الحديث - برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها» - شرح العلل لابن رجب (1/151) .
د. أن مخرج الحديث الإسماعيلي متأخر توفي سنة 371هـ، فأين السابقون من سلف الأمة عن هذا الحديث - لو صح -؟
وما كان هذا حاله فلا سبيل للاحتجاج به.
2- الطريق الثانية:
رواها أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة رضي الله عنه - أخرجه أحمد (4/252) ، والترمذي (99) - وصححه -، وأبو داود (160) ، وابن ماجة (559) ، والنسائي في الكبرى (130) ، وابن حبان (1338-إحسان) ، وابن خزيمة (198) ، وغيرهم، من طرق عن الثوري عن أبي قيس به بلفظ: «توضَّأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين» .
وهذا سند علته في أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان الأودي.
قال عنه أبو حاتم: ليس بقوي، ليس بحافظ، قليل الحديث. وحرَّك أحمد يده في أمره عندما سئل عنه وقال: هو كذا وكذا، وذكره العقيلي في الضعفاء بسبب حديثه هذا، ووثقه ابن نمير وابن حبان والدارقطني - التهذيب (2/495) .
وهذا اللفظ من هذا الطريق شاذ أيضاً لمخالفته كلَّ الطرق الصحيحة عن المغيرة رضي الله عنه.
قال عبد الرحمن بن مهدي: «قلت لسفيان الثوري: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعيف، أو واهٍ، أو كلمة نحوها» .
(/)
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: «حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروي هذا إلا من حديث أبي قيس. قال أبي: إنَّ عبد الرحمن بن مهدي أبَى أنْ يحدِّث به يقول: هو منكر» .
وقال علي بن المديني: «حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين وخالف الناس» .
وقال مسلم: «أبو قيس الأودي وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان هذا، مع مخالفتهما الأجلة، الذين رووا هذا الخير عن المغيرة، فقال: مسح على الخفين» - الكبرى للبيهقي (1/284) .
وقال أيضاً: «والحمل فيه على أبي قيس أشبه، وبه أولى منه بهذيل لأنَّ أبا قيس قد استنكر أهل العلم من روايته أخباراً غير هذا الخبر ... » - التمييز (ص203) .
ونقل البخاري عن القطان استنكاره لهذا الحديث - التاريخ الكبير (3/137) .
قال أبو داود: «كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين» - السنن (160) .
وقال النسائي: «ما نعلم أن أحداً تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين» - السنن الكبرى (2/9) .
وقال العقيلي عقبه: «الرواية في الجوربين فيها لين» - الضعفاء (2/327) .
وقال الدارقطني: «لم يروه غير أبي قيس، وهو مما يغمز عليه به، لأن المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين» - العلل (7/112) .
وعن حكم المسح على الجوربين قال ابن المنذر: روى المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: علي، وعمار، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وزاد أبو داود، وأبو أمامة، وعمرو بن حريث، وعمر، وابن عباس رضي الله عنهم» .
(/)
قال ابن القيم عقبه: «فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً، والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم لا على حديث أبي قيس» - حاشية تهذيب السنن (1/187) .
اللفظة السابعة: رواها أبو عامر الخزاز عن الحسن عن المغيرة بن شعبة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين» .
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (1/170) ، وفي مسنده (111- المطالب) ، والبيهقي في الكبرى (1/292) .
وهذا سند لا يصح لأمور منها:
أ. أن الحسن لم يسمع من المغيرة أصلاً.
قال الحربي في علله: «أحسب لو كان الحسن معه في بلد سمع منه» - الإكمال لمغلطاي (4/86) .
وقال الدارقطني بعد هذا الحديث: «لم يسمع الحسن هذا من المغيرة» - العلل (7/106) .
وقال الذهبي: «لم يسمع من المغيرة» - السير (1/80) .
ب. أنَّ أبا عامر صالح الخزاز قال فيه ابن حجر عقب حديثه هذا: «صالح بن رستم فيه ضعف، والحسن لم يسمع - عندي - من المغيرة» - المطالب (111) .
ج. أن قتادة - وهو أثبت أصحاب الحسن-، رواه عنه بدون ذكر المسح أصلاً، بل بذكر أصل القصة - أخرجه عنه أبو داود في سننه (153) .
وهذه الرواية تفردت بذكر تفصيل كيفية مسحه صلى الله عليه وسلم. أما قوله "مسحة واحدة" فصحيحة المعنى، حيث لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار المسح على الخفين، والأصل عدمه.
اللفظة الثامنة: قال الطيالسي في مسنده (727) : حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن المغيرة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر خفيه» .
وهذا سند علته أنَّ الطيالسي جعل عروة فيه ابن المغيرة، فخالف بذلك جماعة رووه عن ابن أبي الزناد، فسموه: ابن الزبير، منهم:
(/)
1. سليمان الهاشمي - أخرجه ابن الجارود (85) ، والدارقطني (1/195) .
2. إبراهيم بن أبي العباس - أخرجه أحمد (4/246و254) .
3. علي بن حُجر - أخرجه الترمذي (98) .
4. محمد بن الصباح - أخرجه البخاري في تاريخه الأوسط (981) ، وأبو داود (162) .
5. سعيد بن منصور - أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/454) .
فالصواب ما رواه الجماعة، ويظهر أنَّ الوهم في هذا الحديث سنداً ومتناً من عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه.
ففي قوله "عروة بن الزبير"، قد خالف كلَّ من روى الحديث عن عروة عن المغيرة رضي الله عنه، حيث جعلوا عروة فيه ابناً للمغيرة لا لابن الزبير.
وعبد الرحمن بن أبي الزناد ضعَّفه ابن مهدي، وأحمد - في رواية -، وابن المديني، والنسائي، وابن معين، والسَّاجي، وخالفهم الترمذي، والعجلي - التهذيب (2/504) .
وقوله " ظاهر خفيه " لم ترد في بقية الطرق الصحيحة، فهي لا تثبت من حديث المغيرة رضي الله عنه، أما المعنى فصحيح بلا ريب، يشهد لها ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» - أخرجه أبو داود (163) .
تم بحمد الله
والله أعلم وصلِّ اللهم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلِّم. 
==========

14-غرر الفوائد المجموعة


غرر الفوائد المجموعة
الحديث الأول
قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله في كتاب الطهارة وروى الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي
(1/117)
الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري فقال أبو الجهم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه قلت هكذا أخرجه مسلم في صحيحه مقطوعا وهو حديث صحيح ثابت متصل في كتاب البخاري وغيره من حديث الإمام أبي الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن المصري الفقيه عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل المصري أخرجه الأئمة الثقات البخاري وأبو داود والنسائي في مصنفاتهم متصلا من حديثه فرواه البخاري عن يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري عنه وابن بكير هذا من شرط مسلم فإنه احتج بحديثه وروى عن أبي زرعة الرازي وعن غير واحد
(1/118)
عنه ورواه أبو داود عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده وعبد الملك هذا من ثقات المصريين روى عنه مسلم في صحيحه عدة أحاديث من روايته عن أبيه عن جده ورواه النسائي عن الربيع بن سليمان عن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه والربيع بن سليمان هذا هو المرادي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله مشهور من ثقات المصريين وأكابرهم وقد أخبرنا به من طريق البخاري الشيخ المحدث الثقة أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت الأنصاري الخزرجي رحمه الله قراءة عليه في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وخمس مائة بمصر أنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال السعيدي النحوي قراءة
(1/119)
عليه وأنا أسمع أخبرتنا الحرة الصالحة المجاورة أم الكرام كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية بقراءتي عليها بمكة شرفها الله سنة ست وخمسين وأربع مائة أنا أبو الهيثم محمد بن مكي بن محمد الكشميهني الأديب أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري أنا الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري قراءة عليه وأنا أسمع غير مرة ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال سمعت عميرا
(1/120)
مولى ابن عباس قال أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري فقال أبو الجهيم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام هكذا أورده البخاري في صحيحه فثبت اتصاله وصح الاحتجاج به ووقع في هذا الحديث وهم في صحيح مسلم وهو قوله أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار وصوابه عبد الله بن يسار كما أوردناه من صحيح البخاري آنفا وكذلك هو في كتابي أبي داود والنسائي أيضا عبد الله بن يسار على الصواب وهو أخو
(1/121)
عطاء وسليمان وعبد الملك بني يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهيم هذا اسمه عبد الله بن الحارث بن الصمة الأنصاري قاله أبو مسعود الدمشقي وخلف بن محمد الواسطي الحافظان ولم يسمه الكلاباذي
(1/122)
ولا أبو عمر بن عبد البر وذكر الحافظ أبو الفضل المقدسي وغيره أنه يقال له أبو جهم أيضا والله عز وجل أعلم
الحديث الثاني
قال مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة في إحدى الروايات عنه حدثنا صاحب لنا ثنا إسماعيل بن
(1/123)
زكرياء عن الأعمش وعن مسعر وعن مالك بن مغول عن
(1/125)
وعن مسعر وعن مالك بن مغول عن الحكم بهذا الإسناد مثله يعني
(1/126)
الحكم بن عتيبة قال سمعت ابن أبي ليلى قال لقيني كعب بن
(1/127)
عجرة فقال ألا أهدي لك هدية خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك الحديث قلت وهذا الحديث مما اتفق الأئمة الحفاظ على صحته وثبوته وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
(1/128)
والترمذي والنسائي وابن ماجه في كتبهم من طرق ثابتة عن الحكم بن عتيبة بإسناده المذكور متصلا وقول مسلم رحمه الله في بعض طرقه حدثنا صاحب لنا لا يسمى مقطوعا عند أكثر المحدثين لأن المقطوع في اصطلاحهم ما لم يتصل سنده وكان في رواته من دون التابعين من لم يسمعه ممن فوقه كرواية مالك بن أنس عن
(1/129)
عبد الله بن عمر ورواية الثوري عن جابر بن عبد الله ونحو ذلك وهو نوع من المرسل إلا أنهم قصروا المرسل على التابعين إذا أرسلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه الصحابي وقول أبي علي إن ما تقدم ذكره يسمى مقطوعا هو قول الحاكم أبي عبد الله بن البيع النيسابوري والذي عليه الأكثر من علماء الرواية وأرباب النقل أن قول الراوي حدثنا صاحب لنا وحدثني غير واحد وحدثني من سمع فلانا وحدثت عن فلان ونحو ذلك معدود في المسند لأنه لم ينقطع له سند وإنما وقعت الجهالة في أحد رواته كما لو سمي ذلك الراوي وجهل حاله على أنه لم يقع كذلك في كتاب مسلم إلا من طريق أبي العلاء ابن ماهان عن أبي بكر الأشقر عن
(1/130)
القلانسي عن مسلم ووقع في روايتنا من طريق أبي أحمد الجلودي عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم مسمى غير مبهم ونحن نورده من صحيح مسلم كما رويناه ليتضح اتصاله أخبرنا به جماعة من شيوخنا قراءة عليهم قالوا أنا الشريف أبو المفاخر الماموني قراءة عليه ونحن نسمع أنا الإمام أبو عبد الله الفراوي ح وأخبرنا عاليا الشيخ أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي
(1/131)
الطوسي رحمه الله إذنا وكتابة من نيسابور أنا الإمام فقيه الحرم أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي الفراوي قراءة عليه وأنا أسمع أنا أبو الحسين عبد الغافر ابن محمد الفارسي أنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد ثنا الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ثنا محمد بن مثنى ومحمد بن بشار واللفظ لابن مثنى قالا ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن الحكم قال سمعت ابن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك
(1/132)
فكيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد قال ثنا زهير بن حرب وأبو كريب قالا ثنا وكيع عن شعبة ومسعر عن الحكم بهذا الإسناد مثله وليس في حديث مسعر ألا أهدي لك هدية قال حدثنا محمد بن بكار قال ثنا إسماعيل بن زكرياء عن الأعمش
(1/133)
وعن مسعر وعن مالك بن مغول كلهم عن الحكم بهذا الإسناد مثله واللفظ للماموني يقول قلت فهذه طرق هذا الحديث في صحيح مسلم متصلة كلها من الوجه الذي أوردناه عنه فثبت اتصاله من جميع طرقه في كتاب مسلم والحمد لله وقد قال الحاكم أبو عبد الله بن البيع الحافظ وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل غير مسمى وليس بمنقطع يعني إذا روي ذلك الحديث من وجه آخر وسمي ذلك الرجل فيه كما وقع في إسناد هذا الحديث قال فهذا النوع من المنقطع الذي لا يقف عليه لا الحافظ الفهم المتبحر في الصنعة والله أعلم قلت وقد وقع لي هذا الحديث أعلى من طريق الصحيح بدرجتين كأني سمعته من عبد الغافر الفارسي رحمه الله وهو ما أخبرنا به أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد البغدادي بقراءتي في منزله بدمشق أخبركم أبو منصور
(1/134)
عبد الرحمان بن محمد بن عبد الواحد الشيباني قراءة عليه وأنت تسمع ببغداد فأقر به ثنا القاضي الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن المهتدي بالله من لفظه وكتابه ثنا أبو حفص عمر بن إبراهيم بن أحمد إملاء ثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ثنا علي يعني ابن الجعد أنا شعبة
(1/135)
رجل عنها لا يدل عن الحكم قال سمعت ابن ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية فذكر نحوه
الحديث الثالث
قال مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة أيضا حدثت عن يحيى بن حسان ويونس بن محمد المؤدب وغيرهما قالوا
(1/136)
ثنا عبد الواحد حدثني عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت قلت وهذا أيضا لا يسمى مقطوعا عند جماعة من أرباب النقل وإنما هو مسند وقع الإبهام في أحد رواته كما بيناه ومع ذلك فهو حديث صحيح الإسناد متصل أخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار البصري في مسنده فرواه عن أبي الحسن محمد بن مسكين اليمامي نزيل
(1/137)
البصرة عن يحيى بن حسان التنيسي بإسناده كذلك متصلا وأبو بكر البزار هذا من أكابر الحفاظ ومحله في هذا العلم وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره وشيخه في هذا الحديث محمد بن مسكين من ثقات الرواة روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما فثبت اتصاله والحمد لله وأخرجه أيضا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني وناهيك به جلالة ونبلا ومعرفة بهذا الشأن في كتابه المسمى بالمسند الصحيح المستخرج على كتاب مسلم وهو كتاب جليل كثير الفوائد ونحن نورده منه ليتضح اتصاله وأخبرناه أبو طاهر الفرشي مكاتبة عن أبي علي الحداد ح وأنبأنا الحافظ أبو محمد المقدسي قال أنا أبو موسى الحافظ
(1/138)
المديني وأبو بكر محمد بن أحمد الجوزداني قراءة عليهما أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا أبو بكر الطلحي ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا ابن عسكر ح قال أبو نعيم وحدثنا أبو محمد بن حيان ثنا أحمد بن عمر حدثنا محمد بن سهل بن عسكر ثنا يحيى بن حسان ثنا عبد الواحد بن زياد عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت لفظهم سواء وهذا إسناد صحيح ومحمد بن سهل بن عسكر روى عنه مسلم في صحيحه والله أعلم
(1/139)
الحديث الرابع
قال مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة أيضا حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنا يحيى بن آدم ثنا الفضيل بن مرزوق عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قانتين وذكر
(1/140)
باقي الحديث ثم قال عقيبة ورواه الأشجعي عن سفيان عن الأسود بن قيس عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال قرأناها مع النبي صلى الله عليه وسلم زمانا بمثل حديث فضيل بن مرزوق قلت هكذا أورده مسلم في صحيحه وهو حديث صحيح متصل من حديث فضيل بن مرزوق بالإسناد المذكور انفرد به مسلم دون البخاري وقوله بعد إيراده ورواه الأشجعي عن سفيان إنما هو على وجه المتابعة وذكر متابعة الرواة بعضهم بعضا على رواية الحديث لا يقدح في اتصاله بل يقويه ويؤيده وفي صحيح البخاري من هذا النمط كثير والله ولي التوفيق والأشجعي هذا اسمه عبيد الله بن عبد الرحمن كوفي ثقة وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه في صحيحيهما وقد وقع لي حديثه هذا الذي أشار إليه مسلم رحمه الله بالإسناد المتصل وهو ما أخبرنا المشايخ الثقات الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل بن علي المقدسي الفقيه وأبو محمد عبد الله بن عبد الجبار العثماني وأبو
(1/141)
صابر حامد بن أبي القاسم الأهوازي وغير واحد قراءة عليهم قالوا أنا أحمد بن محمد الحافظ أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي بأصبهان أنا أبو زكرياء يحيى بن إبراهيم بن محمد المزكي أنا أحمد بن أبي محمد بن عبدوس الطرائفي ثنا عثمان بن سعيد ثنا إبراهيم بن أبي الليث وهو ابن نصر البغدادي ثنا الأشجعي عن سفيان عن الأسود بن
(1/142)
قيس عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال قرأناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما حافظوا على الصلوات وصلوات العصر ثم قرأناها حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فلا أدري أهي هي أم لا قلت وهذا إسناد حسن متصل وليس لشقيق بن عقبة ذكر في صحيح مسلم إلا في هذا الحديث فيما علمت وأخرجه الحافظ أبو علي بن السكن المصري في جمعه حديث الثوري فرواه عن رجل عن عثمان بن سعيد الدرامي بهذا الإسناد وقال عقيبة لم يسند شقيق بن عقبة غير هذا الحديث والله عز وجل أعلم
(1/143)
الحديث الخامس
قال مسلم رحمه الله في كتاب الجنائز وحدثني هارون بن سعيد الأيلي ثنا عبد الله بن وهب أنا ابن جريج عن عبد الله بن كثير بن المطلب أنه سمع
(1/144)
محمد بن قيس يقول سمعت عائشة تحدث فقالت ألا أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعني قلنا بلى ح ثم قال مسلم وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ له ثنا حجاج بن محمد ثنا ابن جريج أخبرني عبد الله رجل من قريش عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما ألا أحدثكم عني وعن أمي فظننا أنه يريد أمه التي ولدته قال قالت عائشة ألا أحدثكم عني وعن
(1/145)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا بلى فذكر الحديث بطوله في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وصلاته على أهل القبور وسنورده بكماله فيما بعد إن شاء الله تعالى وهذا الحديث صحيح متصل أيضا في كتاب مسلم لأنه أورد إسناده متصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما ترى إلا أنه جعل لفظه لمن لم يسمه من شيوخه عن حجاج وقد تقدم الجواب عن مثل هذا ومع ذلك فحديث حجاج هذا قد رواه عنه غير واحد من الثقات منهم الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل ويوسف بن سعيد بن مسلم المصيصي وأخرجه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في سننه عن المصيصي هذا وذكر أنه ثقة حافظ قلت إلا أن يوسف بن سعيد هذا خالف أصحاب حجاج في قوله عن عبد الله بن أبي مليكة على ما يأتي بيانه وقد أخبرنا بهذا الحديث الشيخ أبو بكر بن أبي الفتح البغدادي المعدل قراءة عليه أنا طاهر بن محمد بن طاهر الهمداني أنا أبو محمد
(1/146)
عبد الرحمان بن حمد بن الحسن الفقيه أنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الدينوري أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ أنا الحافظ أبو عبد الرحمان أحمد بن شعيب النسائي أنا يوسف بن سعيد ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عبد الله بن أبي مليكة أنه سمع محمد بن قيس بن مخرمة يقول سمعت عائشة رضي الله عنها تحدث قالت ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا بلى قالت لما كانت ليلتي التي هو عندي تعني النبي صلى الله عليه وسلم انقلب فوضع نعليه عند رجليه وبسط طرف ردائه على فراشه فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت ثم انتعل رويدا وأخذ رداءه رويدا ثم فتح الباب رويدا وخرج رويدا وجعلت درعي في رأسي واختمرت
(1/147)
وتقنعت إزاري وانطلقت في إثره حتى جاء البقيع فرفع يديه ثلاث مرات وأطال القيام ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت وسبقته فدخلت فليست إلا أن اضطجعت فدخل فقال ما لك يا عائشة حشيا رابية قلت لا قال لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته الخبر قال وأنت السواد التي رأيت أمامي قالت نعم قالت فلهزني في صدري لهزة أوجعتني ثم قال أظننت أن يحيف الله
(1/148)
ورسوله قلت مهما يكتم الناس فقد علمه الله فإن جبريل عليه السلام أتاني حيث رأيت ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك فناداني فأخفى منك فأجبته فأخفيت منك فظننت أن قد رقدت وخشيت أن
(1/149)
تستوحشي فأمرني أن آتي أهل البقيع فاستغفر لهم
الحديث السادس
قال مسلم رحمه الله في كتاب المساقاة وحدثني غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان وهو ابن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي
(1/151)
الرجال محمد بن عبد الرحمن أن أمه عمرة بنت عبد الرحمن قالت سمعت عائشة تقول سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتها وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شئ وهو يقول والله لا أفعل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما فقال أين المتألي على الله لا يفعل المعروف قال أنا يا رسول الله فله أي ذلك أحب قال المازوري الذي في المعلم في كتاب المساقاة خرج مسلم في باب الحوائج حديثين مقطوعين فذكر الأول منهما وهو حديث الباب ثم عقب عليه بقوله وهذا الحديث يتصل لنا من طريق البخاري ورواه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس وقد حدث مسلم عن إسماعيل بن أبي أويس دون واسطة في كتاب الحج وفي آخر كتاب الجهاد وروى أيضا عن أحمد بن يوسف الأزدي عن إسماعيل بن أبي أويس في كتاب اللعان وفي كتاب الفضائل
(1/152)
أما قول مسلم حدثني غير واحد من أصحابنا فقد قال أبو نعيم في المستخرج يقال إن مسلما حمل هذا الحديث عن البخاري قال القاضي عياض إذا قال الراوي حدثني غير واحد أو حدثني الثقة أو حدثني بعض أصحابنا ليس هو من المقطوع ولا من المرسل ولا من المعضل عند أهل هذا الفن بل هو من باب الرواية عن المجهول وقوله وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه أي يطلب منه الحط عنه من أصل الدين والرفق في الاستيفاء والمتألي لأن هو الحالف من الألية وهي اليمين
الحديث السابع
وأخرج مسلم رحمه الله في كتاب المساقاة أيضا حديثا آخر قال وروى الليث بن سعد حدثني جعفر بن ربيعة عن
(1/153)
عبد الرحمن بن هرمز عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب ابن مالك أنه كان له مال على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي الحديث نص المازري في كتابه المعلم على أن هذا الحديث مقطوع وتقدم نظيره في الحديث الأول وحديث كعب بن مالك هذا حديث صحيح متصل السند أخرجه مسلم من غير طريق الليث بن سعد فقد رواه عن عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه ثم رواه عن إسحاق بن إبراهيم عن عثمان بن عمر عن يونس به ثم ساق الطريق الثالث بقوله وروى الليث بن سعد الحديث بل قد أخرجه الأئمة الحفاظ من طرق صحيحة متصلة أخرجه أبو عبد الله البخاري من عدة طرق منها طريق الليث بن سعد
(1/154)
وأخرجه أبو عبد الرحمن النسائي وأخرجه أبو داود وأخرجه ابن ماجه وأخرجه الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه ونصه في صحيح البخاري من طريق الليث بن سعد حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال حدثني عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك أنه له على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي مال فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا كعب فأشار بيده كأنه يقول النصف فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفا وبهذا ثبت صحة الحديث في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى ويثبت اتصاله من طريق الليث في صحيح البخاري والحمد لله
الحديث الثامن
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب المساقاة حديثا
(1/155)
ذكر المازري أنه من الأحاديث الأربعة عشر المقطوعة في صحيح مسلم وهو قوله وحدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن عون أخبرنا خالد بن عبد الله عن عمرو بن يحيى عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المسيب عن معمر بن أبي معمر أحد بني عدي بن كعب قال قال
(1/156)
رسول الله فذكر بمثل حديث سليمان بن بلال عن يحيى وهذا نص حديث سليمان بن بلال المذكور حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا سليمان يعني ابن بلال عن يحيى وهو ابن سعيد قال كان سعيد بن المسيب يحدث أن معمرا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتكر فهو خاطئ فقيل لسعيد فإنك تحتكر قال سعيد إن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر ثم رواه مسلم في صحيحه كذلك عن الثقات من طريق أخرى متصلة وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه فتبين بذلك صحة الحديث من هذه الطرق في صحيح مسلم وغيره وقال القاضي عياض ليس هذا من باب المقطوع وقد تكلمنا على ذلك بما يكفي
(1/157)
الحديث التاسع
أخرج مسلم رحمه الله في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وحدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة حدثني بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده
(1/158)
قبض نبيه قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها وإذا أراد أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره وهذا الحديث أخرجه الحافظ أبو عوانة في كتابه الموسوم بالمسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج كما أخرجه البزار في مسنده كلاهما من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري وعندما ذكر أبو علي الغساني حديث الباب في تقييد المهمل قال فقد وصل لنا هذا الحديث أبو القاسم حاتم بن محمد قال حدثنا أبو سعيد السجزي بمكة قال حدثنا أبو أحمد الجلودي قال حدثنا أبو عبد الله
(1/159)
محمد بن المسيب الأرغياني قال حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة بهذا الحديث قلت ولا يسلم لهم تسميته بالمقطوع فهو مسند أبهم أحد رواته على أنه تبين اتصال سنده في غير صحيح مسلم من طرق متعددة وقوله وقوله فجعله لها فرطا وسلفا قال عياض والفرط بفتح الفاء والراء الذي يتقدم الواردة فيهيئ وقد لهم ما يحتاجون إليه والسلف يطلق على الخير المتقدم أو على من تقدمك من الآباء والأقارب
الحديث العاشر
قال مسلم رحمه الله في آخر كتاب فضائل
(1/160)
الصحابة حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد قال محمد ابن رافع حدثنا وقال عبد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن
(1/161)
سليمان أن عبد الله بن عمر قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظفر الأرض أحد قال ابن عمر فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن ثم قال مسلم حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا أبو اليمان
(1/162)
أخبرنا شعيب ثم قال ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر كلاهما عن الزهري بإسناد معمر كمثل حديثه فإذا انقطعت طريق الليث عن عبد الرحمن عند مسلم في هذا الحديث فقد بقيت طريق أبي اليمان عن شعيب بن أبي حمزة سالمة متصلة لأن كل واحد منهما يرويه عن الزهري وعبد الرحمن بن خالد ليس من شرط الإمام مسلم فلا لزوم عليه في الإخراج له على أن طريق الليث عن عبد الرحمن بن خالد التي أوردها مسلم بقوله ورواه الليث وردت في صحيح البخاري من طريق متصلة وهي قوله حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثني
(1/163)
عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سالم وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عبد الله بن عمر الحديث ثم إن الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والترمذي وقال هذا حديث الصحيح
الحديث الحادى عشر
قال مسلم رحمه الله في آخر كتاب القدر وحدثنا عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان وهو محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن
(1/165)
يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر الحديث وهذا أيضا حديث متصل في الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار رواه عنه رجلان ثقتان أبو عمر حفص بن ميسرة الصنعاني وأبو غسان محمد بن مطرف المدني واتفق الإمامان على إخراجه من حديثيهما عنه فأما حديث حفص فرواه البخاري عن محمد بن عبد العزيز الرملي ورواه مسلم عن سويد بن سعيد
(1/166)
الحدثاني كليهما عنه وأما حدث أبي غسان فرواه البخاري عن سعيد بن أبي مريم المصري وقال مسلم حدثني عدة من أصحابنا عن سعد بن أبي مريم عنه وقد تقدم الجواب عن مثل هذا القول بما فيه كفاية ومع ذلك فقد بينا أن البخاري رحمه الله قد رواه في صحيحه عن سعيد بن أبي مريم هذا وهو ما أخبرنا هبة الله بن علي المصري رحمه الله أنا محمد بن بركات الصوفي أخبرتنا كريمة أنا الكشميهني أنا الفربري أنا البخاري ثنا سعيد بن أبي مريم أنا
(1/167)
أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى فقال النبي صلى الله عليه وسلم فمن وهكذا أورده البخاري في صحيحه في أحاديث بني إسرائيل فثبت اتصاله من هذا الوجه الآخر والحمد لله وقد وصله أيضا إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد راوي صحيح مسلم فرواه عن الإمام أبي عبد الله محمد بن يحيى الذهلي عن سعيد بن أبي مريم كذلك ولعل البخاري أحد العدة الذين سمع منهم مسلم هذا الحديث ولم يسمهم والله عز وجل أعلم
الحديث الثاني عشر
اخرج مسلم رحمه الله في كتاب الحدود حديث الليث بن سعد مقطوعا عن عبد الرحمن بن خالد عن
(1/169)
الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة كليهما عن أبي هريرة أنه قال أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه الحديث وهذا أيضا حديث متصل في الصحيحين من طرق عن الزهري رواه مسلم عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده عن عقيل عن الزهري بإسناده المذكور متصلا ثم قال ورواه الليث أيضا عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله قلت وقد تقدم الجواب عن مثل هذا في الكلام على الحديث العاشر من هذه الأحاديث وبينا أن عبد الرحمن بن خالد هذا ليس من شرط مسلم فلا يلزمه إخراج حديثه وإن كان ثقة قد أخرج له البخاري في صحيحه واحتج بحديثه إلا أن لكل واحد منهما اجتهادا يرجع إليه وانتقادا علي في الرجال يعول عليه ومع ذلك فالحديث متصل أيضا في صحيح البخاري من طريق الليث بن سعد عن عبد الرحمن بن خالد وهو ما أخبرنا أبو علي ناصر بن عبد الله بن
(1/170)
عبد الرحمن العطار بمكة شرفها الله أنا أبو الحسن علي بن حميد الأطرابلسي أنا أبو مكتوم الهروي أنا أبي أبو ذر الحافظ أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي وأبو الهيثم الكشميهني قالوا أنا الفربري أنا البخاري ح وأخبرنا عاليا هبة الله بن علي البوصيري واللفظ له أنا محمد بن بركات الصوفي أخبرتنا كريمة بنت أحمد المروزية أنا أبو الهيثم الكشميهني
(1/171)
أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا سعيد بن عفير حدثني الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فجاء لشق وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبك جنون قال لا يا رسول الله فقال أحصنت قال نعم يا رسول الله قال اذهبوا به فارجموه قال ابن شهاب أخبرني من سمع جابرا قال فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه هكذا أورده البخاري في باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت فثبت اتصاله من هذا الوجه الآخر والحمد لله
(1/172)
والرجل المرجوم المبهم اسمه في هذا الحديث هو ماعز بن مالك الأسلمي وقد جاء مسمى هكذا في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري وبريدة بن الحصيب وغيرهما وذكر بعض العلماء أنه لا خلاف بين أصحاب الحديث في ذلك وقيل إن ماعزا لقب له واسمه عريب بن مالك حكى ذلك الحافظ أبو القاسم خلف بن عبد الملك القرطبي وعزاه إلى الحافظين أبي علي بن السكن
(1/173)
وأبي الوليد بن الفرضي والله أعلم وفي سنن أبي داود أن ماعزا كان يتيما في حجر هزال الأسلمي وأنه الذي عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لهزال يا هزال لو سترته بردائك كان خيرا لك وقول الزهري فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول فكنت فيمن
(1/174)
رجمه يدخل في باب المقطوع على مذهب من يرى ذلك كما تقدم بيانه ويحتمل أن يكون المخبر للزهري هو أبو سلمة بن عبد الرحمن لأن مسلما أخرج بعد حديث عقيل عن الزهري الذي ذكرناه أولا حديث يونس ومعمر وغيرهما عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال نحو حديث عقيل عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة والله عز وجل أعلم وقوله أذلقته الحجارة يعني بلغت به الجهد وقيل معناه أوجعته وأوهنته وقيل أصابته بحدها فعقرته ومعنى الجميع متقارب وقوله جمز
(1/175)
معناه أسرع يهرول والجمزى ضرب من السير كأنه قفز ويقال جمز وأجمز حتى والله الموفق
الحديث الثالث عشر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب المغازي حديث مسلم بن قرظه عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم الحديث فأورده من طريقين متصلين عن رزيق بن حيان عن مسلم بن قرظه بإسناده الذي ذكرناه ثم قال عقيبة ورواه معاوية بن صالح عن ربيعة بن
(1/176)
يزيد عن مسلم بن قرظة عن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث متصل في كتاب مسلم كما بيناه وذكر المتابعة بعد إيراده متصلا يؤيده ولا يوهنه كما قدمناه والله عز وجل أعلم هذا الآخر الأحاديث التي ذكرها أبو علي الغساني رحمه الله وكان قد أورد بعد هذا الحديث حديثا آخر وهو من الأحاديث المتقدمة وقع مكررا في كتابه المسمى بتقييد المهمل من الطريق التي اتصلت إلينا بالرواية عنه وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء فلما سلم قام فقال أرأيتكم ليلتكم هذه وقد تقدم هذا الحديث والجواب عنه فلا وجه لإعادته وقد وقع لي في كتاب مسلم رحمه الله أحاديث من هذا الجنس لم يذكرها أبو علي رحمه الله في جملة الأحاديث التي تقدمت وإن كان قد نبه على بعضها في مواضعها من كتابه فأردت أن أضيفها إلى هذه الأحاديث وأوردها على حسب ما وقعت لي لا على الترتيب وأبين وجه اتصالها كما تقدم وبالله التوفيق
==================


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
غرر الفوائد المجموعة
الحديث الأول
قال مسلم رحمه الله في كتاب الطهارة حدثني زهير بن حرب ثنا يحيى بن سعيد ثنا حميد ح قال وثنا أبو
(1/178)
بكر بن أبي شيبة واللفظ له ثنا إسماعيل بن علية عن حميد الطويل عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب فانسل فذهب فاغتسل الحديث قلت هكذا وقع إسناد هذا الحديث فيما رأيته من النسخ من صحيح مسلم وكذلك هو في روايتنا من طريق أبي أحمد الجلودي عن ابن سفيان
(1/179)
عنه وقد سقط من إسناده رجل بين حميد الطويل وأبي رافع وهو بكر بن عبد الله المزني فإن حميدا الطويل إنما يروي هذا الحديث عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع كذلك أخرجه البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم بلا خلاف أعلمه بينهم في ذلك كذلك رويناه من طريق مسند أبي بكر بن أبي شيبة وكذلك هو في مسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل أيضا وقد ذكر أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي أن مسلما أخرجه أيضا كذلك إلا أني لم أره في جميع النسخ التي رأيتها من كتاب مسلم إلا مقطوعا وكذلك قال الحافظ أبو علي الجياني أنه وقع إسناد هذا الحديث في النسخ كلها حميد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال وفي هذه الرواية انقطاع وإنما يرويه حميد عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع كما قدمناه قد أخبرنا به متصلا من طريق
(1/180)
البخاري أبو القاسم الخزرجي أنا أبو عبد الله السعيدي أخبرتنا كريمة أنا الكشميهني أنا الفربري أنا البخاري ثنا علي بن عبد الله ثنا يحيى ثنا حميد ثنا بكر عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب فانبجست منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال أين كنت يا أبا هرة فقال كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة قال سبحان الله إن المؤمن لا ينجس وبالإسناد إلى البخاري ثنا عياش ثنا
(1/181)
عبد الأعلى ثنا حميد عن بكر عن أبي رافع عن أبي هريرة قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت وأتيت الرحل فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد فقال أين كنت فقلت له فقال سبحان الله إن المؤمن لا ينجس وأخبرنا به من طريق النسائي عاليا أبو القاسم البوصيري أنا أبو صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني أنا أبو الحسن محمد بن الحسين النيسابوري ثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء لفظا ثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي أخبرنا حميد بن
(1/182)
مسعدة ثنا بشر وهو ابن المفضل ثنا حميد عن بكر عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في طريق من طرق المدينة وذكر الحديث نحوه هكذا أورده البخاري في كتاب الغسل من هذين الطريقين والنسائي أيضا في سننه من الطريق الآخر كلهم عن حميد عن بكر عن أبي رافع متصلا كذلك ولولا خشية الإطالة لوردناه تعالى من جميع الكتب التي سميناها وفي إيراده من صحيح البخاري وسنن النسائي كفاية وبالله التوفيق وقول أبي هريرة رضي الله عنه فانبجست منه فيه أربع روايات الأولى فانبجست بنون ثم باء معجمة بواحدة بعدها جيم ومعناه اندفعت منه وقال الترمذي معناه تنحيت عنه
(1/183)
الرواية الثانية فانخنست منه بنون بعدها خاء معجمة ثم نون ومعناها انقبضت وتأخرت عنه الثالثة فاختنست بتقديم الخاء المعجمة وبعدها تاء معجمة باثنتين من فوقها ثم نون ومعناها معنى التي قبلها الرابعة فانتجست بنون ثم تاء معجمة باثنتين من فوقها ثم جيم ومعناها اعتقدت نفسي نجسا لا أصلح لمجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على تلك الحالة وقد ذكر في هذه الكلمة قول خامس هو فانبخست بنون ثم باء معجمة بواحدة بعدها خاء معجمة من البخس وهو النقص فإن صحت هذه الرواية فقد ذكر بعض العلماء أن معناها أنه ظهر له نقصانه عن مماشاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعتقده في نفسه من النجاسة فرأى أنه لا يقاومه ما دام في تلك الحال قلت ومعنى هذه الأقوال كلها يرجع إلى شئ واحد وهو الانفصال والمزايلة على وجه التوقير والتعظيم له صلى الله عليه وسلم والله أعلم
الحديث الثاني
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الزكاة حديث عمرو بن الحارث عن الزهري عن سالم عن أبيه أن
(1/184)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء فيقول له عمر اعطه يا رسول الله أفقر إليه مني الحديث ثم أردفه بقوله وحدثني أبو الطاهر أنا ابن وهب قال عمرو وحدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب بن يزيد عن عبد الله بن السعدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أخرجه مسلم في صحيحه وقال الحافظ أبو علي في إسناده انقطاع قلت وبيان انقطاعه أنه قد
(1/185)
سقط من هذا الطريق الثاني رجل بين السائب بن يزيد وعبد الله بن السعدي وهو حويطب بن عبد العزى رضي الله عنهم هكذا ذكر غير واحد من الحفاظ وقال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي لم يسمعه السائب بن يزيد من عبد الله بن السعدي إنما رواه عن حويطب يعني ابن عبد العزى عنه قلت وهكذا رواه يونس بن عبد الأعلى الصدقي عن ابن وهب متصلا وهو حديث مشهور اجتمع في إسناده أربعة من الصحابة رضي الله عنهم في
(1/186)
نسق واحد يروي بعضهم عن بعض وليس في الصحيحين هكذا غيره وحديث آخر اجتمع في إسناده أربع صحابيات تروي بعضهن عن بعض على اختلاف في ذلك بين الرواة لأن جماعة منهم لم يذكروا في إسناده إلا ثلاث صحابيات فقط وهو حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت انتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما محمرا وجهه وهو ويقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب الحديث وليس هذا موضع إيراده
(1/187)
وحديث ابن السعدي المتقدم وإن كان مقطوعا في صحيح مسلم من هذا الوجه الذي ذكرناه خاصة فإنه متصل فيه من وجه آخر ومع ذلك فقد وصله البخاري في صحيحه والنسائي في سننه من ذلك الوجه المنقطع فأما حديث البخاري فأخبرنا به أبو علي بن عبد الله المجاور بالحرم الشريف أنا أبو الحسن علي بن حميد المقرئ أنا عيسى بن أبي ذر أنا أبي أنا المشايخ الثلاثة أبو محمد السرخسي وأبو إسحاق المستملي وأبو الهيثم الكشميهني قالوا أنا الفربري أنا البخاري ح وأخبرنا عاليا أبو القاسم هبة الله بن علي المصري واللفظ له أنا محمد بن بركات النحوي أخبرتنا كريمة أنا أبو الهيثم الأديب أنا الفربري أنا البخاري ثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري أخبرني السائب بن يزيد ابن أخت نمر أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها فقلت بلى قال عمر فما تريد إلى ذلك قلت إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين قال عمر لا تفعل فإني كنت أردت الذي أدرت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالا فقلت اعطه أفقر إليه مني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذه فتموله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك
(1/188)
هكذا أخرجه البخاري في كتاب الأحكام وأما حديث النسائي فأخبرناه الشيخ العلامة البارع أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني رحمه الله قراءة عليه أنا الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن نبهان الغنوي الرقي بقراءتي عليه بمدينة السلام بالجانب الغربي سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة قال سمعت الحافظ أبا عبد الله محمد ابن أبي نصر الحميدي يقول سمعت أبا زكرياء عبد الرحيم بن أحمد البخاري يقول سمعت الحافظ أبا محمد بن عبد الغني بن سعيد بن علي رحمه
(1/189)
الله يقول حدثنا حمزة بن محمد الكناني حدثنا أحمد بن شعيب ح وأخبرنا عاليا أبو بكر عبد العزيز بن أحمد البغدادي أنا طاهر بن محمد الهمداني أنا أبو محمد الدوني أنا أبو نصر أحمد بن الحسين الدينوري أنا أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ أنا أبو عبد الرحمن النسائي ثنا كثير بن عبيد ثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافة عمر فقال له عمر أخبرت أنك تلي من أعمال الناس أعمالا وذكر الحديث
(1/190)
بكماله أنا اختصرته أخبرنا الشيخان الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل بن علي المقدسي الفقيه قراءة عليه وأنا أسمع وأبو الطاهر إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري بقراءتي عليه قالا أنا أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ أنا أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين بن السراج البغدادي سنه أربع وتسعين وأربع مائة ح وأخبرنا الحافظ أبو الحسن المقدسي أيضا قال وأنا أبو محمد العثماني بقراءتي عليه أنا أبو الحسن علي بن المشرف الأنماطي قالا أنا أبو زكرياء عبد الرحيم بن أحمد البخاري الحافظ ثنا أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ ح وسمعت الشيخ البارع أبا عبد الله الأصبهاني قراءة عليه يقول سمعت الفقيه أبا إسحاق الغنوي الرقي بمدينة السلام يقول سمعت الحافظ أبا عبد الله الحميدي يقول سمعت الحافظ أبا زكرياء عبد الرحيم بن أحمد البخاري يقول سمعت الشيخ الحافظ أبا محمد عبد الغني بن سعيد قال سمعت أبا الحسن علي بن عمر الحافظ
(1/191)
رحمه الله يقول سمعت أبا محمد الحسن بن أحمد بن صالح السبيعي يقول قدم علينا حلب الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات فتلقاه أهل البلد وكنت فيهم فقيل له إني من أصحاب الحديث
(1/192)
فقال لي تعرف إسنادا اجتمع فيه أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم يروي عن صاحبه فقلت نعم وذكرت له حديث السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن عبد الله بن السعدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العمالة فقال لي صدقت وعرف لي ذلك وصارت لي به منزلة عنده قلت وقد اختلف في اسم السعدي والد عبد الله هذا فقيل اسمه قدامة وقيل وقدان وقيل عمرو بن وقدان وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن هذا القول الأخير هو الصواب عند أهل العلم بنسب قريش وهو من بني مالك بن حسان بن عامر بن لؤي قرشي عامري مالكي وإنما قيل له السعدي لأنه استرضع في بني سعد بن بكر ووقع في كتاب مسلم في بعض طرق هذا الحديث عن
(1/193)
يسر بن سعيد عن ابن الساعدي بزيادة ألف وقال القاضي عياض لا نعرف له وجها والله أعلم
الحديث الثالث
قال مسلم رحمه الله في كتاب الرجم حدثنا محمد بن العلاء الهمداني ثنا يحيى بن يعلى وهو ابن الحارث المحاربي عن غيلان وهو ابن جامع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا
(1/194)
رسول الله طهرني وذكر الحديث بطوله هكذا إسناد هذا الحديث في جميع النسخ التي رأيتها من صحيح مسلم وذكر الحافظ أبو علي أنه أيضا كذلك لجميع الرواة عندهم وقد سقط من إسناده رجل وهو يعلى بن الحارث المحاربي والد يحيى بن يعلى المذكور في هذا الإسناد فإن يحيى هذا إنما يروي هذا الحديث فيما قيل عن أبيه عن غيلان بن جامع وكذلك أخرجه النسائي في سننه قال الحافظ أبو علي وقد نبه عبد الغني يعني ابن سعيد الحافظ على الساقط من هذا الإسناد في نسخة أبي العلاء بن ماهان وقال البخاري في تاريخه يحيى بن يعلى سمع أباه وزائدة بن قدامة وقال ابن أبي حاتم مثله أيضا
(1/195)
وإذا ثبت انقطاعه من هذا الوجه فإنه متصل في كتاب مسلم من وجه آخر ومع ذلك فقد اتصل حديث يحيى بن يعلى عن أبيه في كتاب النسائي فإنه أخرجه عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وذكر أنه ثقة عن يحيى بن يعلى بن الحارث عن أبيه عن غيلان بن جامع بإسناده وأخرج أبو داود أيضا في سننه عن محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن يعلى بن الحارث عن أبيه عن غيلان بهذا الإسناد المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزا فقط وكأنه طرف من هذا الحديث والله أعلم فثبت اتصاله من هذا الوجه الآخر ولله الحمد
(1/196)
الحديث الرابع
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الفتن حديث عبد الله بن وهب عن أبي شريح المعافري أن عبد الكريم بن الحارث حدثه أن المستورد بن شداد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقوم الساعة والروم أكثر الناس الحديث قلت وهذا إسناد منقطع فإن عبد الكريم هذا لم يدرك المستورد ولا أدركه أبوه الحارث بن يزيد قاله الحافظ أبو الحسن الدارقطني رحمه الله قلت وهذا الحديث إنما أورده مسلم رحمه الله هكذا في الشواهد وإلا فهو في الأصل ثابت متصل في كتابه من وجه آخر فإنه أخرجه عن عبد الملك بن شعيب عن ابن وهب عن الليث بن سعد عن موسى بن
(1/197)
علي عن أبيه قال قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقوم الساعة والروم أكثر الناس وذكر باقي الحديث فصح اتصاله من هذا الوجه في كتاب مسلم والحمد لله
الحديث الخامس
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الطلاق
(1/198)
حديث الزهري عن عبيد بن الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص خرج مع علي رضي الله عنهما إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقه كانت بقيت من طلاقها الحديث بطوله قلت وفي سماع عبيد الله هذا من أبي عمرو بن حفص رضي الله عنه نظر وقد ذكر غير واحد من العلماء أن هذا الحديث من هذا الوجه غير متصل قلت وهذا حديث انفرد به مسلم دون البخاري وأخرجه في صحيحه متصلا من عدة طرق من حديث الشعبي
(1/199)
وأبي سلمة وغيرهما عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ولو سلمنا أنه منقطع من هذا الوجه فقد بينا أنه متصل في كتاب مسلم من عدة أوجه وقد أخرجه النسائي في سننه من هذا الوجه الذي ذكرناه فأورده من حديث شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن الوليد الزبيدي كلاهما عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان طلق ابنة سعيد بن زيد البتة فأمرتها خالتها فاطمة بنت قيس بالانتقال من بيت عبد الله بن عمرو فسمع ذلك مروان فأرسل إليها أن ترجع إلى مسكنها وساق الحديث بطوله وأورده الحافظ أبو القاسم
(1/200)
الدمشقي في أطرافه في ترجمة عبيد الله بن عبد الله هذا عن فاطمة بنت قيس ولم يذكر أنه لم يسمع منها وعادته في هذا الكتاب أنه إذا ذكر راويا عن الصحابي لم يكن سمع منه يقول فلان عن فلان ولم يسمع منه وذكر غيره أيضا أن عبيد الله هذا روى عنها والله عز وجل أعلم واختلف في اسم أبي عمرو بن حفص المخزومي هذا فقيل اسمه عبد الحميد وقيل اسمه أحمد وقيل اسمه كنيته فإن ثبت أن اسمه أحمد فلا أعلم في الصحابة رضي الله عنهم من اسمه أحمد سواه ووقع في صحيح
(1/201)
مسلم في بعض طرق هذا الحديث من رواية شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن فاطمة أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها والمشهور عندهم أنه أبو عمرو بن حفص بن المغيرة وقد ذكر الحافظ أبو أحمد الكرابيسي الحاكم فيه ثلاثة أقوال
(1/202)
فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ويقال أبو حفص بن عمرو بن المغيرة ويقال أبو حفص بن المغيرة له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل أعلم بالصواب آخر الجزء الأول ويتلوه في أول الثاني إن شاء الله تعالى الحديث السادس: أخرج مسلم في كتاب الحج حديث منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه والحمد لله وحده وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
(1/203)
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
استعنت أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ قدوة الحفاظ رشيد الدين أبو الحسين يحيى ابن الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله القرشي قال
الحديث السادس
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الحج حديث منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال كان مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل فوقصته ناقته فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم اغسلوه ولا تقربوه طيبا ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يلبي هكذا أخرجه مسلم في صحيحه وانتقده الحافظ أبو الحسن الدارقطني عليه وقال إنما سمعه منصور من الحكم يعني ابن عتيبة وأخرجه البخاري عن قتيبة عن جرير عن منصور عن الحكم عن سعيد وهو الصواب
(1/205)
وقيل عن منصور عن سلمة ولا يصح انتهى كلام الدارقطني رحمه الله قلت وقد تابع البخاري على إخراجه كذلك أبو داود السجستاني وأبو عبد الرحمن النسائي فأما أبو داود فرواه عن عثمان بن أبي شيبة وأما النسائي فرواه عن محمد بن قدامة كلاهما عن جرير عن منصور عن الحكم بإسناده كما رواه البخاري وجرير بن عبد الحميد من أعلم الناس بحديث منصور وهذا مما يؤيد قول الدارقطني رحمه الله إلا أن مسلما قدس الله روحه ونور ضريحه قد أخرج هذا الحديث من طرق ثابتة من رواية عمرو بن دينار وأبي بشر جعفر بن أبي وحشية وغيرهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بألفاظ أتم من حديث
(1/206)
منصور الذي قدمناه ثم أورد حديث منصور آخر طرق هذا الحديث فإن ثبت انقطاعه من هذا الوجه فقد بينا أنه متصل في كتاب مسلم من طرق أخر سواه وأن البخاري وغيره قد أخرجوه في كتبهم متصلا من حديث منصور أيضا عن الحكم عن سعيد بن جبير ونحن نورده من كتب الأمة الثلاثة ليتضح اتصاله فأما طريق البخاري فأخبرنا بها الشيخ أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود وأبو عبد الله محمد بن حمد الأرتاحي الأنصاريان قراءة عليهما معا قال أبو القاسم أخبرنا أبو عبد الله محمد بن بركات السعيدي قراءة عليه وقال الأرتاحي أنا أبو الحسن علي بن الحسين الفراء الموصلي إجازة قالا أخبرتنا كريمة بنت أحمد المروزية بمكة شرفها الله أنا أبو الهيثم الكشميهني أنا أبو عبد الله الفربري أنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا قتيبة ثنا جرير عن منصور عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال وقصت برجل محرم ناقته فقتلته فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يهل وأما طريق أبي داود فأخبرنا بها الحافظ أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج بن علي البغدادي رحمه الله في كتابه إلي من مكة شرفها الله مرات عدة بخطه أنا الشريف النقيب أبو طالب محمد بن محمد بن أبي زيد البصري قراءة عليه
(1/207)
وأنا أسمع سنة ست وخمسين وخمس مائة أنا أبو علي علي بن أحمد بن علي التستري ح وأنا أبو حفص عمر بن محمد بن معمر البغدادي فيما كتب به إلي بخطه غير مرة أنا أبو البدر إبراهيم بن محمد بن منصور الكرخي قراءة عليه ثنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي قالا أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن منصور عن
(1/209)
الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال وقصت برجل محرم ناقته فقتلته فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يهل لفظهما واحد وأما طريق النسائي فأخبرنا بها الشيخ أبو بكر بن أبي الفتح المعدل قراءة عليه أنا طاهر بن أبي الفضل الهمداني ببغداد أنا أبو محمد عبد الرحمن بن حمد بن الحسن الدوني أنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الدينوري أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ أنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي أخبرني محمد بن قدامة ثنا جرير عن منصور عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال وقصت رجلا محرما ناقته فقتلته فأتي
(1/210)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يهل قلت فهذه طرق هذا الحديث من الكتب الثلاثة التي ذكرناها فقد اتضح اتصاله وبان وجه الصواب فيه والحمد لله ووقع في بعض طرقه في كتاب مسلم أيضا من رواية إسماعيل بن علية عن أيوب قال نبئت عن سعيد عن ابن عباس أن رجلا كان واقفا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم الحديث وهذا أيضا يدخل في باب المقطوع على مذهب الحاكم وغيره إلا أن مسلما رحمه الله لم يورده هكذا إلا بعد أن أورده من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار وأيوب كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه متصلا ثم أورده بعده حديث ابن علية الذي ذكرناه لينبه والله أعلم على الاختلاف فيه على أيوب وإذا اختلف حماد بن زيد وغيره في حديث أيوب بن أبي
(1/211)
تميمة فالقول قول حماد بن زيد وقد روى ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين أنه قال ليس أحد في أيوب أثبت من حماد بن زيد قلت ولهذا قدم مسلم في هذا الحديث طريق حماد على طريق ابن علية والله عز وجل أعلم وقد أخرجه البخاري عن سليمان بن حرب وأبو داود عن مسدد والنسائي عن قتيبة كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فتبين اتصاله والحمد لله وقوله في هذا الحديث وقصته ناقته وروي فأوقصته وهما صحيحان قاله القاضي أبو الفضل اليحصبي قال ولم يذكر
(1/212)
صاحب الأفعال إلا وقصة لا غير والوقص ها هنا كسر العنق ومعناه أنها صرعته فدقت عنقه وجاء في بعض طرقه أيضا فأقعصته ومعناه قتلته لوقته وروي فأقصعته بتقديم الصاد على العين ومعناه فضخته وهكذا جاء فأقعصته رباعيا وقال بعض العلماء الوجه فيه أن يكون ثلاثيا والله عز وجل أعلم
الحديث السابع
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الجنائز حديث عبد الملك بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال حدثني رجال عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث معمر يعني حديثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قلت وقول الزهري في هذا الإسناد حدثني رجال ولم يسم واحدا منهم يدخل في باب المقطوع على مذهب الحاكم وغيره وهذا الحديث قد أخرجه مسلم رحمه الله متصلا من غير وجه فأخرجه من حديث يونس بن يزيد عن الزهري عن
(1/213)
الأعرج ومن حديث معمر بن راشد عن الزهري عن سعيد بن المسيب كلاهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أردفهما فإن بحديث عقيل الذي ذكرناه وهذا الاختلاف الذي وقع في إسناد هذا الحديث عن الزهري لا يؤثر في صحته فإن الحديث قد يكون عند الراوي له عن جماعة من شيوخه فيحدث به تارة عن بعضهم وتارة عن جميعهم وتارة يبهم أسماءهم وربما أرسله تارة على حسب نشاطه وكسله كما أشار إليه مسلم رحمه الله في مقدمة كتابه ومع ذلك فلا يكون ما ذكرناه اعتلالا يقدح في صحة الحديث وإنما أخرجه مسلم من طريق عقيل الذي قدمنا كذلك ليحقق به والله أعلم أن الزهري يرويه عن غير واحد من أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه وقد نبه البخاري رحمه الله في صحيحه على أن الزبيدي قد روى هذا الحديث عن الزهري فجمع فيه بين الأعرج وسعيد بن المسيب وهذا يؤيد ما ذكرناه وبالله التوفيق
الحديث الثامن
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة حديث عبد الله بن الحارث البصري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم الحديث ثم أورده من عدة طرق
(1/215)
عنه قال في آخرها وحدثنا عبد بن حميد ثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي ثنا وهيب ثنا أيوب عن عبد الله بن الحارث قال وهيب لم يسمعه منه قال أمر ابن عباس مؤذنه في يوم جمعة وفي يوم مطير بنحو حديثهم قلت وقول وهيب بن خالد أن أيوب لم يسمعه منه يعني من عبد الله بن الحارث يدل على انقطاعه من هذا الوجه وهذا الحديث متصل في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عبد الحميد صاحب الزيادي وأيوب وعاصم الأحول كلهم عن
(1/217)
عبد الله بن الحارث المذكور ومداره عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنما أورد مسلم حديث وهيب هذا لينبه والله أعلم على الاختلاف فيه على أيوب لأن وهيبا كان من حفاظ أهل البصرة وثقاتهم إلا أن حماد بن زيد أثبت في أيوب من غيره كما قدمنا ذكره عن يحيى بن معين ولذلك قدم مسلم حديثه على حديث وهيب ومع ذلك فلو سلمنا أن أيوب لم يسمعه من عبد الله بن الحارث فقد بينا أنه متصل في كتاب مسلم وغيره من حديث غير واحد عنه وبالله التوفيق
الحديث التاسع
أخرجه مسلم رحمه الله في كتاب الجهاد حديث
(1/218)
يونس عن الزهري عن سالم عن أبيه قال نفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلا سوى نصيبنا من الخمس فأصابني شارف والشارف المسن الكبير ثم أردفه بقوله حدثنا هناد بن السري ثنا ابن المبارك ح قال وحدثني حرملة بن يحيى أنا ابن وهب كلاهما عن يونس عن ابن شهاب قال بلغني عن ابن عمر قال نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بنحو حديث ابن رجاء يعني عن يونس قلت وهذا الحديث قد أورده مسلم من حديث عبد الله بن رجاء الغداني عن يونس عن الزهري بإسناده المتصل الذي ذكرناه أولا ثم أورد بعده حديث ابن
(1/219)
المبارك وابن وهب كلاهما عن يونس بإسناده المقطوع وإنما أراد بذلك والله أعلم أن ينبه على الاختلاف فيه على يونس كما فعل في عدة أحاديث تشبه هذا الحديث وقد تقدم بعضها وعبد الله بن رجاء الذي وصله ثقة صدوق عند أهل النقل إلا أن عمرو بن علي الفلاس نسبه إلى كثرة الغلط وعبد الله بن المبارك وابن وهب مقدمان عليه في الحفظ عندهم ولهذا جعل الدارقطني القول قولهما في إسناد هذا الحديث وقال لو كان الزهري سمعه من سالم لم يكن عن اسمه والله عز وجل أعلم قلت والعذر لمسلم رحمه الله في ذلك أنه إنما أورده هكذا في الشواهد وإلا فقد أورد في أول الباب الحديث المتفق على صحته في هذا المعنى وهو حديث نافع عن ابن عمر قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قبل نحو الحديث ووقع في بعض طرقه أيضا كتاب مسلم عن ابن عون قال كتبت
(1/220)
إلى نافع أسأله عن النفل فكتب إلي أن ابن عمر كان في سرية الحديث وسنذكره فيما بعد مع الأحاديث التي وقعت في كتاب مسلم بالمكاتبة دون السماع وننبه على اختلاف العلماء فيها إن شاء الله عز وجل
الحديث العاشر
قال مسلم رحمه الله في كتاب الجهاد أيضا حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لابن المثنى قالا ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق أنه سمع البراء رضي الله عنه في هذه الآية لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فجاء بكتف يكتبها فشكا إليه ابن أم مكتوم ضررا به فنزلت لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
(1/221)
المؤمنين غير أولي الضرر قال شعبة وأخبرني سعد بن إبراهيم عن رجل عن زيد في هذه الآية لا يستوي القاعدون بمثل حديث البراء وقال ابن بشار في روايته سعد بن إبراهيم عن أبيه عن رجل عن زيد بن ثابت قلت هكذا أورده مسلم في صحيحه وقد اشتمل هذا الحديث على طريقين عن صحابيين رضي الله عنهما فالأول منهما حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وهو صحيح متصل ثابت متفق عليه والثاني حديث زيد بن ثابت وفي إسناده اختلاف ورجل غير مسمى فهو داخل في باب المقطوع على مذهب الحاكم وغيره إذا لم يعرف ذلك الرجل والجواب عن ذلك أن مسلما رحمه الله إنما احتج بحديث البراء وحده وإنما أورد الإسناد الثاني لأن شعبة حدث به غندر هكذا فأورده مسلم كما سمعه من أصحاب غندر والظاهر من مذهبه أنه لا يختصر من الحديث شيئا وإن اختصر منه شيئا لضرورة نبه عليه وقد أخرج البخاري حديث البراء هذا في صحيحه في غير موضع من رواية
(1/222)
شعبة عن أبي إسحاق عنه ولم يذكر فيه حديث زيد بن ثابت محتمل أن يكون تركه عمدا لما فيه من الاعتلال ويحتمل أن يكون إنما سمعه كذلك من غير زيادة على ما أورده لكنه أخرج حديث زيد بن ثابت المذكور من طريق آخر من حديث الزهري عن سهل بن سعد عن مروان بن الحكم عنه وهو إسناد اجتمع فيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم يروي بعضهم عن بعض ويدخل أيضا في رواية الأكابر
(1/223)
عن الأصاغر لأن سهلا أكبر من مروان ومروان وإن لم يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فهو معدود في الصحابة رضي الله عنهم وقد أخرج له البخاري في صحيحه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم مقرونا بالمسور بن مخرمة والله أعلم فقد تبين بما ذكرناه أن حديث زيد بن ثابت متصل أيضا في كتاب البخاري والله عز وجل أعلم ووقع في كتاب الأشربة حديث نحو هذا من رواية سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه قال إني لقائم عل الحي على عمومتي أسقيهم الحديث وفي آخره قلت لأنس ما هو قال بسر ورطب قال فقال أبو بكر بن
(1/224)
أنس كانت خمرهم يومئذ قال سليمان وحدثني رجل عن أنس أنه قال ذلك أيضا ثم أردفه بطريق آخر عن التيمي عن أنس بنحوه وقال التيمي في آخره حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسا يقول كانت خمرهم يومئذ قلت وقد أورد مسلم بعد ذلك حديث قتادة عن أنس متصلا وفيه نزل تحريم الخمر فأكفأناها يومئذ وإنها لخليط البسر والتمر قال قتادة وقال أنس بن مالك لقد حرمت الخمر وكانت عليه خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر فثبت اتصاله والحمد لله
الحديث الحادى عشر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الجهاد أيضا حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
(1/225)
رضي الله عنها قالت أصيب سعد يوم الخندق ورماه رجل من قريش ابن العرقة وساق الحديث إلى آخره ثم أردفه بقوله وحدثنا أبو كريب ثنا ابن نمير ثنا هشام قال أبي فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد حكمت فيهم بحكم الله قلت وقول هشام قال أبي فأخبرت ليس بمتصل على مذهب الحاكم وغيره كما تقدم والجواب عنه أن مسلما رحمه الله قد أخرج هذا اللفظ بعينه متصلا من رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت اتصاله من وجه صحيح فلا يؤثر قول بعض الرواة فيه فأخبرت من وجه آخر والله أعلم وابن العرقة اسمه حبان بكسر الحاء المهملة وبالباء بواحدة وقيل في تقييده جبار بالجيم والباء المعجمة بواحدة وآخره راء والأول أصح وهو حبان بن أبي قيس ويقال ابن قيس وكان قد رمى سعد بن معاذ يوم الخندق
(1/226)
بسهم في أكحله وقال خذها وأنا ابن العرقة فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرق الله وجهه في النار والعرقة هي أمه نسب إليها وقيل إنها أم عبد مناف جد أبيه واسمها قلابة بنت سعيد وقيل بنت سعيد بن سهم وذكر أنها سميت بذلك لطيب ريحها ونقل عن الواقدي أنه كان يقول فيها العرقة بفتح الراء ويقول إن أهل مكة يقولون ذلك والمشهور ما تقدم والله عز وجل أعلم ومما يشبه إسناد هذا الحديث حديث أخرجه مسلم في الصلاة من حديث أيوب عن محمد بن سيرن عن أبي هريرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي الحديث بطوله في السهو وفيه ذكر ذي اليدين وفي آخره ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر وسجد ثم كبر ورفع قال وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال وسلم قلت وذكر السلام في هذا الحديث من هذا الوجه مقطوع الإسناد على مذهب
(1/227)
الحاكم والجواب عنه أنه قد جاء متصلا في كتاب مسلم من وجه آخر من حديث أبي المهلب عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت اتصاله والحمد لله والقائل فأخبرت عن عمران بن حصين هو ابن سيرين ويحتمل أن يكون أيوب والأول أظهر فقد ذكر الدارقطني أن ابن سيرين يقول في غير حديث من حديث عمران بن حصين نبئت عن عمران والله عز وجل أعلم
الحديث الثاني عشر
واخرج في الجهاد أيضا أيوب بن موسى عن مكحول عن شرحبيل بن السمط عن سلمان قال سمعت
(1/228)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه الحديث قلت وفي سماع مكحول من شرحبيل بن السمط نظر فإن شرحبيل معدود في الصحابة رضي الله عنهم وتقدمت وفاته فقيل إنه توفي في سنة ست وثلاثين وقيل سنة أربعين وتوفي مكحول سنة ثماني عشرة ومائة في أحد الأقوال وقيل سنة إثني عشرة وقيل سنة ثلاث عشرة وقيل سنة أربع عشرة وقد اختلف في عدد الصحابة الذين لقيهم مكحول وسمع منهم فقال البخاري سمع أنس بن مالك وأبا مرة الداري وواثلة بن الأسقع وأم الدرداء وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه قال سألت أبا مسهر هل سمع مكحول
(1/229)
من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما صح عندنا إلا أنس بن مالك قلت وواثلة فأنكره وسئل أبو داود السجستاني وكم يصح لمكحول من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال واثلة وذكر الحافظ أبو سعيد بن يونس المصري أنه رأى أبا أمامة الباهلي وسمع واثلة بن الأسقع ولقي أنس بن مالك رضي الله عنهم قلت وذكر ابن أبي حاتم كتاب المراسيل قال سمعت أبي يقول وذكر حديث رواه الوليد بن مسلم عن تمبم بن عطية عن مكحول قال جالست شريحا ستة أشهر ما أسأله عن شئ إنما أكتفي بما يقضي به بين الناس فقال أبي لم يدرك مكحول شريحا وهذا وهم
(1/230)
قلت وإذا لم يدرك مكحول شريحا وكانت وفاته في سنة ست وسبعين من الهجرة وقيل سنة ثمان وسبعين وقيل سنة ثمانين فإدراكه لشرحبيل أبعد لأنه توفي سنة ست وثلاثين وقيل سنة أربعين كما بيناه من قبل ويحتمل أن يريد بالإدراك اللقاء وإذا لم يثبت لمكحول سماع من شرحبيل فإسناده مقطوع إلا أن مسلما رحمه الله قد أخرج هذا الحديث من طريق آخر عن شرحبيل من حديث أبي شريح المعافري المصري عن عبد الكريم بن الحارث المصري عن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري عن شرحبيل بإسناده نحوه وظاهر هذا الإسناد الاتصال إلا أن عبد الله بن المبارك رواه عن أبي شريح هذا عن أبي عبد الكريم بن الحارث عن أبي عبيدة عن رجل من أهل الشام أن شرحبيل بن السمط قال طال رباطنا أو إقامتنا على حصن فمر بي سلمان وذكر الحديث وقد ذكر الحافظان أبو أحمد الكرابيسي الحاكم وأبو عمر بن عبد البر النمري أن أبا عبيدة هذا روى عن ابن عمر وأخيه عياض بن عقبة وعن رجل عن
(1/231)
شرحبيل بن السمط وفي لفظ الحاكم رجل من أهل الشام وهذا يؤيد رواية ابن المبارك والله عز وجل أعلم إلا أن أبا أحمد وأبا عمر ذكرا أبا عبيدة هذا فيمن لم يعرف اسمه وذكر ابن يونس أن اسمه مرة وأنه أدرك معاوية وروى عن ابن عمر رضي الله عنهم وتعريف ابن يونس باسمه أولى بالصواب لأنه من أهل بلده وهو أعلم به والله عز وجل أعلم وقد أخرج مسلم رحمه الله لمكحول هذا حديثا آخر في كتاب الصيد عن أبي ثعلبة الخشني لم يورد له متنا بل قال حديثه في الصيد فقط وفي سماعه
(1/232)
منه أيضا نظر إلا أن مسلما رحمه الله أورد حديث أبي ثعلبة هذا من طرق ثابتة الاتصال وهو قوله صلى الله عليه وسلم إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن انفرد به مسلم دون البخاري والله الموفق
الحديث الثالث عشر
وأخرج في الجهاد أيضا حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن قال مسلم ونسبه غير ابن وهب فقال ابن عبد الله بن كعب بن مالك أن سلمة بن الأكوع قال لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد عليه سيفه فقتله الحديث بطوله وفي آخره قال ابن شهاب ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك غير أنه قال حين قلت إن ناسا يهابون الصلاة عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوا مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين وأشار بأصبعيه قلت وقول ابن شهاب في آخره ثم سألت ابنا لسلمة ولم يسمه يدخل في باب المقطوع على مذهب من قدمنا ذكره ولا يخلو أن يكون هذا المبهم هو إياس بن سلمة أو غيره
(1/233)
فإن كان إياسا فهو ثقة متفق على إخراج حديثه في الصحيحين عن أبيه وإن كان غيره فهو مجهول فقد ثبت في كتاب مسلم وغيره قوله صلى الله عليه وسلم كذبوا مات جاهدا مجاهدا إلى آخره من حديث يزيد بن أبي عبيد عن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخو سلمة هذا اسمه أهبان فيما ذكر بعض العلماء وعزاه إلى ابن الكلبي وقاله ابن قتيبة أيضا وسلمة منسوب إلى جده وهو سلمة بن عمرو بن الأكوع والأكوع لقب واسمه سنان بن عبد الله وقول مسلم رحمه الله في هذا الإسناد عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن ونسبه غير ابن وهب من بديع التصرف في العدول عن الوهم إلى الصواب وذلك أن عبد الله بن وهب كان يقول في هذا الإسناد قال أخبرني عبد الرحمن وعبد الله ابنا كعب ويقال إنه وهم في ذلك وهكذا أورده أبو داود في سننه عن
(1/234)
أحمد بن صالح عن ابن وهب إلا أنه قال قال أحمد كذا قال هو وعنبسة يعني ابن خالد قال أحمد والصواب عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب قلت وقد نبه على هذا الوهم أيضا أبو عبد الرحمن النسائي وأبو الحسن الدارقطني وذكر الدارقطني أن القاسم بن مبرور رواه عن يونس عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن سلمة قال وهو الصواب وكذلك رواه غير واحد عن الزهري والله عز وجل أعلم
(1/235)
وفي هذا الحديث إشكال وهو قوله قاتل أخي فارتد عليه سيفه فقتله لأن هذه القصة مشهورة لعامر عم سلمة وقد أوردها مسلم بعد ذلك في حديث سلمة بن الأكوع الطويل وفيه أن عامرا هو الذي ارتد عليه سيفه يوم خيبر وأنه الذي كان يرتجز بالقوم وكذلك ذكر ابن إسحاق في السير والجمع بين الحديثين عسير إلا أن يكون عامر أخا سلمة من الرضاعة أو يكون أراد أخوة الإسلام والله عز وجل أعلم
الحديث الرابع عشر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الطلاق حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي
(1/236)
ثور عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم حديث المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله وقال في آخره قال معمر فأخبرني أيوب أن عائشة قالت لا تخبر نساءك أني أخبرتك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا قلت وهذا مقطوع فإن أيوب السختياني لم يدرك عائشة رضي الله عنها لأن مولده سنة ست وستين من الهجرة وقيل سنة ثمان وستين وتوفيت عائشة رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين وقيل سنة سبع وخمسين والأول أشهر ومسلم رحمه الله إنما أخرج هذه الزيادة تبعا للحديث المسند الذي وقعت هي في آخره ولم ير اختصارها منه على عادته التي بيناها من قبل ومع ذلك فهذه الزيادة متصلة في كتابه في حديث التخيير من رواية أبي الزبير عن جابر
(1/237)
فثبت اتصالها في كتاب مسلم والحمد لله
الحديث الخامس عشر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب اللعان حديث حجين بن المثنى عن الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أنه قال بلغنا أن أبا هريرة كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم قلت يعني حديثا قبله وهو حديث ابن عيينة ومعمر وغيرهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي ولدت غلاما أسود الحديث قلت وهو حديث متصل في الصحيحين من حديث ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم أيضا وحده من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة متصلا ثم أردفه بحديث عقيل الذي ذكرناه وإنما أورده مسلم هكذا في الشواهد آخر الباب ليكثر والله أعلم بذلك طرق هذا الحديث ولينبه على
(1/238)
مخالفة عقيل للجماعة الذين رووه عن الزهري وجودوا إسناده والله عز وجل أعلم والرجل الفزاري المذكور في هذا الحديث اسمه ضمضم بن قتادة قاله الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي والله أعلم
(1/239)
الحديث السادس عشر
أخرج مسلم رحمه الله في المغازي حديث زيد بن سلام عن أبي سلام الحبشي قال قال حذيفة يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه الحديث قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني هذا الحديث عندي مرسل أبو سلام
(1/244)
لم يسمع من حذيفة ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان رضي الله عنه بليال وقد قال فيه قال قال حذيفة فهذا يدل على إرساله قلت وهذا الحديث قد أخرجه مسلم في صحيحه متصلا من وجه لآخر من حديث بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي عن أبي إدريس الخولاني عن حذيفة وهو أتم من حديث أبي سلام وكذلك أخرجه البخاري في صحيحه أيضا فإن ثبت أن أبا سلام لم يسمع من حذيفة فقد بينا أن هذا الحديث متصل في الصحيحين من حديث أبي إدريس عن حذيفة رضي الله عنه وبالله التوفيق
الحديث السابع عشر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب النذور والأيمان حديث الصعق بن حزن عن مطر الوراق عن زهدم
(1/245)
الجرمي قال دخلت على أبي موسى الأشعري وهو يأكل لحم دجاج الحديث وهذا الحديث أيضا قد انتقده الحافظ أبو الحسن الدارقطني رحمه الله وعاب على مسلم إخراجه من هذا الوجه وقال الصعق ومطر ليسا بالقويين ومع هذا لم
(1/247)
يسمعه مطر من زهدم إنما رواه عن القاسم بن عاصم عنه قال ذلك ثابت بن حماد عن مطر قلت وهذا الحديث أيضا قد أخرجه مسلم في صحيحه من طرق صحاح متصلة عن زهدم عن أبي موسى رضي الله عنه وطريق مطر التي انتقدها الدارقطني إنما أوردها مسلم في الشواهد لا في الأصول وإذا كان الحديث ثابتا متصلا من وجه صحيح ثم روي من وجه آخر دونه في الصحة وفي اتصاله نظر فلا يؤثر ذلك في ثبوته واتصاله من الوجه الآخر على أن مطرا قد قال فيه حدثنا زهدم وليس هو ممن يتهم بالكذب لكنه سئ الحفظ عندهم وقد سئل عنه يحيى بن معين فقال صالح وكذلك قال أبو حاتم الرازي ويحتمل أن يكون مطر قد سمعه من القاسم بن عاصم عن زهدم كما ذكره الدارقطني ثم لقي زهدما فسمعه منه فحدث به تارة هكذا وتارة هكذا والله عز وجل أعلم بالصواب
(1/248)
الحديث الثامن عشر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الحج حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سنان بن سلمة عن ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن الحديث قلت قلت وهذا الإسناد غير متصل عند جماعة من أهل النقل فإن قتادة لم يسمع هذا الحديث من سنان بن سلمة قاله الإمامان يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن
(1/252)
معين وناهيك بهما جلالة ومعرفة بهذا الشأن وذكر الحافظ أبو الفضل المقدسي أيضا أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه عمدتها ما قاله يحيى القطان وابن معين قلت ومما يؤيد ذلك أن سنان بن سلمة هذا هو سنان بن سلمة بن المحبق معدود في الصحابة رضي الله عنهم وله أيضا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نص الإمام أبو حاتم الرازي على أن قتادة لم يلق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنس بن مالك وعبد الله بن سرجس وذكر البخاري في تاريخه أنه سمع أنسا وأبا الطفيل ولم يذكر له من الصحابة غيرهما والعذر لمسلم رحمه الله أنه إنما أخرج هذا الحديث بهذا الإسناد في الشواهد ليبين والله أعلم أنه قد روي من غير وجه عن ابن عباس وإلا فقد أخرجه قبل ذلك من حديث أبي التياح عن موسى بن
(1/253)
سلمة عن ابن عباس متصلا فثبت اتصاله في الكتاب والله الموفق للصواب
الحديث التاسع عشر
وأخرج أيضا في كتاب الأدب حديث عراك ابن مالك الغفاري المدني عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات الحديث قلت وفي سماع عراك
(1/255)
من عائشة رضي الله عنها نظر فإنه إنما يروي عن عروة عن عائشة وقد ذكر الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله أن حديثه عن عائشة مرسل وقال موسى بن هارون الحافظ لا نعلم له سماعا من عائشة وقال أبو الفضل الحافظ حفيد أبي سعد الزاهد في كلامه على هذا الحديث هذا عندنا حديث مرسل واستدل بما ذكرناه من قول أحمد بن حنبل وموسى بن هارون ولم يخرج البخاري لعراك عن عائشة شيئا وأخرج له ابن ماجه عنها حديثين وحديثه عن رجل عنها لا يدل
(1/256)
على عدم سماعه بالكلية منها لا سيما وقد جمعهما بلد واحد وعصر واحد وهذا ومثله محمول على السماع عند مسلم رحمه الله حتى يقوم الدليل على خلافه كما نص عليه في مقدمة كتابه فسماع عراك من عائشة رضي الله عنها جائز ممكن وقد ثبت سماعه من أبي هريرة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم ومما يشبه هذا الحديث في إسناده حديث أخرجه مسلم رحمه الله في البر والصلة
(1/257)
من رواية ابن عيينة عن أبي محيصن وهو عمر بن عبد الرحمن بن محيصن المقرئ عن محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الحديث وقد ذكر بعض الحفاظ أن محمد بن قيس هذا لم يسمع من أبي هريرة قلت وذكر غير واحد من العلماء أن محمد بن قيس هذا حجازي وأنه سمع من عائشة فسماعه من أبي هريرة جائز ممكن لأنهما متعاصران ويجمعهما قطر واحد فعلى مذهب مسلم تحمل روايته عنه
(1/258)
السماع إلا أن يقوم دليل بين على خلافة والله عز وجل أعلم
الحديث العشرون
وأخرج أيضا في كتاب الأدب حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سميت ابنتي برة فقالت لي زينب ابنة أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا وذكر بعض الحفاظ أنه قد سقط من هذا الإسناد رجل بين يزيد ومحمد بن عمرو وهو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي قال كذلك رواه المصريون يعني عن الليث قلت وقد وجدته كما قال من حديث غير واحد من أهل مصر منهم يحيى بن بكير وعيسى بن حماد زغبة وأخرجه أبو داود في
(1/259)
سننه عن عيسى بن حماد عن الليث كذلك وأثبت في إسناده محمد بن إسحاق وذكر بعض العلماء أن غسان بن الربيع الكوفي رواه عن الليث كذلك أيضا وهذا إنما أورده مسلم بهذا الإسناد استشهادا وإلا فقد أورده قبل هذا بإسناد متصل فرواه من غير وجه عن الوليد بن كثير المخزومي المدني قال حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها وهذا متصل لا شك فيه فإن ثبت انقطاعه من حديث يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو فقد بينا أنه متصل في الكتاب من حديث الوليد بن كثير عن محمد بن عمرو وبالله التوفيق وقد رأيت في بعض النسخ من كتاب الأطراف لأبي مسعود الدمشقي أن مسلما أخرج هذا الحديث عن عمرو الناقد عن هاشم بن القاسم عن الليث عن يزيد عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو
(1/260)
كما رواه المصريون عن الليث فلعله كذلك في أصل مسلم وسقط من بعض النسخ ذكر ابن إسحاق والله عز وجل أعلم

========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
غرر الفوائد المجموعة
فصل ومما يظن أنه مقطوع على مذهب عبد الله الحاكم وغيره وليس كذلك حديث أخرجه مسلم في كتاب الفتن من حديث شعبة عن فرات القزاز
(1/261)
قال سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن تحتها نتحدث يعني فاطلع إلينا فقال ما تذكرون قلنا الساعة قال إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات الحديث وفي آخره قال شعبة وحدثني رجل بهذا الحديث عن أبي الطفيل عن أبي سريحة ولم يرفعه اه قلت وهذا الرجل المبهم اسمه هو فيما ظهر لي عبد العزيز بن رفيع المكي وقد بين ذلك غير واحد من الثقات في روايتهم لهذا الحديث عن شعبة منهم معاذ بن معاذ العنبري وأبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي فإنهما روياه عن شعبة عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة موقوفا
(1/262)
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث من سمينا عن شعبة عن عبد العزيز بإسناده موقوفا وقال الدارقطني لم يرفعه غير فرات عن أبي الطفيل من وجه يصح فتبين بما ذكرناه أن هذا الحديث من هذا الوجه متصل الإسناد إلى أبي سريحة رضي الله عنه ولكنه موقوف عليه اه وفي كتاب مسلم أحاديث يسيرة موقوفة أيضا وليس هذا موضع ذكرها وبالله التوفيق اه
(1/263)
حديث آخر
وأخرج في كتاب الديات حديث عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض الحديث وابن أبي بكرة المبهم اسمه في هذا الإسناد هو عبد الرحمن ثقة متفق عليه بين ذلك عبد الله بن عون وغيره في روايتهم لهذا الحديث عن أيوب وبنو أبي
(1/266)
بكرة ستة فيما ذكر علي بن المديني وهم عبد الرحمن ومسلم وعبد العزيز ويزيد وعبيد الله ورواد وزاد غيره كيسة بنت أبي بكرة وهي بفتح الكاف وتشديد الياء المعجمة باثنتين من تحتها وسين مهملة وتشبه بكبشة بالياء بواحدة وبالشين المعجمة فأما عبد الرحمن فاتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه عن أبيه وأما مسلم فانفرد به مسلم وأما عبد العزيز فأخرج له أبو داود والترمذي وابن
(1/267)
ماجه وأما كيسة فأخرج لها أبو داود عن أبيها والباقون لم يخرج لهم شئ في الكتب الستة فيما أعلم والله عز وجل أعلم وقد ذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ كيسة هذه وقيدها كما ذكرناه إلا أنه قال بإسكان الياء وبالتشديد قيدها الأمير أبو نصر بن ماكولا وذكر أن غير ذلك تصحيف والله عز وجل أعلم اه
حديث آخر مثل الذي قبله قال مسلم رحمه الله في كتاب الجنائز حدثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى بن سعيد ح قال وثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الرزاق جميعا عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن محمد بن
(1/268)
عمرو عن ابن كعب بن مالك عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني مثل الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه الحديث اه قلت وابن كعب المبهم اسمه في هذا الإسناد هو معبد بن كعب بين ذلك الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس في روايته لهذا الحديث عن محمد بن عمرو الديلي وأخرجه مسلم في صحيحه عن قتيبة عن مالك كذلك اه
(1/270)
وبنو كعب بن مالك رضي الله عنه ستة عبيد الله وعبد الله وعبد الرحمن وفضالة ووهب ومعبد حكى ذلك أبو زرعة الدمشقي عن أحمد بن حنبل فمنهم أربعة اتفق الإمامان على إخراج حديثهم في الصحيحين وهم عبيد الله وعبد الله وعبد الرحمن ومعبد وأما وهب وفضالة فلم يخرجا لهما في الصحيحين ولم أقف على ذكرهما في غير تاريخ أبي زرعة والله أعلم فصل ووقع في الكتاب أيضا أحاديث مروية بالوجادة وهي داخلة في باب المقطوع عند علماء الرواية إلا أن منها ما وقعت الوجادة في إسناده من أحد شيوخ مسلم خاصة على ما سنبينه فمن ذلك حديث أخرجه في كتاب الفضائل فقال فيه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال وجدت في كتابي عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول أين أنا اليوم أين أنا غدا استبطاءا ليوم عائشة قالت فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري قلت هكذا أورده مسلم ولم يخرجه في كتابه إلا في هذا الموضع وحده فيما علمت بهذا الإسناد وقد أخرجه البخاري في صحيحه متصلا من غير وجادة وهو ما أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن علي السعودي الأنصاري أنا أبو عبد الله محمد بن بركات السعيدي أخبرتنا كريمة بنت أحمد المروزية
(1/272)
أنا أبو الهيثم الكشميهني أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري أنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل ثنا سليمان عن هشام ح قال وحدثني محمد بن حرب ثنا أبو مروان يحيى بن أبي زكرياء عن هشام عن عروة عن عائشة قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه أين أنا اليوم أين أنا غدا استبطاءا ليوم عائشة فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري ودفن في بيتي صلى الله عليه وسلم اه وأخرجه أيضا عن عبيد بن إسماعيل الكوفي عن أبي أسامة عن هشام
(1/273)
عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا مرسلا إلا أنه قال في آخره قالت عائشة فلما كان يومي سكن وهذا متصل والله أعلم ويحيى بن أبي زكريا المذكور في هذا الإسناد هو الغساني شامي وربما اشتبه بيحيى بن زكريا الكوفي وهو ابن أبي زائدة لاشتراكهما في الرواية عن هشام بن عروة والأول يكنى أبا مروان وابن زائدة يكنى أبا سعيد همداني وقوله في هذه الرواية التي أوردناها من طريق البخاري أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر قال الخطابي معناه يتعسر ويتمنع وأنشد ويوما على ظهر الكتيب تعذرت وأكثر الرواة يرويه ليتقدر بالقاف من التقدير وفي كتاب مسلم ليتفقد من الافتقاد كما أوردناه وقولها بين سحري ونحري والسحر بفتح السين
(1/274)
المهملة وضمها الرية وقال بعضهم هو ما بين ثدييها والله أعلم ومن ذلك حديثان إسنادهما واحد رواهما مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة أيضا قال أبو بكر في كل واحد منهما وجدت في كتابي عن أبي أسامة إلا أن مسلما رحمه الله رواهما عن أبي كريب أيضا عن أبي أسامة فاتصلا من طريق أبي كريب اه فأحد الحديثين أخرجه في الفضائل من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبي الحديث والآخر أخرجه في النكاح من حديث أبي أسامة أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين وبنى بي
(1/275)
وأنا بنت تسع سنين الحديث وقد بينا أنهما متصلان في الكتاب من رواية أبي كريب عن أبي أسامة من غير وجادة وبالله التوفيق فصل ووقع في الكتاب أيضا أحاديث مرسلة وفيها ما وقع الإرسال في بعضه خاصة فأحببت أن ألحقها بما تقدم لكونها داخلة في معناه لأن كل ما لم يتصل فهو مقطوع في المعنى إلا أن منها ما يوافق معناه التسمية المصطلح عليها فيكون اسمه ومعناه واحدا ومنه ما يكون له تسمية أخرى على أن جمهور المتقدمين من علماء الرواية يسمون ما لم يتصل إسناده مرسلا سواء كان مقطوعا أو معضلا إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان معنى الجميع عدم الاتصال والله عز وجل أعلم فمن الأحاديث المرسلة حديث يشتمل على ثلاثة أحاديث اثنان مرسلان والثالث متصل أخرجه في كتاب البيوع فقال فيه وحدثني محمد بن رافع ثنا حجين ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة والمزابنة أن يباع ثمر النخل بالتمر والمحاقلة أن يباع الزرع بالقمح واستكراء الأرض بالقمح قال وأخبرني سالم بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبتاعوا الثمر بالتمر وقال سالم أخبرني عبد الله عن يزيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك
(1/278)
قلت هكذا أورده مسلم رحمه الله في كتابه فإن قيل كيف اختار إخراج المراسيل في صحيحه وليست من شرطه ولا داخلة في رسمه فالجواب أن مسلما رحمه الله من عادته أن يورد الحديث كما سمعه وكان هذا الحديث عنده عن محمد بن رافع على هذه الصفة فأورده كما سمعه منه ولم يحتج بالمرسل الذي فيه وإنما احتج بما في آخره من المسند وهو حديث سالم عن عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية الحديث فهذا القدر الذي احتج به مسلم منه فإن قيل فقد كان يمكنه أن يقتصر على هذا المسند خاصة ويحذف ما فيه من المرسل ولا يطول كتابه لما ليس من شرطه قيل هذه مسألة اختلف العلماء فيها فمنهم من أجاز تقطيع الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب إذا كان مشتملا على عدة أحكام كل حكم منها مستقل بنفسه غير مرتبط بغيره كحديث جابر الطويل في الحج ونحوه ومنهم من منع ذلك واختار إيراد الحديث كاملا كما سمعه والظاهر من مذهب مسلم رحمه الله إيراد الحديث بكامله من غير تقطيع له ولا اختصار إذا لم يقل فيه مثل حديث فلان أو نحوه والله عز وجل أعلم فإن قيل فهل يسند هذان المرسلان من وجه يصح قيل نعم كلاهما مسند متصل في الصحيح أما حديث سعيد بن المسيب فقد أخرجه مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/279)
ومن حديث سعيد بن ميناء وأبي الزبير كلاهما عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه أيضا هو والبخاري من حديث عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت اتصاله
(1/280)
وأما حديث سالم فقد أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وأخرجه البخاري في صحيحه متصلا من الوجه الذي أورده مسلم مرسلا وهو ما أخبرنا الشيخ أبو علي ناصر بن عبد الله الفقيه بالحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة أنا أبو الحسن علي بن حميد بن عمار المقرئ بمكة شرفها الله أنا أبو مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي أنا أبي أنا عبد الله بن أحمد السرخسي وإبراهيم بن أحمد المستملي ومحمد بن مكي الكشميهني قالوا أنا محمد بن يوسف الفربري أنا محمد بن إسماعيل البخاري ح وأخبرنا عاليا أبو القاسم الخزرجي واللفظ له أنا محمد بن بركات السعيدي أخبرتنا كريمة أنا أبو الهيثم الكشميهني أنا الفربري أنا البخاري ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر قال سالم وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره
(1/282)
حديث آخر
أخرج مسلم في كتاب الأضاحي حديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن واقد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل
(1/283)
لحوم الضحايا بعد ثلاث قلت وهذا مرسل فإن عبد الله بن واقد تابعي يروي عن عبد الله بن عمر وغيره وهو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ولم يحتج مسلم بهذا المرسل إنما احتج بباقي الحديث وهو قول عبد الله بن أبي بكر بن حزم فذكرت ذلك لعمرة فقالت صدق سمعت عائشة تقول دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذخروا عمر ثلاثا الحديث وهذا مسند ولا يخفى على من له أنس بعلم الرواية أن هذا المسند من هذا الحديث هو الذي احتج به مسلم وقد رواه القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة به لم يذكر فيه عبد الله بن واقد وكذلك رواه يحيى القطان عن مالك أيضا وأخرجه أبو داود في سننه عن القعنبي كذلك وأخرجه النسائي أيضا في سننه عن عبيد الله بن سعيد وهو أبو قدامة السرخسي عن يحيى وهو القطان فيما علمت عن مالك كذلك
(1/284)
وأما المرسل الذي في أوله فإنه متصل في كتاب مسلم من حديث ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقولها دف أهل أبيات معناه ساروا سيرا رفيقا في جماعة والدف السير ليس بالسريع في جماعة
(1/285)
وقولها حضرة الأضحى بإسكان الضاد أي وقته وحينه وقد قيده بعضهم بفتحها والمعنى واحد قاله القاضي أبو الفضل اليحصبي والله أعلم
حديث آخر
وأخرج في كتاب الصلاة حديث مسعر عن عمرو بن مرة عن إبراهيم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود اقرأ
(1/286)
علي فقال أقرأ عليك وعليك أنزل الحديث وقال في آخره قال مسعر فحدثني معن عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم ما دمت فيهم أوما كنت فيهم شك مسعر قلت هكذا هو في كتاب مسلم وهو حديث ليس بمتصل من هذا الوجه إلا ما في آخره من حديث مسعر عن معن فإنه مسند وهذا القدر هو الذي احتج به مسلم وأما أوله فإن مسلما رحمه الله قد أخرجه قبل هذا الحديث متصلا من حديث الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت اتصاله والحمد لله وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الفقيه معدود في الطبقة الثانية من تابعي
(1/287)
أهل الكوفة رأى عائشة وأدرك أنس بن مالك رضي الله عنهما والله ولي التوفيق
حديث آخر
وأخرج في كتاب الطهارة حديث أبي العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا الحديث وأبو العلاء هذا معدود في التابعين من أهل البصرة واسمه يزيد بن عبد الله بن الشخير روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعياض بن حمار وغيرهم وهو أخو مطرف بن عبد الله بن الشخير وهذا الكلام لا أعلم أحدا رواه عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من وجه يصح وقد روي بمعناه من حديث عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه
(1/289)
الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول القول ثم يلبث أحيانا ثم ينسخه بقول آخر كما ينسخ القرآن بعضه بعضا قلت وفي إسناده نظر وليس من شرط مسلم والله أعلم اه
حديث آخر
وأخرج في كتاب النكاح حديث مالك عن
(1/290)
عبد الله بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة
(1/291)
وأصبحت عنده قال لها ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت عندك الحديث وأورده أيضا من حديث سليمان بن بلال وأبي ضمرة أنس بن عياض كلاهما عن عبد الرحمن بن حميد عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه مرسلا كذلك قلت وهذا حديث انفرد به مسلم دون البخاري وأخرجه في صحيحه متصلا من وجه آخر من حديث سفيان الثوري عن محمد بن أبي بكر بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أردفه بحديث مالك وغيره مرسلا كما ذكرناه وإنما أراد بذلك والله أعلم ليبين الاختلاف الواقع في إسناده بين رواته ويخرج من عهدته وقد أورده البخاري رحمه الله في تاريخه من حديث الثوري مسندا كما أورده مسلم ثم قال عقيبة قال أنا إسماعيل حدثني مالك وذكر الإسناد الذي قدمناه عنه مرسلا ثم قال الصحيح هذا قلت وقد حكى بعض العلماء عن الدارقطني أنه حكم بصحة حديث الثوري الذي أسنده ولو لم يكن كذلك لما أخرجه مسلم والله عز وجل أعلم اه
(1/292)
حديث آخر
وأخرج في مقدمة الكتاب حديث معاذ بن معاذ
(1/294)
وعبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع قلت وهذا مرسل وكذلك رواه غندر وحفص بن عمر عن شعبة إلا أن مسلما رحمه الله أردفه بطريق آخر متصل من حديث علي بن حفص المدائني عن شعبة عن خبيب عن حفص عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فاتصل ذلك المرسل من هذا الوجه الثاني لكن رواية ابن مهدي ومن تابعه على إرساله أرجح لأنهم أحفظ وأثبت من المدائني الذي وصله وإن كان قد وثقه يحيى بن معين والزيادة
(1/295)
من الثقة مقبولة عند أهل العلم ولهذا أورده مسلم من الطريقين ليبين الاختلاف الواقع في اتصاله وقدم رواية من أرسله لأنهم أحفظ وأثبت كما بيناه وقد سئل أبو حاتم الرازي عن علي بن حفص هذا فقال يكتب حديثه ولا يحتج به ولهذا قال أبو الحسن الدارقطني الصواب في هذا الحديث المرسل والله عز وجل أعلم
حديث آخر
وأخرج في كتاب الصلاة حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي يدعونها العتمة الحديث
(1/297)
وفي آخره قال ابن شهاب وذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة وذلك حين صاح عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت هكذا هو في كتاب مسلم وقد أخرجه البخاري في صحيحه والنسائي في سننه فلم يذكرا هذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري ولا أعلم الآن من أسندها من الرواة والله عز وجل أعلم وقوله تنزروا بفتح التاء باثنتين من فوقها بعدها نون ساكنة ثم زاي مضمومة بعدها راء مهملة معناه تلحوا من نزره إذا ألح عليه وقيده بعضهم تبرزوا بضم التاء المعجمة باثنتين من فوقها والباء بواحدة بعدها وتقديم الراء المهملة على الزاي من الإبراز وهو الإخراج والإظهار والأول أليق بالمعنى والله عز وجل أعلم ووقع في الكتاب موضع آخر نحو هذا أورده مسلم في أواخر الكتاب
(1/298)
من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة عن أنس قال قال نبي الله إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم الحديث وفي آخره قال قتادة وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون قلت وهذا حديث انفرد به مسلم من هذا الوجه دون البخاري وأخرجه النسائي في سننه من هذا الوجه ولم يذكر هذه الزيادة وقد أخرج البخاري هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة عن أنس فذكره أتم من حديث شيبان عن قتادة ولم يذكر فيه هذه الزيادة كلها غير أنه قال فيه قال قتادة وذكر لنا أنه يفسح له في قبره فقط وأخرجه مسلم أيضا من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مختصرا ولم يذكر فيه هذه الزيادة أيضا والله عز وجل أعلم ولا أعلم الآن من أسندها وإنما أوردها مسلم جريا على عادته في ترك الاختصار من الحديث وإيراده إياه كاملا كما سمعه والله عز وجل أعلم
(1/299)
حديث آخر
وأخرج أيضا في كتاب الصلاة حديث قتيبة بن سعيد
(1/300)
عن الليث عن ابن عجلان عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم الحديث وفي آخره قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ من يشاء قلت هكذا أورده مسلم وهو حديث بعضه مسند وبعضه مرسل والمرسل منه قول أبي صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى آخره لأن أبا صالح لم يسنده وقد أخرج البخاري هذا الحديث في غير موضع من كتابه ولم يذكر فيه هذه الزيادة من قول أبي صالح إلا أن مسلما رحمه الله قد أخرجه من وجه آخر عن أبي صالح وفيه هذه الزيادة متصلة مع سائر الحديث فأخرجه من حديث روح بن
(1/301)
عبادة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في آخره بمثل حديث قتيبة عن الليث إلا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح ثم رجع فقراء المهاجرين إلى آخر الحديث انتهى كلام مسلم رحمه الله قلت فقد اتصل ما في هذا الحديث من المرسل من هذا الوجه الآخر الذي ذكرناه والحمد لله وقوله أهل الدثور يعني أهل الأموال الكثيرة وواحد الدثور دثر بفتح الدال المهملة وسكون الثاء المثلثة وهو المال الكثير ووقع في آخر هذا الحديث أيضا زيادة أوردها مسلم غير متصلة وهي قوله بعد انقضائه وزاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث عن ابن عجلان قال سمي فحدثت بعض أهلي هذا الحديث فقال وهمت وذكر باقي الحديث وهذا غير متصل كما ترى ووقع أيضا مثل ذلك في كتاب الجهاد في حديث أخرجه عن
(1/302)
شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال وفدت وفود إلى معاوية وساق الحديث إلى قوله ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة قال فنظر فرآني فقال أبو هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال لا يأتيني إلا أنصاري قال مسلم زاد غير شيبان اهتف لي بالأنصار قال فأطافوا به وهذه الزيادة غير متصلة أيضا في الكتاب والله أعلم
حديث آخر
وقع في آخره زيادة مرسلة وهو حديث أخرجه في الصلاة من حديث مالك عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة أنهما أخبراه عن
(1/304)
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام فأمنوا الحديث وفي آخره قال ابن شهاب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول آمين وهذا مرسل وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول آمين من غير وجه خارج الصحيحين أخرجه أبو داود والترمذي في كتابيهما من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي حديث وائل بن حجر حديث حسن وبالله التوفيق اهـ
حديث آخر
وأخرج في كتاب الجهاد حديث ابن شهاب عن
(1/306)
أنس قال لما قدم المهاجرين من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شئ وكان الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمارهم كل عام وساق الحديث إلى قوله قأعطى النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه قال ابن شهاب وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما توفي أبوه فكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة ثم توفيت بعد ما توفي رسول الله بخمسة أشهر قلت وهذه الزيادة من قول ابن شهاب متضمنة عتق النبي صلى الله عليه وسلم لأم أيمن وغير ذلك وهي مرسلة كما ترى وقد أخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه ولم
(1/307)
يذكر فيه هذه الزيادة وهذا يدل على ما قدمناه من إيراد مسلم للحديث بتمامه من غير اختصار له في الغالب والله عز وجل أعلم اه وفي الكتاب من مرسلات الزهري أيضا مواضع وقعت في أحاديث نحو هذا فمن ذلك ما وقع في حديث أخرجه في الصيام من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسم ألا يدخل على أزواجه شهرا فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن الحديث قلت هكذا هو في كتاب مسلم والمرسل الذي في أوله من قول الزهري قد
(1/308)
أخرجه مسلم متصلا من حديث عكرمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت اتصاله والحمد لله أه ومن ذلك أيضا ما أخرجه في كتاب الصيام من حديث ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد وفي آخره قال ابن شهاب فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان
(1/310)
ومن ذلك أيضا ما أخرجه في التوبة من حديث ابن وهب عن
(1/311)
يونس عن ابن شهاب قال ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام ثم قال ابن شاب فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك وساق الحديث بطوله في توبة كعب رضي الله عنه قلت وهذان الحديثان قد أخرجهما البخاري ولم يورد ما فيهما من مرسل ابن شهاب ولا يخفى على من له أنس بعلم الرواية أن مسلما رحمه الله إنما احتج بما في هذه الأحاديث وما شاكلها من المسند دون المرسل وإنما أوردها بما فيها من المرسل جريا على عادته في ترك الاختصار والله عز وجل أعلم اه
حديث آخر
وأخرج في كتاب الدعوات حديث أبي إسحاق
(1/312)
وهو السبيعي عن عمرو بن ميمون قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل هكذا أخرجه مسلم في صحيحه وكذلك هو في صحيح البخاري أيضا إلا أن مسلما رحمه الله أردفه بحديث الشعبي عن الربيع بن خثيم بمثل ذلك قال فقلت للربيع ممن سمعته قال من عمرو بن ميمون فأتيت عمرو بن ميمون فقلت له ممن سمعته قال من ابن أبي ليلى فأتيت ابن أبي ليلى فقلت ممن سمعته قال من أبي أيوب يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت فقد اتصل هذا الحديث في كتاب مسلم من طريق الشعبي عن ابن أبي
(1/313)
ليلى عن أبي أيوب رضي الله عنه والحمد لله وفي إسناد هذا الحديث اختلاف كثير ذكره البخاري والنسائي وقال البخاري والصحيح قول عمرو يعني ابن ميمون والله أعلم وعمرو بن ميمون هذا هو الأودي يكنى أبا عبد الله كان بالشام ثم سكن الكوفة بعد ذلك فهو معدود في أهلها أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق إليه وليس له رواية عنه وروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وفي رجال الصحيحين عمرو بن ميمون رجل آخر غير هذا وهو دونه في الطبقة جزري من أهل الرقة يروي عن سليمان بن يسار وغيره ويكنى أبا عبد الله أيضا ولم يذكرهما الحافظ أبو علي الجياني في تقييده وهما من شرط كتابه أخرج لهما البخاري ومسلم جميعا ولهما نظير ثالث في التسمية وهو عمرو بن ميمون المكي حدث عن الزهري روى عنه عنبسة بن سعيد ولم يخرجا له فيما علمت شيئا والله ولي التوفيق اه
(1/314)
حديث آخر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الأشربة باب في الأطعمة حديث مالك عن أبي بكر عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن جده عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه الحديث قال الدارقطني لم يسمع أبو بكر بن عبيد الله هذا الحديث من جده
(1/315)
عبد الله بن عمر إنما سمعه من عمه سالم عن أبيه والله أعلم قلت وقد تابع مالكا على روايته كذلك عبيد الله بن عمر وسفيان بن عيينة وفي إسناده اختلاف بين رواته وقد أخرجه مسلم من حديث الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري بنحوه والله عز وجل أعلم
(1/316)
حديث آخر
وأخرج في كتاب الوصايا حديث حماد بن زيد عن
(1/319)
أيوب عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ثلاثة من ولد سعد قالوا مرض سعد بمكة فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده الحديث قلت وهذا مرسل وليس في ولد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من له صحبة ولا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله الدارقطني وغيره وهذا الحديث وإن كان مرسلا من هذا الوجه فإنه متصل في كتاب مسلم وغيره من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ومن حديث مصعب بن سعد أيضا عن أبيه وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي من حديث عائشة بنت سعد عن أبيها أيضا كذلك والطريق الذي ذكر الدارقطني أنها مرسلة إنما أوردها مسلم في الشواهد ومع ذلك فقد أخرجها في كتابه متصلة من وجه آخر من حديث عبد الوهاب الثقفي عن أيوب بإسناده المتقدم وقال فيها عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة الحديث فثبت اتصاله في الكتاب من حديث أيوب بن أبي تميمة
(1/320)
أيضا والحمد لله وإنما أورده مسلم من الوجهين المذكورين عن أيوب لينبه على الاختلاف عليه في إسناده والله عز وجل أعلم وبنو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سبعة فيما ذكر علي بن المديني وهم مصعب وعامر ومحمد وإبراهيم وعمر ويحيى وعائشة وذكر أبو زرعة الدمشقي أنهم ثمانية فعد هذه السبعة وزاد إسحاق بن سعد والله أعلم اه فصل ووقع في الكتاب أيضا أحاديث فوق العشرة مروية بالمكاتبة لم يسمعها الراوي لها ممن كاتبه بها وإنما رواها عن كتابه فقط فهي مقطوعة من طريق السماع متصلة من طريق المكاتبة وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من منع الرواية بالمكاتبة ومنهم من أجاز ذلك بشرط وهو أن يأذن الكاتب للمكتوب بها إليه في روايتها عنه وإلى هذا القول ذهب أبو حامد الغزالي ونص عليه في كتابه المستصفى وقال الإمام أبو المعالي الجويني في كتاب النهاية كل حديث نسب إلى كتاب ولم يذكر حامله فهو مرسل والشافعي لا يرى التعلق بالمراسيل
(1/321)
قلت وذكر القاضي عياض أن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث المكاتبة ووجوب العمل بها وأنها داخلة في المسند وذلك بعد ثبوت صحته عند المكتوب إليه بها ووثوقه بأنها عن كاتبها ولهذا أضربت عن إيرادها وإنما نبهت عليها في الجملة لأجل الخلاف الواقع فيها ولأن أبا الحسن الدارقطني انتقد على البخاري ومسلم إخراجهما أحاديث منها على أن أكثر هذه الأحاديث المشار إليها إنما وقعت كذلك في الكتاب من بعض طرقها دون بعض والله الموفق قلت ويدخل في هذا الباب ما أخرجه مسلم رحمه الله في مواضع من كتابه من حديث مخرمة بن بكير عن أبيه فإنه لم يسمع من أبيه شيئا إنما
(1/323)
روى عن كتب أبيه وقد سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن مخرمة بن بكير هذا فقال هو ثقة لم يسمع من أبيه شيئا إنما روى من كتاب أبيه قلت وقد انتقد الدارقطني على مسلم إخراجه هذه الترجمة والله أعلم اه
(1/324)
ومع صحة المكاتبة وثبوتها عند الأكثر فقد رجح جماعة من العلماء ما روى بالسماع المتصل على ما روي بها ووقع في مثل ذلك مناظرة بين الإمامين أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وإسحاق بن راهوية بحضرة الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليهم وهي ما أخبرنا الشيخان أبو محمد العثماني وأبو علي منصور بن علي الصوفي الكاغدي قراءة عليهما منفردين قالا أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار قراءة عليه ببغداد قيل له أخبركم أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بقراءتك عليه فأقر به أخبرنا أحمد بن إسحاق القاضي أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد القاضي
(1/325)
حدثنا زكرياء الساجي حدثني جماعة من أصحابنا أن إسحاق بن راهوية ناظر الشافعي وأحمد بن حنبل حاضر في جلود الميتة إذا دبغت فقال الشافعي دباغها طهورها فقال إسحاق ما الدليل فقال حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميته فقال هلا انتفعتم بجلدها فقال إسحاق حديث ابن عكيم كتب إلينا
(1/326)
النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب أشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة لأنه قبل موته بشهر فقال الشافعي هذا كتاب وذاك سماع فقال إسحاق إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكان حجة عليهم عند الله فسكت الشافعي فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي فأفتى بحديث ميمونة اه سمعت شيخنا الإمام الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل بن علي المقدسي الفقيه رضي الله عنه يقول سمعت أبا طاهر السلفي يقول سمعت أبا سهل غانم بن أحمد بن محمد الحداد الأصبهاني ببغداد يقول سمعت أبا بكر أحمد بن
(1/327)
الفضل بن محمد الباطرقاني الحافظ يقول سمعت أبا عبد الله محمد بن إسحاق بن منده الحافظ يقول سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري وما رأيت أحفظ منه قال ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج اه أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندي البغداديان وغيرهما إجازة قالوا أنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد الشيباني أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب أنا محمد بن نعيم الضبي ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم قال سمعت أحمد بن سلمة يقول رأيت أبا زرعة
(1/328)
وأبا حاتم الرازيين يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما قال الخطيب وأخبرني ابن يعقوب أخبرنا ابن نعيم قال سمعت الحسين بن محمد الماسرجسي يقول سمعت أبي يقول سمعت مسلم بن الحجاج يقول صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة آخره والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد نبيه المصطفى وعلى آله وعترته وأصحابه أجمعين بسم الله الرحمن الرحيم ومما ألحقه سيدنا الحافظ رشيد الدين أثابه الله الجنة في أول الكتاب وفي آخره ما يأتي ذكره قال حديث أخرجه مسلم رحمه الله في المناسك من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت حضت بسرف
(1/329)
فطهرت بعرفة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك قلت وفي اتصال هذا الإسناد نظر فإن جماعة من أئمة أهل النقل أنكروا سماع مجاهد عن عائشة منهم شعبة ويحيى القطان ويحيى بن معين وغيرهم وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول مجاهد عن عائشة مرسل والعذر لمسلم رحمه الله ما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب وهو اعتبار التعاصر وجواز السماع وإمكانه ما لم يقم دليل بين على خلاف ذلك ولا خلاف في إدراك مجاهد بن جبر لعائشة ومعاصرته لها ومع هذا فقد أخرج مسلم معنى هذا الحديث من رواية طاوس عن عائشة بإسناد لا أعلم خلافا في
(1/330)
اتصاله وقدم على حديث مجاهد هذا والله عز وجل أعلم وقد أخرج البخاري ومسلم حديثا غير هذا لمجاهد عن عائشة من رواية منصور عن مجاهد قال دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى الحديث بكماله وفيه وسمعنا استنان عائشة فقال عروة ألا تسمعين يا أم المؤمنين إلى ما يقول أبو عبد الرحمن الحديث اه قلت وفي ظاهر لفظ هذا الحديث ما يدل على سماع مجاهد من عائشة ولهذا أخرجه البخاري ولو لم يكن عنده كذلك لما أخرجه لأنه يشترط اللقاء وسماع الراوي ممن روى عنه مرة واحدة فصاعدا والله أعلم
(1/331)
وقد أخرج النسائي في سننه من رواية موسى الجهني عن مجاهد قال أتى مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال فقال حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا قلت وهذا أيضا يدل على سماعه منها والله عز وجل أعلم اه وقال شيخنا وفقه الله حديث أخرج مسلم رحمه الله في الذبائح منفردا به من حديث شعبة عن أبي إسحاق وهو السبيعي قال قال البراء أصبنا يوم خيبر حمرا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اكفؤوا القدور قال أبو مسعود الدمشقي الحافظ رحمه الله لهذا الحديث تعليل في مسند الحسن بن سفيان وهو أنه مرسل
(1/332)
قلت يعني أن أبا إسحاق لم يسمعه من البراء رضي الله عنه ولذلك قال فيه قال البراء فإن ثبت إرساله من هذا الوجه فإنه متصل في كتاب مسلم رحمه الله من رواية الشعبي وغيره عن البراء بنحوه وبالله التوفيق حديث أورده مسلم في مقدمة كتابه تعليقا بغير إسناد فقال فيه ويذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وهذا الحديث رواه أبو هشام الرفاعي وغيره من الثقات عن يحيى بن
(1/333)
يمان عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه أبو داود في سننه من هذا الوجه وإسناده جيد إلا أنه معلول فإن ميمون بن أبي شبيب لم يسمع من عائشة رضي الله عنها قاله غير واحد من العلماء وقد نبه أبو داود على هذه العلة عقيب هذا الحديث ولذلك لم يذكر له مسلم إسنادا فيما أرى وإن كان رجال إسناده كلهم من شرط كتابه وإنما أورده على وجه التعليق والله عز وجل أعلم اه حديث وقع في أثنائه ألفاظ في اتصالها نظر أخرجه مسلم في كتاب الإيمان من حديث ابن شهاب عن أنس بن مالك عن أبي ذر رضي الله عنهما في المعراج
(1/334)
وفيه قال ابن شهاب وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام وابن حزم هذا هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها يقال اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد ويقال اسمه كنيته ولا نعلم له سماعا من أحد الصحابة رضي الله عنهم وإنما يروي عن أبيه وعمر بن عبد العزيز وعمرة بن عبد الرحمن وغيرهم من التابعين وإن كان أبوه قد ولد في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة وقيل سنة عشر لكنه معدود في التابعين وأما رواية أبي بكر بن حزم عن أبي حبة الأنصاري البدري فغير متصلة بلا شك لأن أبا حبة قتل يوم أحد وكانت غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة وأبو بكر بن حزم توفي سنة عشرين ومائة وهو ابن أربع وثمانين سنة فيما ذكر غير
(1/335)
واحد من العلماء فيكون مولده على هذا سنة سبع وثلاثين من الهجرة فلا يتصور إدراكه له وأما روايته عن ابن عباس فغير معروفة لكنها جائزة ممكنة لإدراكه له لأن ابن عباس رضي الله عنهما توفي سنة ثمان وستين من الهجرة وقيل سنة تسع وستين وقيل سنة سبعين فإدراكه له معلوم غير مشكوك فيه وسماعه منه جائز ممكن وهذا محمول على الاتصال عند مسلم رحمه الله حتى يقوم دليل على أنه لم يسمع منه والله أعلم وأبو حبة البدري اسمه عامر وقيل مالك واختلف في ضبطه على ثلاثة أقوال فقيل أبو حبة بالباء بواحدة وقيل بالنون وقيل بالياء باثنتين من تحتها والصحيح الأول ذكر ذلك ابن عبد البر في استيعابه بنحوه وقيل في اسمه غير ذلك ولا خلاف أنه بالحاء المهملة والله أعلم اه
حديث آخر
أخرج مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة حديث أبي الجوزاء الربعي عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/336)
يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين الحديث وأورده أبو عمر بن عبد البر النمري الحافظ في تمهيده في ترجمة العلاء بن عبد الرحمن وقال عقيبه ما هذا نصه اسم أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي لم يسمع من عائشة وحديثه عنها مرسل وأورده أيضا في كتابه المسمى بالإنصاف وقال عقيبه رجال إسناد هذا الحديث ثقات كلهم لا يختلف في
(1/337)
ذلك إلا أنهم يقولون إن أبا الجوزاء لا يعرف له سماع من عائشة وحديثه عنها إرسال قال شيخنا الحافظ أبو الحسين يحيى بن علي أسعده الله وإدراك أبي الجوزاء هذا لعائشة رضي الله عنها معلوم لا يختلف فيه وسماعه منها جائز ممكن لكونهما جميعا كانا في عصر واحد وهذا ومثله محمول على السماع عند مسلم رحمه الله كما نص عليه في مقدمة كتابه الصحيح إلا أن تقوم دلالة بينة على أن ذلك الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئا فحينئذ يكون الحديث مرسلا والله أعلم وقد روى البخاري في تاريخه عن مسدد عن جعفر بن
(1/338)
سليمان عن عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء قال أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من القرآن آية إلا سألتهم عنها قال البخاري في إسناده نظر قلت ومما يؤيد قول البخاري رضي الله عنه ما رواه محمد بن سعد كاتب الواقدي وكان ثقة عن عارم عن حماد بن زيد عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال جاورت ابن عباس في داره اثنتي عشرة سنة فذكره ولم يذكر عائشة وهذا أولى بالصواب والله أعلم وقد روى أبو الجوزاء هذا عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وقتل في
(1/339)
الجماجم سنة ثلاث وثمانين من الهجرة ولم يخرج البخاري له عن عائشة شيئا وبالله التوفيق وقد روى هذا الحديث أعني حديث أبي الجوزاء إبراهيم بن طهمان الهروي وهو من الثقات الذين اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثهم في الصحيحين عن بديل العقيلي عن أبي الجوزاء قال أرسلت رسولا إلى عائشة رضي الله عنها أسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يفتتح الصلاة بالتكبير الحديث أخبرنا أبو اليمن الكندي بقراءتي عليه بدمشق أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري ببغداد أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن علي الصيرفي أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا مزاحم بن سعيد أخبرنا عبد الله بن المبارك حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثنا بديل العقيلي عن أبي الجوزاء قال أرسلت
(1/340)
رسولا إلى عائشة رضي الله عنها أسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وهذا الحديث مخرج في كتاب الصلاة لأبي بكر جعفر بن محمد بن الحسين الفريابي وهو إمام من أئمة أهل النقل ثقة مشهور وإسناده إسناد جيد لا أعلم في أحد من رجاله طعنا وقول أبي الجوزاء فيه أرسلت إلى عائشة يؤيد ما ذكر ابن عبد البر والله أعلم اه قال شيخنا الحافظ وفقه الله عبدة بن أبي لبابة روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات سبحانك اللهم
(1/341)
الحديث وأورده مسلم في أول حديث رواه أبو عمرو الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفي رواية عبدة عن عمر رضي الله عنه نظر والصحيح أنه مرسل وإنما احتج مسلم بحديث قتادة عن أنس والله أعلم اه هذا آخر الأحاديث الملحقة في هذا الكتاب والحمد
(1/342)

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...