بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد فهذه فصول جليلة المقدار ينتفع بها المطالع في كتب الحديث وكتب السير والأخبار وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول الحديث
الفصل الأول عنوان في بيان معنى الحديث الحديث أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله ويدخل في أفعاله تقريره وهو عدم إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادا للشرع وأما ما يتعلق به عليه الصلاة و السلام من الأحوال فإن كانت اختيارية فهي داخلة في الأفعال وإن كانت غير اختيارية كالحلية لم تدخل فيه إذ لا يتعلق بها حكم يتعلق بنا وهذا التعريف هو المشهور عند علماء أصول الفقه وهو الموافق لفنهم
وذهب بعض العلماء إلى إدخال كل ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة و السلام في الحديث فقال في تعريفه علم الحديث أقوال النبي عليه الصلاة و السلام وأفعاله وأحواله وهذا التعريف هو المشهور عند علماء الحديث وهو الموافق لفنهم فيدخل في ذلك أكثر ما يذكر في كتب السيرة كوقت ميلاده عليه الصلاة و السلام ومكانه ونحو ذلك
وقد رأيت أن أذكر هنا فائدة تنفع المطالع في كثير من المواضع وهي أن مثل هذا يعد من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات وهو ليس من قبيل الاختلاف في الحقيقة كما يتوهمه الذين لا يمعنون النظر فإنهم كلما رأوا اختلافا في العبارة عن شيء ما سواء كان في تعريف أو تقسيم أو غير ذلك حكموا بأن هناك اختلافا في الحقيقة وإن لم تكن تلك العبارات مختلفة في المآل
وقد نشأ عن ذلك أغلاط لا تحصى سرى كثير منها إلى أناس من العلماء الأعلام فذكروا الاختلاف في مواضع ليس فيها اختلاف اعتمادا على من سبقهم إلى نقله ولم يخطر في بالهم أن الذين عولوا عليهم قد نقلوا الخلاف بناء على فهمهم ولم ينتبهوا إلى وهمهم وكثيرا ما انتبهوا إلى ذلك بعد حين فنبهوا عليه وذلك عند وقوفهم على العبارات التي بنى الاختلاف عليها الناقل الأول وقد حمل هذا الأمر كثرا منهم إلى فرط الحذر حين النقل
وقد أشار إلى نحو ما ذكرنا الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في رسالته في قواعد التفسير فقال الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان
أحدهما أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل عل معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى كتفسير بعضهم الصراط المستقيم بالقرآن أي اتباعه وتفسير بعضهم له بالإسلام فالقولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن لكن كل منهما نبه على وصف غير وصف الآخر كما أن لفظ الصراط المستقيم يشعر بوصف ثالث
وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال هو طريق العبودية وقول من قال هو طاعة الله ورسوله وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ولكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها
الثاني أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثاله ما نقل في قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ) الآية فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون
ثم إن كلا منهم يذكر في هذا نوعا من أنواع الطاعات كقول القائل السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار أو يقول السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط والظالم مانع الزكاة
ثم قال ومن أقوال المأخوذة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة كما إذا فسر بعضهم ( تبسل ) بتحبس وبعضهم بترتهن لأن كلا منهما قريب من الآخر ا هـ
وقال بعض العلماء في كتاب ألفة في أصول التفسير قد يحكى عن التابعين عبارات مختلفة الألفاظ فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه
أقوالا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من معاني الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بثمرته ومقصوده والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا ا هـ
ولنرجع إلى المقصود فنقول قد عرفت أن الحديث ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام فيختص بالمرفوع عند الإطلاق ولا يراد به الموقوف إلا بقرينه
وأما الخبر فإنه أعم لأنه يطلق على المرفوع والموقوف فيشمل ما أضيف إلى الصحابة والتابعين وعليه يسمى كل حديث خبرا ولا يسمى كل خبر حديثا
وقد أطلق بعض العلماء الحديث على المرفوع والموقوف فيكون مرادفا للخبر وقد خص بعضهم الحديث بما جاء عن النبي عليه الصلاة و السلام والخبر بما جاء عن غيره فيكون مباينا للخبر
وأما الأثر فإنه مرادف للخبر فيطلق على المرفوع والموقوف وفقهاء خراسان يسمون الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر
وأما السنة فتطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام من قول أو فعل أو تقرير فهي مرادفة للحديث عند علماء الأصول وهي أعم منه عند من خص الحديث بما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام من قول فقط وعلى ذلك يحمل قولهم اختلف في جواز رواية الحديث بالمعنى فينبغي للطالب أن يعرف اختلاف العرف هنا ليأمن الزلل
وبما ذكرنا من أن بعض المحدثين قد يطلق الحديث على المرفوع والموقوف يزول الإشكال الذي يعرض لكثير من الناس عندما يحكى لهم أن فلانا كان يحفظ سبع مئة ألف حديث صحيح فإنهم مع استبعادهم ذلك يقولون أين تلك الأحاديث ولم لم تصل إلينا وهلا نقل الحفاظ ولو مقدار عشرها وكيف ساغ لهم أن يهملوا أكثر ما ثبت عنه عليه الصلاة و السلام مع أن ما اشتهروا به من فرط العناية
بالحديث يقتضي أن لا يتركوا مع الإمكان شيئا منه
ولنذكر لك شيئا مما روي في قدر حفظ الحفاظ نقل عن الأمام أحمد أنه صح من الحديث سبع مائة ألف وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ سبع مئة ألف قال البيهقي أراد ما صح من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين
وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ كان أبو زرعة يحفظ سبع مئة ألف حديث وكان يحفظ مئة وأربعين ألفا في التفسير
ونقل عن البخاري أنه قال أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح
ونقل عن مسلم أنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مئة ألف حديث مسموع
ومما يرفع استغرابك لما نقل عن أبي زرعة من أنه كان يحفظ مئة وأربعين ألف حديث في التفسير أن ( النعيم ) في قوله تعالى ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قد ذكر المفسرون فيه عشرة أقوال كل قول منها يسمى حديثا في عرف من جعله بالمعنى الأعم وأن ( الماعون ) في قوله تعالى ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) قد ذكروا فيه ستة أقوال كل قول منها ما عدا السادس يعد حديثا كذلك
قال العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في تفسيره المسمى بـ زاد المسير في تفسير سورة التكاثر وللمفسرين في المراد بالنعيم عشرة أقوال
أحدها أنه الأمن والصحة رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم وتارة يأتي موقوفا عليه وبه قال مجاهد والشعبي
والثاني أنه الماء البارد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثالث أنه خبز البر والماء العذب قاله أبو أمامة
والرابع أنه ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبد الله
والخامس أنه صحة الأبدان والأسماع والأبصار قاله ابن عباس وقال قتادة هو العافية
والسادس أنه الغداء والعشاء قاله الحسن
والسابع الصحة والفراغ قاله عكرمة
والثامن كل شيء من لذة الدنيا قاله مجاهد
والتاسع أنه إنعام الله على الخلق بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم قاله القرظي
والعاشر أنه صنوف النعم قاله مقاتل
والصحيح أنه عام في كل نعيم وعام في جميع الخلق فالكافر يسأل توبيخا إذ لم يشكر المنعم ولم يوحده والمؤمن يسأل عن شكر النعم
وقال في تفسير سورة الدين وفي ( الماعون ) ستة أقوال
أحدها أنه الإبرة والماء والنار والفأس وما يكون في البيت من هذا النحو رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية وروى عنه أبو صالح أنه قال الماعون المعروف كله حتى ذكر القدر والقصعة والفأس وقال عكرمة ليس الويل لمن منع هذا وإنما الويل لمن جمعهن فراءى في صلاته وسها عنها ومنع هذا قال الزجاج والماعون في الجاهلية كل ما كان فيه منفعة كالفأس والقدر والدلو والقداحة ونحو ذلك وفي الإسلام أيضا
والثاني أنه الزكاة قاله علي وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة
والثالث أنه الطاعة قاله ابن عباس في رواية
والرابع المال قاله سعيد بن المسيب والزهري
والخامس المعروف قاله محمد بن كعب
والسادس الماء ذكره الفراء عن بعض العرب ا هـ
هذا وقد اعترض بعض الناس على المؤلفين الذين ينقلون في المسألة جميع الأقوال التي وقفوا عليها كما فعله بعض علماء التفسير وعلماء الأصول ومن نحا نحوهم وذلك لجهلهم باختلاف أغراض المصنفين ومقاصدهم ولتوهمهم أن طريق التأليف يجب أن لا يخالف ما تخيلوه في أذهانهم
وقد أحببنا أن نختم هذا الفصل بالجواب عن اعتراضهم فنقول
إن تلك الأقوال إن كانت مختلفة في المآل عرف الناظر الخلاف في المسألة
وفي معرفة الخلاف فائدة لا تنكر وكثيرا ما يستنبط من أمعن النظر فيها قولا آخر يوافق كل واحد من الأقوال المذكورة من بعض الوجوه وكثيرا ما يكون أقوى من كل واحد منها وأقوم وقد وقع ذلك في مسائل لا تحصى في علوم شتى
وإن كانت تلك الأقوال غير مختلفة في المآل كان من توارد العبارات المختلفة على الشيء الواحد وفي ذلك من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام فيزول ذلك بغيرها وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين فكثيرا ما تعرض عبارتان متحدتا المعنى لاثنين تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما والأخرى أقرب إلى فهم الآخر وهذا مشاهد بالعيان لا يحتاج إلى برهان ومن ثم ترى بعض المؤلفين قد يأتون بعبارة ثم إذا بدا لهم أن بعض المطالعين ربما لم يفهمها أتوا بعبارة أخرى وأشاروا إلى ذلك
وإذا عرفت هذا تبين لك أن مثل هؤلاء المعترضين مثل غر جال في الأسواق فصار كلما رأى شيئا لم يشعر بفائدته أو لم تدع حاجته إليه عد وجوده عبثا وسفه رأي عماله والراغبين فيه وكان الأجدر به أن يقبل على ما يعنيه ويعرض عما لا يعنيه
وكأن كثيرا منهم يظن أن الاعتراض على أي وجه كان يدل على العلم والنباهة مع انه كثيرا ما يدل على الجهل والبلاهة ولا نريد بما ذكرنا سد باب الاعتراض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الذين بتعرضون لذلك ببادىء الرأي لا غير وإلا فالاعتراض إذا كان معقولا لا ينكر بل قد يحمد عليه صاحبه ويشكر
الفصل الثاني
في سبب جمع الحديث في الصحف وما يناسب ذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يكتبون عن النبي صلى الله عليه و سلم غير القرآن أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني فلا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
قال كثير من العلماء نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن وهذا لا ينافي جواز كتابته إذا أمن اللبس وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة و السلام في مرضه الذي توفي فيه ايتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده وقوله اكتبوا لأبي شاه وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث
ولما توفي النبي عليه الصلاة و السلام بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده في موضع واحد وسموا ذلك المصحف واقتصروا على ذلك ولم يتجاوزوه إلى كتابة الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن لكن صرفوا هممهم إلى نشره بطريق الرواية إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه عليه الصلاة و السلام إن بقيت في أذهانهم أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم فإن المقصود بالحديث هو المعنى ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن فإن لألفاظه مدخلا في الإعجاز فلا يجوز إبدال لفظ منه بلفظ آخر ولو كان مرادفا له خشية النسيان مع طول الزمان فوجب أن يقيد بالكتابة ولا يكتفى فيه بالحفظ
قال الإمام الخطابي في كتابه في إعجاز القرآن إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى قائم به ورباط لهما ناظم وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه
وأما معانيه فكل ذي لب يشهد لها بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظم في التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في ذاته وصفاته ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته ومن تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه
ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الآتية من الزمان جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله ا هـ
وقال إمام المتكلمين على طريقة السلف تقي الدين أحمد بن تيمية في الرسالة الملقبة بالتسعينية وهي رسالة تبلغ مجلدا كبيرا ألفها في الرد على المتكلمين على طريقة الخلف في مسألة الكلام في الوجه الثالث والستين ويجب أن يعلم أصلان عظيمان
أحدهما أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا أعني خاصة في اللفظ وخاصة فيما دل عليه من المعنى ولهذا لو فسر القرآن أو ترجم فالتفسير والترجمة قد يأتي بأصل المعنى أو بما يقرب منه وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية لا مع القدرة عليها ولا مع العجز عنها لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بألفاظ أخرى
الأصل الثاني أنه إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا ومعناه أشد مباينة لسائر معاني الكلام من مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه وقوله تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) يتناول ذلك كله انتهى
هذا ولم يزل أمر الحديث في عصر الصحابة وأول عصر التابعين على ما ذكرنا ولما أفضت الخلافة إلى من قام بحقها عمر بن عبد العزيز أمر بكتابة
الحديث وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين ووفاته لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومئة وعاش أربعين سنة وأشهرا وكان موته بالسم فإن بني أمية ظهر لهم أنه إن امتدت أيامه أخرج الأمر من أيديهم ولم يعهد به إلا لمن يصلح له فعاجلوه
قال البخاري في صحيحه في كتاب العلم وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
وأبو بكر هذا كان نائب عمر بن عبد العزيز في الإمرة والقضاء على المدينة روى عن السائب بن يزيد وعباد بن تميم وعمرو بن سليم الزرقي وروى عن خالته عمرة وعن خالدة ابنة أنس ولها صحبة
قال مالك لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم وكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة والقاسم فكتبه له وأخذ عنه معمر والأوزاعي والليث ومالك وابن أبي ذئب وابن إسحاق وغيرهم وكانت وفاته فيما قاله الواقدي وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومئة
وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام وعالم أهل الحجاز والشام
أخذ عن ابن عمر وسهل بن سعد وأنس بن مالك ومحمود بن الربيع وسعيد بن المسيب وأبي أمامة بن سهل وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين
وأخذ عنه معمر والأوزاعي والليث ومالك وابن أبي ذئب وغيرهم ولد سنة خمسين وتوفي سنة أربع وعشرين ومئة
قال عبد الرزاق سمعت معمرا يقول كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهري
ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشرت العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين
وأول من جمع ذلك ابن جريح بمكة وابن إسحاق أو مالك بالمدينة والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة وسفيان الثوري بالكوفة والأوزاعي بالشام وهشيم بواسط ومعمر باليمن وجرير بن عبد الحميد بالري وابن المبارك بخراسان وكان هؤلاء في عصر واحد ولا يدري أيهم سبق قال الحافظ ابن حجر إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في الأبواب وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي فإنه روي عنه أنه قال هذا باب من الطلاق جسيم وساق فيه أحاديث ا هـ
وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وذلك على رأس المئتين فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا وصنف مسدد البصري مسندا وصنف أسد بن موسى مسندا وصنف نعيم بن حماد الخزاعي مسندا
ثم اقتفى الحفاظ آثارهم فصنف الإمام أحمد مسندا وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم
ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخاري وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته
وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه فإن لم يتيسر له ذلك بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده
واقتفى أثر الإمام البخاري في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه فألف كتابه المشهور
ولقب هذان الكتابان بالصحيحين فعظم انتفاع الناس بهما ورجعوا عند الاضطراب إليهما وألفت بعدهما كتب لا تحصى فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها
هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شيء غير الكتاب العزيز وليس الأمر كذلك فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض
وذكر البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمرو كان يكتب الحديث فإنه روى عن أبي هريرة أنه قال ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب
وذكر مسلم في صحيحه كتابا ألف في عهد ابن عباس في قضاء علي فقال حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني فقال ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه قال فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل
وحدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس قال أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدر وأشار سفيان بن عيينة بذراعه
حدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن أبي إسحاق قال لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي عليه السلام قال رجل من أصحاب علي قاتلهم الله أي علم أفسدوا
وحدثنا علي بن خشرم أخبرنا أبو بكر يعني ابن عياش قال سمعت المغيرة يقول لم يكن يصدق على علي عليه السلام في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود ا هـ
قوله ويخفي عني وأخفي عنه هما بالخاء المعجمة وقد ظن بعضهم أنهما بالحاء من الإحفاء بمعنى الإلحاح أو الاستقصاء وجعل عن بمعنى على ولا يخفى ما في ذلك من التعسف يريد أنه يكتم عنه أشياء مما يخشى إذا ظهرت أن يحصل منها قيل وقال من النواصب والخوارج وناهيك بشوكتهما في ذلك العصر وبفرط ميلهما لمشاقة الإمام المرتضى فاختار عدم كتابة ذلك دفا للمحذور مع أن هذا النوع ربما كان مما لا يلزم السائل معرفته وإن كان مما يضطر إليه فإنه يمكنه أن يحصل عليه بطريق المشافهة
وأراد بقوله والله ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضل أنه لم يقض به لأنه لم يضل والظاهر أن الكتاب الذي محاه إلا قدر ذراع منه كان على هيئة درج مستطيل
وابن أبي مليكة المذكور هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي المكي قاضي مكة في زمن ابن الزبير وكان إماما فقيها فصيحا مفوها اتفقوا على توثيقه روى عنه ابن جريح ونافع بن عمر الجمحي والليث بن سعد وغيرهم روى عنه أيوب قال بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف فكنت أسأل ابن عباس وكانت وفاته سنه سبع عشرة ومئة ووفاة ابن عباس سنة ثمان وستين
والمغيرة المذكور هو الفقيه الحافظ أبو هشام بن مقسم الضبي الكوفي ولد أعمى وكان عجيبا في الذكاء قال الذهبي في طبقات الحفاظ ضعف أحمد روايته عن إبراهيم فقط وكان عثمانيا ويحمل على علي بعض الحمل وقال في الميزان إمام ثقة لكن لين أحمد بن حنبل روايته عن إبراهيم النخعي فقط مع أنها في الصحيحين وروى عن أبي وائل والشعبي ومجاهد
وقال محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست في أثناء وصف خزانة للكتب رآها في مدينة الحديثة لم ير لأحد مثلها كثرة ورأيت فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي عليه السلام وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه و سلم
ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والفراء والكسائي
ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم
ورأيت مما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته وهي أربع أوراق أحسبها من ورق الصين ترجمتها هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي وتحته هذا خط النضر بن شميل ا هـ
تنبيه قد نقلنا آنفا ما ذكره العلماء الأعلام في طريق الجمع بين الحديث الذي ورد في منع كتابة ما سوى القرآن والأحاديث التي وردت في إجازة ذلك وقد سلك ابن قتيبة فيه طريقا آخر فقال في تأويل مختلف الحديث وهو كتاب ألفه في
الرد على المتكلمين الذين أولعوا بثلب أهل الحديث ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث
قالوا أحاديث متناقضة قالوا رويتم عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء ين يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني شيئا فليمحه
ثم رويتم عن ابن جريح عن عطاء عن عبد الله بن عمرو قال قلت يا رسول الله أقيد العلم قال نعم قيل وما تقييده قال كتابته
ورويتم عن حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قلت في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك إلا الحق
قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إن في هذا معنيين
أحدهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة كأنه نهى في أول الأمر أن يكتب قوله ثم رأى بعد لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد
والمعنى الآخر أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له
قال أبو محمد حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا وهب بن جرير عن أبيه عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عمرو بن تغلب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أشراط الساعة أن يفيض المال ويظهر القلم ويفشو التجار
قال عمرو إن كنا لنلتمس في الحواء العظيم الكاتب فما يوجد ويبيع الرجل البيع فيقول حتى أستأمر تاجر بني فلان
انتهى كلامه وبمثله يعلم في مثل هذا المقام مقامه
الفصل الثالث في تثبت السلف في أمر الحديث خشية أن يدخل فيه ما ليس منه
قد كان للصحابة رضي الله عنهم عناية شديدة في معرفة الحديث وفي نقله لمن لم يبلغه فقد ذكر البخاري في صحيحه في كتاب العلم أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك
ولشدة عنايتهم به أقلوا من الرواية وأنكروا على من أكثر منها إذ الإكثار مظنة للخطأ والخطأ في الحديث عظيم الخطر روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قال قلت للزبير إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يحدث فلان وفلان فقال أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار وروى عن أنس أنه قال إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار
وروى عن أبي هريرة أنه قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى - إلى قوله - الرحيم ) إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه و سلم لشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون ا هـ
وإنما اشتد إنكارهم على أبي هريرة لأنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من ثلاث سنين فإنه أسلم عام خيبر وأتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من السابقين الأولين ذكر بقي بن مخلد أنه روى خمسة الآف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثا وله في البخاري أربع مئة وستة وأربعون حديثا وعمر بعده عليه السلام نحوا من خمسين سنة وكانت وفاته سنة تسع وخمسين
قال ابن قتيبة في جوابه عن طعن النظام في أبي هريرة بإنكار بعض الصحابة عليه كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها فيدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي
وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه و سلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة
وقال علي كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر وذكر الحديث
أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك كراهية التحريف أو الزيادة في الرواية أو النقصان لأنهم سمعوه عليه السلام يقول من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار وهكذا روي عن الزبير أنه رواه وقال أراهم يزيدون فيه متعمدا والله ما سمعته قال متعمدا
وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يومين متتابعين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون
فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم لخدمته وشبع بطنه وكان فقيرا معدما وأنه لم يكن ليشغله عنه غرس الودي ولا الصفق بالأسواق يعرض بأنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا أمسكوا عنه
وكان مع هذا يقول قال صلى الله عليه و سلم كذا وأنما سمعه من
الثقة عنده فحكاه وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله ا هـ
وقال الحافظ الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمة أبي بكر الصديق كان أول من احتاط في قبول الأخبار فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال ما أجد لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لك شيئا ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس فقال له هل معك أحد فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه
ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه
فهذا المرسل يدلك على أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنن فلما أخبره الثقة لم يكتف حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج
ثم قال فحق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل
( فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد )
قال الله عز و جل ( فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي أو لمذهب فبالله لا تتعب
وقال في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب روى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال لم رجعت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع قال لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا ما شأنك فأخبرنا وقال فهل سمع أحد منكم فقلنا نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجل منهم حتى أتى عمر فأخبره
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد وفي ذلك حث على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد
وقد كان عمر من وجله من أن يخطئ الصاحب في حديث رسول الله يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن
وقد روى شعبة وغيره عن بيان عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا وقال أتردون لم شيعتكم قالوا نعم تكرمة لنا قال ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال نهانا عمر
وروى الدراوردي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقلت له أكنت تحدث في زمان عمر هكذا قال لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته
وقال في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روى معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكون أتحبون أن يكذب الله ورسوله فقد زجر الإمام علي عن رواية المنكر وحث على التحديث بالمشهور وهذا أصل كبير في الكف عن بث الأشياء الواهية والمنكرة من الأحاديث في الفضائل والعقائد والرقائق ولا سبيل إلى معرفة هذا من هذا إلا بالإمعان في معرفة الرجال
وأخرج البخاري هذا الأثر في صحيحه فقال باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا وقال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك
قال شراح هذا الأثر إنما قال الإمام ذلك لأن الإنسان إذا سمع ما لا يفهمه أو ما لا يتصور إمكانه اعتقد استحالته جهلا فلا يصدق بوجوده فإذا
أسند إلى الله تعالى أو رسوله لزم ذلك المحذور ويكذب بفتح الذال على صيغة المجهول وهذا الإسناد من عوالي المؤلف لأنه يلتحق بالثلاثيات من جهة أن الراوي الثالث وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة من الصحابة وكان آخرهم موتا وأخر المؤلف هنا السند عن المتن ليميز بين طريقة إسناد الحديث وإسناد الأثر أو لضعف الإسناد بسبب ابن خربوذ أو للتفنن وبيان الجواز ومن ثم وقع في بعض النسخ مقدما وقد سقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني ا هـ
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة
تنبيه وقد فهم من هذين الأثرين أن المحدث يجب عليه أن يراعي حال من يحدثهم فإذا كان فيما ثبت عنده ما لا تصل إليه أفهامهم وجب عليه ترك تحديثهم به دفعا للضرر فليس كل حديث يجب نشره لجميع الناس كما يتوهمه الأغمار فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثتة قطع هذا البلعوم
قالوا أراد بالوعاء الأول الأحاديث التي لم ير ضررا في بثها فبثها وأراد بالوعاء الثاني الأحاديث المتعلقة ببيان أمراء الجور وذمهم فقد روي عنه أنه قال لو شئت أن أسميهم بأسمائهم وكان لا يصرح بذلك خوفا على نفسه منهم
وقال بعض الصوفية أراد به الأحاديث المتعلقة بالأسرار الربانية التي لا يدركها إلا أرباب القلوب
وفي كون المراد به هذا فيه نظر لأنه لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه من جميع الناس بل كان أظهره لبعض الخواص منهم
على أن الذي كتمه أبو هريرة لو كان مما يتعلق بالدين لكان غايته أن يكون بمنزلة المتشابه والمتشابه موجود في الكتاب العزيز وهو يتلى على الناس كلهم في كل حين وقد روى أبو هريرة كثيرا من الأحاديث المتشابهة
أخرج مسلم عنه في باب صلاة الليل أنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له
وأخرج عنه في باب رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة أنه قال إن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك
يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه الحديث
وأخرج عنه في كتاب الجنة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلق الله عز و جل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقة قال اذهب
فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن
وروى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي ا هـ
هذا ومن الغريب ما يروي عن ابن القاسم أنه قال سألت مالكا عمن يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد
قال تقي الدين في التسعينية هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره
وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وقد كان مالك يترك أحاديث كثيرة لكونها لا يؤخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب وغاية ما يعتذر له أن يقال كره أن يتحدث بذلك حديثا يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك وأما إن قيل إنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود
ولنرجع إلى المقصود وهو بيان تروي جمهور الصحابة في أمر الرواية فنقول
قال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن عباد وسعيد بن عمرو الأشعثي جميعا عن ابن عيينة قال سعيد أخبرنا سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس قال جاء هذا إلى ابن عباس يعني بشير بن كعب فجعل يحدثه فقال له ابن عباس عد لحديث كذا وكذا فعاد له ثم حدثه فقال له عد لحديث كذا وكذا فعاد له
فقال له ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا فقال له ابن عباس إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه
حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات
وحدثني أبو أيوب سليمان بن عبيد الله الغيلاني حدثنا أبو عامر يعني العقدي حدثنا رباح عن قيس بن سعد عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه
فقال يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تسمع فقال ابن عباس إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ا هـ
وبشير المذكور مخضرم يروي عن أبي ذر وأبي الدرداء وقد وثقه النسائي وابن سعد وهو مصغر بشر
وأخرج ابن ماجة في سننه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قلنا لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد
وأخرج عن السائب بن يزيد أنه قال صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم بحديث واحد
وروى عن الشعبي أنه قال جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا
وروى عن محمد بن سيرين أنه قال كان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله ففرغ منه قال أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد ثبت توقف كثير من الصحابة في قبول كثير من الأخبار وقد استدل بذلك من يقول بعدم الاعتماد عليها في أمر الدين
وقد رد عليهم الجمهور بأن الرد إنما كان لأسباب عارضة وهو لا يقتضي رد جميع أخبار الآحاد كما ذهب إليه أولئك على أن الأخبار التي استندوا إليها إنما تدل على مذهب من يشترط في قبول الخبر التعدد في رواته ولا تدل على مذهب من يشترط التواتر فيه فقد ذكر الإمام الغزالي في المستصفى ثم قال
ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور
أحدها أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
ثانيها أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث أنه قال لولا لو علم صدقه لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد والأقوى ما ذكرناه من قبل
نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فليزمه اشتراطه ثلاثة ويلمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كن هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكد أو خلافة فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يستظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقفا لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان معروفا بأنه كلفب أقاربه فتوقفا تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى يثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم
وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار ا هـ
هذا وقد عقد الحافظ ابن حزم فصلا في كتاب الإحكام للرد على من ذم الإكثار من الرواية وقد أحببنا إيراده على طريق التلخيص تقريبا للمرام وتخليصا للمطالع من كثير من العبارات الشديدة الإيلام قال فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن قال علي وذهب قوم إلى ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر وذكروا أنه لم يلتفت إلى رواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا وأنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت
وتوعد أبا موسى بالضرب إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان
وأن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الزكاة فقال أغنها عنا فرجع إلى أبيه فقال ضع الصحيفة حيث وجحدتها
وأن ابن عباس لم يلتفت إلى رواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار ولا إلى رواية علي في النهي عن المتعة ولا إلى رواية أبي سعيد في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد
وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال إن لأبي هيرة زرعا وذكروا نحو هذا عن نفر من التابعين
قال علي وقولهم هذا داحض بالبرهان الظاهر وهو أن يقال لمن ذم الإكثار من الرواية أخبرنا أخير هي أم شر ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن قال هي خير فالإكثار من الخير خير وإن قال هي شر فالقليل من الشر شر وهم قد أخذوا بنصيب منه
أما نحن فنقول إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله ثم نقول لهم عرفونا حد الإكثار من الرواية المذموم عندكم لنعرف ما تكرهون وحد الإقلال المستحب عندكم فإن حدوا لذلك حدا كانوا قد قالوا بغير برهان وبغير علم وإن لم يحدوا في ذلك حدا كانوا قد وقعوا في أسخف منزلة إذ لا يدرون ما ينكرون
والحق أن الخير كله في التفقه في الآثار والقرآن وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد حض النبي صلى الله عليه و سلم على أن يبلغ عنه وهذا هو التفقه والنذارة التي أمر الله تعالى بها
وليت شعري إذا كان الإكثار من الرواية شرا فأين الخير أفي التقليد الذي لا يلتزمه إلا جاهل أو متجاهل أم في التحكم في دين الله بالآراء التي قد حذر الله تعالى منها وزجر النبي صلى الله عليه و سلم عنها
وقد زعم بعضهم أن مالكا كان يسقط من الموطأ كل سنة وأنه لم يحدث بكثير مما عنده وهذا حال من يريد أن يمدح فيذم ويريد أن يبني فيهدم فإن أرادوا
أن مالكا حدث بالصحيح عنده وترك ما لم يصح فقد أحسن وكذلك كل من حدث بما صح عنده كسفيان وشعبة والأوزاعي وإن أرادوا أنه حدث بالسقيم وترك الصحيح فقد نزهه الله عن ذلك وكذلك إن أرادوا أنه حدث بصحيح وسقيم وترك صحيحا وسقيما فبطل ما أرادوا أن يمدحوه به وكان ذما عظيما لو صح عليه وأعوذ بالله من ذلك
وممايدل على كذب من قال هذا أن الموطأ ألفه مالك بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك وكانت وفاة يحيى في سنة ثلاث وأربعين ومئة ولم يزل الموطأ يرويه عن مالك منذ ألفه طائفة بعد طائفة وأمة بعد أمة
وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة وموطؤه أكمل الموطآت لأن فيه خمس مئة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمس مئة حديث وتسعة وخمسون حديثا
وكان سماع ابن وهب للموطأ منمالك قبل سماع أبي المصعب بدهر وكذلك سماع ابن القاسم ومعن بن عيسى وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمس مئة حديث وثلاثة أحاديث وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل
قال علي وأول من ألف في جمع الحديث حماد بن سلمة ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس ونحن نحمد ذلك من فعلهم ونقول إن لهم ولمن فعل فعلهم أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السن وكثير ما بينوا من الحق وما رفعوا من الإشكال في الدين وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف فمن أعظم أجرا منهم جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان
وأما رد عمر لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته هي وهي من المبايعات المهاجرات الصواحب فهو تنازع بين أولي الأمر وليس قول أحدهما بأولى من
قول الآخر إلا بنص والنص موافق لقولها وهو في رد ذلك مجتهد مأجور مرة ولا تعلق للمستدلين بهذا الخبر فإنهم قد خالفوا الاثنين كليهما
وأما ما ذكروا من نهي عمر عن الإكثار من الحديث فحدثنا محمد بن سعيد حدثنا أحمد بن عون حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الخشني حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن ا لخطاب إلى صرار فانتهى إلى مكان فيه فتوضأ فقال تدرون لم شيعتكم قلنا لحق الصحبة قال إنكم ستأتون قوما تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا شريككم قال قرظة فما حدثت بشيء بعد ولقد سمعت كما سمع أصحابي
فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه بل لا شك في ذلك لأن قرظة مات والمغيرة بن شعبة أمير بالكوفة هذا مذكور في الخبر الثابت المسند أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب فذكر المغيرة عند ذلك خبرا مسندا في النوح ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك والشعبي أقرب إلى الصبا فلا شك أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا
الخبر بل ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قرظة
قال علي ورووا عنه أنه حبس عبد الله بن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما روينا بالسند المذكور إلى بندار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات قال علي هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد
وقد حدث عمر بحديث كثير فإنه روي عنه خمس مئة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه و سلم فهو كثير الرواية وليس في الصحابة أكثر رواية منه إلا بضعة عشر منهم
والذي صح عن عمر أنه تشدد في الحديث وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه وإنما فعل ذلك اجتهادا منه
وأما الرواية عن أبي بكر الصديق فمنقطعة لا تصح ولو صحت لما كان لهم فيها حجة لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر عندهم فالذي يدخل خبر الواحد يدخل خبر الاثنين ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك بنص فيوقف عنده
وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أوردوه والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم رواية في صفة الزكاة استغنى بها عما عند علي بل نقطع عليه بهذا قطعا ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بالمخالفة وقد أعاذه الله من ذلك
وأما ابن عباس فقد روى في المتعة إباحة شهدها وثبت عليها ولم يحقق النظر
وروى في الدرهم بالدرهمين خبرا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه و سلم وليت شعري من جعل قوله أولى من قول من خالفه في ذلك
وأما قول ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا فصدق وليس في هذا رد لروايته
فالواجب الرد المفترض الذي لا يسوغ سواه وهو الرد إلى الله تعالى وإلى الرسول عليه الصلاة و السلام وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله ولا سبيل إلى ذلك إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه وقد حض عليه الصلاة و السلام على تبليغ الحديث عنه فقال في حجة الوداع لجميع من حضر ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث
ثم العجب من إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه فوالله العظيم لا أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها لأنهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد وهذا عجيب جدا أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد وأخذ ما وافقه من ذلك فهذا هوس لأن لخصومهم أن يردوا بهذا نفسه ما أخذوا هم به ويأخذوا ما ردوه هم منه
فإن قال قائل الحديث قد يدخله السهو والغلط قيل له إن كنت ممن يقول بخبر الواحد فاترك كل حديث أخذت به منه فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو والغلط وإن كنت مقلدا فااترك كل من قلدت فإن السهو والغلط يدخلان عليه بالضمان وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين أخذت دينك عنهم وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد فقد أثبتنا بالبرهان وجوب قبوله
الفصل الرابع
في تمييز علماء الحديث ما ثبت منه مما لم يثبت اعلم أن أئمة الحديث لما شرعوا في تدوينه دونوه على الهيئة التي وصل بها إليهم ولم يسقطوا مما وصل إليهم في الأكثر إلا ما يعلم أنه موضوع مختلق فجمعوا ما رووا منه بالأسانيد التي رووه بها ثم بحثوا عن أحوال الرواة بحثا شديدا حتى عرفوا من تقبل روايته ومن ترد ومن يتوقف في قبول روايته
وأتبعوا ذلك بالبحث عن المروي وحال الرواية إذ ليس كل ما يرويه من كان موسوما بالعدالة والضبط يؤخذ به لما أنه قد يعرض له السهو أو النسيان أو الوهم ولهم في معرفة ذلك طرق مذكورة في كتبهم وكتب علماء الأصول وقد تم لهم بذلك ما أرادوا من معرفة درجة كل حديث وصل إليهم على قدر الوسع والإمكان فصار لهم من الأجر الجزيل والذكر الجميل ما هو كفاء لما لقوه في ذلك من فرط العناء
وقد دعاهم النظر في أحوال الرواة والمروي والرواية إلى أن يصطلحوا على أسماء يتداولونها بينهم تسهيلا للبحث كما فعل غيرهم من أرباب الفنون وقد جعل من بعدهم ما اصطلحوا عليه فنا مستقلا سموه بمصطلح أهل الأثر وقد اعتنى العلماء الأعلام به وألفوا فيه مؤلفات كثيرة وهو فن لا يسع طالب علم الأثر جهله
وقد رأيت أن أورد منه فيما يأتي ما ظهر لي عظم جدواه فيما عمدت إليه ولنبدأ بذكر فوائد مهمة تتعلق بذلك
الفائدة الأولى الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى معين غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب المرء على فعله ويعاقب على تركه واصطلح المتكلمون على وضعه لما لا يتصور في العقل عدمه
واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازا بالنسبة إلى غيرهم قال في المفتاح الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية والسبب في انقسامها هذا هو ما عرفت أن اللفظة يمتنع أن تدل على مسمى من غير وضع فمتى رأيتها دالة لم تشك في أن لها وضعا وأن لوضعها صاحبا
فالحقيقة لدلالتها على المعنى تستدعي صاحب وضع قطعا فمتى تعين عندك نسبت الحقيقة إليه فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع ومتى لم يتعين قلت عرفية وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه غير ممتنع في نفس الأمر ا هـ
هذا وقد ذكر المحققون أنه ينبغي لمن تكلم في فن من الفنون أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه مستعملا لها في معانيها المعروفة عند أربابه ومخالف ذلك إما جاهل بمقتضى المقام أو قاصد للإبهام أو الإيهام مثال ذلك فيما نحن فيه أن يقول قائل عن حديث ضعيف إنه حديث حسن فإذا اعترض عليه قال وصفته بالحسن باعتبار المعنى اللغوي لاشتمال هذا الحديث على حكمة بالغة وأما قولهم لا مشاحة في الاصطلاح فهو من قبيل تمحل العذر وقائل ذلك عاذل في صورة عاذر
مثال ذلك في الراوي أن يقال كل راو يكون عدلا ضابطا فهو مقبول الرواية وكل راو يكون غير عدل أو غير ضابط فهو مردود الرواية
ومثال ذلك في المروي أن يقال كل مروي تكون رواته أهل عدالة وضبط فهو مقبول يحتج به وكل مروي لا تكون رواته من أهل العدالة والضبط فهو مردود لا يحتج به
وأما معرفة حال الراوي المعين وحال المروي المعين فإنما تكون بالبحث عنه بعينه على الطريقة التي جرى عليها أئمة الحديث وقد قاموا بذلك أحسن قيام فكفوا من بعدهم المؤونة
وقوله من حيث القبول والرد احترز به عن معرفة حال الراوي والمروي من جهة أخرى ككون الراوي أبيض أو أسود أو كون المروي كلاما ظاهر الدلالة على المعنى أو خفي الدلالة عليه
واعترض عليه من وجهين
أحدهما أن يكون المحمول في مسائل هذا الفن هو قولك مقبول أو مردود فتكون المسائل التي محمولها غير ذلك مثل صحيح أو حسن أو ضعيف ونحوها خارجة عن هذا الفن
وثانيها ان تكون مسائل هذا الفن كلها ترجع إلى قولك الراوي من حيث كذا مقبول ومن حيث كذا مردود والمروي كذلك
وأما ما يقال من أن في هذا الفن مسائل لا تتعلق بالقبول والرد كآداب الشيخ والطالب ونحو ذلك فالخطب فيه سهل فإن أكثر الفنون قد يتعرض فيها لمباحث غير مقصودة بالذات غير أن لها تعلقا بالمقصود فتكون كالتتمة وهو أمر لا ينكر
والأولى تسمية هذا الفن بالاسم الأول فإنه أدل على المقصود وليس فيه شيء من الإبهام أو الإيهام وقد جرى على ذلك الحافظ ابن حجر فسمى رسالته المشهورة فيه بـ نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
الفائدة الثالثة قد قسموا علم الحديث أولا إلى قسمين قسم يتعلق بروايته وقسم يتعلق بدرايته ثم قسموا كل قسم منها إلى أقسام سموا كل واحد منها باسم ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى الكتب المبسوطة في علم الحديث
وقد أحببنا الاقتصار هنا على تعريف العلم المتعلق بروايته والعلم المتعلق بدرايته وقد تعرض لذلك صاحب إرشاد القاصد في أثناء بيان العلوم الشرعية فآثرنا إيراد المقالة بتمامها رعاية لاتصال الكلام ولما فيها من الفوائد التي لا يستغنى عنها في هذا المقام
قال من المعلوم أن إرسال الرسل عليهم السلام إنما هو لطف من الله تعالى بخلقه ورحمة لهم ليتم لهم امر معاشهم ويتبين حال معادهم فتشتمل الشريعة ضرورة على المعتقدات الصحيحة التي يجب التصديق بها والعبادات المقربة إلى الله تعالى مما يجب القيام به والمواظبة عليها والأمر بالفضائل والنهي عن الرذائل مما يجب قبوله
فينتظم من ذلك ثمانية علوم شرعية وهي علم القراءات وعلم رواية الحديث وعلم تفسير الكتاب المنزل على النبي المرسل وعلم دراية الحديث وعلم أصول الدين وعلم أصول الفقة وعلم الجدل وعلم الفقه
وذلك لأن المقصود إما النقل وإما فهم المنقول وإما تقريره وإما تشييده بالأدلة وإما استخراج الأحكام المستنبطة
والنقل إن كان لما أتى به الرسول عن الله تعالى بواسطة الوحي فهو علم القراءات أو لما صدر عن نفسه المؤيدة بالعصمة فعلم رواية الحديث
وفهم المنقول إن كان من كلام الله تعالى فعلم تفسير القرآن أو من كلام الرسول فعلم دراية الحديث
والتقرير إما للآراء فعلم أصول الحدين أو للأفعال فعلم أصول الفقه وما يستعان به على التقرير علم الجدل ومعرفة الأحكام المستنبطة علم الفقه
ولا خفاء لدى ذي حجر بما في هذه العلوم من جملة من المنافع أما في الدنيا فحفظ المهج والأموال وانتظام سائر الأحوال وأما في الأخرى فالنجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم فلنذكرها على التفصيل برسومها ونشير إلى الكتب المفيدة
علم القراءة علم بنقل لغة القرآن وإعرابه الثابت بالسماع المتصل ومن الكتب المشهورة المختصرة فيه التيسير ونظمه الشاطبي برد الله مضجعه في لاميته المشهورة فنسخت سائر كتب الفن لضبطها بالنظم ولابن مالك رحمه الله دالية بديعة في علم القراءات لكنها لم تشتهر ومن الكتب المبسوطة كتاب الروضة وشروح الشاطبية
علم رواية الحديث علم بنقل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله بالسماع المتصل وضبطها وتحريرها
وأضبط الكتب المجمع على صحتها كتاب البخاري وكتاب مسلم وبعدهما بقية كتاب السنن المشهورة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني
والمسندات المشهورة كمسند أحمد وابن أبي شيبة والبزار ونحوها
وزهر الخمائل لابن سيد الناس مستوعب للسير النبوية
ومن الكتب المشتملة على متون الأحاديث المجردة من هذه الكتب الإلمام لابن دقيق العيد فيما يتعلق بالأحكام ورياض الصالحين للنووي فيما يتعلق بالترغيبات والترهيبات
علم التفسير علم يشتمل على معرفة فهم كتاب الله المنزل على نبيه المرسل صلى الله عليه و سلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه
والعلوم الموصلة إلى علم التفسير في اللغة وعلم النحو وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم القراءات
ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول وأحكام الناسخ والمنسوخ وإلى معرفة أخبار أهل الكتاب ويستعان فيه بعلم أصول الفقه وعلم الجدل
ومن الكتب المختصرة فيه زاد المسير لابن الجوزي والوجيز للواحدي ومن المتوسطة تفسير الماتريدي والكشاف للزمخشري وتفسير البغوي وتفسير الكواشي ومن المبسوطة البسيط للواحدي وتفسير القرطبي ومفاتيح الغيب للإمام فخر الدين بن الخطيب
واعلم أن أكثر المفسرين اقتصر على الفن الذي يغلب عليه فالثعلبي تغلب عليه القصص وابن عطية تغلب عليه العربية وابن الفرس أحكام الفقه والزجاج المعاني ونحو ذلك وهاهنا بحث وهو من المعلوم البين أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتاب كل قوم على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سنذكره بعد تقرير قاعدة وهي أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة
أحدها كمال فضيلة المصنف فإنه بجودة ذهنه وحسن عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز يراه كافيا في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن هنا شرح بعض العلماء تصنيفه
وثانيها حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر وكذلك ترتيب إهمال بعض الأقيسة وإغفال علل بعض القضايا
فيحتاج الشارح أن يذكر المقدمات المهملات ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم وينبه على الغنية عن البيان ويرشد إلى أماكن ما لا يتبين بذلك الوضوع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطي علل ما لا يعطي المصنف علله
وثالثها احتمال اللفظ لمعان تاويلية كما هو الغالب على كثير من اللغات أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ المجازية واستعمال الدلالة الالتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه لغير ضرورة إلى غير ذلك مما يقع في الكتب المصنفة فيحتاج الشارح أن ينبه على ذلك
وإذا تقررت هذه القاعدة نقول إن القرآن العظيم إنما أنزل باللسان العربي في زمن أفصح العرب وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر وجودة التأمل والتدبر مع سؤالهم النبي صلى الله عليه و سلم في الأكثر ودعا لحبر الأمة فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
ولم ينقل إلينا عن الصدر الأول تفسير القرآن وتأويله بجملته فنحن نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه زيادة على ما لم يكونوا يحتاجون إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد احتياجا إلى التفسير
ومعلوم أن تفسيره يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته وحسن معانيه وهذا لا يستغني عن قانون عام يعول في تفسيره عليه ويرجع في تأويله إليه ومسبار
تام يميز ذلك وتتضح به المسالك وقد أودعناه كتابنا المسمى نغب الطائر من البحر الزاخر وأردفناه هنالك بالكلام على الحروف الواقعة مفردة في أوائل السور اكتفاء بالمهم عن الإطناب لمن كان صحيح النظر
علم دراية الحديث علم يتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواة وأصناف المرويات واستخراج معانيها ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبديع والأصول ويحتاج إلى تاريخ النقلة والكلام في احتياجه إلى مسبار يميزه كالكلام فيما سبق
والكتب المنسوبة إلى هذا العلم كالتقريب والتيسير للنووي وأصله ككتاب علوم الحديث لابن الصلاح وأصله ككتاب المعرفة للحاكم وكتاب الكفاية للخطيب أبي بكر بن ثابت إنما هي مداخل ليست بكتب كافية في هذا العلم
علم أصول الدين علم يشتمل على بيان الآراء والمعتقدات التي صرح بها صاحب الشرع وإثباتها بالأدلة العقلية ونصرتها وتزييف كل ما خالفها
والمشهور أن أول من تكلم في هذا العلم في الملة الإسلامية عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما من رجال المعتزلة لما وقعت لهم الشبهة في كلام الله تعالى كيف يكون محدثا وهو صفة من صفات القديم وكيف يكون قديما وهو أمر ونهي وخبر وتوراة وإنجيل وقرآن
والشبهة في مسألة القدر هل الأشياء الكائنة كلها بقدر الله ولا قدرة للعبد على الخروج عنها فكيف العقاب وإن كان للعبد قدرة على مخالفة المقدور فيلزم تغير علم الأول بالكائنات إلى غير ذلك من المسائل
وأخذ عنهم أبو الحسن الأشعري وخالفهم في كثير من المسائل
ومن الكتب المختصرة فيه قواعد العقائد للخوجة نصير الدين الطوسي ولباب الأربعين للقاضي جمال الدين بن واصل ومن المتوسطة المحصل للإمام
فخر الدين ولباب الأربعين للأرموي ومن المبسوطة نهاية العقول للإمام فخر الدين والصحائف للسمرقندي
علم أصول الفقه علم يتعرف منه تقرير مطالب الأحكام الشرعية العلمية وطريق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر
ومن الكتب المختصرة فيه القواعد لابن الساعاتي ومختصر ابن الحاجب والمنهاج للبيضاوي ومختصر الروضة لابن قدامة ومن المتوسطة التحصيل للأرموي ومن المبسوطة الأحكام للآمدي والمحصول للإمام فخر الدين بن الخطيب
علم الجدل علم يتعرف منه كيفية تقرير الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة وترتيب النكت الخلافية وهذا متولد من الجدل الذي هو أحد أجزاء المنطق لكنه خصص بالمباحث الدينية وللناس فيه طرق أشبهها طريقة العميدي ومن الكتب المختصرة فيه المغني للأبهري والفصول للنسفي والخلاصة للمراغي
ومن المتوسطة النفائس للعميدي والرسائل للأرموي ومن المبسوطة تهذيب النكت للأرموي
علم الفقه علم بأحكام التكاليف الشرعية العملية كالعبادات والمعاملات العادات ونحوها
الفائدة الرابعة قال عبد الله بن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقال أيضا بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا
عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك فقال عبد الله يا أبا إسحاق عمن هذا قلت له هذا من حديث شهاب بن خراش فقال ثقة عمن قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قلت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه و سلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف
وقال أبو الزناد أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله ذكر ذلك مسلم في صحيحه
والإسناد مصدر من قولك أسندت الحديث إلى قائله إذ رفعته إليه بذكر ناقله
وأما السند فهو في اللغة ما استندت إليه من جدار وغيره وهو في العرف طريق متن الحديث وسمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه
مثال الحديث المسند قول يحيى أحد رواة الموطأ أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يبع بعضكم على بيع بعض فمتن الحديث فيه هو لا يبع بعضكم على بيع بعض
والمتن في أصل اللغة الظهر وما صلب من الأرض وارتفع ثم استعمل في العرف فيما ينتهي إليه السند والإضافة فيه للبيان
وسند الحديث هو ما ذكر قبل المتن ويقال له الطريق لأنه يوصل إلى المقصود هنا وهو الحديث كما يوصل الطريق المحسوس إلى ما يقصده السالك فيه وقد يقال للطريق الوجه تقول هذا حديث لا يعرف إلا من هذا الوجه
وأما الإسناد فقد عرفت أنه مصدر أسند ولذلك لا يثنى ولا يجمع وكثرا ما يراد به السند فيثنى ويجمع تقول هذا حديث له إسنادان وهذا حديث له أسانيد وأما السند فيثنى ولا يجمع تقول هذا حديث له سندان ولا يقال هذا حديث له أسناد بوزن أوتاد وكأنهم استغنوا بجمع الإسناد بمعنى السند عن جمعه وقد ذكر بعض اللغويين أن السند بمعانيه اللغوية لم يجمع أيضا وقد وقع
ذهول لكثير من الأفاضل عن أن الإسناد يأتي بمعنى المصدر ويأتي اسما بمعنى السند فاضطربت عباراتهم حتى أوقعوا المطالع في الحيرة
الفائدة الخامسة اتفق علماء الحديث على أنه لا يؤخذ بالحديث إلا إذا كانت رواته موصوفين بالعدالة والضبط وأن العدالة وحدها غير كافية ولنذكر لك شيئا مما قالوه في ذلك
قال أبو الزناد عبد الله بن ذكوان أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله
وقال عبد الله بن المبارك قلت لسفيان الثوري إن عباد بن كثير من تعرف حاله وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه قال سفيان بلى قال عبد الله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول لا تأخذوا عنه
وقال يحيى بن سعيد القطان لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث قال مسلم يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب
وقال أيوب السختياني إن لي جارا ثم ذكر من فضله ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة
وقال عفان بن مسلم كنا عند إسماعيل بن علية فحدث رجل عن رجل فقلت إن هذا ليس بثبت فقال الرجل اغتبته فقال إسماعيل ما اغتابه ولكنه حكم أنه ليس بثبت
وقال زكريا بن عدي قال لي أبو إسحاق الفزاري اكتب عن بقية ما روى عن المعروفين ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين ولا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين ولا غيرهم
وقال عبد الله بن المبارك بقية صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر ذكر ذلك مسلم في صحيحه
وكان الإمام مالك شديد الانتقاد للرواة وقد نقل عنه في ذلك أقوال أوردها الجلال في إسعاف المبطأ برجال الموطأ ونحن نورد هنا شيئا منها
روى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنه قال ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم
وقال يحيى بن معين كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة إلا عبد الكريم البصري أبا أمية
وقال النسائي ما أحد عندي من التابعين أنبل من مالك بن أنس ولا أجل ولا آمن على الحديث منه ثم يليه شعبة في الحديث ثم يحيى بن سعيد القطان ليس بعد التابعين آمن على الحديث من هؤلاء الثلاثة ولا أقل رواية عن الضعفاء
وقال معن بن عيسى كان مالك يقول لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك لا يؤخذ من سفيه ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به
وقال إسحاق بن محمد الفروي سئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال لا فقيل أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث به فقال لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ ويكون قد طلب وجالس الناس وعرف وعمل ويكون معه ورع
وقال إسماعيل بن أبي أويس سمعت خالي مالكا يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه
وقال أبو سعيد الأعرابي كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه سئل ع غير واحد فقال ثقة روى عنه مالك
وقال شعبة بن الحجاج كان مالك أحد المميزين ولقد سمعته يقول ليس كل الناس يكتب عنهم وإن كان لهم فضل في أنفسهم إنما هي أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تؤخذ إلا من أهلها
وقال ابن كنانة قال مالك من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة
الفائدة السادسة من أصعب الأشياء الوقوف على رسم العدالة فضلا عن حدها وقد خاض العلماء في ذلك كثيرا فقال بعضهم العدالة هي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر وقال بعضهم هي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وعن فعل صغيرة تشعر بالخسة كسرقة باقة بقل وقال بعضهم من كان الأغلب من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته ومن كان الأغلب من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته وروايته
وقال الغزالي في المستصفى العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب
ثم لا خلاف في أنه لا تشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يجترئ على الكذب للأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاح
والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائر في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض ا هـ
وقال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل وهذا القول وأمثاله وإن كان مخالفا لما عليه الجمهور في الظاهر فهو المعول عليه عند الجهابذة في الباطن
وقد انتبه لذلك بعض المتأخرين فقال ما لبابه قد نقل عن كثير من الرواة المأخوذ بروايتهم الإصرار على الصغائر من الغيبة والنميمة وهجران الأخ من غير موجب في الشرع ونحو ذلك من حسد الأقران والبغي عليهم بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يدعو إلى اعتقاد ما لا يدل عليه نقل أو عقل ونسبة من لا يقول به إلى البدعة بل إلى الكفر والظاهر أن المعتبر في عدالة الراوي هو كونه بحيث لا يظن به الاجتراء على الافتراء على النبي صلى الله عليه و سلم
وقال العز بن عبد السلام في القواعد الكبرى فائدة لا ترد شهادة أهل الأهواء لأن الثقة حاصلة بشهادتهم حصولها بشهادة أهل السنة أو أولى فإن من يعتقد أنه يخلد في النار على شهادة الزور أبعد في الشهادة الكاذبة ممن لا يعتقد ذلك فكانت الثقة بشهادته وخبره أكمل من الثقة بمن لا يعتقد ذلك
ومدار قبول الشهادة والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء تحققه في أهل السنة والأصح أنهم لا يكفرون ببدعهم ولذلك تقبل شهادة الحنفي إذا حددناه في شرب النبيذ لأن الثقة بقوله لم تنخرم بشربه لاعتقاده
إباحته وإنما ردت شهادته الخطابية لأنهم يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضا فلا تحصل الثقة بشهادتهم لاحتمال بنائها على ما ذكرناه ا هـ
ولعدم وقوف بعض الناس على ما ذكرنا من أن بعض العلماء يميل إلى أن الثقة بالخبر هي المعول عليه في أمره انقسم الأغمار منهم إلى فريقين ففريق منهم اعترض على كثير من جهابذة المحدثين حيث رووا عمن لا ترتضى سيرتهم ظنا منهم بأن ذلك من قبيل الشهادة لهم بحسن السيرة ونقاء السريرة فنسبوهم إلى الجهل أو التجاهل وما دروا بأن الرواية عنهم إنما تشعر بالوثوق بخبرهم
وهذا أيضا إنما يكون في الكتب التي التزم أربابها أن لا يذكروا فيها سوى ما صح من الأخبار
وفريق منهم صار يذب عن كل من روى عنه إمام من أئمة الحديث وإن كان ممن اتفق علماء الأخبار والآثار على الطعن فيه زعما منهم أنهم لا يروون إلا عمن يكون حسن السيرة نقي السريرة نعم لهم وجه في هذه الدعوى لو صرح ذلك الإمام بأنه لا يروي إلا عمن يكون كذلك
هذا ومما يستغرب ما ذهب إليه بعض من ينحو في الظاهر نحو مذهب الظاهرية فقال في مقالة له في أصول الفقه وإذا ورد الخبر عن قوم مستورين لم يتكلم فيهم بجرح ولا تعديل وجب الأخذ بروايتهم فإن جرح أحد منهم بجرحة تؤثر في صدقه ترك حديثه وإن كانت الجرحة لا تتعلق بنقله وجب الأخذ به إلا شارب الخمر إذا حدث في حال سكره فإن علم أنه حدث في حال صحوه وهو ممن هذه صفته أخذ بقوله والأصل العدالة والجرحة طارئة وإذا ثبت على حد ما قلناه ترك الأخذ بحديث صاحب تلك الجرحة ا هـ
وقد نحا نحو هذا المنحى بعض الشيعة فجوز الأخذ برواية الفاسق إذا كان متحرزا من الكذب وعلل ذلك بأن العدالة المطلوبة في الرواية موجودة فيه
تتمة العدالة مصدر عدل بالضم يقال عدل فلان عدالة وعدولة فهو عدل أي
رضا ومقنع في الشهادة والعدل يطلق على الواحد وغيره يقال هو عدل وهما عدل وهم عدل ويجوز أن يطابق فيقال هما عدلان وهم عدول وقد يطابق في التأنيث فيقال امرأة عدلة وأما العدل الذي هو ضد الجور فهو مصدر قولك عدل في الأمر فهو عادل
وتعديل الشيء تقويمه يقال عدله تعديلا فاعتدل أي قومه فاستقام وكل مثقف معدل وتعديل الشاهد نسبته إلى العدالة وقد فسر العدالة في المصباح فقال قال بعض العلماء العدالة صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة ظاهرا فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرا لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال
ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة قدح وإلا فلا وعرف المروءة فقال هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات يقال مرؤ الإنسان فهو مريء مثل قرب فهو قريب أي ذو مروءة قال الجوهري وقد تشدد فيقال مروة
وقد اعترض بعض العلماء على إدخال المروءة في حد العدالة لأن جلها يرجع إلى مراعاة العادات الجارية بين الناس وهي مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأجناس وقد يدخل في المروءة عرفا ما لا يستحسن في الشرع ولا يقتضيه الطبع على أن المروءة من الأمور التي يعسر معرفة حدها على وجه لا يخفى
قال بعضهم المروءة الإنسانية وقال بعضهم المروءة كمال المرء كما أن الرجولية كمال الرجل وقال بعضهم المروءة هي قوة للنفس تصدر عنها الأفعال
الجميلة المستتبعة للمدح شرعا وعقلا وشرفا ولعل المروءة بهذا المعنى هو الذي أراده من قال
( مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت على ما تنتحب الفتاة )
( فقالت كيف لا أبكي وأهلي ... جميعا دون كل الخلق ماتوا )
وقال بعض الفقهاء المروءة صون النفس عن الأدناس ورفعها عما يشين عند الناس وقيل سير المرء بسيره أمثاله في زمانه
فمن ترك المروءة لبس الفقيه القباء والقلنسوة وتررده فيهما بين الناس في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه ومنه المشي في الأسواق مكشوف الرأس حيث لا يعتاد ذلك ولا يليق بمثله ومنه مد الرجلين في مجالس الناس ومنه نقل الرجل المعتبر الماء والأطعمة إلى بيته إذا كان عن بخل وشح وإن كان عن تواضع واقتداء بالسلف لم يقدح ذلك في المروءة وكذلك إذا كان يأكل ما يجد ويأكل حيث يجد زهدا وتنزها عن التكلفات المعتادة ويعرف ذلك بقرائن الأحوال
وإنما لا تقبل شهادة من أخل بالمروءة لأن الإخلال بها يكون إما لخبل في العقل أو لنقصان في الدين أو لقلة حياء وكل ذلك رافع للثقة بقوله
ولم يتعرض كثير من علماء الأصول لذكر المروءة لأن المخل بشيء مما يتعلق بها إن كان إخلاله به مما يرفع الثقة بقوله فقد احترزوا عنه وإن كان مما لا يرفع الثقة بقوله لم يضر قال بعضهم العدالة الاستقامة وليس لكمال الاستقامة حد يوقف عنده فاعتبر فيها أمر واحد وهو رجحان جهة الدين والعقل على طريق الشهوة والهوى فمن ارتكب كبيرة سقطت عدالته وقل الوثوق بقوله وكذلك من أصر على صغيرة فأما من أتى بشيء من الصغائر من غير إصرار فعدل بلا شبهة
وللمحقق ابن تيمية مقالة في العدالة والدل جرى فيها على منهج من يقول برعاية المصالح الأحكام قال العدل في كل زمان ومكان وقوم بحسبه فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم وإن كان لو كان في غيرهم كان عدله على
وجه آخر وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كانت الصحابة لبطلت الشهادات كلها أو غالبها
وقال في موضع آخر ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل الجيش وحوادث البدو وأهل القرى الذين لا يوجد فيهم عدل وله أصول منها قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم وشهادة بعضهم على بعض في قول ومنها شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال وشهادة الصبيان فيما لا يشهده الرجال
ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان ليسا بملازمين للحدود أو اثنان مبتدعان فهذان خير من الكافرين والشروط التي في القرآن إنما هي في استشهاد التحمل للأداء وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص كما أن المحدثين كذلك
ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين والتثبت كما قال تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) وفي القراءة الأخرى ( فتثبتوا ) فعلينا التبين والتثبت وإنما أمر بالتبين عند خبر الفاسق الواحد ولم يأمر به عند خبر الفاسقين وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجب خبر الواحد أما إذا علم أنهما لم يتواطآ فهذا قد يحصل به العلم
وقال في موضع آخر شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع وفيما يندر حكمه ويخاف فيه
الاشتباه الأعلم والأئمة إذا ترجح عنده أحدهم قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قولا على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين لأن الحق واحد ولا بد ويجب أن ينصب الله على الحكم دليلا
الفائدة السابعة قد ظن بعض الناس أن العدالة على مذهب الجمهور لا تقبل الزيادة والنقصان فهي كالإيمان عند من يقول بعدم قبوله ذلك والصحيح أن العدالة كالضبط تقبل الزيادة والنقصان والقوة والضعف وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول في باب الترجيح في الأخبار وصرح العلامة نجم الدين سليمان الطوفي في شرح الأربعين حيث قال إن مدار الرواية على عدالة الراوي وضبطه فإن كان مبرزا فيهما كشعبة وسفيان ويحيى القطان ونحوهم فحديثه صحيح وإن كان دون المبرز فيهما أو في أحدهما لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن هذا أجود ما قيل في هذا المكان
واعلم أن العدالة والضبط إما أن ينتفيا فيالراوي أو يوجد فيه العدالة وحدها أو الضبط وحده فإن انتفيا فيه لم يقبل حديثه أصلا وإن اجتمعا فيه قبل وهو الصحيح المعتبر وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط قبل حدثه لعدالته وتوقف فيه لعدم ضبطه على شاهد منفصل يجبر ما فات من صفة الضبط وإن وجد فيه الضبط دون العدالة والضبط لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الراية ثم كل واحد من العدالة له مراتب عليا ووسطى ودنيا ويحصل بتركيب بعضها مع بعض مراتب للحديث مختلفة في القوة والضعف وهي ظاهرة مما ذكرناه ا هـ
وقد تبين بذلك أن الرواة الجامعين بين العدالة والضبط ينقسمون باعتبار تفاوت درجاتهم فيها إلى تسعة أنواع
النوع الأول رواة في الدرجة العليا من العدالة والضبط
النوع الثاني رواة في الدرجة العليا من العدالة وفي الدرجة الوسطى من الضبط
النوع الثالث رواة في الدرجة العليا من العدالة وفي الدرجة الدنيا من الضبط
والنوع الرابع رواة في الدرجة الوسطى من العدالة وفي الدرجة العليا من الضبط
النوع الخامس رواة في الدرجة الوسطى من العدالة والضبط
النوع السادس رواة في الدرجة الوسطى من العدالة وفي الدرجة الدنيا من الضبط
النوع السابع رواة في الدرجة الدنيا من العدالة وفي الدرجة العليا من الضبط
النوع الثامن رواة في الدرجة الدنيا من العدالة وفي الدرجة الوسطى من الضبط
النوع التاسع رواة في الدرجة الدنيا من العدالة والضبط
وهذه الأنواع التسعة متفاوتة الدرجات بعضها أعلى من بعض فالنوع الأول أعلى مما سواه من سائر الأنواع والنوع التاسع أدنى مما سواه منها وما سواهما من الأنواع منه ما يظهر تقدمه على غيره ظهورا بينا كالنوع الثاني بالنظر إلى النوع الثالث وكالنوع الرابع بالنظر إلى النوع الخامس ومنه ما يخفى تقدمه كالنوع الثاني بالنظر إلى النوع الرابع وكالنوع السادس بالنظر إلى النوع الثامن
وهذا من متعلقات مبحث الترجيح الذي هو من أصعب المباحث مسلكا وأبعدها مدركا
واعلم أن الذي أوجب خفاء تفاوت العدالة عند بعض العلماء أنهم رأوا أن أئمة الحديث قلما يرجحون بها وإنما يرجحون بأمور تتعلق بالضبط وسبب ذلك أنهم رأوا أن الترجيح بزيادة العدالة يوهم الناس أن الراوي الآخر غير عدل فيسوء به ظنهم ويشكون في سائر ما يرويه وقد فرض أنه عدل ضابط
فإن قلت فما يفعلون إذا كان كلاهما في درجة واحدة في الضبط قلت يمكن الترجيح فيها بأمور عارضة ككون الحديث الذي رواه قد تلقاه عمن كثرت ملازمته له وممارسته لحديثه ونحو ذلك بخلاف الراوي الآخر
وقد زعم بعضهم عدم تفاوت الضبط أيضا ورد عليه بعضهم بقوله لا شك في تحقق تفاوت مراتب العدالة والضبط في العدول والضابطين من السلف والخلف وقد وضح ذلك حتى صار كالبديهي
وهذه المسألة لها نظائر لا تحصى قد غلط فيها كثير ممن له موقع عظيم في النفوس فإنهم يذهلون عن بعض الأقسام فتراهم يقولون الراوي إما عدل أو غير عدل وكل منهما إما ضابط أو غير ضابط غير ملاحظين أن العدالة والضبط مقولان بالتشكيك فينبغي الانتباه لذلك فإنه ينحل به كثير من المشكلات
استدراك وبعد أن وصلت إلى هذا الموضع وقفت على عبارة للحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري خالف فيها الجمهور في ترجيح الأعدل على العدل فأحببت إيرادها ملخصة
وقد علم من وقف على كثير من مؤلفاته أنه يجنح في أكثر المواضع إلى مخالفة الجمهور وهو في أكثر ما خالفهم فيه أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب
وقد أطلق فكره في ميادين جمح به فيها أشد جماح غير أنه يلوح من حاله أنه لم يكن يريد إلا الإصلاح ومن أعظم ما ينقمون عليه أنه أفرط في التشنيع على من يرد عليهم ولو كانوا من العلماء الأعلام ولعل ذلك نشأ عما أشار إليه في كتاب مداواة النفوس حيث قال ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربوا في الطحال شديدا فولد ذلك علي من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمرا حاسبت نفسي فيه فأنكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي ولنرجع إلى المقصود فنقول
قال في كتاب الإحكام في أصول الأحكام في صفة من يلزم قبول نقله ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أن قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله لأنه لا يخلو كل حد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء
والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله
فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل
قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن يقال إنهم أترك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأقل عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى
ولكن لا بد لنا من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر فأول ذلك أن الله عز و جل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر الله تعالى أو أمر رسوله عليه الصلاة و السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله فقد قفا ما ليس له به علم
وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وأيضا فكل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد الرسل وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط
ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أنه أكثر نوافل في الخير فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراويين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر
وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له فمن حكم في دين الله عز و جل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون
برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه نعوذ بالله من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور فيجب قبول ما قام عليه الدليل سواء طابت عليه النفس أو لم تطلب وبما ذكرنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه
تنبيه الضابط من الرواة هو الذي يقل خطؤه في الرواية وغير الضابط هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها سواء كان ذلك لضعف استعداده أو لتقصيره في اجتهاده قال الترمذي في العلل كل من كان متهما في الحديث بالكذب وكان مغفلا يخطئ كثيرا فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه
وقد توهم بعض الناس أن الضبط لا يختلف بالقوة والضعف فزعم أن الراوي إما أن يوصف بالضبط وإما أن يوصف بعدمه والموصوفون بالضبط نوع واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في الدرجة فلا يقال فلان أتم ضبطا من فلان وقد عرفت أنهم ثلاثة أنواع والعيان يغني عن البرهان
وأما الثقة فهو الذي يجمع بين العدالة والضبط وهو في الأصل مصدر وثق تقول وثقت بفلان ثقة ووثوقا إذا ائتمنته ولكونه مصدرا في الأصل قيل هو وهي وهما وهم وهن ثقة ويجوز تثنيته وجمعه فيقال هما ثقتان وهم وهن ثقات وتقول وثقت فلانا توثيقا إذا قلت إنه ثقة ومثل الثقة الثبت قال في المصباح رجل ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا والجمع أثبات والثبت أيضا الحجة تقول لا أحكم إلا بثبت وقد ذكروا أنه من أعلى الألفاظ التي تستعمل في الرواية
المقبولة ثقة ومتقن وثبت وحجة وعدل حافظ وعدل ضابط
الفصل الخامس
في أقسام الخبر إلى متواتر وآحاد قد تقرر أن من الأشياء ما يعرف بواسطة العقل ككون الواحد نصف الاثنين وككون كل حادث لا بد له من محدث وأن منها ما يعرف بواسطة الحس ككون زيد قال كذا أو فعل كذا فإن القول يدرك بحاسة السمع والفعل يدرك بحاسة البصر والذي يعرف بواسطة الحس قد يعرفه من لم يحس به بواسطة خبر من أحس به
ولما لم يكن كل مخبر صادقا وكان الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته اقتضى الحال أن يبحث عما يعرف به صدق الخبر إما بطريق اليقين وذلك في الخبر المتواتر أو بطريق الظن وذلك في غير المتواتر إذا ظهرت أمارات تدل على صدق الخبر
ولما كان الحديث عبارة عن أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله وكان من لم يدركها بطريق الحس لا سبيل له إلى إدراكها إلا بطريق الخبر اعتنى العلماء
الأعلام ببيان أقسام الخبر مطلقا وجعلوا للحديث الذي هو قسم من أقسام الخبر مبحثا خاصا به اعتناء بشأنه فإذا عرفت هذا نقول
قد قسم علماء الكلام والأصول الخبر إلى قسمين خبر متواتر وخبر آحاد
الخبر المتواتر فالخبر المتواتر هو خبر عن محسوس أخبر به جماعة بلغوا في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه
وخرج بما ذكر ثلاثة أشياء
أحدها الخبر عن غير محسوس كالخبر عن حدوث العالم وكون العدل حسنا والظلم قبيحا
وثانيها الخبر الذي أخبر به واحد
وثالثها الخبر الذي أخبر به جماعة لم يبلغوا في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه وإن دلت قرائن الأحوال على صدقهم
والخبر المتواتر مفيد للعلم بنفسه
خبر الآحاد وخبر الآحاد ويسمى أيضا خبر الواحد هو الخبر الذي لم تبلغ نقلته في الكثرة مبلغ الخبر المتواتر سواء كان المخبر واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة إلى غير ذلك من العداد التي لا تشعر بأن الخبر دخل بها في حيز المتواتر
والتواتر في اللغة التتابع تقول واترت الكتب فتواترت إذا جاء بعضها في إثر بعض وترا وترا من غير انقطاع والمواترة المتابعة ولا تكون بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومواصلة ومواترة الصوم أن تصوم يوما وتفطر يوما أو يومين وتأتي به وترا ولا يراد به المواصلة لأنه من الوتر وتترى أصلها
الطبقة الثانية ما يشترط في الطبقة الأولى من كونها تبلغ في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في الخير وقس على ذلك ما إذا كانت الطبقات ثلاثة فأكثر
ولما كانت الأخبار المتواترة في الغالب متعددة الطبقات قال العلماء لا بد في الخبر المتواتر من استواء الطرفين فالطرفان هما الطبقة الأولى والطبقة الأخيرة والوسط وهو ما بينهما والمراد بالاستواء الاستواء في الكثرة المذكورة ولا الاستواء في العدد بأن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه إذا كان كل عدد منها الكثرة المذكورة مثل أن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه إذا كان كل عدد منها فيه الكثرة المذكورة مثل أن يكون عدد الطبقة ألفا وعدد الثانية تسع مئة وعدد الثالثة ألفا وتسع مئة
وبما ذكر يعلم أن الرواة إذا لم يبلغوا في الكثرة المبلغ المشروط في الخبر المتواتر سواء كان ذلك في جميع الطبقات أو في بعضها لم يسم خبرهم متواترا وإنما يسمى مشهورا
قال الغزالي في المستصفى الشرط الثالث أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد فيه من الشروط ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه العصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد اولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده
والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه الصلاة و السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وفي نص الإمامة ا هـ
المسألة الثانية الخبر المشهور خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين مشهور وغير مشهور فالمشهور هو خبر جماعة لم يبلغوا في الكثرة مبلغا يمنع تواطؤهم على الكذب فيه فخرج بقولهم خبر الواحد وبتتمة التعريف الخبر المتواتر
هذا وقد عرف المتواتر بتعاريف شتى وأدلها على المقصود التعريف الذي ذكرناه وقد وقع لبعضهم في تعريفه ما يوهم دخول بعض أقسام المشهور فيه ولعلهم جروا على مذهب أبي بكر الرازي المعروف بالجصاص فإنه جعل المشهور أحد قسمين المتواتر
وقد ذهب كثير من العلماء إلى تقسيم الخبر إلى ثلاثة أسام متواتر ومشهور وآحاد فيكون المشهور سما مستقلا بنفسه فينبغي الانتباه لذلك
وقد عرف بعضهم المشهور بقوله هو الخبر الشائع عن أصل فخرج بذلك الخبر الشائع لا عن أصل وقد يطلق المشهور على ما اشتهر على الألسنة سواء كان له أصل أو لم يكن له أصل وقد مثلوا ما ليس له أصل بحديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل وحديث ولدت في زمن الملك العادل كسرى
وقد يسمى المشهور مستفيضا يقال استفاض الخبر إذا شاع فهو مستفيض وأقل ما ثبت به الاستفاضة اثنان وينقل لك عن بعض الفقهاء وقيل ثلاثة وينقل ذلك عن بعض المحدثين وقيل أربعة وينقل ذلك عن علماء الأصول فقد قالوا المستفيض ما زاد نقلته على ثلاثة
ومن العلماء من فرق بين المشهور والمستفيض فجعل المشهور أعم إما لكونه لم يشترط في المشهور أن يكون في أوله أيضا مرويا عن غير واحد وشرط ذلك في المستفيض وإما أن يكون جعل المشهور ما رواه اثنان فأكثر والمستفيض ما رواه ثلاثة فأكثر فكل مستفيض عند هؤلاء مشهور وليس كل مشهور مستفيض ومنهم من فرق بينهما بوجه آخر والمهم الانتباه لاختلاف الاصطلاح هنا حذرا من وروع الوهم
وأما النسبة بين المشهور والمتواتر فهي التباين إلا عند من جعل المشهور قسما من المتواتر
وأما قول بعض الأفاضل كل متواتر مشهور وليس كل مشهور متواترا وذلك بعد أن عرف منهما بما عرفه به الجمهور فهو مما ينتقد قال بعضهم ولعله أراد بالمشهور المعنى اللغوي لا الاصطلاحي
وقد وقع لبعض علماء الأثر عبارة تسوغ لصاحبها القول المذكور وهي قوله والغريب وهو ما تفرد به واحد عن الزهري وشبهه ممن يجمع حديثه فإن تفرد اثنان أو ثلاثة سمي مشهورا ومنه المتواتر ا هـ 3فصاحب هذه العبارة يسوغ له أن يقول كل متواتر مشهور وليس كل مشهور متواتر ا ولا ينتقد عليه ذلك وإنما ينتقد عليه مخالفة الجمهور في الاصطلاح لما ينشأ عنها في كثير من الأحيان من إيقاع في أشراك الأوهام ولعل ذلك الفاضل قد جاءه الوهم من هذا الموضع
المسألة الثالثة قد عرفت أن خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين مشهور وقد قسم المحدثون غير المشهور إلى قسمين عيز وغريب
فالعزيز هو الذي يرويه جماعة عن جماعة غير أن عددها في بعض الطبقات يكون اثنين فقط فخرج بذلك المشهور عند من يقول إن أقل ما تثبت به الشهرة ثلاثة وهو المشهور
والغريب هو الذي ينفرد بروايته واحد في موضع ما من مواضع السند
والحاصل أن الخبر ينقسم أولا إلى قسمين وآحاد وأن خبر الآحاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام مشهور وعزيز وغريب وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى
وقد قسم بعض علماء الأصول الخبر إلى ثلاثة أقسام متواتر ومشهور آحاد فجعلوا المشهور قسما مستقلا بنفسه ولم يدخلوه في المتواتر كما فعل الجصاص ولا في خبر الآحاد كما فعل غيرهم وقد عرفوا المشهور بما كان في الأصل خبر آحاد ثم انتشر في القرن الثاني والثالث مع تلق المة له بالقبول فيكون بينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه لصدقهما فيما رواه في الأصل ثلاثة ثم تواتر في القرن الثاني والثالث وانفراد المستفيض عن المشهور فيما رواه في الأصل ثلاثة ثم لم يتواتر في القرن الثاني والثالث وانفراد المشهور عن المستفيض فيما رواه في الأصل واحد أو اثنان ثم تواتر في القرن الثاني والثالث
وقد عرف الجصاص المتواتر بقوله هو ما أفاد العلم بمضمون الخبر ضرورة أو نظرا فزاد قوله أو نظرا ليدخل المشهور
وقد توهم بعضهم من عبارته انه يحكم بكفر منكر المشهور لإدخاله له في المتواتر يكفر جاحده وليس المر كذلك لأن الذي يكفر جاحده إنما هو القسم الأول من المتواتر عنده وهوالذي يفيد العلم ضرورة كصيام شهر رمضان وحج البيت ونحو ذلك بخلاف القسم الثاني منه وهو الذي يفيد العلم نظرا
قال بعض الأفاضل إنما لم يكفر منكر المشهور لأن إنكاره لا يؤدي إلى تكذيب النبي عليه الصلاة و السلام لأنه لم يسمعه منه عليه الصلاة و السلام من غير واسطة ولم يروه عنه عدد لا يتصور منهم الكذب خطأ أو عمدا وإنما هو خبر آحاد تواتر في العصر الثاني وتلقاه أهله بالقبول فإنكاره إنما يؤدي إلى تخطئة العلماء نسبتهم إلى عدم التروي حيث تلقوا بالقبول ما لم يثبت وروده عن الرسول
وتخطئة العلماء ليست بكفر بل هي بدعة وضلالة بخلاف إنكار المتواتر فإنه مشعر بتكذيب النبي عليه الصلاة و السلام إذ المتواتر بمنزلة المسموع منه وتكذيب الرسول كفر
على ان المشهور لا يوجب علم اليقين وغنما يوجب ظنا قويا فوق الظن الذي يحصل من خبر الآحاد تطمئن به النفس إلا عند ملاحظة كونه في الأصل كان من خبر الآحاد وقد ذكروا للمشهور أمثل منها المسح على الخفين
والظاهر أنه ليس كل مشهور يعد إنكاره بدعة وضلالة فقد قال الإمام الشافعي في الأم في أثناء محاورة جرت بينه وبين أحد الفقهاء
وقلت له أرأيت قول الله تبارك وتعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين أليس بين في كتاب الله عز و جل بان الفرض غسل القدمين أو مسحهما قال بلى
قلت لم مسحت على الخفين ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس إلى اليوم من ترك المسح على الخفين ويعنف من مسح
قال ليس في رد من رده حجة وإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم شيء لم يضره من خالفه
قلت ونعمل به وهو مختلف فيه كما نعمل به لو كان متفقا عليه ولا نعرضه على القرآن قال لا بل سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل على معنى ما أراد الله عز و جل
قلنا فلم لا تقول بهذا في اليمين مع الشاهد وغيره مما تخالف فيه الحديث وتريد إبطال الحديث الثابت بالتأويل وبأن تقول الحديث يخالف ظاهر القرآن ا هـ
المسألة الرابعة قد يقوى الخبر وأصله ضعيف وقد يضعف وأصله قوي وذلك لأسباب تعتريه غير ان الخبر إذا عرضت له القوة لا يرتفع عن درجته وإذا عرض له الضعف نزل عنها فالمتواتر مهما زاد تواتره يبقى متواترا إذ درجة فوقه يرتفع إليها وإذا نقص تواتره نقصا بينا نزل عن درجته إلى درجة المشهور ثم قد يضعف إلى أن يصير عزيزا ثم غريبا ثم قد يندرس فكم من خبر متواتر قد درسته الأيام ألا ترى أن كثيرا من الأبنية العظيمة لا يعلم الآن يقينا أسماء بنائها فضلا عن زمانهم قال المتنبي
( أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع )
( تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويلحقها الفناء فتتبع )
والمشهور مهما زادت شهرته لا يرتفع عن درجته إلى درجة المتواتر إذ الشرط في المتواتر أن يكون التواتر موجودا فيه من الطبقة الأولى فما بعدها فإذا فقد ذلك في طبقة من الطبقات لا سيما الأولى لم يعد متواترا فإن كان متواترا في أول الأمر ثم زال عنه التواتر قيل خبر منقطع التواتر فإن لم يكن متواترا من أول الأمر لم يقل له متواتر نعم يسوغ أن يوصف بالتواتر النسبي فيقال هذا الخبر قد تواتر في الطبقة الثانية أو الثالثة مثلا ولا يقال له خبر متواتر على الإطلاق
فإذا ضعفت الشهرة في المشهور نزل عن درجته وانتقل إلى ما بعدها كما أشرنا إليه وقس على ذلك العزيز والغريب غير أن الغريب لما كان في المنزلة الدنيا فإذا ضعف اندرس وصار نسيا منسيا والخبر قد يحيا بعد الاندراس وذلك بظهور أمر يدل عليه واعلم أنه قد يشتبه الشائع عن أصل بالمتواتر بل قد يشيع خبر لا أصل له فيظنه من لم يتتبع أمره متواترا ولكثرة الاشتباه في هذا الباب على كثير من الناس ظن بعضهم أن لا سبيل إلى أخذ اليقين من الأخبار لا سيما التي مضت عليه قرون كثيرة فقد ذكر في كتب الكلام وكتب الأصول أن فرقة من الناس أنكرت إفادة المتواتر العلم اليقيني وقالت إن الحاصل منه هو الظن القوي الغالب وفرقة منهم سلمت إفادته العلم اليقيني في الأمور الحاضرة وأنكرت في الأمور الغابرة
قال الغزالي في المستصفى أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث حصروا العلم في الحواس وأنكروا هذا وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون اللف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء قديما محدثا وامورا أخر ذكرناها في مدراك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم
العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس
ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود النبياء بل ولا في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل ولا في الدول والوقائع الكبيرة
فإن قيل لو كان معلوما ضرورة لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه لقولكم للزمكم ترك المحسوسات لخلاف السوفسطائية ا هـ
وقد أشار في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة إلى أمر اشتباه المشهور بالتواتر على من لم يمعن النظر فقال في أثناء بيان الأمور الخمسة التي يجب على من يخوض في التكفير أن ينظر فيها قبل الإقدام عليه
الثاني في النص المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالإجماع فإن ثبت تواترا فهل هو على شرط التواتر أم لا إذ ربما يظن المستفيض متواترا وحد التواتر ما لا يمكن الشك فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرها وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوة وهل يتصور ان يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار
والشرط في المتواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ وأحوال
القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع الكثير رابطة في التوافق لا سيما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ا هـ
المسألة الخامسة شرط قوم في التواتر أن يكون المخبرون لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو شرط غير لازم فإن الحجاج إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل المدينة إذا أخبروا عن النبي صلى الله عليه و سلم بشيء حصل العلم بخبرهم وقد حواهم بلد وأهل الجامع أذا أخبروا بنائه في الجمعة حالت بينهم وبين صلاتها حصل العلم بخبرهم وقد حواهم الجامع وهو دون البلد
وأرادوا بكون المخبرين لا يحصرهم عدد أنهم لكثرتهم وتباين بلدانهم يتعذر أو يتعسر إحصاؤهم فتشنيع ابن حزم على القائلين به جار على عادته في التهويل وحمل عبارة من خالفه على أقبح محاملها وإن كانت ممكنة التأويل
وشرط قوم في المخبرين عددا معينا بحيث إذا كان عددهم أقل منه لم يسم خبرهم متواترا واختلف في ذلك العدد فقيل هو ثلاثة وقيل أربعة وقيل خمسة وقيل عشرة وقيل اثنا عشر وقيل عشرون وقيل أربعون وقيل خمسون وقيل غير ذلك وهي أقوال ليس لها برهان
وقال الجمهور الشرط ان يبلغ عدد المخبرين مبلغا يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب فيه ولا يمكن تحديد ذلك العدد والضابط في ذلك حصول العلم فإذا حصل علمت أن الخبر متواترا وإلا فلا
قال الغزالي في المستصفى عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم وإلى ما هو زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم ضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع
قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيده في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وان يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور ان يختلف
وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فغن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز ان تختلف فيه الوقائع والأشخاص وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا وهذا غير مرضي لأن مجرد الإخبار يجوز ان يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه إخبار فلا يبعد ان تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالاتها فنقول لا شك في أنا نعرف أمورا ليس محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبة لإنسان وبغضه له وخوف
منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال
ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكد ذلك ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال ولكن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع
ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذله ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر ضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا به علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض
ثم قال فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهد يتطرق إليه الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبيات والمتواترات فليلحق هذا بها وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عند انضمام قرائن إليه ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم
وقال العلامة جمال الدين حسن بن يوسف لن المهر الحلي في نهاية الوصول إلى علم الأصول قال أبو الحسن البصري والقاضي أبو بكر كل عدد وقع العلم
بخبره في واقعه لشخص لا بد وأن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه
وهذا إنما يصح على إطلاقه لو كان العلم قد حصل بمجرد ذلك العدد من غير أن يكون للقرائن المحتفة به مدخل في التأثير لكن العلم قد يحصل بالقرائن العائدة إلى إخبار المخبرين وأحوالهم واختلاف السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله ومع فرض التساوي في القرائن قد يفيد آحادها الظن ويحصل من اجتماعها العلم فأمكن حصول العلم بثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض لما اختص به من القرائن التي لا تحصل لغيره
ولو سلم اتحاد الواقعة وقرائنها لم يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في الفهم للقرائن وتفاوت الأشخاص في الإدراك والذكاء معلوم بالضرورة
وقال أيضا ظن قوم أن لحصول العلم عقب التواتر يشترط عدد معين وليس بحق فإن العلم هو القاضي بعدد الشهادات دون العكس فرب عدد أفاد العلم في قضية لشخص ولا يحصل مع مثله في تلك القضية لغير ذلك الشخص أو في غيرها له
وقال بعض المتكلمين إن حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف باختلاف الوقائع والمخبرين والسامعين فقد يحصل العلم في واقعة بعدد مخصوص ولا به في واقعة أخرى وقد يحصل بإخبار جماعة مخصوصة ولا يحصل بإخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد وقد يحصل لسامع لولا يحصل لسامع آخر
وقد عرف بعض العلماء المتواتر بقوله هو الخبر الذي يوجب بنفسه العلم فخرج بذلك الآحاد فإن منه ما لا يوجب العلم أصلا ومنه ما يوجب العلم لا بنفسه لكن بواسطة القرائن التي احتفت به
وفي هذا التعريف إشكال فإنه يوهم أن الموجب للعلم في المتواتر إنما هو مجرد كثرة المخبرين وستعرف ما يرد في ذلك
قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة ان يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة ا هـ
وقال حجة الإسلام الغزالي عن العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر تقتضي إياله الملك وسياسته إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة على الاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم
وقد صرح كثير من علماء الأصول بأن المتواتر لا بد من القرائن فلا يبقى حينئذ فرق بينه وبين خبر الآحاد الذي احتفت به قرائن أوجبت العلم بصدقه ويكون إيجاب كل منهما للعلم إنما هو بمعونة القرائن
ولا يفيد في الجواب ان يقال القرائن في المتواتر متصلة فهي غير خارجة عنه فصح أن يقال إنه يوجب العلم بنفسه لأن خبر الآحاد المذكور كثيرا ما تكون القرائن فيه متصلة
والمراد بالقرائن ما يكون متعلقا بحال المخبر والمخبر به والخبر أما
المخبر فكأن يكون غير معروف بالكذب ولا داعي له في ذلك الخبر من رغبة او رهبة تلجئه إلى الكذب فيه وأما المخبر به فكأن يكون أمرا ممكن الوقوع لا سيما إن ظهرت من قبل مقدمات تقرب أمره وأما الخبر فكأن يكون مسوقا على هيئة واضحة ليس فيهما جمجمة ولا تلعثم ولا اضطراب
والمراد بالقرائن المنفصلة ما لا يتعلق بما ذكر ومثال ذلك ما إذا أخبر جماعة بموت ابتن لأحد الرؤساء كان مريضا ثم تلا ذلك أن خرج الرئيس من الدار حاسر الرأس حافي القدم ممزق الثياب مضطرب الحال وهو رجل ذو منصب كبير ومروءة تامة لا يخالف عادته إلا لمثل هذه النائبة فإن هذه القرينة منفصلة عن الخبر ولها أعظم مدخل في العلم بصحته
واعترض بعضهم بأن العلم إنما حصل بالقرينة فكيف نسبتموه إلى الخبر وأجيب بأن العلم حصل بالخبر بمعونة القرينة ولولا الخبر لجوزنا شخص آخر أو وقوع كارثة تقوم مقام موت الابن
وقد أسقط بعضهم من تعريف المتواتر قوله بنفسه فقال في تعريفه هو الخبر الذي يوجب العلم وفيه أيضا إشكال لأنه يدخل فيه خبر الآحاد إذا احتفت به قرائن توجب العلم وكأن بعضهم شعر بذلك فقال في تعريفه هو الخبير المفيد للعلم اليقيني
واعلم أن سبب اختلاف العبارات واضطرابها إنما هو غموض هذا المبحث ودقته بحيث صارت العبارات فيه قاصرة عن أداء جميع ما يجول في النفس منه فكن منتبها لذلك وقس عليه ما أشبهه من المباحث واحرص على أخذ زبدة ما يقولون ولا يصدنك عن ذلك اختلاف العبارات او الاعتبارات
نورد ما ذكرناه إتماما للفائدة قال في كتاب الإحكام فصل فيه أقسام الأخبار عن الله تعالى
قال أبو محمد جاء في النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله
ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقول الله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )
فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة عن كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي تى به سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره
وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتآليف
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه ان لا يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة
قال علي وقد اختلف الناس في مقدار النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن وقالت طائفة لا يقبل من أقل من ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل لا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين
قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى ان يكون شيء منها صح عنده بالعدد الذي شرطه كل واحد من ذلك العدد ع مثل ذلك العدد كله وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر من دينه أو دنياه
فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة لا نحاشي شيئا لأنه وإن مع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق
فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا قال علي ونقول ها هنا إن
شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله التوفيق لكل من حد في عدد نقله خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا تحصيهم وغن كان في ذاته محصى ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل
فإذ لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة
وأيضا فإنه ما في العقول فرق بين نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر وبين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال بموجب أن لا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمئة ألف وغير ذلك
ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه العداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف
ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه
وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فغن نظروا هذا بما لا يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان
وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما صح بإجماع أو نص أو أوجبت طبيعته ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد
قال أبو محمد وهذا قول من غمرة الجهل لأنه ليس هذا موجودا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعمله نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه و سلم في العالم وهذا كفر
وأيضا فليزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ان لا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وأن لا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة
وهم يعرفون بضرورة صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح
وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو وشر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده إلا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع انه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب
قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبه إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل تعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسنا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ولا رهبة منه ولا يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك في سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ووعاه فيما يرده كل روم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو واقعة أو غير ذلك وغنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته ما يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت
اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لن نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين ونحو ذلك والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا
وأما الذي لا شك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا ان خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل وما هي إلا سرقات وغارات من بعض الشعراء على بعض
قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في كل وقت ولكن على قدر ما يتهيأ وقد بينا ذلك في كتاب الفصل
قال علي فهذا قسم قال والقسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس
والبرهان على صحة وجوب قبول قول الله عز و جل ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارة النافر منها بأمره النافر بالتفقه وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا المر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه ا هـ
وقال في مقدمة كتاب الملل والنحل بعد أن أبان أن من البديهيات التي يشعر بها الطفل في مكان واحد وأنه لا يعلم الغيب أحد ومن علم في مكانين وأنه لا يكون جسمان في مكان واحد وانه لا يعلم الغيب احد ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض فصح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبرا كاذبا طويلا فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر علاما بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك
فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعدا مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فالبضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي ومرض من مرض وإفاقة من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا
والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لا شك عند أحد يوفي عقله في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
وله في هذا الكتاب مقالة تناسب ما نحن فيه وقد أحببنا إيرادها هنا بطريق الاختصار قال ونحن نذكر صفة وجوه النقل عند المسلمين لكتابهم ودينهم وما روي عن أئمتهم حتى يقف المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة
أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عند أمثالهم جيلا جيلا لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون في ان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز و جل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم أخذ عن اولئك حتى بلغ إلينا
ومن ذلك الصلوات الخمس فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد أن أهل السند يصلونها كما يصليها أهل الأندلس وأن أهل أرمينية يصلونها كما يصليها أهل اليمن
وكصيام شهر رمضان فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه صامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وصامه معه كل من اتبعه في كل لد كل عام ثم كذلك جيلا جيلا إلى يومنا هذا
وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في انه عليه الصلاة و السلام حج مع أصحابه وأقام المناسك ثم حج المسلمون من كل أفق من الآفاق
كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم وكجملة الزكاة وكسائر الشرائع التي في القرآن من تحريم القرائب والميت والخنزير وسائر ما ورد في نص القرآن
الثاني شيء نقلته الكافة تعن مثلها حتى يبلغ المر كذلك إلى النبي عليه الصلاة و السلام ككثير من آياته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق وفي تبوك بحضرة الجيش وككثير من مناسك الحج وكزكاة التمر والبر والشعير والورق والذهب والإبل والبقر والغنم ومعاملته أهل خبير وغير ذلك مما يخفى على العامة وإنما يعرفه كواف أهل العل فقط
الثالث ما نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إلى النبي عليه الصلاة و السلام يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان على ان أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من طرق جماعة من الصحابة وغما إلى الصاحب وغما إلى التابع وغما إلى إمام أخذ عن التابع يعرف لك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن
وهذا نقل خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل وأبقاه عندهم غضا جديدا مد أربع مئة وخمسين عاما في المشرق والمغرب والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصي ععدهم إلا خالقهم من الآفاق البعيدة ويحافظ على تقييده النقاد منهم فلا تفوتهم زلة في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسقا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر
وهذه الأقسام الثلاثة التي نأخذ ديننا منها ولا نتعداها إلى غيرها
والرابع شيء نقله أهل المشرق والمغرب أو الكافة أو الواحد الثقة عن أمثالهم إلى ان يبلغ من ليس بينه وبين النبي عليه الصلاة و السلام إلا واحد فأكثر فسكت ذلك المبلوغ إليه عمن أخبره بتلك الشريعة عن النبي عليه الصلاة و السلام فلم يعرف من هو فهذا نوع يأخذ به كثير من المسلمين ولسنا نأخذ به
البتة ولا نضيفه إلى النبي عليه الصلاة و السلام إذ لم نعرف من حدث به عنه وقد يكون غير ثقة ويعلم منه غير الذي روى عنه ما لم يعرف منه الذي روى عنه
والخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب او كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -
إلا أن في الطريق رجلا مجروحا بكذب أو غفلة او مجهول الحال فهذا أيضا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه
والسادس نقل نقل بأحد الوجوه التي قدمنا إما بنقل من بين المشرق والمغرب او بالكافة عن الكافة أو بالثقة عن الثقة حتى يبلغ ذلك إلى صاحب أو تابع أو غمام دونهما انه قال كذا أو حكم بكذا غير مضاف ذلك إلى النبي عليه الصلاة و السلام فمن المسلمين من يأخذ بهذا ومنهم من لا يأخذ به ونحن لا نأخذ به أصلا لأنه لا حجة في فعل أحد دون من أمرنا الله باتباعه وأرسله إلينا ببيان دينه ولا يخلو فاضل من وهم لا حجة فيمن يهم ولا يأتي الوحي ببيان وهمه
المسألة السابعة ينقسم التواتر إلى قسمين لفظي ومعنوي فاللفظي هو ما اتفقت ألفاظ الرواة فيه مثل أن يقولوا فتح فلان مدينة كذا سواء كان اللفظ أو بلفظ آخر يقوم مقامه مما يدل على المعنى المقصود صريحا والمعنوي هو ما تختلف فيه ألفاظ الرواة بأن يروي قسم منهم واقعة وغيره واقعة أخرى وهلم جرا غير ان هذه الوقائع تكون مشتملة على قدر مشترك فهذا القدر المشترك يسمى التواتر المعني او التواتر من جهة المعنى
وذلك مثل ان يروي واحد أن حاتما وهب مئة دينار وآخر انه وهب مئة من الإبل وآخر انه وهب عشرين فلسا وهلم جرا حتى يبلغ الرواة حد التواتر فهذه
الأخبار تشترك في شيء واحد وهو هبة حاتم شيئا من ماله وهو دليل على سخائه وهو ثابت بطريق التواتر المعنوي ووجه ذلك أن يقال إن هذه الأخبار مشتركة في أمر واحد وهو كونه سخيا فإن الراوي لخبر منها صريحا راو لهذا المشترك بطريق الإيماء فإذا بلغوا حد التواتر كان هذا المشترك وهو سخاؤه مرويا بطريق التواتر إلا أنه من قبيل التواتر المعنوي
وقال بعضهم الوجه في ذلك أن يقال إن هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد ان يكون واحد منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق خبر من هذه الأخبار ومتى صدق واحد منهم ثبت كونه سخيا والوجه الأول أقوى لأن السخاء لا يثبت بالمرة الواحدة
قال بعض علماء الأصول إن الأخبار التي لا تفيد العلم قد تشترك في معنى كلي فإذا بلغ مجموع الرواة حد التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر وذلك مثل أن ينقل جماعة أن عليا رضي الله عنه قتل من العداء كذا في واقعة وينقل جماعة أخرى أنه قتل من الأعداء كذا في واقعة وينقل جماعة أخرى أنه قتل من الأعداء كذا في واقعة أخرى وهلم جرا فإذا بلغ الرواة بأسرهم مبلغ التواتر بين هذه الأخبار وهو شجاعة علي مرويا بالتواتر من جهة المعنى وإن كان كل واحد من تلك الأخبار مرويا بطريق الآحاد وقس على ذلك ما يشبهه مثل حلم أحنف وذكاء إياس
وقال الشيخ جمال الدين أبو عمرو عثمان المعروف بابن الحاجب في كتاب منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل إذا اختلفت أخبار المخبرين في التواتر في الوقائع واشتملت على معنى كلي مشرك بجهة التضمن أو الالتزام حصل العلم به كوقائع عنترة في حروبه وحاتم في سخائه وعلي في شجاعته ولا يبعد أن يكون العلم بغيره أسرع وقال في مختصره المشهور إذا اختلف التواتر في الوقائع فالمعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام كوقائع حاتم وعلي
وقال الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي في اللمع اعلم ان الخبر ضربان متواتر وآحاد فأما المتواتر فهو كل خبر وعلم مخبره ضرورة وذلك ضربان تواتر من جهة اللفظ كالأخبار المتفقة عن القرون الماضية والبلاد النائية وتواتر من طريق المعنى كالأخبار المختلفة عن سخاء حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك ويقع العلم بكلا الضربين ا هـ
وإذا ذكر المتواتر تبادر إلى الذهن القسم الول وقد اختلف العلماء في أحاديث فقال بعضهم هي متواترة وقال بعضهم هي غير متواترة وقال عض المحققين إن الخلاف بين الفريقين لفظي فالذي قال إنها غير متواترة أراد أنها غير متواترة من جهة اللفظ والذي قال إنها متواترة أراد أنها متواترة من جهة المعنى
قال بعض علماء الأصول إن الكتاب لا يثبت إلا بالتواتر وأما السنة والإجماع فيثبتان بالتواتر وبالآحاد لكن المتواتر فيهما قليل بل المرجح أنه ليس في
السنة متواتر إلا المتواتر في المعنى دون اللفظ ومن أطلق فكلامه محمول على إرادة ذلك ولا في الإجماع أيضا متواتر
وقال بعضهم متحقق في أصول الشائع كالصلوات الخمس وعدد ركعاتها والزكاة والحج تحققا كثيرا ومرجع تواترها في الحقيقة المعنى دونه اللفظ ويقل تحققه في الأحاديث الخاصة المنقولة بألفاظ مخصوصة لعدم اتفاق الطرفين والوسط فيها وإن كان مدلول كثير منها متواترا في بعض الموارد فهي كالأخبار الدالة على شجاعة علي وكرم حاتم ونظائرهما حتى قال ابن الصلاح من سئل عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه وحديث إنما الأعمال بالنيات ليس متواترا وإن كانت رواته منذ أصر إلى الآن يزيد عددهم على عدد التواتر أضعافا مضاعفة
وذلك لأن التواتر فيد قد طرأ بعد وكثيرا ما يدعى تواتر ما هو من هذا القبيل مع أن التواتر يشترط فيه أن يكون حاصلا في جميع الأزمنة لا سيما أولها فشرط التواتر فيها مفقود من جهة الابتداء وقد نازع بعض العلماء في ذلك فادعى وجود التواتر بكثرة انتهى باختصار
وقد وقع هنا من الإبهام والإيهام في العبارات ما قد يضر المبتدي فإنه ربما توهم منها أنه ليس في السنة متواتر مع أن ما تواتر منها سواء كان من جهة اللفظ أو من جهة المعنى كثير يعسر إحصاؤه غير ان الأئمة المتعرضين لضبط السنة لم يعرضوا له لأنه ليس من مباحثهم
والخلاف المذكور إنما وقع في أحاديث ذكرت في كتب السنة ولها أسانيد شتى اتفقت لها لفرط العناية بها وإلا فالمتواتر يعسر إيراد إسناد له على قواعد المحدثين فضلا عن أسانيد وذلك أن الإسناد إنما يحرص عليه في أخبار الآحاد لما يعرض فيها من الشك
وإذا ترددت فيما قلنا فارجع إلى نفسك وانظر هل يمكنك ان تورد إسنادا لما
علمته وتيقنته من الأمور المتواترة التي لا تحصى ولو كانت قريبة العهد بك وإنما ذكرنا ذلك مع ظهروه لأنه قد يكون من شدة الظهور الخفاء
قال الإمام الحافظ عثمان بن الصلاح في مقدمته المتعلقة بعلوم الحديث ومن المشهور المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله وأهل الحديث لا يذكرونه إلا باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص وغن كان الخطيب الحافظ قد ذكره ففي كرمه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعاتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في روايته من أوله إلى منتهاه
ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من الحديث وإن نقله عدد التواتر وزيادة لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجد في أوائله على ما سبق ذكره نعم حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار نراه مثالا لذلك فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجم وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم
وذكر أبو بكر البزار الحافظ الجليل في مسنده أنه رواه ع رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو من أربعين رجلا من الصحابة وذكر بعض الحفاظ أنه رواه عنه صلى الله عليه و سلم اثنان وستون نفسا من الصحابة وفيهم العشرة
المشهود لهم بالجنة قال وليس في الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرة غيره ولا يعرف حديث يروي عن أكثر من ستين نفسا من الصحابة عن رسول الله إلا هذا الحديث الواحد
قلت وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد وفي بعض ذلك عدد التواتر ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار والله أعلم ا هـ
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي شرح تقريب النواوي قال ابن الصلاح رواه اثنان وستون من الصحابة وقال غيره رواه أكثر من مئة نفس وفي شرح مسلم للمصنف رواه نحو مئتين قال العراقي وليس في هذا المتن بعينه ولكنه في مطلق الكذب والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيا ثم ذكر أسماءهم واحدا بعد واحد مع الإشارة لمن أخرج حديثه من الأئمة
وقد أورد أمثلة للمتواتر اللفظي منها حديث الحوض فإنه مروي عن نيف وخمسين من الصحابة ومنها حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فإنه مروي عن نحو ثلاثين منهم ومنها نزل القرآن على سبعة أحرف فإنه مروي عن سبع وعشرين
وأورد مثالا للمتواتر المعنوي وهو رفع اليدين في الدعاء فإنه قد روي فيه نحو مئة حديث وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة فكل قضية منها لم تتواتر لكن القدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع ا هـ
هذا وما قاله ابن الصلاح من ان التواتر لا يبحث عنه في علم الأثر مما لا يمترى فيه قال بعض العلماء العلام ليس المتواتر من مباحث علم الإسناد إذ هو علم فيه عن صحة الحديث أو ضعفه من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم ليعمل به أو يترك والمتواتر لا يبحث فيه عن رواته بل يجب العمل به من غير بحث لإفادته علم اليقين وغن ورد عن غير الأبرار بل عن الكفار
وأراد بما ذكر أن المتواتر لا يبحث فيه عن رواته وصفاتهم على الوجه الذي يجري في أخبار الآحاد وهذا لا ينافي البحث عن رواته إجمالا من جهة بلوغهم في الكثرة إلى حد يمنع تواطؤهم على الكذب فيه أو حصوله منهم بطريق التفاق والمراد بالاتفاق وقوع الكذب منهم من غير تشاور سواء كان عمدا وكذلك البحث عن القرائن المحتفة به لا سيما إن كان العدد غير كثير جدا ويلحق بالمتواتر في عدم البحث عنه في علم الأثر المستفيض إذا كان أخص من المشهور
ومما يدل على أن المتواتر ليس من مباحث علم الإسناد أنه لا يكون له إلا في النادر جدا إسناد على الوجه المألوف في رواته أخبار الآحارد ولذلك ترى علماء الأصول يقسمون خبر الواحد إلى قسمين مسند ومرسل ولا يتعرضون إلى تقسيم المتواتر إلى ذلك فإن اتفق للمتواتر إسناد لم يبحث في أحوال رجاله البحث الذي يجري في أحوال الأسانيد التي تروي بها الآحاد هذا إذا ثبت تواتره لأن الإسناد الخاص يكون مستغنى عنه وإن كان لا يخلو عن الفائدة
وأما ما ورد بأسانيد كثيرة فإن كانت كثرتها كافية في إثبات التواتر فالأمر ظاهر وإن كانت غير كافية فيه لزمه البحث عن أحوال الرجال ونحوها من سائر قرائن الأحوال ليرفعه إلى درجة المتواتر إن وجد ما يقتضي رفعه إليها أو ينزله إلى درجة المستفيض أو المشهور إن وجد ما يوجب ذلك والمستبصر لا يخفى عليه ما تقتضيه الحال
وقد أشار الحافظ السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة إلى شيء مما كرنا ولنورد عبارته مختصرة قال حديث جابر مرفوعا من آذى ذميا فأنا خصيمه ومن كنت خصيمه خصمته قال الخطيب منكر وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال أربعة أحاديث تدور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأسواق وليس لها أصل من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة ومن آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة ونحركم يوم صومكم وللسائل حق وإن جاء على فرس
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على ابن الصلاح لا يصح هذا الكلام عن أحمد فإنه أخرج منها حديثا في المسند وهو حديث للسائل حق وإن جاء على فرس وقد ورد من حديث علي وابنه الحسين وابن عباس والهرماس بن زياد
أما حديث علي فأخرجه أبو داود وأما حديث الحسين فأخرجه أبو داود وأحمد من رواية يعلى وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن عدي وأما حديث الهرماس فأخرجه الطبراني
وكذلك حديث من آذى ذميا فهو معروف أيضا فروى أبو داود من رواية
صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم دني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو اخذ نه شيئا فأنا حجيجه يوم القيامة وإسناده جيد وإن كان فيه ما لم يسم فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة فقد رويناه في سنن البيهقي الكبرى قال في روايته عن ثلاثين من أبناء الصحابة
وأما الحديثان الآخران فلا أصل هما ا هـ
وبعد أن وصلت إلى هنا ريت لابن حزم عبارة تؤيد ما ذكرناه قال في كتاب الأحكام فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد فهي منقولة الكافة
ثم قال وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطرح على ما ذكرنا لأنه لا دليل على قبوله البتة فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا أجمع عليها قبلت وإذا اختلفت فيها سقطت وهي كل قولة لم يات بتفصيلها باسمها نص
وقال في موضع آخر وإذا ورد حديث مرسل أو في أحد ناقليه ضعيف فوجدنا ذلك الحديث مجمعا على أخذه والقول به علمنا يقينا أنه حديث صحيح
لا شك فيه وأنه منقول نقل الكافة مستغنى عن نقل الآحاد وذلك كالحديث لا وصية لوارث وما أشبه ذلك
المسألة الثامنة قد عرفت أناسا لم يكتفوا بالشروط التي شرطها الجمهور في المتواتر بل زادوا عليها شروطا أخرى فشرط بعضهم وجود الإمام المعصوم في جملة المخبرين وقد نسب ذلك إلى الشيعة قال الإمام الغزالي في المستصفى شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين
وهذا يوجب العلم بإخبار الرسول صلى الله عليه و سلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى إخبار غيره ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على طريق التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وان لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وان لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم
وأنكر الشيعة نسبة هذا القول إليهم ونسبة بعضهم إلى ابن الراوندي قال العلامة الحلي في نهاية الوصول شرط ابن الراوندي وجود المعصوم فيهم ولا عبرة غيره
وقال المحقق بهاء الدين العاملي في الزبدة وشرطه بلوغ رواته في كل طبقة
حدا يؤمن معه تواطؤهم واستنادهم إلى الحس وحصر أقلهم في عدد مجازفة وقول المخالفين باشتراطنا دخول المعصوم افتراء نعم الشرط المرتضى عدم سبق شبهة تؤدي إلى نفيه وشرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وأن تختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد
قال الغزالي وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الإخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وفتنة وواقعة بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر
فإن قيل فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه
قلنا لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التاويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي ان يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في انهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم ا هـ
وقد نسب الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي اشتراط ان لا يكونوا على دين واحد إلى اليهود قال في المحصول وأما الشرائط التي اعتبرها قوم مع أنها غير معتبرة فأربعة
الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط عن المنارة فيما بين الخلق كان إخبارهم مفيدا للعلم
الثاني أن لا يكونوا على دين واحد وهذا الشرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن التهمة إن حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد او على أديان ارتفعت حصل العلم كيف كانوا
الثالث أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم
الرابع شرط ابن الراوندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خبر أهل التواتر ا هـ
وقد نسب لى اليهود شرط آخر وهو ان يكون في المخبرين أهل الذلة والمسكنة قال الحلي في النهاية شرطت اليهود أن يكون مشتملا على اخبار أهل الذلة والمسكنة ليؤمن تواطؤهم على الكذب وهو غلط فإنا نجد العلم حاصلا عقب إخبار الأكابر والمعظمين والشرفاء اكثر من حصوله عقب خبر المساكين وأهل الذلة لترفع أولئك عن رذيلة الكذب لئلا ينثلم شرفهم
وشرط قوم كونهم مسلمين قال في اللمع ومن أصحابنا من اعتبر أن يكون العدد مسلمين ومن الناس من قال لا يجوز أن يكون العدد أقل من اثني عشر ومنهم من قال أقله سبعون ومنهم من قال ثلاث مئة وأكثر وهذا كله خطأ لأن وقوع العلم به لا يختص بشيء مما ذكروه فسقط اعتبار ذلك
وقال في المستصفى شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين وهو فاسد إذ يحصل بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم
وقال في نزهة الخواطر وكشف غوامض السرائر في اختصار روضة الناظر
وجنة المناظر وليس من شرط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا لأن إفضاءه إلى العلم من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه ويمكن ذلك من الكفار كإمكانه من المسلمين ا هـ
وقال الحلي في النهاية وشرط بعضهم الإسلام والعدالة لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق ولهذا اعتبر إجماع المسلمين دون غيرهم ولأنه لو وقع العلم عقيب إخبار الكفار لوقع عند إخبار النصارى مع كثرتهم عن قتل المسيح وصلبه وهو غلط فإن العلم قد يحصل عند خبر الكفار إذا عرف انتفاء الداعي إلى الكذب كما لو اخبر أهل بلد كافرون بقتل ملكهم والإجماع اختص بالمسلمين عند بعضهم لاستفادته من السمع المختص بإجماع المسلمين وإخبار النصارى غير متواتر لقتلهم في المبدأ
واعلم أنه قد وقع في هذا الموضع اضطراب في كلام بعض المتأخرين من إذا بحث في مسألة ذهل عما يتعلق بها مما ذكر في محل آخر فاقتضى الحال التنبيه على أمور
الأمر الأول شرطوا في الراوي أن يكون مسلما فإن كان كافرا لم تقبل روايته هذا إذا كان من غير أهل القبلة وقد صرح كثير من علماء الأصول بانعقاد الإجماع عليه قال في النهاية أجمع العلماء على عدم قبول رواية الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة سواء علم منه الاحتراز عن الكذب أو لا وقال غيره اتفق أئمة الحديث وأصول الفقه على اشتراط إسلام الراوي حال روايته وإن لم يكن مسلما حال تحمله
وقال عضهم لا يقبل خبر الكافر لوجوب التثبت عند خبر المسلم الفاسق فليزم بطريق الأولى عدم اعتبار خبره وقيل إن الفاسق يشمل الكافر وأما قبول شهادته في الوصية مع أن الرواية أضعف من الشهادة فذلك بنص خاص ويبقى العام معتبرا في الباقي
وقد أبان بعضهم سبب رد رواية الكافر بطريق سهل المسلك فقال ليس الإسلام بشرط لثبوت الصدق إذ الكفر لا ينافي الصدق لأن الكافر إذا كان مترهبا عدلا في دينه معتقدا لحرمة الكذب تقع الثقة بخبره كما لو أخبر عن أمر من أمور الدنيا بخلاف الفاسق فإن جراءته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها تزيل الثقة عن خبرة
ولكن اشتراط الإسلام باعتبار أن الكفر يورث تهمة زائدة في خبره تدل على كذبه لأن الكلام في الاخبار التي تثبت بها أحكام الشرع وهم يعادوننا في الدين أشد العداوة فتحملهم المعاداة على السعي في هد أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه وإليه أشار الله تعالى في قوله عز ذكره ( لا يألونكم خبالا ) أي لا يقصرون في الإفساد عليكم
وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان فإنهم كتوا نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ونبوته من كتابهم بعد أخذ الميثاق عليهم بإظهار ذلك فلا يؤمن من ان يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية بل هذا هو الظاهر فلهذا شرطنا الإسلام في الراوي
فتبين بهذا ان رد خبر الكافر ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره وهو المعاداة بمنزلة شهادة الأب لولده فإنها لا تقبل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو الشفقة والميل إلى الولد طبعا ا هـ
والنص الذي أشير إليه آنفا في قبول شهادة غير المسلم في الوصية والسفر وهو قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) وهذا إنما يجري على مذهب من يقول إن ذلك لم ينسخ ولم يؤول الآية بالتأويل الذي ذكره ابن حزم في الأحكام وانحى على صاحبه بالملام قال في فصل أتم به الكلام في الرد على قوم ادعوا تعارض النصوص وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة ومثلوا ذلك بقوله تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) مع قوله عز و جل ( أو آخران من غيركم )
قال علي وهذا لا معنى له ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسوله والحكم بالآراء الفاسدة على ما امرنا به فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها وقوله تعالى ( أو آخران من غيركم ) مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر ففقط فغنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق
ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر بطلانا من قول من قال ( أو آخران من غيركم ) أي من غير قبيلتكم تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا
وليت شعري أي قبيلة خاطب الله عز و جل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل وقد قال تعالى في أول الآية ( يا أيها الذين آمنوا ) وما علمنا الذين آمنوا قبيلة بعينها بل الذين آمنوا عرب وفرس وقبط ونبط وروم وصقلب وخزر وسودان وحبشة وزنج ونوبة وبجاوة وبربر وهند وسند وترك وديلم وكرد
فثبت بضروة لا مجال للشك فيها أن غير الذين آمنوا هم الكفار ولا ينكر ذلك إلا من سفه نفسه وأنكر عقله وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائل من غيركم من غير قبيلتكم من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره الذي ليس عليه من نور الحق أثر
الأمر الثاني قد توهم بعض الناس أن الذين صرحوا في كتبهم بعدم قبول رواية الكافر هم الذين زادوا في شروط التواتر الإسلام إما وحده أو مقرونا بالعدالة وليس المر كذلك فإن كثيرا ممن صرح بالأول لم يزد في شروط التواتر ذلك وبعضهم ذكره نقلا عن غيره ورد عليه على ان القائلين بهذا الشرط قليلون جدا وتوهم بعضهم أن بين العبارتين تناقضا وليس المر كذلك
وقد أحببت إزالة الإشكال وإن كنت قد التزمت في هذا الكتاب أن أترك إزالة كل إشكال يعرض في مبحث من المباحث إلى المطالعين بعد أن يترووا فيما ذكرناه فيه تمرينا لهم على استعمال الفكر فنقول
إن عدم قبول رواية غير المسلم فيما يتعلق بأمر الدين هو مما لم يختلف فيه غير انه إنما يتعين فيما ورد على طريق الآحاد وذلك لأن خبر الآحاد عند من يقبله يشترط فيه أن يكون الراوي مسلما عدلا ضباطا فإن كان فإن كان مسلما غير عدل لا تقبل روايته مع اعتقاده في الدين وجزمه بان سعادته منوطة به فلأن لا تقبل رواية غير المسلم الذي لا يعتقد في الدين ولا يرى أن سعادته منوطة به أولى وهذا ظاهر بين وأما من لا يقول بخبر الآحاد وإن كان الراوي حائزا لأعلى صفات القبول لاحتمال أن يعرض له السهو والغلط ونحو ذلك فالأمر عندهم أظهر وأبين
وهذه المسألة المفروضة تتصور على ثلاثة أوجه الوجه الأول أن يكون ما رواه قد رواه غيره من المسلمين على الوجه الذي رواه هو به الوجه الثاني أن يكون ما رواه قد رواه غيره من المسلمين على غير الوجه الذي رواه هو به بحيث يقع التعارض بين الروايتين الوجه الثالث أن يكون ما وراه لم يروه غيره من المسلمين
وهذا ضربان أحدهما أن يكون فيه ما يخالف ما تقرر عندهم من القواعد والأصول والثاني أن لا يكون فيه شيء من ذلك
وقد تعرض لطرف من هذه المسألة المفروضة بعض العلماء ففي أصول البردوي قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء إنه لا يعمل بخبره ويتوضأ به فإن تيمم وأراق الماء فهو أحب إلي وفي الفاسق جعل الاحتياط أصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن تكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم
قال في الشرح قوله ويجب أن يكون كذلك أي يجب أن يكون شأن الكافر في رواية الحديث كشأنه في الإخبار عن نجاسة الماء فيما يستحب من الاحتياط أي من الأخذ به يعني لا يقبل خبره في الدين ولا يكون حجة كما لو يقبل في نجاسة الماء إلا ان الاحتياط لو كان في العمل به يستحب الأخذ به من غير وجوب كما تستحب الإراقة ثم التيمم هناك
ويجوز أن يكون معناه ويجب أن يكون الفرق ثابتا بين خبر الكافر والفاسق في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط أيضا وإن لم يكن خبرهما حجة كثبوته في إخبارهما عن نجاسة الماء فإذا روى الفاسق حديثا لا يكون حجة أصلا ولكن
لو كان الاحتياط في الأخذ به يكون الاستحباب في العمل به فوق الاستحباب في العمل بخبر الكافر وعلى هذا الوجه يدل سياق الكلام
ثم قال وإنما قال يجب أن يكون كذلك ها هنا وفيما تقدم لأن الرواية غير محفوظة عن السلف في نقل هؤلاء الحديث
وأما ما يرويه غير المسلمين على طريق التواتر فهو مقبول مطلقا سواء كان ذلك مما يتعلق أو بغير الدين وما يتعلق بالدين لا فرق فيه بين ما يتعلق بديننا أو بدينهم إن كان لهم دين أو بدين آخر فإذا رووا شيأ مما يتعلق بديننا على طريق التواتر وقد عرفت شروطه التي ذكرها الجمهور فلا بد أن يكون مطابقا للواقع ولا بد مع ذلك أن يكون مرويا عندنا على طريق التواتر فإنه لم تعن أمة من الأمم بأمر دينها مثل نا عني به المسلمون وهذا أمر لا يمتري فيه من له أدنى زوال ريبة بأقل عناية
وعلى هذا يكون تواتره عندهم مؤكدا لتواتره عندنا ويكون هذا النوع من أعلى المتواترات ومن خبر المر بنفسه أو نظر في كتب أئمة المتكلمين تبين له أن المتواترات وإن اشتركت في إفادة العلم لكن بعضها في الدرج العليا وبعضها في الدرجة الوسطى وبعضها في الدنيا
وقد أشار ابن حزم إلى هذا النوع في المقالة التي ذكر فيها وجوه النقل عند المسلمين فقال ونحن نذكر إن شاء الله تعالى وجوه النقل التي عند المسلمين لكتابهم ودينهم ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل عيانا فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم فنقول وبالله التوفيق
إن نقل المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا جيلا لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز و جل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم اخذ ع أولئك حتى بلغ إلينا ومن ذلك الصلوات الخمس
وقد كرر قوله لا يختلف في ذلك مؤمن ولا كافر في كثير من الأشياء إشارة إلى أنه من أعلى المتواترات حتى شارك فيها غير المسلمين المسلمين فاعرف قدر العبارات وما تضمنه من الإشارات فإن قلت ما الذي دعا من زاد في شروط التواتر إسلام المخبرين إلى هذه الزيادة قلت دعاه إلى ذلك أنه أوردت عليه أخبار غير مطابقة للواقع ومع ذلك أدعى المسلمون أنها متواترة فظن أن العلة فيها جاءت من كون رواتها غير مسلمين فزاد هذا الشرط تخلصا من الإشكال وكان حقه أن يفعل كما فعل الجمهور فإنهم دققوا النظر فيها فتبين لهم أنها غير مستوفية لشرط التواتر المشهورة فارتفع الإشكال من أصله غير أنه كان ضعيفا في علم الكلام
وقد نشأ من هذه الزيادة التي زادها إشكال آخر وهو انسداد باب التواتر في أكثر المتواترات التي لا تحصى وذلك في الأمور التي كانت قبل ظهور الإسلام ولم تذكر في الكتاب العزيز والأمور التي ظهرت بعده وكان المتأولون لنقلها أولا غير المسلمين مع ان الخبر المتواتر من أهم أركان العلم والمعرفة والحاجة في جل الأحوال ملجئة إليه
وقد رأيت أن أورد عبارات شتى لا تخلو عن فائدة فيما نحن فيه قال صدر
الشريعة في كتاب التوضيح الخبر لا يخلو من أن تكون رواته في كل عهد قوما يحصى عددهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم أو يصير كذلك بعد القرن الأول أو لا يصير بل رواته آحاد والأول متواتر والثاني مشهور والثالث خبر الواحد
قال المحقق سعد الدين التفتازاني في التلويح قوله ولا يمكن تواطؤهم أي توافقهم على الكذب حتى لو اخبر جمع غير محصورين بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا
وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب وليس بشرط في التواتر حتى لو أخبر جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم حصل لنا اليقين
وأما مثل خبر اليهود بقتل عيسى عليه السلام وتأبيد دين موسى عليه السلام فلا نسلم تواتره وحصول شرائطه في كل عهد ثم المتواتر لا بد أن يكون مستندا إلى الحس سمعا أو غيره حتى لو اتفق أهل إقليم على مسألة عقلية لم يحصل لنا اليقين حتى يقوم البرهان
قال المحقق حن الفناري في حاشيته عليه قوله عند المحققين تفسير للكثرة إيماء إلى أن جعل المصنف الكثرة علة لعدم إمكان التواطئ ليس كما ينبغي
قوله وليس بشرط في التواتر قيل الكلام في تواتر خبر الرسول والعدالة
وتباين الأماكن شرطان فيه لا في مطلق التواتر فلا تقريب لما ذكره والجواب منع القول بالفصل على المختار
هذا وفي حصوله اليقين بإخبار جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم منع ظاهر لجواز اتفاق تلك البلدة على ذلك الكلام لغرض من الأغراض مثل تغرير المسلمين به لئلا يراعوا الحزم عند الجهاد معهم أو لئلا يتحفظوا على أنفسهم منهم فالأولى أن يقتصر على نفي الاشتراط المذكور
قوله فلا نسلم تواتره فإن قتل عيسى عليه السلام نقل عن جماعة من اليهود دخلوا البيت الذي كان فيه وكانوا سبعة وقد روي انهم كانوا لا يعرفون المسيح وغنما جعلوا لرجل جعلا فدلهم على شخص في بيت اجتمعوا عليه وقتلوه وزعموا انهم قتلوا عيسى عليه السلام وأشاعوا الخبر وبمثله لا يحصل التواتر
ومما يتعلق بما نحن فيه ما ذكره علماء الأصول في مسألة هل كان عليه السلام متعبدا بشرع من قبله وقد اختلفوا في ذلك وقد أوضح الفخر الرازي أمرها في المحصول ولنورد لك ما تعلق بغرضنا منه قال القسم الثالث في أن الرسول عليه الصلاة و السلام هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان الأول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان الاول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته قوم ونفاه آخرون وتوقف فيه ثالث
احتج المنكرون بأنه لو كان تعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستيفاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لاشتهر ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم
واحتج المثبتون بأن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها والجواب أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه ولو سلمنا ذلك لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق يوجب العلم أو الظن الغالب وهذ هو المراد من زمان الفترة
البحث الثاني في حاله بعد النبوة قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنه
لم يكن متعبدا بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى
واعلم أن من قال كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به أن الله تعالى يوحي إليه مثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله أو يريد به أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فإن قالوا بالأول فإما أن يقولوا به في كل شرعة أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا بخلاف شرع من قبلنا في كثير من الأمور والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه متعبد بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية ولم يكن عليه السلام تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه
وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه الأول لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه أن يرجع في أحكام تلك الحوادث إلى شرعه وأن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه لم يفعل ذلك ولو فعله لاشتهر
فإن قيل إن الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه عليه الصلاة و السلام علم في تلك الصور أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها إلى نزول الوحي أو لنه عليه الصلاة و السلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع فانتظر الوحي أو ان أحكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا كفارا ورواية الكفار غير مقبولة
فالجواب قوله إنما لم يرجع إليها لأنه علم انه غير متعبد فيها بشرع من قبله قلنا فلما لم يرجع في شيء من الوقائع إليهم وجب ان يكون ذاك علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله
وقوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب الشديد والبحث الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك الطلب والبحث
وقوله لك الحكم إما أن يكون تواترا إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة و السلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية دلالتها على الحكام
ثم تعرض لغير ذلك من أدلة المثبتين وأجاب عنها وكان من المنكرين لتعبده عليه الصلاة و السلام بشرع من قبله سواء كان قبل البعثة او بعدها فارجع إليه إن شئت
ونقل ابن القشيري عن بعضهم أنه عليه الصلاة و السلام كان قبل البعثة متعبدا بشريعة العقل قال وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة وذكر الحلي في النهاية أن بعض الإمامية ذهب إلى انه كان متعبدا بما يلهمه الله تعالى إياه وأقوى أقوال من ذهب إلى انه كان متعبدا بشرع معين قول من ذهب إلى انه شرع إبراهيم عليه السلام
قال الإمام المازري هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع البتة ولا يبني عليها حكم في الشريعة
وأما المسألة الثانية وهي هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا فهي من أهم مسائل الأصول وقد قرب بعضهم أمرها فقال
إن ما لم يعلم من شرائع من قبلنا إلا من جهة المنتمين إليها فهذا لا بحث فيه لاختلاط ما صح منه بما لم يصح على وجه يحار فيه الجهبذ النحرير
وأما ما علم من غير جهتهم وهو ما ذكر منها في الكتاب والسنة فمنه ما دل الدليل على الخذ به وهذا لا خلاف فيه ومنه ما دل الدليل على نسخه في شرعنا وهذا أيضا كذلك ومنه ما لم يدل الدليل على الأخذ به ولا على نسخه فهذا هو الذي اختلف فيه
فقال بعضهم هو شرع لنا وقال بعضهم ليس بشرع لنا وممن قال هو شرع لنا مالك وجمهور أصحابه وأصحاب أبي حنيفة والشافعي قال بان السمعاني قد اومأ إليه الشافعي في بعض كتبه وقال القرطبي ذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية وقال القاضي عبد الوهاب إنه الذي تقتضيه أصول مالك
ونقل ذلك عن محمد بن الحسن قال البرذوي في أصوله قال بعض العلماء تلزمنا شرائع من قبلنا حتى يقوم الدليل على النسخ بمنزلة شرائعنا وقال بعضهم لا تلزمنا حتى يقوم الدليل وقال بعضهم تلزمنا على انها شريعتنا
والصحيح عندنا أن ما قص الله تعالى منها علينا من غير إنكار أو قصة رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير إنكار فإنه يلزمنا على أنه شريعة رسولنا عليه الصلاة و السلام
ثم قال وهو المختار عندنا من الأقوال بهذا الشرط الذي ذكرنا قال الله تبارك وتعالى ( ملة أبيكم إبراهيم ) وقال ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) فعلى هذا الأصل يجري هذا وقد احتج محمد في تصحيح المهايأة والقسمة بقول الله تعالى ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ) وقال ( لها شرب
ولكم شرب يوم معلوم ) فاحتج بهذا النص لإثبات الحكم به في غير المنصوص عليه بما هو نظيره فثبت أن المذهب هو القول الذي اخترناه ا هـ
المسألة التاسعة
للمنكرين لإفادة المتواتر علم اليقين شبه منها أنه يجوز أن يخبرنا جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بأمر كحياة زيد ويخبرنا جماعة أخرى مثلهم بنقيض خبرهم كموت زيد فلو أفاد المتواتر علم اليقين للزم حصول العلم بالنقيضين وهو محال
وأجاب الجمهور بأن هذا غير ممكن ولا بد أن يكون أحد الخبرين غير مستوف لشروط التواتر
ومنها أن كثيرا من الفرق التي لا يحصى عددها تخبر بأمور وهي جازمة وغيرها ينكرها ومن ذلك صلب المسيح عليه السلام فإن اليهود والنصارى يجزمون بوقوعه والمسلمون ينكرون ذلك وينسبون لهم الوهم
والجواب أن المسلمين لم يسلموا لا لاعتقادهم أن المتواتر لا يفيد اليقين بل لأنه تبين لهم أن ذلك الخبر لم يستوف الشروط اللازمة في التواتر
وقد هول المخالفون تهويلا عظيما وزعموا ان المسلمين أنكروا أعظم الأمور المتواترة تواترا فإن النصارى واليهود وهما أمتان عظيمتان قد طبقتا مشارق الأرض ومغاربها وهم يخبرون بصلب المسيح والإنجيل يصرح بذلك فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات التواتر فأي خبر بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه
وقد أجاب عن ذلك علماء الكلام والأصول غير أن كثيرا منهم اقتصر على الجواب المجمل وهو لا يشفي غليل من قويت عنده هذه الشبهة والذين أجابوا
بجواب مفصل بنى أكثرهم كلامه على مجرد الاحتمال وهو وإن كان مجديا في مقام الجدال غير انه أصل الإشكال وسبب ذلك انهم لم يطلعوا على ما ورد في الإنجيل الذي هو العمدة في انتشلر هذا الخبر ولو اطلعوا عليه لرأوا الخطب أسهل مما ظنوه
وقد تصدى ابن حزم للجواب عن هذه المسالة وهو من المطلعين على كتب أهل الكتاب فأحببنا نقل عبارته قال في كتاب الملل والنحل ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ةومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين ان قال قائلهم قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل وجاء القرآن بأنه لم يقتل ولم يصلب فقولوا لنا كيف كان هذا فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الهواء والديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وكتابه وشرائعه
ثم قال في الجواب عنه إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافة ولا صح بالخبر قط لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم وعدم التقائهم وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة أو رجوع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادى على سنن من تواطؤوا عليه فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه
فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ويضطر على صحته إلا ببرهان
فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة
صلبه فإن هناك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل
والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا خوف العامة وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح وانه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار وأنه أنزل إثر ذلك وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخاري ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب ولا موقوفا لذلك وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا أن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه بل كانت واقفة على بعد تنظر
هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة بل بخبر يشهد ظاهره على انه مكتوم تواطأ عليه وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غيبا عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين و أن شمعون الصفا غرر ودخل دار قيافا الكاهن أيضا بضوء النار فقيل له أنت من أصحابه فانتفى وجحد وخرج هاربا عن الدار
فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق فكيف أن ينقله كافة وهذا معنى قوله تعالى ( ولكن شبه لهم ) إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤ عليه هم شبهوا على من قلدهم فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة
ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس وفي حيث هو
فلعله نائم أو مشبه على حواسه وفي هذا خروج إلى السخف وقول السوفسطائية والحماقة
وقد شاهدنا نحن مثل ذلك وذلك أننا أندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن وقد شاهد غسله شيخان جليلان حاكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة من عظماء البلد ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ثم لم يلبث إلا شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا وبويع عد ذلك بالخلافة ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بن يديه ورأيته وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام
ثم قال وأما قوله تعالى ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) فإنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود إنه عليه السلام قتل وصلب فهؤلاء شبه لهم القول أي أدخلوا في شبه منه وكان المشبهون لم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المعون أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك وغنما أخذوا من أمنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة التي شبه الخبر لها ا هـ
قال العلامة التقي في الجواب الصحيح وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح عليه السلام بل
شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود
فبعض الناس يقولون إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله ( ولكن شبه لهم ) عن أولئك ومن قال بالأول جعل الضمير في شبه لهم عن السامعين لخبر أولئك
فإذا جاز ان يغلطوا في هذا ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلوه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله يجب اتباعه سواء صلب أو لم يصلب والحواريون مصدقون فيما ينقلونه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان ذلك الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر ا هـ
والضمائر في هذه الآية وفيما قبلها عائدة إلى اليهود قال تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وصدهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما )
قال المفسرون في قوله ( فبما نقضهم ميثاقهم ) ما زائدة والباء للسببية وهي متعلقة محذوف تقديره فعلنا بهم ما فعلنا وأما شبه فهو مسند إلى الجار والمجرور وهو ( لهم ) وهو الظاهر وقال بعضهم ( شبه لهم ) أي مثل لهم من حسبوه إياه وفي قوله ( وما قتلوه يقينا ) أي قتلا يقينا أو متيقنين وقال بعضهم المراد أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا فيه فإنهم كانوا في شك لعدم إيقانهم بقتله إذ لم تكن معهم حجة يسكنون إليها وقال بعضهم المراد وما علموه يقينا وهو من قولهم الشيء علما إذا عرفته معرفة تامة وهو بعيد
ورأى بعض الدارسين لكتب أهل الكتاب بناء على ما تراءى له من قرائن الأحوال أن الذين صمموا على إهلاك المسيح من رؤساء اليهود لما لم يجدوه ويئسوا من عودة إليهم عندوا إلى رجل آخر موهمين أنه هو المسيح فصلبوه إرهابا لأتباعه ولمن يخاف أن يكون عنده ميل إلى اتباعه وضعوا حراسا على القبر خشية أن ينبش فتظهر حقيقة الأمر ثم رأوا أن الحزم يقضي عليهم بنقله منه سرا إلى حيث لا يهتدي إليه ففعلوا وخشية أن يفتتن الناس بعدم وجوده فيه رشوا الحراس بمال جم ليشيعوا أن تلاميذه أتوا في جنح الظلام فأخذوه من القبر وهو نائم
وقال بعض المفسرين إن الذي صلب كان رجلا ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال انا أدلكم عليه وقد كان عيسى استتر فدخل الرجل بيت عيسى ورفع الله عيسى وألقى شبهه على المنافق فقتلوه وصلبوه وه يظنون أنه عيسى عليه السلام وهذا القول على كل ال أقرب من قول بعضهم إن المسيح عليه السلام لما أجمعت اليهود على قتله وأخبره الله سبحانه بأنه سيرفعه إلى السماء قال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهه فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم وقال أنا فألقى الله عليه شبهه فأخذ وقتل وصلب
والمنافق المذكور هو يهو ذا الأسخريوطي وذكر في الإنجيل أنه كان أحد التلاميذ الاثنى عشر الذين اختارهم المسيح لبث دعوته وأعطاهم قوة على إخراج الشياطين وشفاء جميع الأمراض ثم لما بلغه أن رؤساء اليهود قد صمموا على القبض على المسيح وإهلاكه ذهب إليهم وقال لهم أنا أسلمه إليكم فماذا تعطوني على ذلك فأعطوه ثلاثين من الفضة كل واحد منها تساوي قيمة درهما أو درهمين أو نحو ذلك فرضي بها وصار يترقب فرصة لإنجاز ما وعدهم به
ففي ليلة من الليالي ذهب إليهم وقال إن الفرصة قد أمكنت فأرسلوا معه جمعا كبيرا معهم سيوف وعصي وهذا الجمع مؤلف من اناس من خدمة رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وأناس من جند الروم فذهب بهم إلى سفح جبل الزيتون وكان المسيح في بستان هناك وقال لهم إذا وصلت إليه أقبله فالذي
أقبله هو المسيح فاقبضوا عليه وإنما جعل لهم عامة لأن كثيرين منهم كانوا لا يعرفونه فلما دنا منه سلم عليه ثم تقدم فعانقه فقال له المسيح يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان
ثم خرج إلى القوم وقال لهم أنا هو فتقهقروا ناكصين على أعقابهم وسقطوا على الأرض ثم قال لهم المسيح من تطلبون فقالوا نطلب عيسى الناصري فقال لهم قد قلت لكم إني أنا هو فإن كنتم تطلبونني فعوا هؤلاء يهبون وكان مع بطرس الذي يقال له سمعان الصفا سيف فانتضاه وضرب به عبد عظيم الكهنة فأخذ أذنه اليمنى فقال له المسيح اكفف ولمس أذن العبد فبرئت فحينئذ قيض الجماعة عليه وأوثقوه وذهبوا إلى حيث أرادوا
وإن أردت معرفة تتمة المسألة فارجع إلى الأناجيل الأربعة وإن كان فيها من الاضطراب في سوق هذه القضية ما لا مزيد عليه والأولى الرجوع إليها مع مراجعة ما قاله مفسروها وكنت أحببت أن أوردها بتمامها على وجه يرتفع به اللبس إليه لتسكن النفس غير أن ذلك يقتضي بسطا زائدا لا يسعد عليه هذا الموضع
ولنرجع إلى امر يهوذا فنقول ذكر في إنجيل متى أنه يهوذا لما رأى المسيح قد دفن ندم وذهب إلى رؤساء الكهنة وإلى المشايخ وأعاد لهم ما أخذ وقال لهم إني أخطأت بتسليمي إنسانا برا فقالوا ماذا علينا أنت أخبر وطرح ما أخذه في الهيكل وذهب فخنق نفسه وأما ما أعاده من المال فقد اشترى الرؤساء به حقل الفخار وجعلوه مقبرة للغرباء
قال مفسروه إن يهوذا لما رأى اليهود قد حكموا عل المسيح بالهلاك ولم يكن يظن أن الأمر يصل إلى هذا الحد ذهب إلى الرؤساء وقال لهم ما قال وأعاد لهم ما أخذه من المال راجيا بذلك أن يطلقوه فلما لم يجيبوه إلى ما سأل خنق نفسه
هذا ولما ارتاب بعض علمائنا في أمر يهوذا تراءى لهم أنه هو الذي ألي عليه شبه المسيح فأخذ وصلب ولقي جزاء عمله غير أن الذين كانوا يتلقفون أخبار المسيح عليه السلام من كل فم لما لم يقفوا له على عين ولا أثر ظنوا انه هلك أو اهلك نفسه فلفقوا هذا القول بناء على ما وقع في نفوسهم ومثل ذلك لا يحصى وهذا القول أقوى الأقوال التي قالها من ذهب إلى ان المصلوب كان يشبه المسيح عليه السلام بحيث إن من رآه وكان يعرفه من قبل قال إنه هو أو كأنه هو
والقول بالشبه المذكور هو المشهور عند الجمهور وقد أنكره عليهم الجمهور الأمم من غير المسلمين وقد وافقهم على الإنكار ابن حزم مع أن جميع أرباب الملل يقولون بجواز خرق العادة وهذا من أقرب الأمور جوازا في العقل لا سيما إن قضت الحكمة بوقوعه كالمسألة التي نحن بصددها وليس في ذلك ما يوجب إبطال الحقائق
على انه تقرر في علم الكلام أن الحواس قد تغلط في بعض الأحيان وأن ذلك لا يرفع الاطمئنان إلى ما أدركته في سائر الأحيان ومثل ذلك العقل فأي محذور يحصل أن قيل وعلى ذلك إن المسيح عليه السلام لما أراد اليهود إهلاكه لأنه كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على اتباع الحق والسلوك في مهج الصدق ألقى الله شبهه على رجل مارق منافق مستحق للهلاك فأخذ وصلب وهو بذلك حري ونجا من غوائلهم ذلك البر البري
وذكر مفسرو الأناجيل أن المسيح عليه السلام لما أراد الجماعة القبض عليه أظهر ثلاث آيات
الأولى إمساكه أبصارهم حتى لم يعرفوه مع أن ذلك الخائن جعل لمعرفته علامة وكان كثير منهم يعرفه ويؤيد ذلك أنه لما قال لهم من تطلبون ل يقولوا إننا نطلبك بل قالوا عيسى الناصري وذلك لعدم معرفتهم له
الثانية وقوعهم على ظهورهم إلى الأرض بمجرد قوله أنا هو
الثالثة إرجاعه أذن العبد التي قطعها بطرس فانظر كيف أثبتوا أخذ المسيح بأبصار القوم حتى جهله من كان يعرفه فلو أراد المسيح حينئذ أن يتركهم وشأنهم ويذهب حيث شاء لأمكن
فإن قلت لعلع خاف أن يلقوا القبض على تلامذته ظنا أنه بينهم قلت لا خوف في ذلك فإنه تظهر لهم في أقرب مدة حقيقة الحال فيطلقونهم وهم لا مأرب لهم فيما عداه إلا أن نقول لعل اللجاج والعناد يحملهم على دعوى أنه بينهم فيعمدوا إلى أحدهم فيهلكوه لئلا يقال إنه صعد إلى السماء أو نجا منهم بقوة ربانية
وذكروا أيضا أن المسيح أخذ بأبصار اليهود فلم يروه قبل هذه المرة وذلك أنه كان ذات يوم يمشي في الهيكل في رواق سليمان فأحدقت به اليهود وقالوا له حتى متى تعذب نفوسنا فإن كنت المسيح فقل لنا علانية فأجابهم بما أثار غضبهم فتناولوا حجارة ليرجموه فلم يستطيعوا ثم جرت بينهم محاورة أخرى أفضت إلى العزم في إمساكه فخرج من بين أيديهم قالوا فخروجه من بين أيديهم إنما أمكن لكونه حجب أبصارهم فلم يروه
فإن قلت إن المسيح عليه السلام لعله أراد أن ينال على أيديهم الشهادة لتكون له الحسنى وزيادة قلنا لا يسوغ ذلك على هذه الصفة قال تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وهذا من الأمور المحكمة التي اتفقت فيها الشرائع على اختلافها وقد ذكر في الأناجيل أن المسيح عليه السلام كان في الليلة التي قصده فيها القوم يتضرع إلى الله تعالى كثيرا ويسأله أن ينجيه من مكايد أعدائه وكان شديد الحزن والاكتئاب وهذا ينافي أن يكون مريدا للاستسلام لهم
هذا وإن طريقة ابن حزم طريقة معقولة وهي وإن كانت بعيدة في نظر
قوم فهي قريبة في نظر آخرين ممن خبروا أحوال الناس ودققوا النظر في أمر الحوادث وأكثروا من النظر في التاريخ وبحثوا عن أسباب المسائل وعللها ليقفوا على حقائقها ودقائقها
وهنا أمر ينبغي التنبه له وهو أن اليهود في ذلك العصر لم يكونوا مستبدين بأمرهم بل كانوا تحت حكم ملوك الروم وكان ملك الروم حينئذ طيباريوس وهو الذي بنيت في عهده مدينة طبرية ونسبت إليه وكان الوالي عليهم من قبله بيلاطوس قال سعيد بن البطريق في نظم الجوهر وملك طيباريوس قيصر برومية وللمسيح خمس عشرة سنة وكان لقيصر هذا صديق يقال له بلاطس من قرية على شط البنطس ولذلك يسمى بلاطس البنطي فولاه على أرض يهوذا
قال وفي خمس عشرة سنة من ملك طيباريوس هذا ظهر يحيى بن زكريا المعمداني فعمد اليهود في الأردن ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة ثم قال وكتب بلاطس إلى طيباريوس الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعله تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية فلم يتابعه أصحابه على ذلك وملك اثنين وعشرين سنة وستة أشهر
وبيلاطوس المذكور هو الذي ادعى رؤوس اليهود عنده أن المسيح عليه السلام كان يضل شعبهم ويدعي بأنه هو المسيح ملك اليهود وأنه كان يمنع الناس من أداء الجزية لقيصر وطلبوا منه أن يصلبه وإنما لم يتولوا هم المر بأنفسهم لأسباب
الأول انه لم يكن يسوغ أن يقتلوا أحدا ممن حكموا عليه بالقتل دون موافقة الروم وما وقع منهم مرارا من القيام على المسيح وإرادة رجمه فإنما ذلك من قبيل ما يحصل أحيانا من حكام الرعايا حين اشتداد غضبها وكثيرا ما تتغاضى الحكام عن ذلك إذا لم تخش ضررا منه
الثاني أنهم كانوا يخافون من الشعب فإن كثيرين منهم كانوا يميلون إلى
المسيح عليه السلام فإذا تولى الحاكم ذلك ووقع من الشعب فتن أمكنه تسكينها بواسطة الجند
الثالث أن ما ادعوه على المسيح عليه السلام من أنه كان يفتري على الله كذبا ويضل الناس لو صح وثبت فإنه يقتضي بموجب شرعهم الرجم لا الصلب وهم يريدون أن يصلب لاعتقادهم أن الصلب أدعى لزجر الناس عن اتباعه وفيه شفاء غليلهم ما ليس في غيره من انواع القتل
وقد ذكر في الأناجيل أن بيلاطوس المذكور لما سلمه رؤساء اليهود المسيح عليه السلام وطلبوا منه إهلاكه سأله عما اتهموه له فتبين له افتراؤهم وعرف أنهم إنما أسلموا حسدا وبغيا وتعجب جدا وقال لهم إني لم أجد له علة توجب هلاكه حرص على إطلاقه غير انهم أصروا على ما طلبوا منه وحرضوا جمهور الناس على ذلك فاحب إرضاءهم فأمر الشرط بان يذهبوا به ويجروا ما يرضي أولئك القوم
وقد اختلف المفسرون في أمر بيلاطوس فقال بعضهم إنه كان في الباطن يميل إلى قتل المسيح ولذلك بادر إلى إمضائه مع أن في يده إطلاقه حالا فضلا عن إبقائه في السجن إلى أن يتروى في أمره مدة ويجري بعد ذلك ما يقتضيه الحال ويدل على ذلك قوله للمسيح عليه السلام لما سأله فلم يجبه مالك لا تكلمني ألا تعلم أن لي سلطانا على ان أطلقك ولي سلطان على أن أصلبك
وقال أكثرهم لم يكن بيلاطوس يميل إلى الباطن إلى قتل المسيح عليه السلام ويدل على ذلك أشياء
الأول ما ظهر منه من تبرئة المسيح وذبه عنه بقدر ما استطاع
الثاني رؤيا زوجته فإنها أرسلت إليه وهو في مجلس الحكم والمسيح عنده مع القائمين عليه تقول إياك وذلك الصديق لأني رأيت في الحلم من أجله أمورا مزعجة كثيرا وقد اختلفوا في هذا الحلم فقال بعضهم هو من الشيطان ليخلص المسيح فيبقى العالم بغير فداء وقال بعضهم هو من ملك ليشهد الرجال والنساء بكمال المسيح
الثالث خوف ثورة الشعب فإن كثيرا منهم كانوا يميلون إلى المسيح عليه السلام والولاة أبعد الناس عن إثارة الشعب بدون عابث قوي لذلك وهذا الوالي كان من عباد الأوثان ولم يكن لليهود عنده من حيث الدين شأن ولذلك كان القائمون عليه عازمين في أول الأمر على ان يمسكوه ويقتلوه غيلة وأن يكون ذلك في غير العيد لكثرة اجتماع الناس فيه فلما جاءهم يهوذا الخائن غيروا رأيهم واعتقدوا أن الفرصة قد ساعدت وعزموا على ان يكون ذلك على يد الحاكم لأنه أقرب إلى السلامة من الشعب إن ثار ففعلوا ما فعلوا
الرابع ما ذكر عنه من أنه كتب من بعد إلى طيباريوس ملك الروم بخبر المسيح وما وقع له من الآيات وبخبر تلاميذه وما يقع على أيديهم من العجائب غير أن كثيرا منهم توقف في صحة هذا الخبر وقال إنه كان عزم على ذلك غير انه خشي ان يعود عليه ذلك بالضرر حيث قتل المسيح بغير حق
وقد ورد على هذا الفريق إشكال وهو أن يقال إذا كان هذا الوالي يميل إلى إطلاق المسيح والبواعث على ذلك كثيرة فلم لم يطلقه
وقد أجابوا عن ذلك بأن بيلاطوس كان عزم على إطلاقه فصاح اليهود به وقالوا إن تطلق هذا فما أنت بمحب لقيصر لأن من يجعل نفسه ملكا يكون عدوا لقيصر فارتاع بيلاطوس وخشي بطش قيصر إن بلغه ذلك فأسلم المسيح إلى ما أسلمه إليه
وفي هذا الجواب ضعف لأنه يمكنه حينئذ أن يضع المسيح في السجن ويكتب إليه بحقيقة الحال وينتظر ما يأمر به فيجري عليه
وقال بعضهم فعل ما فعل تخلصا من شغب الشعب فإن الرؤساء حرضوهم على الاجتماع عند دار الحكم وأن يلحوا في طلب إهلاكه فكان كلما قال لهم أي شر صنع هذا يزدادون صياحا قائلين ليصلب فلما رأى أن ذلك لا يفيد شيئا بل تزداد الجلبة كلما حاولهم غسل يديه أمامهم وقال أنا بريء من دم هذا
الصديق أنتم أخبر فصاحوا كلهم قائلين دمه علينا وعلى أولادنا وأسلمه إلى الجند لينفذوا الحكم عليه
قال بعض القسيسين فإن قيل يجوز للوالي أن يخضع لرأي الشعب كله في مثل هذا الأمر فالجواب لا بل يجب على الحاكم أن يحتمل ألف ميتة ولا يحيد عن منهج العدل وإذا جمع بين العلتين يكون الجواب أقوى
واعلم أن مسألة الصلب إنما أهمت النصارى مع ضعف مأخذها عندهم لبنائهم أكثر أمور دينهم عليها ونسبتهم أكثر أسراره إليها حتى إنهم ينكرون على منكرها أكثر مما ينكرون على منكر التثليث
وقد بقي في مباحث المتواتر مسائل أخرى مهمة تركناها لأنها مما يهتدي إليها اللبيب بنفسه إذا أمعن فيها النظر
الفصل السادس
في أقسام الحديث قبل الخوض في ذلك ينبغي الوقوف على مسألتين
المسألة الأولى أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر لاستغنائه بالتواتر عن يراد سند له حتى إنه إذا اتفق له سند لم يبحث عن أحوال رواته لما سبق بيانه في المسألة السابعة من الفصل الخامس
فقول المحدثين إن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف يريدون به الحديث المروي من طريق الآحاد وأما الحديث المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة
وقد ألحق بعضهم المستفيض بالمتواتر فجعله أيضا خارجا عن مورد القسمة وقد نقلنا فيما مضى أقوالا في حد المستفيض وقد وقفت الآن على أقوال أخر ذكرها بعض من ألف في القواعد الفقهية فأحببت إيراد خلاصة ذلك قال
قد اقتضى كلام قوم أن المستفيض خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب وكلام قوم أنه خبر جمع يفيد ظنا فوق الظن المجرد وقال بعضهم إنه خبر جمع كثير يقع العلم أو الظن بقولهم
وقال بعض الفقهاء لا تقبل الشهادة بالاستفاضة إلا في مسائل منها النسب والوقف وولاية الوالي وعزله وقال بعضهم إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس لم يحتج إلى البحث والسؤال عنه
وينبغي التنبه لأمر وهو أنه لا يجوز الجرح بمجرد الشيوع والانتشار بل لا بد مع ذلك من حصول العلم فإذا لم يحصل العلم لم يجز الاعتماد عليه وهتك أعراض الناس به وقد صرح بذلك الغزالي وهو الحق لأنه مما يمكن الوقوف عليه وإذا وقع لم يحصل فيه لبس فلا يقع فيه بما لا يفيد العلم من الاستفاضة والاستفاضة تحصل بأقل جموع الكثرة وهو أحد عشر فمن زعم استفاض بدونها فهو ذاهل
وشرط العمل بالاستفاضة أن لا عارض باستفاضة مثلها فإن عورضت بطل حكمها لأنا إن شرطنا في الاستفاضة العلم فالمعارضة تدل على انه لا استفاضة من الجانبين لأن القاطعين لا يتعارضان وإن اكتفينا بالظن فليس أحد الظنين بأولى من مقابله
واعلم أن الشيء الذي لا تنضبط أسباب الاطلاع عليه إذا أثارت أسبابه لبعض العارفين ظنا يسوغ له الشهادة لم يسغ له أن يصرح به عند الحاكم لن من الجائز أن لا يتبين له الظن الذي ثار عند الشاهد لا سيما إن قامت عند الشاهد إشارات تقصر عنها العبارات ومن ثم قالوا فيما يشهد فيه بالاستفاضة إن الشاهد لو صرح بأن مستنده الاستفاضة لم يقبل لأنه أضعف قوله بذكر مستنده ا هـ
وقد تبين من عباراتهم المخلفة أن من العلماء من يجعل المستفيض مرادفا للمتواتر ومنهم من يجعله أعلم منه بحيث يقال كل متواتر مستفيض وليس كل مستفيض متواترا ومنهم من يجعله قسما على حدة غير انه دون المتواتر وفوق المشهور وهذا هو المشهور
والمقصود بما ذكرنا التنبيه على اختلاف الاصطلاح فيه ليعرف المطالع إذا رأى توارد الأحكام المختلفة عليه أن ذلك إنما هو لاختلاف اصطلاح المصطلحين فيه لا لأمر آخر
المسالة الثانية قد سبق ذكر معنى السند والإسناد وقول ابن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقد دعا الحال إلى أن نذكر هنا معنى المسند وما يناسبه فنقول
قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر والمسند في قول أهل الحديث هذا حديث مسند هو مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال
فقولي مرفوع كالجنس وقولي صحابي كالفصل يخرج به ما رفعه التابعي فإنه مرسل أو من دونه فإنه معضل أو معلق وقولي ظاهرة الاتصال يخرج ما ظاهره الانقطاع ويدخل ما فيه الاحتمال وما يوجد فيه حقيقة الاتصال من باب الأولى ويفهم من التقييد بالظهور أن الانقطاع الخفي كعنعنة المدلس والمعاصر الذي لم يثبت لقيه لا يخرج الحديث عن كونه مسندا لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذلك
وهذا تعريف موافق لقول الحاكم المسند ما رواه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه وكذا شيخه عن شيخه متصلا إلى صحابي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما الخطيب فقال المسند المتصل فعلى هذا الموقوف إذا جاء بسند متصل يسمى عنده مسندا لكن قال إن ذلك قد يأتي لكن بقلة
وأبعد ابن عبد البر حيث قال المسند المرفوع ولم يتعرض للإسناد فإنه يصدق على المرسل والمعضل والمنقطع إذا كان المتن مرفوعا ولا قائل به ا هـ
قال بعض العلماء ينبغي أن يراد بموافقة تعريفه لتعريف الحاكم الموافقة في الجملة وإلا فالمتبادر من تعريف الحاكم اختصاص المسند بما اتصل فيه السند حقيقة وقد صرح باشتراط عدم التدليس في رواته نعم إن أرباب المساند لم يتحاموا فيها تخريج معنعنات المدلسين ولا أحاديث من ليس له من النبي صلى الله عليه و سلم إلا مجرد الرؤية
وقد عرفت بما ذكر أن للعلماء في معنى المسند ثلاثة أقوال
القول الأول قول من قال ن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبه جزم الحاكم في كتابه في علوم الحديث ولم يذكر فيه غيره وحكاه الحافظ ابن عبد البر في كتاب التمهيد عن قوم من أهل الحديث
وهذا القول هو المشهور وبه يحصل الفرق بين المسند وبين المتصل والمرفوع وذلك أن المرفوع نظر فيه إلى حال المتن مع قطع النظر عن الإسناد اتصل أم لم يتصل والمتصل نظر فيه إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن مرفوعا كان أم موقوفا والمسند نظر فيه إلى الأمرين وهما الرفع والاتصال فيكون أخص من كل منهما فكل مسند مرفوع وكل مستند متصل وليس كل مرفوع مسندا ولا كل متصل مسندا
القول الثاني قول من قال المسند هو الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه ذكره الخطيب نقلا عن جمهور أهل الحديث قال ابن الصلاح وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم
وعلى ذلك يدخل فيه المرفوع والموقوف فلا يكون بينه وبين المتصل فرق إلا من جهة ان المتصل يستعمل في المرفوع والموقوف على حد سواء بخلاف المسند فإنه يستعمل في المرفوع كثيرا وفي الموقوف قليلا غير أن كلام الخطيب يقتضي دخول المقطوع فيه وهو قول التابعين وكذا قول من بعد التابعين وكلام أهل الحديث يأباه
القول الثالث قول من قال المسند ما رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وهو قد يكون تصلا مثل مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد يكون منقطعا مثل مالك عن الزهري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا مسند لأنه قد أسند إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من ابن عباس قاله ابن عبد البر في التمهيد
فعلى هذا يستوي المسند والمرفوع وقد جرى على ذلك الدارقني في قوله في سعيد بن جبير بن حية الثقفي إنه ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها وغيره يقفها
هذا وقد استشكل بعضهم ما ذكر في القول الأول من قولهم كل مسند تصل وليس كل متصل مسندا فقال إن المسند غنما يطلق على المتن والمتصل إنما يطلق على السند فكيف يسوغ حمل أحدهما على الآخر
ويمكن أن يجاب بأن المراد بقولهم كل مسند متصل أن كل حديث مسند فهو متصل الإسناد وبقولهم ليس كل متصل مسندا أنه ليس كل ما كان متصل الإسناد مسندا وذلك لكونه بعضه ليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وما لا يكون مرفوعا إليه لا يقال له مسند فيصح الحمل في الموضعين على الوجه الذي ذكر
ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى وليس في ذلك تعقيد لتبادر المعنى المراد إلى الذهن ومن وقف مع ظواهر الألفاظ حار في أكثر المواضع
والمراد بالمتصل ما لم يسقط فيه أحد من رجاله ويسمى عدم السقوط اتصالا ويقابل المتصل المنقطع وهو ما سقط فيه واحد من رجاله أو أكثر
تنبيه لا يقال المتصل في حال الإطلاق إلا في المرفوع والموقوف وأما في حال التقييد فيسوغ أن يقال في المقطوع وهو واقع في كلامهم يقولون هذا متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري أو إلى مالك
ولنذكر تفسير هذه الألفاظ فنقول
المرفوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من أقواله وأفعاله أو تقريره سواء أضافه إليه صحابي أو تابعي أو من بعدهما وسواء اتصل إسناده أم لا
وقال الخطيب المرفوع ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه و سلم أو فعله فعلى هذا لا يدخل فيه ما أرسله التابعون ومن بعدهم قال الحافظ ابن الصلاح ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصل
والموقوف ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم وسمي موقوفا لأنه وقف عليهم ولم يتجاوز به إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم إن منه ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي فيكون من الموقوف الموصول ومنه ما لا يتصل إسناده إليه فيكون من الموقوف المنقطع على حسب ما عرف مثله في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وشرط الحاكم في الموقوف أن يكون إسناده غير منقطع إلى الصحابي وهو شرط لم يوافقه عليه أحد وما ذكر من تخصيص الموقوف بالصحابي إنما هو فيما إذا كر مطلقا وإلا فقد يستعمل في غير الصحابي يقال هذا موقوف على عطاء أو على طاوس أو وقفه فلان على مجاهد ونحو ذلك
وقد سمى بعض الفقهاء الموقوف بالأثر وأما المحدثون فجمهورهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف وعلى ذلك جرى الطحاوي في تسمية كتابه المشتمل عليهما بشرح معاني الأثر وكذلك أبو جعفر الطبري في تسمية كتابه المشتمل عليهما بتهذيب الآثار إلا أن إيراده للموقوف فيه إنما كان بطريق التبعية
والمقطوع ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم
وقد استعمل الإمام الشافعي ثم الطبراني المقطوع في المنقطع الذي لم يتصل إسناده ووقع في كلام الحميدي والدارقطني إلا أن الشافعي استعمل ذلك قبل استقرار الاصطلاح كما استعمل الحسن في بعض الأحاديث وهي على شرط الشيخين
ووقع للحافظ أبي بكر أحمد البردعي عكس هذا فاستعمل المنقطع في المقطوع حيث قال المنقطع هو قول التابعي وحكى الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله قال ابن الصلاح وهو بعيد غريب
فائدة قال الحافظ السيوطي جمع أبو حفص ابن بدر الموصلي كتابا سماه معرفة الوقوف على الموقوف أورد فيه ما أورده أصحاب الموضوعات في مؤلفاتهم فيها وهو صحيح عن غير النبي صلى الله عليه و سلم إما عن صحابي أو تابعي فمن بعده وقال إن إيراده في الموضوعات غلط فبين الموضوع والموقوف فرق ومن مظان الموقوف والمقطوع مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم ا هـ
ولنشرع في بيان أقسام الحديث فنقول قلا الإمام أبو سليمان أحمد الخطابي الحديث عند أهله ثلاثة أقسام صحيح وحسن وسقيم
فالصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته
والحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدرا أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامة الفقهاء
والسقيم على ثلاث طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول
قال العراقي في نكته لم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه المذكور وإن كان في كلام المتقدمين ذكر الحسن هو موجود في كلام الشافعي والبخاري وجماعة ولكن الخطابي نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه ابن الصلاح
وأراد الخطابي بأهل الحديث في قوله الحديث عند أهله ثلاثة أقسام أكثرهم ويمكن إبقاؤه على عمومه نظرا لاستقرار اتفاقهم على ذلك بعد الاختلاف
وقد اعترض بعضهم على هذا التقسيم بأنا إن نظرنا إلى نفس الأمر فما ثم إلا صحيح وغير صحيح وإن نظرنا إلى اصطلاح المحدثين فهو ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك وأجابوا بأن هذا التقسيم مبني عل اصطلاح المحدثين والأقسام التي أشار إليها راجعة إلى هذه الثلاثة
وأما المتقدمون فقد كان أكثرهم يقسم الحديث إلى قسمين فقط صحيح وضعيف وأما الحسن فذكر بعض العلماء أنهم كانوا يدرجونه في الصحيح لمشاركته له في الاحتجاج به
وذكر العلامة ابن تيمية أنهم كانوا يدرجونه في الضعيف قال في منهاج السنة النبوية أما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه
وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح وإما ضعيف والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك فتكلم أئمة الحديث بلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف لا اصطلاح الترمذي فسمع بعض قول الأئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقه من يرى أنه اتبع للحديث الصحيح وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان
هذا وقد رأينا أن نورد كل قسم من الأقسام الثلاثة في مبحث وجل ما نذكره في الغالب مأخوذ من كلام مهذب هذا الفن الحافظ عثمان بن الصلاح أو كلام من اقتفى أثره من بعده من المختصرين لكلامه أو المستدركين عليه مع التصرف في بعض المواضع إن دعت الحال إليه
المبحث الأول
في الحديث الصحيح الحديث الصحيح هو الحديث الذي يكون متصل الإسناد من أوله إلى منتهاه بنقل العدل الضابط عن مثله ولا يكون فيه شذوذ ولا علة
فخرج بقولهم الذي يكون متصل الإسناد ما لم يتصل إسناده وهو المنقطع والمرسل والمعضل وبقولهم بنقل العدل ما في سنده من لم تعرف عدالته وهو من عرف بعدم العدالة أو من جهلت حاله أو لم يعرف من هو وبالضابط غير الضابط وهو كثير الخطأ فإن ما يرويه لا يدخل في حد الصحيح وإن عرف هو بالصدق والعدالة وبقولهم ولا يكون فيه شذوذ ما يكون فيه شذوذ والشذوذ مخالفة الثقة في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين وبقولهم ولا علة ما يكون فيه علة
والمراد بالعلة هنا أمر يقدح في صحة الحديث ولما كان من العلل ما لا يقدح في ذلك قيد بعضهم العلة بالقادحة فقال ولا علة قادحة ومن أطلق العبارة اكتفى بدلالة الحال على ذلك ولكل وجهة وقد زاد بعضهم في تقييد العل فقال ولا علة خفية قادحة والأولى ترك هذه الزيادة لأنها توهم أن العلة الظاهرة لا تؤثر مع أنها أولى بالتأثير من العلة الخفية والعلة الظاهرة مثل ضعف الراوي أو عدم اتصال السند
وقد اعتذر بعضهم عن ذلك فقال إنما قيد العلة بالخفية لأن الظاهرة قد وقع الاحتراز عنها في أول التعريف وهو مما لا يجدي نفعا
واختصر بعضهم هذا التعريف فقال الحديث الصحيح ما اتصل سنده
بنقل عدل ضابط عن مثله وسلم من شذوذ وعلة فأورد عليه بأن الاختصار يقتضي أن يقال بنقل ثقة عن مثله فإن الثقة هو الجامع بين وصف العدالة والضبط وأجيب عن ذلك بأن الثقة قد يطلق على من كان مقبولا وإن لم يكن تام الضبط والمعتبر في حد الصحيح إنما هو تام الضبط ولذا فسروا الضابط في تعريفه بتام الضبط
وما ذكر هو حد الحديث الذي يحكم له بالصحة أهل الحديث بلا خلاف بينهم وأما اختلافهم في صحة بعض الأحاديث فهو إما لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه وإما لاختلافهم في اشتراط هذه الوصاف كما في المرسل
وإنما قيد نفي الخلاف بأهل الحديث لأنه قد نقل عن أناس من غيرهم أنهم لم يكتفوا بما ذكر في صحة الحديث 3فقد نقل عن إبراهيم بن إسماعيل بن علية أنه جعل الرواية مثل الشهادة فلم يقبل ما ينفرد به الراوي العدل الضابط وشرط في قبول الحديث أن يرويه اثنان عن اثنين وهو من الفقهاء المحدثين إلا أنه غير مقبول القول عند الأئمة لميله إلى الاعتزال وقد كان الشافعي يرد عليه ويحذر منه
ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة انه قال لا يقبل الخبر إذا رواه العدل إلى إذا انضم إليه خبر عدل آخر أو عضده موافقة ظاهر الكتاب او ظاهر خبر آخر أو يكون منتشرا بين الصحابة أو عمل به بعضهم كى ذلك أبو الحسين البوصيري في المعتمد
قال الغزالي إن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية كل واحد
إلا من رجلين آخرين وإلى ما ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا
وقال الفخر الرازي رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين مقبولة وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل بعض أصحابه أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم
وقد نقل عن بعض أصحاب الحديث أيضا أنهم اشترطوا التعدد في الراوي وكأن الناقل أخذ ذلك من كلام الحاكم
فقد قال في كتاب علوم الحديث وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم وله راويان ثقتان ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية وله رواة ثقات وقال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل الصحيح من الحديث عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف عليها
فالأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح وهو أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم له راويان ثقتان فأكثر يم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من اتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك قال الحاكم والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث
القسم الثاني مثل الأول إلا أن رواته من الصحابة ليس له إلا راو واحد
القسم الثالث مثل الأول إلا أن رواته من التابعين ليس له إلا راو واحد
القسم الرابع الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول
القسم الخامس أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإياس بن معاوية عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات
قال الحاكم فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة فيحتج بها وإن لم يخرج منها في الصحيحين حديث يعني غير القسم الول قال والخمسة المختلف فيها المرسل وأحاديث المدلسين إذ لم يذكروا سماعهم وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين انتهى كلام الحاكم
فقد جعل ما ذكره في علوم الحديث شرطا للصحيح مطلقا وجعل ذلك في المدخل شرطا للصحيح عند الشيخين
وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى من أنه شرط الشيخين بما في الصحيح من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راو في الكتابين يشترط أن يكون له راويان لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه
وقال أبو علي الغساني ونقله عنه القاضي عياض ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه ثم عن تابعيه فمن بعده فغن ذلك يعز وجوده وإنما المراد أن هذا الصحابي وهذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة
قال أبو عبد الله بن المواق مت حمل الغساني عليه كلام الحاكم وتبعه عليه عياض وغيره ليس بالبين ولا أعلم أحدا روى عنهما انهما صرحا بذلك ولا وجود له في كتابيهما ولا خارجا عنهما
فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح لتصرفهما في كتابيهما فلم يصب لأن الأمرين معا في كتابيهما وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريا في كتابيهما فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه ولعل وجود ذلك أكثريا إنما هو لن من روى عنه أكثر من واحد أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد في الرواة مطلقا لا بالنسبة إلى من خرج لهم في الصحيحين
وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط من غير أن يثبت عنهما ذلك مع وجود إخلالهما به أنهما إذا صح عنهما اشتراط ذلك كان في إخلالهما به درك عليهما
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في شرح الموطأ كان مذهب الشيخين أن الحديث لا يثبت حتى يرويه اثنان وهو مذهب باطل بل رواية الواحد عن الواحد صحيحه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال في شرح البخاري عند حديث إنما الأعمال بالنيات انفرد به عمر وقد جاء من طريق أبي سعيد رواه البزار بإسناد ضعيف
قال وحديث عمر وإن كانت طريقة واحدة فإنما بنى البخاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد فهذا الحديث ليس من ذلك الفن لأن عمر قاله على المنبر بمحضر الأعيان من الصحابة فصار كالمجمع عليه فكأن عمر ذكرهم لا أخبرهم
ال ابن رشيد العجب منه كيف يدعي عليهما ذلك ثم يزعم انه مذهب باطل فليت شعري من اعلمه بأنهما اشترطا ذلك إن كان منقولا فليبين طريقة لننظر فيها وغن كان عرفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك ولقد كان يكفيه في في ذلك أول حديث في البخاري
وما اعتذر به عنه فيه تقصير لأن عمر لم ينفرد به وحده بل انفرد به علقمة عنه وانفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة وانفرد به يحيى بن سعيد بن محمد وعن يحيى تعددت رواته وأيضا فكون عمر قاله على المنبر لا يستلزم أن يكون كر السامعين بما عندهم بل هو محتمل للأمرين وإنما لم ينكروه أنه عندهم ثقة فلو حدثهم بما لم يسمعوه قط لم ينكروا عليه
وقد ادعى الحافظ ابن حبان أن رواته اثنين عن اثنين إلى ان ينتهي السند لا توجد أصلا قال بعض المحققين إن أراد أو رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلا فيمكن أن يسلم وأما صورة العزيز فموجودة والعزيز عندهم هو الذي يكون في طبقة من طبقاته اثنان من الرواة فقط وتكون الرواة في سائر طبقاته ليست أقل من اثنين فيشمل ما كان في سائر طبقاته اثنان أو أكثر
والذي أنكره ابن حبان هو رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي السند فإنكاره ذلك لا يستلزم إنكار الحديث العزيز الذي قرره المحدثون وإنما أنكر نوعا منه وعبارته لا تحتمل غير ذلك
وها هنا أمر ينبغي الانتباه له وهو أن ظاهر عبارة ابن العربي تشعر بأن الشيخين يشترطان التعدد حتى في الصحابة وظاهر عبارة الحاكم تشعر بخلاف ذلك
والمشهور عند المحدثين أنهم لم يشترطوا في المشهور فضلا على العزيز التعدد في الصحابة نعم قد اشترط ذلك أبو علي الجبائي ومن نحا نحوه وقد توهم بعضهم أن الحاكم قد نحا في كتابه علوم الحديث منحى أبي علي
على أن كثيرا من العلماء قال إن عبارته المذكورة لا تدل على أن الحديث المروي يجب أن يجتمع في راويان عن الصحابي الذي رواه ثم عن تابعيه فمنة بعده وإنما تدل على ان كلا من الصحابي والتابعي ومن بعده قد روى عنه رجلان
خرج بهما عن حد الجهالة ليعلم أن الحديث قد رواه المشهورين بالرواية
وأغرب مما قاله ابن العربي وإن كان لا يستغرب منه ذلك لجريه على عادته في عدم التثبت وإقدامه على ما لا قدم له فيه وتهويله على مخالفيه قول أبي حفص عمر الميانجي في كتاب ما لا يسع المحدث جهلة شرط الشيخين في صحيحهما أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما وذلك ما رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم اثنان فصاعدا وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر وان يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة
هذا وقد اعترض بعض المحققين من أهل الأثر على ما ذكره الحاكم في المدخل من أن الشيخين إنما خرجا من الأقسام الخمسة المتفق عليها عند أئمة الحديث القسم الأول الذي هو الدرجة الأولى من الصحيح وأما الأقسام الأربعة الباقية فإنهما لم يخرجا منها في الصحيحين حديثا فإن البحث والتتبع أدياه إلى أن فيهما شيئا من كل واحد منها
أما القسم الثاني وهو ما ليس لراويه من الصحابة غير راو واحد مثل حديث عروة بن مضرس الذي ليس له غير الشعبي ففيهما منه جملة من الأحاديث
وأما القسم الثالث وهو ما ليس لراويه من التابعين إلا راو واحد مثل محمد بن جبير وعبد الرحمن بن فروخ ففيهما قليل من ذلك كعبد الله بن وديعة وعمر بن محمد بن جبير بن مطعم
وأما القسم الرابع وهو الأحاديث الأفراد الغرائب التي ينفرد بها ثقة من الثقات ففيهما كثير منه لعله يزيد على مئتي حديث وقد أفردها الحافظ ضياء الدين المقدسي وهي المعروفة بغرائب الصحيح
وأما القسم الخامس وهو أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كعمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإياس بن معاوية بن مرة عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات فليس المانع من إخراجهما هذا القسم في صحيحهما كون الرواية وقعت عن الأب عن الجد بل لكون الراوي أو أبيه ليس على شرطهما وإلا ففيهما أو في أحدهما من ذلك رواية علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده ورواية محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده ورواية أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده ورواية الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما عن جدهما وغير ذلك
وأما الخمسة المختلف فيها فيظن في بادئ الرأي أنه ليس في الصحيحين منها شيء وليس الأمر كذلك
أما القسم الأول منها وهو مرسل والقسم الثاني وهو أحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم فليس فيهما من ذلك شيء
وأما القسم الثالث وهو ما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات ففي الصحيحين عدة أحاديث اختلف في وصلها وإرسالها
وأما القسم الرابع وهو روايات الثقات غير الحفاظ العارفين فهو متفق على قبوله والاحتجاج به إذا وجدت شرائط القبول وليس هو من قبيل المختلف فيه ولا يبلغ الحفاظ العارفون نصف رواة الصحيحين وليس يشترط في الراوي أن يكون حافظا
وأما القسم الخامس وهو روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين فهو كما ذكر من الاختلاف فيه وقد وقعت فيهما أحاديث عن جماعة من المبتدعة عرف صدقهم واشتهرت معرفتهم بالحديث فلم يطرحوه للبدعة
ومن الأقسام المختلف فيها رواية المجهول فقد قبلها قوم وردها آخرون
وقد بقي للصحيح شروط قد اختلف فيها
فمنها ما ذكره الحاكم في علوم الحديث من كون الراوي مشهورا بالطلب
وليس مراده الشهرة المخرجة عن الجهالة بل قدر زائد على ذلك قال عبد الرحمن بن عون لا يؤخذ العلم إلا عمن شهد له بالطلب وعن مالك نحوه وفي مقدمة صحيح مسلم عن أبي الزناد قال أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله
قال الحافظ ابن حجر والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك إلا إذا كثرت مخارج الحديث فيستغنيان عن اعتبار ذلك كما يستغنى بكثرة الطرق عن اعتبار الضبط التام قال ويمكن أن يقال إن اشتراط الضبط يغني عن ذلك إذ المقصود بالشهرة بالطلب أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية لتركن النفس إلى كونه ضبط ما روى
ومنها ثبوت التلاقي بين كل راو ومن روى عنه وعدم الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان التلاقي بينهما وقد اشترط ذلك البخاري قيل إنه لم يذهب أحد إلى أن هذا شرط لكون الحديث صحيحا بل لكونه أصح وقد أنكر هذا الشرط مسلم في صحيحه وشنع على قائله
قال العلامة محيي الدين يحيى النووي في شرحه إن مسلما ادعى إجماع العلماء قديما وحديثا على ان المعنعن وهو الذي فيه فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم مع التدليس
ونقل مسلم عن بعض أهل عصره انه قال لا تقوم الحجة بها ولا تحمل على الاتصال حتى يثبت انهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي إمكان تلاقيهما قال مسلم وهذا قول ساقط مخترع مستحدث لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه وإن القول به بدعة باطلة وأطنب في التشنيع على قائله
واحتج مسلم رحمه الله بكلام مختصرة أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال وكذا إذا أمكن التلاقي
وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون هذا الذي صار إليه ضعيف والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري وغيرهما
وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي فاشترط طول الصحبة بينهما وزاد أبو عمرو الداني المقرئ فاشترط معرفته بالرواية عنه
ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري وموافقوهما أن المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال لأن الظاهر ممن ليس بمدلس أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع ثم الاستقراء يدل عليه فإن عادتهم انهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه إلا المدلس ولهذا رددنا رواية المدلس فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال والباب مبني على غلبة الظن فاكتفينا به
وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ويصير كالمجهول فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله والله اعلم
هذا حكم المعنعن من غير المدلس وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة وهذا كله تفريع على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول أن المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال الانقطاع وهذا المذهب مردود بإجماع السلف ودليلهم ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء والله اعلم
هذا حكم المعنعن أما إذا قال حدثني فلان أن فلانا قال كقوله حدثني الزهري أن سعيد بن المسيب قال كذا أو حدث بكذا أو نحوه فالجمهور على أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم وقال أحمد بن حنبل ويعقوب بن شيبة وأبو بكر البرديجي لا تحمل أن على الاتصال وإن كانت عن للاتصال والصحيح الول وكذا قال وحدث وذكر وشبهها فكله محمول على الاتصال والسماع ا هـ
ومنها ما ذكره السمعاني في القواطع وهو أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط وغنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثر السماع والمذاكرة قال بعضهم إن هذا داخل في اشتراط كونه غير معلول لأن الاطلاع على ذلك إنما يحصل بما ذكر من الفهم والمعرفة وغرهما
واعلم أن هذه المسألة هي من أهم مسائل هذا الفن الجليل الشأن والناظرون في هذا الموضع قد انقسموا إلى ثلاث فرق
الفرقة الأولى فرقة جعلت جل همها النظر في الإسناد فإذا وجدته متصلا ليس في اتصاله شبهة ووجدت رجاله ممن يوثق بهم حكمت بصحة الحديث قبل إمعان النظر فيه حتى إن بعضهم يحكم بصحته ولو خالف حديثا آخر رواته أرجح ويقول كل ذلك صحيح وربما قال هذا صحيح وهذا أصح وكثيرا ما يكون الجمع بينهما غير ممكن
وإذا توقف توقف في ذلك نسبة إلى خالفة السنن وربما سعى في إيقاعه في محنة من المحن مع أن جهابذة هذا الفن قد حكموا بان صحة الإسناد لا تقتضي صحة المتن ولذلك لا يسوغ لمن رأى حديثا له إسناد صحيح أن يحكم
بصحته إلا أن يكون من أهل هذا الشأن لاحتمال أن تكون له علة قادحة قد خفيت عليه وقد وصل الغلو بفريق منهم إلى أن ألزموا الناس بالأخذ بالأحاديث الضعيفة الواهية فأوقعوا الناس في داهية وما أدراك ماهيه وهذه الفرقة هم الغلاة في الإثبات
وأكثرهم من أهل الأثر الذين ليس بهم فيه فضلا عن غيره دقة نظر وقد أشار مسلم إلى ناس منهم يعتدون برواية الأحاديث الضعاف مع معرفتهم بحالها ووصفهم بما هم جديرون به قال في مقدمة كتابه المشهور وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم عقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا
وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين غنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على من سمع بعض تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أن الأخبار الصحاح من رواته الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع
ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن
والضعف إلا ان الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد
ومن ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم ا هـ
الفرقة الثانية فرقة جعلت جل همها النظر في نفس الحديث فإن راقها أمره حكمت بصحته وأسندته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وإن كان في إسناده مقال مع أن في كثير من الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ما هو صحيح المعنى فصيح المبنى غير أنه لم تصح نسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وذكر مسلم في مقدمة كتابه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن رقبة أن أبا جعفر الهاشمي المديني كان يضع أحاديث كلام حق وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم وكان يرويها النبي صلى الله عليه و سلم
قوله كرم حق بنصب كرم على انه بدل من أحاديث يريد به كلاما صحيح المعنى وهو حكمه من الحكم وقد كذب فيه لنسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وهو ليس من كلامه وأبو جعفر هذا قد ذكره البخاري في تاريخه فقال هو عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب أبو جعفر القرشي الهاشمي وذكر كلام رقبة وهو هذا الكلام الذي هنا
وقال بعض الوضاعين لا بأس إذا كان الكلام حسنا أن تضع له إسنادا وحكى القرطبي عن بعض أهل الرأي أنه قال ما وافق القياس الجلي يجوز أن
يعزى إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وإن راعهم أمره لمخالفته لشيء مما يقولون به وإن كان مبنيا على مجرد الظن بادروا لرد الحديث والحكم بوضعه وعدم صحة رفعه وإن كان إسناده خاليا عن كل علة وإن ساعدهم الحال على تأويله على وجه لا يخالف أهواءهم بادروا إلى ذلك
وهذه الفرقة هم المعتزلة والمتكلمون الذين حذوا حذوهم وقد نحا أناس م غيرهم نحوهم وقد طعنت الفرقة الأولى في هذه الفرقة طعنا شديدا وقابلتهم هذه الفرقة بمثل بمثل ذلك أو أشد نسبوا رواة ما أنكروه من الأحاديث إلى الاختلاق والوضع مع الجهل بمقاصد الشرع وقد ذكر ابن قتيبة شيئا من ذلك في مقدمة كتابه الذي وضعه في تأويل مختلف الحديث
والمجاملون منهم اكتفوا بان نسبوا إلى الرواة الوهم والغلط والنسيان وهو مما لا يخلو عنه إنسان وقالوا إن المحدثين أنفسهم قد ردوا كثيرا من أحاديث الثقات بناء على ذلك
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي قد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من أجلة أهل العلم وضعفوهم من قبل حفظهم ووثقهم آخرون من الأئمة لجلالتهم وصدقهم وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد ين عمرو ثم روى عنه وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة
هكذا بغير الإسناد وإنما جاء هذا من قبل حفظه لأن أكثر من مضى من اهل العلم كانوا لا يكتبون ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع
وكان كثير من الرواة يروي بالمعنى فكثيرا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرا عن أداء المعنى بتمامه وكثيرا ما يكون أدنى تغيير حيلا له وموجبا لوقوع الإشكال فيه وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى قال وكيع إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس وإنما تفاضل أحد من الأئمة مع حفظهم وقال مجاهد انقض من الحديث إن شئت ولا تزد فيه
ولا يدخل في هذه الفرقة أناس ردوا بعض الأحاديث الصحيحة الإسناد لشبهة قوية عرضت لهم أوجبت شكهم في صحتها إن كانت مما لا يدل فيه النسخ أو في بقاء حكمها إن كانت مما يدخل فيه فقد وقع التوقف في الأخذ بأحاديث صحيحة الإسناد فقد وقع لك لأناس من العلماء الأعلام المعروفين بنشر السنن بل وقع لأناس من كبار من الصحابة
فقد زعم محمود بن الربيع الأنصاري وكان ممن عقل رسول الله وهو صغير أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري وكان ممن شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي يذلك وجه الله وكان رسول الله في دار عتبان
ولهذا الحديث قصة قال محمود فحدثتها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله في غزوته التي توفي فيها بأرض الروم فأنكرها علي أبو أيوب وقال والله ما أظن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما قلت قط فكبر ذلك علي فجعلت لله علي إن سلمني حتى أقفل من غزوتي أن أسأل عنها عتبان بن مالك إن وجدته حيا في مسجد قومه فقفلت ذكر ذلك البخاري في باب صلاة النوافل جماعة فارجع إليه إن أحببت معرفة القصة وتمام الكلام في ذلك
فانظر إلى أبي أيوب الأنصاري الذي كان من خواص النبي عليه الصلاة و السلام كيف غلب على ظنه عدم صحة هذا الحديث وأقسم على ذلك بناء على انه لم يسمع منه قط عليه السلام ما يشاكل هذا الكلام مما يوهم خلاف المرام ومثل هذا كثير فيما يروي وما كان منه بأسانيد صحيحة مما لا يثبت في نفس الأمر فأكثره مما روي بالمعنى غير أن الراوي لم يساعده اللفظ عن أدائه بتمامه
قال الشراح قيل إن الباعث له على الإنكار هو أن ظاهر هذا الحديث يوهم أنه لا يدخل أحد من عصاة الموحدين النار وهو مخالف لآيات كثيرة وأحاديث مشهورة وأجيب بحمل التحريم على عدم الخلود
وقد استدلت المرجئة بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم والمرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة
والإرجاء من البدع التي يعظم ضررها أنها تنزل بالأمة إلى الحضيض الأسفل وتجعل عاقبتها الدمار وقد نسب ذلك إلى كثير من أعيان الأمة إلا أن النسبة غير صحيحة في كثير منهم والذين صحت نسبة لك إليهم يقولون إن كثيرا ممن ينبزوننا بهذا اللقب لا فرق بيننا وبينهم في المآل وإن فرق بيننا وبينهم ظاهر المقال
وأما المعتزلة فإنهم ينكرون هذا الحديث ونحوه أشد إنكار وينسبون وضعه للمرجئة ومن نحا نحوهم لمخالفته لمذهبهم فإنهم هم والخوارج يقولون إن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة نصوح عنها مخلد في النار ولا يخرج منها أبدا ولا يحاولون تأويل هذا الحديث ونحوه على وجه لا يزعزع مذهبهم لأنهم يقولون إن في ظاهرة إغراء على المعاصي وذلك مناف للحكمة لا سيما من صاحب الشرع الذي بعث لزجر الناس عنها وتنفيرهم منها
وكانت المرجئة كثيرا ما ترمي من يبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بالقدر يريدون بذلك أذاهم ولا يخفى شدة نفره الناس لا سيما الأمراء والعامة من القدرية وهم المعتزلة
وقد شاع وذاع أن مذهب المعتزلة نشأ عن التوغل في علم الفلسفة وهو قول أشاعه إما جاهل أو متجاهل فإن مذهب الاعتزال نشأ واستقر في آخر عصر الصحابة ولم يكن قد ترجم شيء من كتب الفلسفة التي يزعمون أنها أغوتهم فانحرفوا بها عن مذهب أهل السنة ولذلك قال بعض العلماء قد رويت أحاديث في ذم القدرية روى بعضها أهل السنن وبعض الناس يثبتها ويقويها ومن العلماء من يطعن فيها ويضعفها ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس
وقد وقع في مذهبهم مسائل تبعد عن العقل جدا وذلك مثل قولهم من أتى بكبيرة واحدة فقد حبطت جميع طاعاته ومن عمر عمرا مديدا وأتى بكل ما أمكنه من الطاعات واجتنب جميع المنكرات وكان من الموفقين للبر والإحسان ثم عرض له أن تناول جرعة خمر فغص بها فقضي عليه فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبدا
نعم هم أكثر الفرق اعتناء بالقاعدة المشهورة وهي لا يأتي في النقل الصحيح ما يخالف العقل الصريح فإن أتى في النقل الصحيح ما يوهم المخالفة وجب الجمع بينهما وذلك بحمل النقل على معنى لا يخالف العقل وتجعل دلالة العقل قرينة على ذلك
وهي قاعدة متفق عليها ولم تنقل المخالفة فيها إلا عن أناس من الحشوية وهم فرقة لا يعبأ بها ولعل مخالفتهم مبنية عل كونهم لم يعرفوا ما أريد بالعقل الصريح وقد ظن أناس أن هذه المسألة من مسائل علم الكلام فقط وليس كذلك بل هي من مسائل أصول الفقة أيضا فقد ذكروا ذلك في مبحث التخصيص وفي مبحث ما يرد به الخبر
وهاك عبارات مما ذكروا في مبحث التخصيص قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع الأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان متصل منفصل
فالمتصل هو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة ولها أبواب تأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وأما المنفصل فضربان من جهة العقل ومن جهة الشرع فالذي من جهة العقل ضربان
أحدهما ما يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز التخصيص به لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع
والثاني ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفي الخلق عن صفاته فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) بالصفات وقلنا المراد به ما خلا الصفات لأن العقل قد دل على انه لا يجوز أن يخلق صفاته فخصصنا العموم به
تنبيه التخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله وهو قد يكون بغير مستقل كالاستثناء والشرط وقد يكون بمستقل كالعقل والعادة وخصت الحنفية اسم التخصيص بما يكون بمستقل وقال الغزالي في المستصفى وبدليل العقل خصص قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) إذ خرج عنه ذاته وصفاته إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به وكذلك قوله تعالى ولله على الناس حج البيت ) خرج منه الصبي والمجنون لأن العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم
فإن قيل كيف يكون العقل مخصصا وهو سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا ولأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن ان يتناوله اللفظ
قلنا قال قائلون لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز فقد بينا أن تخصيص العام محال لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم وانه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا ودليل العقل يجوز لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله ( خالق كل شيء ) نفسه وذاته فإنه وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله
وأما قولهم لا يجوز دخوله تحت اللفظ فليس كذلك بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان ولكن يكون قائله كاذبا ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع
وقال الفخر الرازي في فصل تخصيص العموم بالعقل هذا قد يكون بضرورة العقل كقوله تعالى ( خالق كل شيء ) فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظر العقل كقوله تعالى ( ولله على الناس ح البيت من استطاع إليه سبيلا ) فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما
ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى لأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور
فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فليلزم صدق النقيضين وهو محال
أو يرجح النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل فالقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا
وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم للعقل
وأما البحث اللفظي فهو ان العقل هل يسمى خصصا أم لا فنقول إن أردت بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام في بعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة فالعقل يكون دليل المخصص على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ
فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل
وقال القرافي في تنقيح الفصول يجوز عند مالك وأصحابه تخصيص العام بالعقل خلافا لقوم كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) خصص العقل ذات الله وصفاته وقال في شرحه الخلاف محكي على هذه الصورة وعندي أنه عائد على التسمية فإن خروج الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم غير أنه لا يسمى بالتخصيص إلا ما كان باللفظ هذا ما يمكن أن يقال أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله مسلم
وقال جمال الدين الأسنوي في شرح المنهاج أقول لما فرغ المصنف من المخصصات المتصلة شرع في المنفصلة والمنفصل هو الذي يستقل بنفسه أي لا يحتاج في ثبوته إلى ذكر العام معه بخلاف المتصل كالشرط وغيره وقسمه المصنف إلى ثلاثة أقسام وهي العقل والحس والدليل السمعي
ولقائل أن يقول يرد عليه التخصيص بالقياس وبالعادة وقرائن الأحوال إلا أن يقال إن القياس من الأدلة السمعية ولهذا أدرجه في مسائله ودلالة القرينة والعادة العقلية
وفيه نظر لأن العادة قد ذكرها في قسم الدليل السمعي وحينئذ يلزم فساده أو فساد الجواب
الأول العقل والتخصيص به على قسمين أحدهما أن يكون بالضرورة كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) فإنا نعلم بالضرورة انه ليس خالقا لنفسه والتمثيل بهذه الآية ينبني على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه وهو الصحيح كما تقدم وعلى أن الشيء يطلق على الله تعالى وفيه مذهبان للمتكلمين والصحيح إطلاقه عليه لقوله تعالى ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد ) الآية
الثاني أن يكون بالنظر كقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت ) فإن العقل قاض بإخراج الصبي والمجنون للدليل الدال على امتناع تكليف الغافل
وقال بعض العلماء أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم واختلفوا في تسميته تخصيصا وممن لم يسم ذلك تخصيصا الإمام الشافعي ومن حذا حذوه في ذلك نظرا إلى أن ما خص بالعقل لا تصح إرادته بالحكم وقال من سمى ذلك تخصيصا إن عدم صحة إرادته بالحكم إنما يقتضي عدم التناول من
حيث الحكم لا من حيث اللفظ وهذا كاف في تحق التخصيص والخلاف بين الفريقين لاتفاقهم على الرجوع إلى العقل فيما نفي عنه حكم العام
وقال في نزهة الخواطر في اختصار روضة الناظر لا نعلم اختلافا في جواز تخصيص العموم وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قول الله تعالى ( الله خالق كل شيء ) و ( تجبى إليه ثمرات كل شيء ) و ( تدمر كل شيء ) وقد ذكر أن أكثر العمومات مخصصة
وقال عبيد الله المعروف بصدر الشريعة في التنقيح وشرحه المسمى بالتوضيح بعد أن ذكر ان قصر العام على بعض ما يناوله قد يكون بغير مستقل وقد يكون بمستقل وأنه في غير المستقل يكون حقيقة في البواقي وهو حجة بلا شبهة فيه وأما في المستقل فإنه يكون مجازا يفي البواقي بطريق إطلاق اسم الكل على البعض من حيث القصر وحقيقة من حيث التناول وهو حجة فيه شبهة
ولم يفرقوا بين الكلام وغيره لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيا لأنه في حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء معتمدا على العقل على أنه مفروغ عنه حتى لا نقول إن قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) ونظائره دليل فيه شبهة
وهذا فرق قد تفرد بذكره وهو واجب الذكر حتى لا يتوهم أن خطابات الشرع التي خص منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهة كالخطابات الواردة
بالفرائض فإنه يكفر جاحدها إجماعا مع كونها مخصوصة فإن التخصيص بالعقل لا يورث شبهة فإن كل ما يوجب العقل تخصيصه يخص وما لا فلا ا هـ
وقد تعرض ابن حزم الظاهري في كتاب الإحكام لهذه المسألة في باب العموم وقد نقلنا مع العبارة المقصودة ما قبلها من العبارات على طريق التلخيص إتماما للفائدة
قال الباب الثالث عشر في حمل الأوامر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقف أو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق
قال علي اختلف الناس في هذا الباب فقالت طائفة لا تحمل الألفاظ لا على الخصوص ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض
وقال بعضهم بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة للتعبير عن المعاني الواقعة تحته ثم اختلفوا على قولين
فقالت طائفة منهم إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شيء أم لا فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا
وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر ولكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره
وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من
أفعالهم فيما خلا فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على توجيه مسائلهم وفي هذا عجب أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول وإنما فائدة الدليل وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال فمتى يهتدي من اتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله وإلا فهي مطرحة عنده
قال علي فما احتج به من ذهب إلى اللفظ لا يحمل على عمومه إلى بعد طلب دليل على الخصوص أو إلا بدليل على انه للعموم إن قالوا قد وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص فعلمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل
قال علي وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر ونقول ها هنا إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب إلى أن يبطل كل لفظ ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها ولو كان ذلك لكاتن وجودنا آيات منسوخة لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها
وقالوا أيضا لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما فصح أن كل خطاب إنما قصد من بلغه ذلك الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم
قال علي هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم ليت شعري أين كان عن قوله تعالى ( وهو بكل شيء عليم ) وأيضا فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العاملين بالمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولمن نعن بقولنا بالأمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم وإنما عنينا حمل كل لفظ أتى
على ما يقتضي ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع فإن ذلك عموم له
وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي وم حيوان نهي عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومن خالفنا لزمه أن لا ينفذ تحريم قتل نفي إلا بدليل ومثل قوله عليه الصلاة و السلام كل مسكر حرام فالواجب أن يحمل على كل مسكر ومن تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة وحكم العقل وحكم الديانة
قال علي وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى ( إن الفجار لفي جحيم ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقالوا إنها غير محمولة على عمومها قال ونحن لم ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل
ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى ( تدمر كل شيء ) وقال تعالى ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقال تعالى ( وأوتيت من كل شيء ) وقد علمنا أن الريح لم تدمر كل شيء في العالم وأن بلقيس لم تؤت من كل شيء لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي
قال علي وهذا كله لا حجة لهم فيه
أما قوله تعالى ( تدمر كل شيء ) فإنه لم يقل ذلك وأمسك بل قال تعالى ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) فصح بالنص عموم هذا اللفظ لأنه تعالى إنما قال إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية
وأما قوله ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) فإنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم
وأما قوله تعالى ( وأوتيت من كل شيء ) فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد ونحن لا نحتج بقول الهدهد وإنما نحتج بما قال الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه أو حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالا كثيرة ليست مما يصح فإن قال قائل إن سليمان عليه السلام قال للهدهد ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) قلنا نعم ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق
واحتجوا بقوله تعالى ( خلق كل شيء ) وهو عز و جل غير مخلوق وبقوله تعالى ( والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) قالوا وإنما قال لهم ذلك بعض الناس وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس
قال علي نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة بل أجزنا ذلك وقد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء أن ذلك في كل ما دونه عز و جل على العموم وهذا مفهوم من نص الآية لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله فيما ذكر أنه خلقه
وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن الناس قد جمعوا لهم ناسا غير الناس الجامعين وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل ا هـ
وهاك عبارات مما ذكروا في مبحث ما يرد به الخبر قال الشيرازي في اللمع في باب بيان ما يرد به خبر الواحد إذا روى الخبر ثقة رد بأمور
أحدها ن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول واما بخلاف العقول فلا
والثاني أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ
والثالث أن يخالف الإجماع فيستدل به على انه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه
والرابع أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم
والخامس أن ينفرد برواي ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية فأما إذا ورد مخالفا للقياس أو انفرد الواحد برواية ما تعم به البلوى لم يرد وقد حكينا الخلاف في ذلك فأغن عن الإعادة ا هـ
وقال الغزالي في المستصفى القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة
الأول ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره او الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة الثاني ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواتر وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة و السلام وللأمة
الثالث ما صرح بتكذيبه مع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته
وقال القرافي الدال على كذب الخبر خمسة وهو منافاته لما علم بالضرورة أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواترا ولم يتواتر وكقواعد الشرع أو لهما جميعا كالمعجزات او طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقرار الأحاديث فلم يوجد
ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية
الفرقة الثالثة فرقة جعلت همها البحث عما صح من الحديث لتأخذ به
فأعطت المسألة حقها من النظر فبحثت في الإسناد والمتن معا بحث مؤثر للحق فلم ينسب إلى الرواة الوهم والخطأ ونحو ذلك لمجرد كون المتن يدل على خلاف رأي لها مبني على مجرد الظن ولم تعتقد فيهم انهم معصمون عن الخطأ والنسيان
وهذه الفرقة قد ثبت عندها صحة كثير من الأحاديث التي ردتها الفرقة الثانية وهي المفرطة في أمر الحديث كما ثبت عندها عدم صحة كثير من الأحاديث التي قبلتها الفرقة الأولى وهي المفرطة فيه وهذه الفرقة هي أوسط الفرق وأمثلها وأقربها للامتثال وهي أقل الفرق عددا ومقتفى أثرها ممن أريد به رشدا
ملحة من ملح هذا المبحث أخرج البخاري تعن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منها في ذات الله قوله ( إني سقيم ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) واحدة في شأن سارة قال شراحه إنما أطلق عليه الكذب تجوزا وهو من باب المعاريض المحتملة للأمرين لمقصد شرعي
وقد روى البخاري في الأدب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن الحصين إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب فأطلق الكذب على ذلك مع ونه من المعاريض نظرا لعلو مرتبته
وقد أنكر بعض المفسرين من المتكلمين هذا الحديث بناء على ما أسسوه في كتب الكلام فقال في تفسير قوله تعالى ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) ذكر قوله إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم وقال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم كذب ورووا حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فقلت لبعضهم هذا الحديث
لا ينبغي ان يقبل لأن فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم فقال ذلك لارجل كيف يحكم بكذب الرواة العدول فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بكونه كذبا خبرا شبيها بالكذب ا هـ
اعتراضات على الحد المذكور للحديث الصحيح مع الجواب عنها الاعتراض الأول قال الحافظ السيوطي في التدريب أورد عليه التواتر فإنه صحيح قطعا ولا يشترط فيه مجموع من الشروط قال شيخ الإسلام ولكن يمكن أن يقال هل يوجد حديث متواتر لم تجتمع فيه هذه الشروط ا هـ
أقول قد وجد ذلك فيما ذكر ابن حم وقد نقلنا ذلك فيما مضى وهو قال علي وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول قل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح وهي منقولة نقل الكافة
على ان في هذا الإيراد نظرا لأن المتواتر يجب أن لا يدخل حد الصحيح المذكور لوجهين
الأول ما سبق من أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر لاستغنائه بالتواتر عن إيراد سند له حتى إنه إذا اتفق له سند لم يبحث عن أحوال رواته فقول المحدثين إن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف يريدون به الحديث المروي من طريق الآحاد وأما المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة وقد ألحق بعضهم المستفيض بالمتواتر في ذلك
الثاني ما ذكروا من انهم إذا قالوا هذا صحيح فإنما يريدون بلك أنه مستوف لشروط الصحة ولا يريدون بذلك أنه صحيح في نفس الأمر
قال الحافظ ابن الصلاح ومتى قالوا هذا صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس المر إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول وكذلك إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور
والصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك ثم إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها وينقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاضر ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق ا هـ
هذا وليس في عبارة ابن الصلاح المذكور أولا ما يوجب خروج المتواتر لكونه مقطوعا به عن الصحيح المذكور لأنه لم يقل ومن شرط الصحيح أن لا يكون مقطوعا به في نفس الأمر بل قال وليس من شرط الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر وهي عبارة لا تنافي أن يكون في الصحيح المذكور ما يكون مقطوعا به في نفس الأمر وبهذا تعلم أن لا تنافي بين ما قاله هنا وبين ما قاله فيما بعد وهو أن الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم مقطوع بصحته ما توهم ذلك بعض الحفاظ
ومن الغريب محاولة شيخ الإسلام إدخال المتواتر في تعريف الصحيح المذكور مع أنه قاال في شرح النخبة وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل لأنه على
هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث
وقال في موضع آخر في تعريف الصحيح لذاته وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته فأدخل في التعريف ما يخرج به المتواتر قطعا وأما تعريف الجمهور فإنه يمكن دخول المتواتر فيه لو لم يصرحوا بأنهم لم يقصدوا دخوله فيه لو لم يصرحوا بأنهم لم يقصدوا دخوله فيه وما ذكر من أنه قد وجد في المتواتر ما لا سند له أصلا أو ما له سند ولكن فيه مقال قد يقال إنه نادر وخروج الصور النادرة من التعريف قد أجازه بعض العلماء
هذا وقد وقع لبعض من كتب في هذا الفن وهو فيه ضعيف أن قال قد توهم بعض الأفاضل من قولهم في تعريف المتواتر إنه خبر جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب أنه لا يكون إلا صحيحا وليس كذلك في الاصطلاح بل منه ما يكون صحيحا اصطلاحا بأن يرويه عدول عن مثلهم وهكذا من ابتدائه إلى انتهائه ومنه ما يكون ضعيفا كما إذا كان في بعض طبقاته غير عدل ضابط فهذا ليس بصحيح اصطلاحا وإن كان صحيحا بمعنى انه مطابق للواقع باعتبار أمن تواطئ نقلته على الكذب وعبارة التقريب فيه صريحة فيما ذكرناه إذ جعله قسما من المشهور وقسمة إلى صحيح وغيره أي حسن وضعيف فتبصر ا هـ
أقول يكفي المتبصر أن يرجع إلى وجدانه وأقرب إليه من ذلك أن ينظر في عبارة التقريب التي نقلناها عنه آنفا وليت هذا الناقل اقتفى أثر ذلك الفاضل
الاعتراض الثاني قد تقرر أن الحسن إذا روي من غير وجه انتقل من درجة الحسن إلى درجة الصحة وهو غير داخل في الحد المذكور وكذلك ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول فإن بعض العلماء له بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح
قال ابن عبد البر في الاستذكار لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر هو الطهور ماؤه وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده لكن الحديث عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول وقال أبو الحسن بن الحصار في تقريب المدارك على موطأ مالك قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به
وأجيب عن ذلك بأن الحد المذكور إنما هو للصحيح لذاته وما أورد فهو من قبيل الصحيح لغيره
الاعتراض الثالث من شرط الحديث الصحيح أن لا يكون في المنكر فحقهم أن يزيدوا في الحد ما يخرج به المنكر وأجيب عن لك بأن الناس في المنكر فريقان فريق يقول إنه هو والشاذ سيان وعلى ذلك فلا إشكال وفريق يقول إن المنكر أسوأ حالا من الشاذ وعلى ذلك يقال إن اشتراط نفي الشذوذ يقتضي اشتراط نفيه بطريق الأولى
وقد تبين بما ذكرنا أن هذا الحد لا يرد عليه شيء ومما يستغرب في هذا الحد أنه
يمكن أن يوافق أكثر الفرق التي زادت بعض الشروط كالجبائي ومن نحا نحوه مثلا فإنه لا يقول بصحة الحديث إذا انفرد به واحد ولو في طبقة واحدة من الطبقات إلا أن يعضد الحديث عاضد مما ذكر سابقا فإذا استعمل هذا الحد أخرج ما انفرد به واحد من غير أن يكون له عاضد بقوله من غير شذوذ وفسر الشذوذ بما يوافق ما ذهب إليه مع ان الجمهور يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة لمن هو أرجح منه وكمن يشترط في صحة الحديث أن لا يكون الراوي قد عمل بخلافة بعد روايته له فإذا استعمل هذا الحد أخرج الحديث الذي عمل الراوي له بخلافه بقوله ولا علة وجعل من العلل القادحة مخالفة عمل الراوي لما رواه
وإن أردت إيراد حد يدخل فيه الصحيح لغيره يمكنك أن تقول الحديث الصحيح هو الحديث الذي اتصل إسناده على وجه تسكن إليه النفس مع السلامة من الشذوذ والعلة وإن أردت أجمع منه يمكنك أن تقول الحديث الصحيح هو الحديث المروي على وجه تسكن إليه النفس من الشذوذ والعلة
فوائد تتعلق بمبحث الصحيح
الفائدة الأولى
في أن من ألف في الصحيح المجرد هو البخاري ومسلم أول من صنف في الصحيح المجرد الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي وتلاه الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري وكان مسلم مم أخذ عن البخاري واستفاد منه وهو مع ذلك يشاركه في أكثر شيوخه وكتاباهما أصح كتب الحديث
وأما قول الإمام الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك فإنه كان قبل وجود كتابيهما
وأما قول بعضهم إن مالكا أول من صنف في الصحيح فهو مسلم غير أنه
لم يقتصر في كتابه عليه بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف كما ذكره الحافظ ابن عبد البر فهو لم يجرد الصحيح
واعترض بعضهم على ذلك فقال إن مثل ذلك قد وقع في كتاب البخاري قال الحافظ ابن حجر إن كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما لا على الشرط الذي تقدم التعريف به
قال والفرق بين ما فيه من المنقطع وبين ما في البخاري أن الذي في الموطأ هو مسموع لمالك كذلك غالبا وهو حجة عنده والذي في البخاري قد حذف إسناده عمدا لقصد التخفيف إن كان ذكره في موضع آخر موصولا أو لقصد التنويع إن كان على غير شرطه ليخرجه عن موضوع كتابه وإنما يذكر ما يذكر من ذلك تنبيها أو استشهادا أو استئناسا أو تفسيرا لبعض آيات أو غير ذلك مما سيأتي عند الكلام على التعليق فظهر بهذا أن الذي في البخاري لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ
الفائدة الثانية
في شرط البخاري ومسلم ألف الحازمي كتابا في شروط الأئمة ذكر فيه شرط الشيخين وغيرهما فقال مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضا وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزم إخراجه وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه لا في الشواهد والمتابعات وهذا باب فيه غموض وطريقة معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم ولنوضح ذلك بمثال
وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها
فالأولى في غاية الصحة نحو مالك وابن عيينة ويونس وعقيل ونحوهم وهي مقصد البخاري
والثانية شاركت الأولى في العدالة غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري حتى كان منهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر والثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى كالليث بن سعد والأوزاعي والنعمان بن راشد وهو شرط مسلم والثالثة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح فهم بين الرد والقبول كجعفر بن برقان وسفيان بن حسين السلمي وزمعة بن صالح المكي وهم شرط أبي داود والنسائي
والرابعة تقوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري لأنهم لم يلازموه كثيرا كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي والمثنى بن الصباح وهو شرط الترمذي
والرابعة قوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري لنهم لم يلازموه كثيرا كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي والمثنى بن الصباح وهم شرط الترمذي
والخامسة نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود فمن دونه فأما عند الشيخين فلا كبحر بن كنيز السقاء والحكم بن عبد الله الأيلي
وقد يخرج البخاري أحيانا عن أعيان الطبقة الثانية ومسلم عن أعيان الطبقة الثالثة وأبو داود عن مشاهير الرابعة وذلك لأسباب اقتضته
وقال ابن طاهر شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة رجاله إلى الصحابي المشهور قال العراقي وليس ما قاله بجيد لأن النسائي
ضعف رجالا أخرج لهم الشيخان او أحدهما وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين
قال الحافظ ابن حجر تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك وإن نقله عن متقدم فلا قال ويمكن أن يجاب بان نما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه
وسئل العلامة تقي الدين بن تيمية عن مسائل وهي ما معنى إجماع العلماء وإذا أجمعوا فهل يسوغ للمجتهد مخالفتهم وهل قول الصحابي حجة وما معنى الحسن والمرسل والغريب من الحديث وما معنى قول الترمذي حديث حسن صحيح غريب فقد جمع بين الحسن والصحة والغرابة في حديث واحد وهل في الحديث متواتر لفظا وهل أحاديث الصحيحين تفيد اليقين أو الظن وما شرط البخاري ومسلم فإنهم قد فرقوا بينهما
فأجاب عنها وقال في الجواب عن المسألة الخبيرة التي نحن الآن في صدد البحث عنها بما صورته
واما شرط البخاري ومسلم فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم ولهذا رجال يروي عنهم يتص بهم وهما مشتركان في رجال آخرين وهؤلاء الذين اتفقا عليهم عليهم مدار الحديث المتفق عليه وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به
وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ في فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الحديث وليس الأمر كذلك فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن كيحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري صاحب الصحيح والدارقطني وغيرهم وهذه علوم يعرفها أصحابها ا هـ
وأما ما أشار إليه الحاكم من انهما لم يخرجا حديث من لم يرو عنه إلا راو واحد فقد سبق ما قيل فيه وأنه مخالف للواقع
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب ولم يرو عنه غير ابنه سعيد
وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب ني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي ولم يرو عنه غير الحسن
وحديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي يذهب الصالحون ولم يرو عنه غير قيس
وأخرج مسلم حديث رافع بن عمرو الغفاري ولم يرو عنه غير عبد الله بن
الصامت وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير أبي سلمة ونظائر ذلك في الصحيحين كثيرة
وقد تعرض الحافظ السيوطي في التوشيح لبيان شروط البخاري وموضوع كتابه فأحببت إيراده بتمامه لما فيه من الفوائد المهمة قال في أوله
فصل في بيان شروط البخاري وموضوعه اعلم أن البخاري لم يوجد عنده تصريح بشرط معين وغنما أخذ ذلك من تسمية الكتاب والاستقراء من تصرفه
أما أولا فإنه سماه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه
فعلم من قوله الجامع أنه لم يخصه بصنف دون صنف ولهذا أورد فيه الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية والآتية وغير ذلك من الآداب والرقائق
ومن قوله الصحيح أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده وإن كان فيه مواضع
قد انتقدها غيره فقد أجيب عنها وقد صح عنه أنه قال ما أدخلت في الجامع إلا ما صح
ومن قوله المسند أن مقصوده الأصلي الأحاديث التي اتصل إسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم سواء كانت من قوله أم فعله أم تقريره وأما ما قع في الكتاب من غير ذلك فإنما وقع عرضا وتبعا لا أصلا مقصودا
وأما ما عرف بالاستقراء من تصرفه فهو أنه يخرج الحديث الذي اتصل إسناده وكان كل من رواته عدلا موصوفا بالضبط فإن قصر احتاج إلى ما يجبر ذلك التقصير وخلا عن أن يكون معلولا أي فيه علة خفية قادحة أو شاذا أي خالف رواته من هو أكثر عددا منه أو أشد ضبطا مخالفة تستلزم التنافي ويتعذر معه الجمع الذي لا يكون فيه تعسف
والاتصال عندهم أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصفة صريح في السماع منه كسمعته وحدثني وأخبرني أو ظاهرة فيه كعن أو أن فلانا قال وهذا الثاني في غير المدلس الثقة أما هو فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى وشرط حمل الثاني على السماع عند البخاري أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة
وعرف بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يخرج لهم أنه ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه وإن أخرج من حديث من لا يكون بهذه الصفة فإنما يخرج في المتابعات أو حيث تقوم له قرينة بأن ذلك مما ضبطه هذا الراوي فبمجموع ذلك وصف الأئمة كتابا قديما زحديثا بأنه أصح الكتب المصنفة في الحديث
وأكثر ما فضل كتاب مسلم عليه أن يجمع المتون في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب ويسوقها تامة ولا يقطعها في التراجم ويحافظ على الإتيان بألفاظها ولا يروي بالمعنى ويفردها ولا يخلط معها شيئا من أقوال الصحابة ومن بعدهم
وأما البخاري فإنه يفرقها في الأبواب اللائقة بها لكن ربما كان ذلك الحديث ظاهرا وربما كان خفيا فالخفي ربما حصل تناوله بالاقتضاء أو باللزوم أو بالتمسك بالعموم أو بالرمز إلى مخالفة مخالف أو بالإشارة إلى أن بعض طرق ذلك الحديث ما يعطي المقصود وإن خلا عنه لفظ المتن المسوق هناك تنبيها على ذلك المشار إليه بذلك وأنه صالح لأن يحتج به وإن كان لا يرتقي إلى درجة شرطه
واحتاج لذلك أن يكرر الأحاديث لأن كثيرا من المتون تشمل على عدة أحكام فيحتاج أن يذكر في كل باب ما يليق به من حكم ذلك الحديث بعينه فإن ساقه بتمامه إسنادا ومتنا طال وإن أهمله فلا يليق به فتصرف فيه بوجوه من التصرف
وهو أنه ينظر الإسناد إلى غاية من يدور عليه الحديث من الرواة أي ينفرد بروايته فيخرجه في باب عن راو يرويه عن ذلك المنفرد وفي باب آخر عن راو آخر عن ذلك المنفرد وهلم جرا فإن كثرت الأحكام عن عدد الرواة عدل عن سياقه تمام الإسناد إلى اختصاره مطلقا فيسوق المتن تارة تاما وتارة مختصرا
ثم إنه حال تصنيفه كان قد بسط التراجم والأحاديث فجعل لكل ترجمة حديثا وبقيت عليه تراجم لم يجد في الحالة الراهنة ما يلائمها فأخلاها عن الحديث وبقيت عليه أحاديث لم يتضح له ما يرتضيه في الترجمة عنها فجعل لها أبوابا بلا تراجم فيوجد فيه أحيانا باب تراجم وليس فيه سوى آية أو كلام الصحابي أو التابعي وأحيانا باب غير مترجم وقد ساق فيه حديثا أو أكثر
نقل ذلك أبو ذر الهروي عن المستملي وأشار إلى أن بعض من نقل الكتاب بعد موت مصنفه ربما ضم بابا مترجما إلى حديث غير مترجم وأخلى البياض الذي بينهما فيظن بعض الناس أن هذا الحديث يتعلق بالترجمة التي قبلها فيجعل لها وجوها من المحامل المتكلفة ولا تعلق له به البتة ا هـ
وقد أوضح الحافظ ابن حجر ما ذكر في آخر هذا الفصل فقال في مقدمة شرحه وقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة وفي بعضها ما فيه واحد وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله وبعضها لا شيء فيه البتة وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدا وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم له ومن ثم وقع من بعض من نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب فأشكل فهمه على الناظر فيه
وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال أخبرني الحافظ أبو ذر عبد بن أحمد الهروي قال حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض
قال أبو الوليد الباجي مما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشميهيني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلك
بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة انه من موضع ما فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث
قال الباجي وغنما اوردت هذا هنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ انتهى
قلت هذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدا ستظهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى
ثم ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على أطوار
إن وجد حديثا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي وافق شرطه أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلح لموضوع كتابه وهي حدثنا وما قام مقام ذلك والعنعنة بشرطها عنده
وإن لم يجد فيه إلا حديثا لا يوفق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه ومن ثم أورد التعاليق كما سيأتي في فصل حكم التعليق
وإن لم يجد فيه حديثا صحيحا لا على شرط غيره وكان مما يستأنس به ويقدمه قوم على القياس استعمل لفظ ذلك الحديث أو معناه ترجمة باب ثم أورد في ذلك إما آية من كتاب الله تشهد له أو حديثا يؤيد عموم م دل عليه ذلك الخبر وعلى هذا فالأحاديث التي فيه على ثلاثة أقسام ا هـ
وقد أشكلت عبارة الباجي على بعض الناس فقال وهذا الذي قاله الباجي فيه نظر من حيث إن الكتاب قرئ على مؤلفه ولا ريب أنه لم يقرأ عليه إلا مرتبا مبوبا فالعبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها
وفي هذا النظر نظر لأن الباجي لم يذكر أن الكتاب كان غير مبوب ولا مرتب بل ذكر أنه يوجد في بعض المواضع منه تراجم ليس بعدها شيء وأحاديث للم يترجم لها وهي كما قال الحافظ مواضع قليلة جدا والكتاب على هذه الصفة يمكن قراءته وأخذه بالرواية
فإن قلت كيف يفعل إذا ول إلى ترجمة ليس بعدها شيء قلت هنا احتمالان أحدهما أن يترك قراءة الترجمة والثاني أن يقرأها ويشير إلى أنه لم يجد إلى ذلك الوقت ما يناسبها فإن قلت فلم لا يضرب عليها قلت إن كثيرا من المؤلفين مثل ذلك ويأملون أن يجدوا بعد حين ما يناسب الترجمة على ان كثيرا من المؤلفات التي قرئت على مؤلفيها لا تخلو عن بياض
وأما الأحاديث التي لم يترجم لها فالأمر فيها سهل فإنه يمكن أن يجعل عنوان الترجمة باب ويذكر بعده الحديث الذي بم يجعل له ترجمة خاصة ولا يحتمل هنا عدم قراءته لأن المقصود الأول في كتابه هو معرفة الأحاديث الصحيحة
وقد وقع في البخاري كثيرا ذكر لفظ باب وليس بعده شيء فمن ذلك في كتاب الإيمان باب حدثنا أبو اليمان قال الشراح باب التنوين بغير ترجمة ولفظ الباب ساقط عند الأصيلي وحينئذ فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة وعلى رواية إثباته فهو كالفصل عن سابقه لتعلقه به وفي الحديث السابق بيان أن حب الأنصار من الإيمان وفي الحديث اللاحق الإشارة إلى سبب تلقيبهم بالأنصار لأن ذلك كان ليلة العقبة لما بايعوا على إعلاء كلمة الله وكان يقال لهم بنو قيلة وقيلة بالفتح الأم التي كانت تجمع القبلتين ا هـ
واعلم أن صحيح مسلم قد قرئ على جامعه مع خلو أبوابه عن التراجم
قال شارحه إن مسلما رتب كتابه على الأبواب فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لنم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد حجم الكتاب أو لغير ذلك وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيد وبعضها ليس بجيد إما لقصور في عبارة الترجمة أو لركاكة في لفظها وإما لغير لك وأنا أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها
وأما قول ذلك القائل إن العبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها فالجواب أن الرواية إنما تلقيت من نسخ الأصول المأخوذة تلك المسودة وهي في الحقيقة مبيضة
الفائدة الثالثة
في أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك قد ظن أناس انهما قد التزما ان يخرجا كل ما صح من الحديث في كتابيهما فاعترضوا عليهما بأنهما لم يقوما بما التزما به وليس الأمر كذلك
فقد روي عن البخاري أنه قال ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت جملة من الصحاح خشية أن يطور الكتاب
وروي عن مسلم أنه لما عوتب على ما فعل من جمع الأحاديث الصحاح في كتاب وقيل له إن هذا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في الصحيح قال إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح ولم أقل إن لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف وإنما أخرجت هذا الحديث من الصحيح ليكون عندي وعند من يكتبه عني ولا يرتاب في صحته
وقد رفع بذلك العتب ولسان حاله يقول إلام على ما يوجب الحب
ومن الغريب أن بعض الناس لنفرته من تجريد الصحاح صرح بتفضيل سنن النسائي على صحيح البخاري وقال إن من شرط الصحة فقد جعل لمن لم يستكمل في الإدراك سببا إلى الطعن على ما لم يدخل وجعل للجدال موضعا فيما أدخل
وهو قول شاذ لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولو لم يكن الناقل عن هذا القائل وأمثاله ممن يوثق بنقله لشك اللبيب في صدور ذلك عمن له أدنى سهم في الفهم وكانهم لم يشعروا بما نشأ عن مزج الصحيح بغيره من الضرر الذي حصل لكثير من الناس
وليتهم نظروا في مقدمة كتاب مسلم نظرة ليقفوا على الباعث لتجريد الصحيح لعلهم يسكتون فيسكت عنهم ولكن الميل إلى الإغراب غريزة في بعض النفوس
والمقصود هنا قول مسلم وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم ن طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأخبار الصيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغنياء من الناس وهو مستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف عل قلوبنا إجابتك إلى ما سألت ا هـ
وقد نقلنا فيما سبق مقالة أخرى في ذم هذه الفرقة قال في آخرها ومن
ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم
وبما ذكرنا من عدم التزامهما إستيعاب الأحاديث الصحيحة أجمع يظهر لك أن لا وجه لإلزام من ألزمهما إخراج أحاديث لم يخرجاها مع كونها صحيحة على شرطيهما قال في شرح مسلم ألزم الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وغيره البخاري ومسلما رضي الله عنهما إخراج أحاديث تركا إخراجهما مع أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها في صحيحهما بها
وذكر الدارقطني وغيره وغيره أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فليزمهما إخراجهما على مذهبيهما
وذكر البيهقي أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه وأن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها مع ان الإسناد واحد وصنف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما
وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة إنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعبا وإنما قصد جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله
لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلا في بابه ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالهما أنهما اطلعا
فيه على علة إن كانا روياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانا أو إيثارا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أو لغير ذلك والله أعلم
والظاهر أن المعترضين عليهما في ذلك لم يبلغهم تصريحهما بما ذكر ومنهم ابن حبان فإنه قال ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما
وقال بعضهم لعل شبهة المعترضين نشأت من تسمية البخاري كتابه بالجامع وهي شبهة واهية لا سيما إن نظر إلى تتمة الاسم وقد عرفت سابقا أنه سماه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه وأما الحاكم فإنه الحاكم فإنه اقتصر على ان قال ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشتمون برواة الآثار ويقولون إن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث
وقد اختلف العلماء في مقدار ما فاتهما من جهة القلة والكثرة فقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم شيخ الحاكم قلما يفوت البخاري ومسلما مما يثبت من الحديث ويرد على ذلك قول البخاري فيما نقله الحازمي والإسماعيلي وما تركت من الصحاح أكثر
وقال لانووي قد فاتهما كثير والصواب قول من قال إنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير
والأصول الخمسة هي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي
وقد جعل بعضهم الأصول ستة بضم سنن ابن ماجة إليها قيل أول من فعل ذلك ابن طاهر المقدسي فتابعه أصحال الأطراف والرجال على ذلك وتبعهم
غيرهم وإنما لم تذكر هنا لما قال المزي وهو ان كل ما انفرد به ابن ماجة عن الخمسة فهو ضعيف قال الحسيني يعني من الأحاديث وقال ابن حجر إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة فالأولى حمل الضعف على الرجال
وقد جمع مجد الدين ابن الأثير الأصول الخمسة في كتاب وضم إليها موطأ الإمام مالك حتى صارت بذلك ستة وسماه جامع الأصول من حديث الرسول فصار الوصول إلى هذه الأصول سهل المسلك قريب المدرك
والمراد بسنن النسائي هنا هي الصغرى لما روي أنه لما صنف الكبرى أهداها لأمير الرملة فقال له أكل ما فيها صحيح فقال فيها الصحيح والحسن وما يقاربهما فقال ميز لي الصحيح من غيره فصنف له الصغرى وسماها المجتبى من السنن
ويرد على ما ذكر النووي أيضا قول البخاري فيما نقل عنه أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح والأحاديث التي في الأصول الخمسة لا تبلغ خمسين ألفا فضلا عن ان تقرب من مئة ألف فيكون ما فاتها من الصحيح كثير جدا
قال بعض أهل الأثر إن كثيرا من المتقدمين كانوا يطلقون اسم الحديث على ما يشمل آثار الصحابة والتابعين وتابعيهم وفتاويهم ويعدون الحديث المروي بإسنادين حديثين وحينئذ يسهل الخطب وكم من حديث ورد من مئة طريق فأكثر
وهذا حديث إنما الأعمال بالنيات نقل مع ما فيه عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي أنه كتبه من جهة سبع مئة من أصحاب يحيى بن سعيد وقال الإسماعيلي عقب قول البخاري لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر إنه لو أخرج كل حديث صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة ولذكر طرق كل واحد منهم إذا صحت فيصير كتابا كبيرا جدا
وقال الجوزقي إنه استخرج على أحاديث الصحيحين فكانت عدة الطرق خمسة وعشرين ألف طريق وأربع مئة وثمانين طريقا
قال بعض المحققين وإذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ جملة ما في كتابيهما بالمكرر ذلك فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ ذلك أيضا أو يزيد وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي شرطهما لعله يبلغ
ذلك أو يقرب منه فإذا أضيف ذلك إلى ما جاء عن الصحابة والتابعين بلغ العدة التي يحفظها البخاري بل ربما زادت
وهذا الحمل متعين وإلا فلو عدت أحاديث المسانيد والجوامع والسنن والمعاجم والفوائد والأجزاء وغيرها مما هو بأيدينا صحيحهما وغيره ما بلغت ذلك بدون تكرار بل ولا نصفه ا هـ
وقال بعضهم ويؤيد ان هذا هو المراد أن الأحاديث التي بين أيدينا من الصحاح بل وغير الصحاح ولو تتبعت من المسانيد والجوامع والسنن والأجزاء وغيرها ما بلغت مئة ألف بلا تكرار بل ولا خمسين ألفا وتبعد كل البعد أن يكون رجل واحد يحفظ ما فات الأمة جميعه مع انه إنما حفظه من أصول مشايخه وهي موجودة ا هـ
وقد تبين بما ذكر أن ما قاله البخاري لا ينافي ما قاله ابن الخرم فضلا عما قاله النووي على ان بعضهم حمل كلام ابن الأخرم فيما فاتهما على الصحيح المجمع عليه فكأن قال لم يفتهما من الصحيح الذي هو في الدرجة الأولى إلا القليل والأمر كذلك والأحاديث التي هي في الدرجة الأولى لا تبلغ كما قال الحاكم عشرة آلاف
تتمة في بيان عدد أحاديث الصحيحين قال الحافظ ابن الصلاح جملة ما في صحيح البخاري سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث قال الحافظ العراقي هذا مسلم في رواية الفربري وأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمئتي حديث ودون ذلك هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل
قال الحافظ ابن حجر إن عدة أحاديث البخاري في روايات الثلاث سواء وغنما حصل الاشتباه من جهة أن الأخيرين فاتهما من سماع الصحيح على البخاري ما ذكر من آخر الكتاب فروياه بالإجازة فالنقص إنما هو السماع لا في الكتاب
قال والذي تحرر لي أنها بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات والموقوفات سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون حديثا وبغير المكرر من المتون الموصولة ألفان وست مئة وحديثان ومن المتون المعلقة المرفوع التي لم يصلها في موضع آخر منه مئة وتسعة وخمسون فمجموع غير المكرر ألفان وسبع مئة واحد وستون نقل ذلك بعض تلاميذه عنه
وقد نقل بعض العلماء عن الحافظ المذكور حاصل ما قاله في تحرير العدد إلا أن في زيادة بسط فيما يتعلق بالمكرر فأحببت إيراد ذلك على وجه يكون أقرب منالا قال
جملة أحاديث البخاري بالمكرر سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون 7397
وجملة ما فيه من المعلقات وذلك سوى المتابعات وما يذكر بعدها ألف وثلاث مئة وواحد وأربعون حديثا 1341
وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلاث مئة ولأربعة وأربعون حديثا 344
فجملة ما في البخاري المكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون 9082 سوى الموقوفات
أقسام الكتاب 12345
أما بعد فهذه فصول جليلة المقدار ينتفع بها المطالع في كتب الحديث وكتب السير والأخبار وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول الحديث
الفصل الأول عنوان في بيان معنى الحديث الحديث أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله ويدخل في أفعاله تقريره وهو عدم إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادا للشرع وأما ما يتعلق به عليه الصلاة و السلام من الأحوال فإن كانت اختيارية فهي داخلة في الأفعال وإن كانت غير اختيارية كالحلية لم تدخل فيه إذ لا يتعلق بها حكم يتعلق بنا وهذا التعريف هو المشهور عند علماء أصول الفقه وهو الموافق لفنهم
وذهب بعض العلماء إلى إدخال كل ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة و السلام في الحديث فقال في تعريفه علم الحديث أقوال النبي عليه الصلاة و السلام وأفعاله وأحواله وهذا التعريف هو المشهور عند علماء الحديث وهو الموافق لفنهم فيدخل في ذلك أكثر ما يذكر في كتب السيرة كوقت ميلاده عليه الصلاة و السلام ومكانه ونحو ذلك
وقد رأيت أن أذكر هنا فائدة تنفع المطالع في كثير من المواضع وهي أن مثل هذا يعد من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات وهو ليس من قبيل الاختلاف في الحقيقة كما يتوهمه الذين لا يمعنون النظر فإنهم كلما رأوا اختلافا في العبارة عن شيء ما سواء كان في تعريف أو تقسيم أو غير ذلك حكموا بأن هناك اختلافا في الحقيقة وإن لم تكن تلك العبارات مختلفة في المآل
وقد نشأ عن ذلك أغلاط لا تحصى سرى كثير منها إلى أناس من العلماء الأعلام فذكروا الاختلاف في مواضع ليس فيها اختلاف اعتمادا على من سبقهم إلى نقله ولم يخطر في بالهم أن الذين عولوا عليهم قد نقلوا الخلاف بناء على فهمهم ولم ينتبهوا إلى وهمهم وكثيرا ما انتبهوا إلى ذلك بعد حين فنبهوا عليه وذلك عند وقوفهم على العبارات التي بنى الاختلاف عليها الناقل الأول وقد حمل هذا الأمر كثرا منهم إلى فرط الحذر حين النقل
وقد أشار إلى نحو ما ذكرنا الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في رسالته في قواعد التفسير فقال الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان
أحدهما أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل عل معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى كتفسير بعضهم الصراط المستقيم بالقرآن أي اتباعه وتفسير بعضهم له بالإسلام فالقولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن لكن كل منهما نبه على وصف غير وصف الآخر كما أن لفظ الصراط المستقيم يشعر بوصف ثالث
وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال هو طريق العبودية وقول من قال هو طاعة الله ورسوله وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ولكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها
الثاني أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثاله ما نقل في قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ) الآية فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون
ثم إن كلا منهم يذكر في هذا نوعا من أنواع الطاعات كقول القائل السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار أو يقول السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط والظالم مانع الزكاة
ثم قال ومن أقوال المأخوذة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة كما إذا فسر بعضهم ( تبسل ) بتحبس وبعضهم بترتهن لأن كلا منهما قريب من الآخر ا هـ
وقال بعض العلماء في كتاب ألفة في أصول التفسير قد يحكى عن التابعين عبارات مختلفة الألفاظ فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه
أقوالا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من معاني الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بثمرته ومقصوده والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا ا هـ
ولنرجع إلى المقصود فنقول قد عرفت أن الحديث ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام فيختص بالمرفوع عند الإطلاق ولا يراد به الموقوف إلا بقرينه
وأما الخبر فإنه أعم لأنه يطلق على المرفوع والموقوف فيشمل ما أضيف إلى الصحابة والتابعين وعليه يسمى كل حديث خبرا ولا يسمى كل خبر حديثا
وقد أطلق بعض العلماء الحديث على المرفوع والموقوف فيكون مرادفا للخبر وقد خص بعضهم الحديث بما جاء عن النبي عليه الصلاة و السلام والخبر بما جاء عن غيره فيكون مباينا للخبر
وأما الأثر فإنه مرادف للخبر فيطلق على المرفوع والموقوف وفقهاء خراسان يسمون الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر
وأما السنة فتطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام من قول أو فعل أو تقرير فهي مرادفة للحديث عند علماء الأصول وهي أعم منه عند من خص الحديث بما أضيف إلى النبي عليه الصلاة و السلام من قول فقط وعلى ذلك يحمل قولهم اختلف في جواز رواية الحديث بالمعنى فينبغي للطالب أن يعرف اختلاف العرف هنا ليأمن الزلل
وبما ذكرنا من أن بعض المحدثين قد يطلق الحديث على المرفوع والموقوف يزول الإشكال الذي يعرض لكثير من الناس عندما يحكى لهم أن فلانا كان يحفظ سبع مئة ألف حديث صحيح فإنهم مع استبعادهم ذلك يقولون أين تلك الأحاديث ولم لم تصل إلينا وهلا نقل الحفاظ ولو مقدار عشرها وكيف ساغ لهم أن يهملوا أكثر ما ثبت عنه عليه الصلاة و السلام مع أن ما اشتهروا به من فرط العناية
بالحديث يقتضي أن لا يتركوا مع الإمكان شيئا منه
ولنذكر لك شيئا مما روي في قدر حفظ الحفاظ نقل عن الأمام أحمد أنه صح من الحديث سبع مائة ألف وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ سبع مئة ألف قال البيهقي أراد ما صح من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين
وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ كان أبو زرعة يحفظ سبع مئة ألف حديث وكان يحفظ مئة وأربعين ألفا في التفسير
ونقل عن البخاري أنه قال أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح
ونقل عن مسلم أنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مئة ألف حديث مسموع
ومما يرفع استغرابك لما نقل عن أبي زرعة من أنه كان يحفظ مئة وأربعين ألف حديث في التفسير أن ( النعيم ) في قوله تعالى ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قد ذكر المفسرون فيه عشرة أقوال كل قول منها يسمى حديثا في عرف من جعله بالمعنى الأعم وأن ( الماعون ) في قوله تعالى ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) قد ذكروا فيه ستة أقوال كل قول منها ما عدا السادس يعد حديثا كذلك
قال العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في تفسيره المسمى بـ زاد المسير في تفسير سورة التكاثر وللمفسرين في المراد بالنعيم عشرة أقوال
أحدها أنه الأمن والصحة رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم وتارة يأتي موقوفا عليه وبه قال مجاهد والشعبي
والثاني أنه الماء البارد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثالث أنه خبز البر والماء العذب قاله أبو أمامة
والرابع أنه ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبد الله
والخامس أنه صحة الأبدان والأسماع والأبصار قاله ابن عباس وقال قتادة هو العافية
والسادس أنه الغداء والعشاء قاله الحسن
والسابع الصحة والفراغ قاله عكرمة
والثامن كل شيء من لذة الدنيا قاله مجاهد
والتاسع أنه إنعام الله على الخلق بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم قاله القرظي
والعاشر أنه صنوف النعم قاله مقاتل
والصحيح أنه عام في كل نعيم وعام في جميع الخلق فالكافر يسأل توبيخا إذ لم يشكر المنعم ولم يوحده والمؤمن يسأل عن شكر النعم
وقال في تفسير سورة الدين وفي ( الماعون ) ستة أقوال
أحدها أنه الإبرة والماء والنار والفأس وما يكون في البيت من هذا النحو رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية وروى عنه أبو صالح أنه قال الماعون المعروف كله حتى ذكر القدر والقصعة والفأس وقال عكرمة ليس الويل لمن منع هذا وإنما الويل لمن جمعهن فراءى في صلاته وسها عنها ومنع هذا قال الزجاج والماعون في الجاهلية كل ما كان فيه منفعة كالفأس والقدر والدلو والقداحة ونحو ذلك وفي الإسلام أيضا
والثاني أنه الزكاة قاله علي وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة
والثالث أنه الطاعة قاله ابن عباس في رواية
والرابع المال قاله سعيد بن المسيب والزهري
والخامس المعروف قاله محمد بن كعب
والسادس الماء ذكره الفراء عن بعض العرب ا هـ
هذا وقد اعترض بعض الناس على المؤلفين الذين ينقلون في المسألة جميع الأقوال التي وقفوا عليها كما فعله بعض علماء التفسير وعلماء الأصول ومن نحا نحوهم وذلك لجهلهم باختلاف أغراض المصنفين ومقاصدهم ولتوهمهم أن طريق التأليف يجب أن لا يخالف ما تخيلوه في أذهانهم
وقد أحببنا أن نختم هذا الفصل بالجواب عن اعتراضهم فنقول
إن تلك الأقوال إن كانت مختلفة في المآل عرف الناظر الخلاف في المسألة
وفي معرفة الخلاف فائدة لا تنكر وكثيرا ما يستنبط من أمعن النظر فيها قولا آخر يوافق كل واحد من الأقوال المذكورة من بعض الوجوه وكثيرا ما يكون أقوى من كل واحد منها وأقوم وقد وقع ذلك في مسائل لا تحصى في علوم شتى
وإن كانت تلك الأقوال غير مختلفة في المآل كان من توارد العبارات المختلفة على الشيء الواحد وفي ذلك من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام فيزول ذلك بغيرها وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين فكثيرا ما تعرض عبارتان متحدتا المعنى لاثنين تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما والأخرى أقرب إلى فهم الآخر وهذا مشاهد بالعيان لا يحتاج إلى برهان ومن ثم ترى بعض المؤلفين قد يأتون بعبارة ثم إذا بدا لهم أن بعض المطالعين ربما لم يفهمها أتوا بعبارة أخرى وأشاروا إلى ذلك
وإذا عرفت هذا تبين لك أن مثل هؤلاء المعترضين مثل غر جال في الأسواق فصار كلما رأى شيئا لم يشعر بفائدته أو لم تدع حاجته إليه عد وجوده عبثا وسفه رأي عماله والراغبين فيه وكان الأجدر به أن يقبل على ما يعنيه ويعرض عما لا يعنيه
وكأن كثيرا منهم يظن أن الاعتراض على أي وجه كان يدل على العلم والنباهة مع انه كثيرا ما يدل على الجهل والبلاهة ولا نريد بما ذكرنا سد باب الاعتراض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الذين بتعرضون لذلك ببادىء الرأي لا غير وإلا فالاعتراض إذا كان معقولا لا ينكر بل قد يحمد عليه صاحبه ويشكر
الفصل الثاني
في سبب جمع الحديث في الصحف وما يناسب ذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يكتبون عن النبي صلى الله عليه و سلم غير القرآن أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني فلا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
قال كثير من العلماء نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن وهذا لا ينافي جواز كتابته إذا أمن اللبس وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة و السلام في مرضه الذي توفي فيه ايتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده وقوله اكتبوا لأبي شاه وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث
ولما توفي النبي عليه الصلاة و السلام بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده في موضع واحد وسموا ذلك المصحف واقتصروا على ذلك ولم يتجاوزوه إلى كتابة الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن لكن صرفوا هممهم إلى نشره بطريق الرواية إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه عليه الصلاة و السلام إن بقيت في أذهانهم أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم فإن المقصود بالحديث هو المعنى ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن فإن لألفاظه مدخلا في الإعجاز فلا يجوز إبدال لفظ منه بلفظ آخر ولو كان مرادفا له خشية النسيان مع طول الزمان فوجب أن يقيد بالكتابة ولا يكتفى فيه بالحفظ
قال الإمام الخطابي في كتابه في إعجاز القرآن إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى قائم به ورباط لهما ناظم وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه
وأما معانيه فكل ذي لب يشهد لها بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظم في التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في ذاته وصفاته ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته ومن تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه
ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الآتية من الزمان جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله ا هـ
وقال إمام المتكلمين على طريقة السلف تقي الدين أحمد بن تيمية في الرسالة الملقبة بالتسعينية وهي رسالة تبلغ مجلدا كبيرا ألفها في الرد على المتكلمين على طريقة الخلف في مسألة الكلام في الوجه الثالث والستين ويجب أن يعلم أصلان عظيمان
أحدهما أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا أعني خاصة في اللفظ وخاصة فيما دل عليه من المعنى ولهذا لو فسر القرآن أو ترجم فالتفسير والترجمة قد يأتي بأصل المعنى أو بما يقرب منه وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية لا مع القدرة عليها ولا مع العجز عنها لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بألفاظ أخرى
الأصل الثاني أنه إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا ومعناه أشد مباينة لسائر معاني الكلام من مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه وقوله تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) يتناول ذلك كله انتهى
هذا ولم يزل أمر الحديث في عصر الصحابة وأول عصر التابعين على ما ذكرنا ولما أفضت الخلافة إلى من قام بحقها عمر بن عبد العزيز أمر بكتابة
الحديث وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين ووفاته لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومئة وعاش أربعين سنة وأشهرا وكان موته بالسم فإن بني أمية ظهر لهم أنه إن امتدت أيامه أخرج الأمر من أيديهم ولم يعهد به إلا لمن يصلح له فعاجلوه
قال البخاري في صحيحه في كتاب العلم وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
وأبو بكر هذا كان نائب عمر بن عبد العزيز في الإمرة والقضاء على المدينة روى عن السائب بن يزيد وعباد بن تميم وعمرو بن سليم الزرقي وروى عن خالته عمرة وعن خالدة ابنة أنس ولها صحبة
قال مالك لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم وكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة والقاسم فكتبه له وأخذ عنه معمر والأوزاعي والليث ومالك وابن أبي ذئب وابن إسحاق وغيرهم وكانت وفاته فيما قاله الواقدي وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومئة
وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام وعالم أهل الحجاز والشام
أخذ عن ابن عمر وسهل بن سعد وأنس بن مالك ومحمود بن الربيع وسعيد بن المسيب وأبي أمامة بن سهل وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين
وأخذ عنه معمر والأوزاعي والليث ومالك وابن أبي ذئب وغيرهم ولد سنة خمسين وتوفي سنة أربع وعشرين ومئة
قال عبد الرزاق سمعت معمرا يقول كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهري
ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشرت العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين
وأول من جمع ذلك ابن جريح بمكة وابن إسحاق أو مالك بالمدينة والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة وسفيان الثوري بالكوفة والأوزاعي بالشام وهشيم بواسط ومعمر باليمن وجرير بن عبد الحميد بالري وابن المبارك بخراسان وكان هؤلاء في عصر واحد ولا يدري أيهم سبق قال الحافظ ابن حجر إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في الأبواب وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي فإنه روي عنه أنه قال هذا باب من الطلاق جسيم وساق فيه أحاديث ا هـ
وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وذلك على رأس المئتين فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا وصنف مسدد البصري مسندا وصنف أسد بن موسى مسندا وصنف نعيم بن حماد الخزاعي مسندا
ثم اقتفى الحفاظ آثارهم فصنف الإمام أحمد مسندا وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم
ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخاري وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته
وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه فإن لم يتيسر له ذلك بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده
واقتفى أثر الإمام البخاري في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه فألف كتابه المشهور
ولقب هذان الكتابان بالصحيحين فعظم انتفاع الناس بهما ورجعوا عند الاضطراب إليهما وألفت بعدهما كتب لا تحصى فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها
هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شيء غير الكتاب العزيز وليس الأمر كذلك فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض
وذكر البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمرو كان يكتب الحديث فإنه روى عن أبي هريرة أنه قال ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب
وذكر مسلم في صحيحه كتابا ألف في عهد ابن عباس في قضاء علي فقال حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني فقال ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه قال فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل
وحدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس قال أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدر وأشار سفيان بن عيينة بذراعه
حدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن أبي إسحاق قال لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي عليه السلام قال رجل من أصحاب علي قاتلهم الله أي علم أفسدوا
وحدثنا علي بن خشرم أخبرنا أبو بكر يعني ابن عياش قال سمعت المغيرة يقول لم يكن يصدق على علي عليه السلام في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود ا هـ
قوله ويخفي عني وأخفي عنه هما بالخاء المعجمة وقد ظن بعضهم أنهما بالحاء من الإحفاء بمعنى الإلحاح أو الاستقصاء وجعل عن بمعنى على ولا يخفى ما في ذلك من التعسف يريد أنه يكتم عنه أشياء مما يخشى إذا ظهرت أن يحصل منها قيل وقال من النواصب والخوارج وناهيك بشوكتهما في ذلك العصر وبفرط ميلهما لمشاقة الإمام المرتضى فاختار عدم كتابة ذلك دفا للمحذور مع أن هذا النوع ربما كان مما لا يلزم السائل معرفته وإن كان مما يضطر إليه فإنه يمكنه أن يحصل عليه بطريق المشافهة
وأراد بقوله والله ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضل أنه لم يقض به لأنه لم يضل والظاهر أن الكتاب الذي محاه إلا قدر ذراع منه كان على هيئة درج مستطيل
وابن أبي مليكة المذكور هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي المكي قاضي مكة في زمن ابن الزبير وكان إماما فقيها فصيحا مفوها اتفقوا على توثيقه روى عنه ابن جريح ونافع بن عمر الجمحي والليث بن سعد وغيرهم روى عنه أيوب قال بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف فكنت أسأل ابن عباس وكانت وفاته سنه سبع عشرة ومئة ووفاة ابن عباس سنة ثمان وستين
والمغيرة المذكور هو الفقيه الحافظ أبو هشام بن مقسم الضبي الكوفي ولد أعمى وكان عجيبا في الذكاء قال الذهبي في طبقات الحفاظ ضعف أحمد روايته عن إبراهيم فقط وكان عثمانيا ويحمل على علي بعض الحمل وقال في الميزان إمام ثقة لكن لين أحمد بن حنبل روايته عن إبراهيم النخعي فقط مع أنها في الصحيحين وروى عن أبي وائل والشعبي ومجاهد
وقال محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست في أثناء وصف خزانة للكتب رآها في مدينة الحديثة لم ير لأحد مثلها كثرة ورأيت فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي عليه السلام وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه و سلم
ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والفراء والكسائي
ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم
ورأيت مما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته وهي أربع أوراق أحسبها من ورق الصين ترجمتها هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي وتحته هذا خط النضر بن شميل ا هـ
تنبيه قد نقلنا آنفا ما ذكره العلماء الأعلام في طريق الجمع بين الحديث الذي ورد في منع كتابة ما سوى القرآن والأحاديث التي وردت في إجازة ذلك وقد سلك ابن قتيبة فيه طريقا آخر فقال في تأويل مختلف الحديث وهو كتاب ألفه في
الرد على المتكلمين الذين أولعوا بثلب أهل الحديث ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث
قالوا أحاديث متناقضة قالوا رويتم عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء ين يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني شيئا فليمحه
ثم رويتم عن ابن جريح عن عطاء عن عبد الله بن عمرو قال قلت يا رسول الله أقيد العلم قال نعم قيل وما تقييده قال كتابته
ورويتم عن حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قلت في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك إلا الحق
قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إن في هذا معنيين
أحدهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة كأنه نهى في أول الأمر أن يكتب قوله ثم رأى بعد لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد
والمعنى الآخر أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له
قال أبو محمد حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا وهب بن جرير عن أبيه عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عمرو بن تغلب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أشراط الساعة أن يفيض المال ويظهر القلم ويفشو التجار
قال عمرو إن كنا لنلتمس في الحواء العظيم الكاتب فما يوجد ويبيع الرجل البيع فيقول حتى أستأمر تاجر بني فلان
انتهى كلامه وبمثله يعلم في مثل هذا المقام مقامه
الفصل الثالث في تثبت السلف في أمر الحديث خشية أن يدخل فيه ما ليس منه
قد كان للصحابة رضي الله عنهم عناية شديدة في معرفة الحديث وفي نقله لمن لم يبلغه فقد ذكر البخاري في صحيحه في كتاب العلم أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك
ولشدة عنايتهم به أقلوا من الرواية وأنكروا على من أكثر منها إذ الإكثار مظنة للخطأ والخطأ في الحديث عظيم الخطر روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قال قلت للزبير إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يحدث فلان وفلان فقال أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار وروى عن أنس أنه قال إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار
وروى عن أبي هريرة أنه قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى - إلى قوله - الرحيم ) إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه و سلم لشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون ا هـ
وإنما اشتد إنكارهم على أبي هريرة لأنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من ثلاث سنين فإنه أسلم عام خيبر وأتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من السابقين الأولين ذكر بقي بن مخلد أنه روى خمسة الآف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثا وله في البخاري أربع مئة وستة وأربعون حديثا وعمر بعده عليه السلام نحوا من خمسين سنة وكانت وفاته سنة تسع وخمسين
قال ابن قتيبة في جوابه عن طعن النظام في أبي هريرة بإنكار بعض الصحابة عليه كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها فيدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي
وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه و سلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة
وقال علي كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر وذكر الحديث
أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك كراهية التحريف أو الزيادة في الرواية أو النقصان لأنهم سمعوه عليه السلام يقول من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار وهكذا روي عن الزبير أنه رواه وقال أراهم يزيدون فيه متعمدا والله ما سمعته قال متعمدا
وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يومين متتابعين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون
فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم لخدمته وشبع بطنه وكان فقيرا معدما وأنه لم يكن ليشغله عنه غرس الودي ولا الصفق بالأسواق يعرض بأنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا أمسكوا عنه
وكان مع هذا يقول قال صلى الله عليه و سلم كذا وأنما سمعه من
الثقة عنده فحكاه وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله ا هـ
وقال الحافظ الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمة أبي بكر الصديق كان أول من احتاط في قبول الأخبار فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال ما أجد لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لك شيئا ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس فقال له هل معك أحد فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه
ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه
فهذا المرسل يدلك على أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنن فلما أخبره الثقة لم يكتف حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج
ثم قال فحق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل
( فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد )
قال الله عز و جل ( فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي أو لمذهب فبالله لا تتعب
وقال في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب روى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال لم رجعت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع قال لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا ما شأنك فأخبرنا وقال فهل سمع أحد منكم فقلنا نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجل منهم حتى أتى عمر فأخبره
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد وفي ذلك حث على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد
وقد كان عمر من وجله من أن يخطئ الصاحب في حديث رسول الله يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن
وقد روى شعبة وغيره عن بيان عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا وقال أتردون لم شيعتكم قالوا نعم تكرمة لنا قال ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال نهانا عمر
وروى الدراوردي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقلت له أكنت تحدث في زمان عمر هكذا قال لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته
وقال في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روى معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكون أتحبون أن يكذب الله ورسوله فقد زجر الإمام علي عن رواية المنكر وحث على التحديث بالمشهور وهذا أصل كبير في الكف عن بث الأشياء الواهية والمنكرة من الأحاديث في الفضائل والعقائد والرقائق ولا سبيل إلى معرفة هذا من هذا إلا بالإمعان في معرفة الرجال
وأخرج البخاري هذا الأثر في صحيحه فقال باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا وقال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك
قال شراح هذا الأثر إنما قال الإمام ذلك لأن الإنسان إذا سمع ما لا يفهمه أو ما لا يتصور إمكانه اعتقد استحالته جهلا فلا يصدق بوجوده فإذا
أسند إلى الله تعالى أو رسوله لزم ذلك المحذور ويكذب بفتح الذال على صيغة المجهول وهذا الإسناد من عوالي المؤلف لأنه يلتحق بالثلاثيات من جهة أن الراوي الثالث وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة من الصحابة وكان آخرهم موتا وأخر المؤلف هنا السند عن المتن ليميز بين طريقة إسناد الحديث وإسناد الأثر أو لضعف الإسناد بسبب ابن خربوذ أو للتفنن وبيان الجواز ومن ثم وقع في بعض النسخ مقدما وقد سقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني ا هـ
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة
تنبيه وقد فهم من هذين الأثرين أن المحدث يجب عليه أن يراعي حال من يحدثهم فإذا كان فيما ثبت عنده ما لا تصل إليه أفهامهم وجب عليه ترك تحديثهم به دفعا للضرر فليس كل حديث يجب نشره لجميع الناس كما يتوهمه الأغمار فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثتة قطع هذا البلعوم
قالوا أراد بالوعاء الأول الأحاديث التي لم ير ضررا في بثها فبثها وأراد بالوعاء الثاني الأحاديث المتعلقة ببيان أمراء الجور وذمهم فقد روي عنه أنه قال لو شئت أن أسميهم بأسمائهم وكان لا يصرح بذلك خوفا على نفسه منهم
وقال بعض الصوفية أراد به الأحاديث المتعلقة بالأسرار الربانية التي لا يدركها إلا أرباب القلوب
وفي كون المراد به هذا فيه نظر لأنه لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه من جميع الناس بل كان أظهره لبعض الخواص منهم
على أن الذي كتمه أبو هريرة لو كان مما يتعلق بالدين لكان غايته أن يكون بمنزلة المتشابه والمتشابه موجود في الكتاب العزيز وهو يتلى على الناس كلهم في كل حين وقد روى أبو هريرة كثيرا من الأحاديث المتشابهة
أخرج مسلم عنه في باب صلاة الليل أنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له
وأخرج عنه في باب رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة أنه قال إن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك
يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه الحديث
وأخرج عنه في كتاب الجنة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلق الله عز و جل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقة قال اذهب
فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن
وروى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي ا هـ
هذا ومن الغريب ما يروي عن ابن القاسم أنه قال سألت مالكا عمن يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد
قال تقي الدين في التسعينية هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره
وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وقد كان مالك يترك أحاديث كثيرة لكونها لا يؤخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب وغاية ما يعتذر له أن يقال كره أن يتحدث بذلك حديثا يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك وأما إن قيل إنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود
ولنرجع إلى المقصود وهو بيان تروي جمهور الصحابة في أمر الرواية فنقول
قال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن عباد وسعيد بن عمرو الأشعثي جميعا عن ابن عيينة قال سعيد أخبرنا سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس قال جاء هذا إلى ابن عباس يعني بشير بن كعب فجعل يحدثه فقال له ابن عباس عد لحديث كذا وكذا فعاد له ثم حدثه فقال له عد لحديث كذا وكذا فعاد له
فقال له ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا فقال له ابن عباس إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه
حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات
وحدثني أبو أيوب سليمان بن عبيد الله الغيلاني حدثنا أبو عامر يعني العقدي حدثنا رباح عن قيس بن سعد عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه
فقال يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تسمع فقال ابن عباس إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ا هـ
وبشير المذكور مخضرم يروي عن أبي ذر وأبي الدرداء وقد وثقه النسائي وابن سعد وهو مصغر بشر
وأخرج ابن ماجة في سننه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قلنا لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد
وأخرج عن السائب بن يزيد أنه قال صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم بحديث واحد
وروى عن الشعبي أنه قال جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا
وروى عن محمد بن سيرين أنه قال كان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله ففرغ منه قال أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد ثبت توقف كثير من الصحابة في قبول كثير من الأخبار وقد استدل بذلك من يقول بعدم الاعتماد عليها في أمر الدين
وقد رد عليهم الجمهور بأن الرد إنما كان لأسباب عارضة وهو لا يقتضي رد جميع أخبار الآحاد كما ذهب إليه أولئك على أن الأخبار التي استندوا إليها إنما تدل على مذهب من يشترط في قبول الخبر التعدد في رواته ولا تدل على مذهب من يشترط التواتر فيه فقد ذكر الإمام الغزالي في المستصفى ثم قال
ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور
أحدها أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
ثانيها أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث أنه قال لولا لو علم صدقه لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد والأقوى ما ذكرناه من قبل
نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فليزمه اشتراطه ثلاثة ويلمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كن هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكد أو خلافة فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يستظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقفا لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان معروفا بأنه كلفب أقاربه فتوقفا تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى يثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم
وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار ا هـ
هذا وقد عقد الحافظ ابن حزم فصلا في كتاب الإحكام للرد على من ذم الإكثار من الرواية وقد أحببنا إيراده على طريق التلخيص تقريبا للمرام وتخليصا للمطالع من كثير من العبارات الشديدة الإيلام قال فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن قال علي وذهب قوم إلى ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر وذكروا أنه لم يلتفت إلى رواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا وأنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت
وتوعد أبا موسى بالضرب إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان
وأن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الزكاة فقال أغنها عنا فرجع إلى أبيه فقال ضع الصحيفة حيث وجحدتها
وأن ابن عباس لم يلتفت إلى رواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار ولا إلى رواية علي في النهي عن المتعة ولا إلى رواية أبي سعيد في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد
وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال إن لأبي هيرة زرعا وذكروا نحو هذا عن نفر من التابعين
قال علي وقولهم هذا داحض بالبرهان الظاهر وهو أن يقال لمن ذم الإكثار من الرواية أخبرنا أخير هي أم شر ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن قال هي خير فالإكثار من الخير خير وإن قال هي شر فالقليل من الشر شر وهم قد أخذوا بنصيب منه
أما نحن فنقول إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله ثم نقول لهم عرفونا حد الإكثار من الرواية المذموم عندكم لنعرف ما تكرهون وحد الإقلال المستحب عندكم فإن حدوا لذلك حدا كانوا قد قالوا بغير برهان وبغير علم وإن لم يحدوا في ذلك حدا كانوا قد وقعوا في أسخف منزلة إذ لا يدرون ما ينكرون
والحق أن الخير كله في التفقه في الآثار والقرآن وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد حض النبي صلى الله عليه و سلم على أن يبلغ عنه وهذا هو التفقه والنذارة التي أمر الله تعالى بها
وليت شعري إذا كان الإكثار من الرواية شرا فأين الخير أفي التقليد الذي لا يلتزمه إلا جاهل أو متجاهل أم في التحكم في دين الله بالآراء التي قد حذر الله تعالى منها وزجر النبي صلى الله عليه و سلم عنها
وقد زعم بعضهم أن مالكا كان يسقط من الموطأ كل سنة وأنه لم يحدث بكثير مما عنده وهذا حال من يريد أن يمدح فيذم ويريد أن يبني فيهدم فإن أرادوا
أن مالكا حدث بالصحيح عنده وترك ما لم يصح فقد أحسن وكذلك كل من حدث بما صح عنده كسفيان وشعبة والأوزاعي وإن أرادوا أنه حدث بالسقيم وترك الصحيح فقد نزهه الله عن ذلك وكذلك إن أرادوا أنه حدث بصحيح وسقيم وترك صحيحا وسقيما فبطل ما أرادوا أن يمدحوه به وكان ذما عظيما لو صح عليه وأعوذ بالله من ذلك
وممايدل على كذب من قال هذا أن الموطأ ألفه مالك بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك وكانت وفاة يحيى في سنة ثلاث وأربعين ومئة ولم يزل الموطأ يرويه عن مالك منذ ألفه طائفة بعد طائفة وأمة بعد أمة
وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة وموطؤه أكمل الموطآت لأن فيه خمس مئة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمس مئة حديث وتسعة وخمسون حديثا
وكان سماع ابن وهب للموطأ منمالك قبل سماع أبي المصعب بدهر وكذلك سماع ابن القاسم ومعن بن عيسى وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمس مئة حديث وثلاثة أحاديث وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل
قال علي وأول من ألف في جمع الحديث حماد بن سلمة ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس ونحن نحمد ذلك من فعلهم ونقول إن لهم ولمن فعل فعلهم أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السن وكثير ما بينوا من الحق وما رفعوا من الإشكال في الدين وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف فمن أعظم أجرا منهم جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان
وأما رد عمر لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته هي وهي من المبايعات المهاجرات الصواحب فهو تنازع بين أولي الأمر وليس قول أحدهما بأولى من
قول الآخر إلا بنص والنص موافق لقولها وهو في رد ذلك مجتهد مأجور مرة ولا تعلق للمستدلين بهذا الخبر فإنهم قد خالفوا الاثنين كليهما
وأما ما ذكروا من نهي عمر عن الإكثار من الحديث فحدثنا محمد بن سعيد حدثنا أحمد بن عون حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الخشني حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن ا لخطاب إلى صرار فانتهى إلى مكان فيه فتوضأ فقال تدرون لم شيعتكم قلنا لحق الصحبة قال إنكم ستأتون قوما تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا شريككم قال قرظة فما حدثت بشيء بعد ولقد سمعت كما سمع أصحابي
فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه بل لا شك في ذلك لأن قرظة مات والمغيرة بن شعبة أمير بالكوفة هذا مذكور في الخبر الثابت المسند أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب فذكر المغيرة عند ذلك خبرا مسندا في النوح ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك والشعبي أقرب إلى الصبا فلا شك أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا
الخبر بل ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قرظة
قال علي ورووا عنه أنه حبس عبد الله بن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما روينا بالسند المذكور إلى بندار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات قال علي هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد
وقد حدث عمر بحديث كثير فإنه روي عنه خمس مئة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه و سلم فهو كثير الرواية وليس في الصحابة أكثر رواية منه إلا بضعة عشر منهم
والذي صح عن عمر أنه تشدد في الحديث وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه وإنما فعل ذلك اجتهادا منه
وأما الرواية عن أبي بكر الصديق فمنقطعة لا تصح ولو صحت لما كان لهم فيها حجة لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر عندهم فالذي يدخل خبر الواحد يدخل خبر الاثنين ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك بنص فيوقف عنده
وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أوردوه والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم رواية في صفة الزكاة استغنى بها عما عند علي بل نقطع عليه بهذا قطعا ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بالمخالفة وقد أعاذه الله من ذلك
وأما ابن عباس فقد روى في المتعة إباحة شهدها وثبت عليها ولم يحقق النظر
وروى في الدرهم بالدرهمين خبرا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه و سلم وليت شعري من جعل قوله أولى من قول من خالفه في ذلك
وأما قول ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا فصدق وليس في هذا رد لروايته
فالواجب الرد المفترض الذي لا يسوغ سواه وهو الرد إلى الله تعالى وإلى الرسول عليه الصلاة و السلام وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله ولا سبيل إلى ذلك إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه وقد حض عليه الصلاة و السلام على تبليغ الحديث عنه فقال في حجة الوداع لجميع من حضر ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث
ثم العجب من إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه فوالله العظيم لا أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها لأنهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد وهذا عجيب جدا أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد وأخذ ما وافقه من ذلك فهذا هوس لأن لخصومهم أن يردوا بهذا نفسه ما أخذوا هم به ويأخذوا ما ردوه هم منه
فإن قال قائل الحديث قد يدخله السهو والغلط قيل له إن كنت ممن يقول بخبر الواحد فاترك كل حديث أخذت به منه فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو والغلط وإن كنت مقلدا فااترك كل من قلدت فإن السهو والغلط يدخلان عليه بالضمان وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين أخذت دينك عنهم وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد فقد أثبتنا بالبرهان وجوب قبوله
الفصل الرابع
في تمييز علماء الحديث ما ثبت منه مما لم يثبت اعلم أن أئمة الحديث لما شرعوا في تدوينه دونوه على الهيئة التي وصل بها إليهم ولم يسقطوا مما وصل إليهم في الأكثر إلا ما يعلم أنه موضوع مختلق فجمعوا ما رووا منه بالأسانيد التي رووه بها ثم بحثوا عن أحوال الرواة بحثا شديدا حتى عرفوا من تقبل روايته ومن ترد ومن يتوقف في قبول روايته
وأتبعوا ذلك بالبحث عن المروي وحال الرواية إذ ليس كل ما يرويه من كان موسوما بالعدالة والضبط يؤخذ به لما أنه قد يعرض له السهو أو النسيان أو الوهم ولهم في معرفة ذلك طرق مذكورة في كتبهم وكتب علماء الأصول وقد تم لهم بذلك ما أرادوا من معرفة درجة كل حديث وصل إليهم على قدر الوسع والإمكان فصار لهم من الأجر الجزيل والذكر الجميل ما هو كفاء لما لقوه في ذلك من فرط العناء
وقد دعاهم النظر في أحوال الرواة والمروي والرواية إلى أن يصطلحوا على أسماء يتداولونها بينهم تسهيلا للبحث كما فعل غيرهم من أرباب الفنون وقد جعل من بعدهم ما اصطلحوا عليه فنا مستقلا سموه بمصطلح أهل الأثر وقد اعتنى العلماء الأعلام به وألفوا فيه مؤلفات كثيرة وهو فن لا يسع طالب علم الأثر جهله
وقد رأيت أن أورد منه فيما يأتي ما ظهر لي عظم جدواه فيما عمدت إليه ولنبدأ بذكر فوائد مهمة تتعلق بذلك
الفائدة الأولى الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى معين غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب المرء على فعله ويعاقب على تركه واصطلح المتكلمون على وضعه لما لا يتصور في العقل عدمه
واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازا بالنسبة إلى غيرهم قال في المفتاح الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية والسبب في انقسامها هذا هو ما عرفت أن اللفظة يمتنع أن تدل على مسمى من غير وضع فمتى رأيتها دالة لم تشك في أن لها وضعا وأن لوضعها صاحبا
فالحقيقة لدلالتها على المعنى تستدعي صاحب وضع قطعا فمتى تعين عندك نسبت الحقيقة إليه فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع ومتى لم يتعين قلت عرفية وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه غير ممتنع في نفس الأمر ا هـ
هذا وقد ذكر المحققون أنه ينبغي لمن تكلم في فن من الفنون أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه مستعملا لها في معانيها المعروفة عند أربابه ومخالف ذلك إما جاهل بمقتضى المقام أو قاصد للإبهام أو الإيهام مثال ذلك فيما نحن فيه أن يقول قائل عن حديث ضعيف إنه حديث حسن فإذا اعترض عليه قال وصفته بالحسن باعتبار المعنى اللغوي لاشتمال هذا الحديث على حكمة بالغة وأما قولهم لا مشاحة في الاصطلاح فهو من قبيل تمحل العذر وقائل ذلك عاذل في صورة عاذر
مثال ذلك في الراوي أن يقال كل راو يكون عدلا ضابطا فهو مقبول الرواية وكل راو يكون غير عدل أو غير ضابط فهو مردود الرواية
ومثال ذلك في المروي أن يقال كل مروي تكون رواته أهل عدالة وضبط فهو مقبول يحتج به وكل مروي لا تكون رواته من أهل العدالة والضبط فهو مردود لا يحتج به
وأما معرفة حال الراوي المعين وحال المروي المعين فإنما تكون بالبحث عنه بعينه على الطريقة التي جرى عليها أئمة الحديث وقد قاموا بذلك أحسن قيام فكفوا من بعدهم المؤونة
وقوله من حيث القبول والرد احترز به عن معرفة حال الراوي والمروي من جهة أخرى ككون الراوي أبيض أو أسود أو كون المروي كلاما ظاهر الدلالة على المعنى أو خفي الدلالة عليه
واعترض عليه من وجهين
أحدهما أن يكون المحمول في مسائل هذا الفن هو قولك مقبول أو مردود فتكون المسائل التي محمولها غير ذلك مثل صحيح أو حسن أو ضعيف ونحوها خارجة عن هذا الفن
وثانيها ان تكون مسائل هذا الفن كلها ترجع إلى قولك الراوي من حيث كذا مقبول ومن حيث كذا مردود والمروي كذلك
وأما ما يقال من أن في هذا الفن مسائل لا تتعلق بالقبول والرد كآداب الشيخ والطالب ونحو ذلك فالخطب فيه سهل فإن أكثر الفنون قد يتعرض فيها لمباحث غير مقصودة بالذات غير أن لها تعلقا بالمقصود فتكون كالتتمة وهو أمر لا ينكر
والأولى تسمية هذا الفن بالاسم الأول فإنه أدل على المقصود وليس فيه شيء من الإبهام أو الإيهام وقد جرى على ذلك الحافظ ابن حجر فسمى رسالته المشهورة فيه بـ نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
الفائدة الثالثة قد قسموا علم الحديث أولا إلى قسمين قسم يتعلق بروايته وقسم يتعلق بدرايته ثم قسموا كل قسم منها إلى أقسام سموا كل واحد منها باسم ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى الكتب المبسوطة في علم الحديث
وقد أحببنا الاقتصار هنا على تعريف العلم المتعلق بروايته والعلم المتعلق بدرايته وقد تعرض لذلك صاحب إرشاد القاصد في أثناء بيان العلوم الشرعية فآثرنا إيراد المقالة بتمامها رعاية لاتصال الكلام ولما فيها من الفوائد التي لا يستغنى عنها في هذا المقام
قال من المعلوم أن إرسال الرسل عليهم السلام إنما هو لطف من الله تعالى بخلقه ورحمة لهم ليتم لهم امر معاشهم ويتبين حال معادهم فتشتمل الشريعة ضرورة على المعتقدات الصحيحة التي يجب التصديق بها والعبادات المقربة إلى الله تعالى مما يجب القيام به والمواظبة عليها والأمر بالفضائل والنهي عن الرذائل مما يجب قبوله
فينتظم من ذلك ثمانية علوم شرعية وهي علم القراءات وعلم رواية الحديث وعلم تفسير الكتاب المنزل على النبي المرسل وعلم دراية الحديث وعلم أصول الدين وعلم أصول الفقة وعلم الجدل وعلم الفقه
وذلك لأن المقصود إما النقل وإما فهم المنقول وإما تقريره وإما تشييده بالأدلة وإما استخراج الأحكام المستنبطة
والنقل إن كان لما أتى به الرسول عن الله تعالى بواسطة الوحي فهو علم القراءات أو لما صدر عن نفسه المؤيدة بالعصمة فعلم رواية الحديث
وفهم المنقول إن كان من كلام الله تعالى فعلم تفسير القرآن أو من كلام الرسول فعلم دراية الحديث
والتقرير إما للآراء فعلم أصول الحدين أو للأفعال فعلم أصول الفقه وما يستعان به على التقرير علم الجدل ومعرفة الأحكام المستنبطة علم الفقه
ولا خفاء لدى ذي حجر بما في هذه العلوم من جملة من المنافع أما في الدنيا فحفظ المهج والأموال وانتظام سائر الأحوال وأما في الأخرى فالنجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم فلنذكرها على التفصيل برسومها ونشير إلى الكتب المفيدة
علم القراءة علم بنقل لغة القرآن وإعرابه الثابت بالسماع المتصل ومن الكتب المشهورة المختصرة فيه التيسير ونظمه الشاطبي برد الله مضجعه في لاميته المشهورة فنسخت سائر كتب الفن لضبطها بالنظم ولابن مالك رحمه الله دالية بديعة في علم القراءات لكنها لم تشتهر ومن الكتب المبسوطة كتاب الروضة وشروح الشاطبية
علم رواية الحديث علم بنقل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله بالسماع المتصل وضبطها وتحريرها
وأضبط الكتب المجمع على صحتها كتاب البخاري وكتاب مسلم وبعدهما بقية كتاب السنن المشهورة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني
والمسندات المشهورة كمسند أحمد وابن أبي شيبة والبزار ونحوها
وزهر الخمائل لابن سيد الناس مستوعب للسير النبوية
ومن الكتب المشتملة على متون الأحاديث المجردة من هذه الكتب الإلمام لابن دقيق العيد فيما يتعلق بالأحكام ورياض الصالحين للنووي فيما يتعلق بالترغيبات والترهيبات
علم التفسير علم يشتمل على معرفة فهم كتاب الله المنزل على نبيه المرسل صلى الله عليه و سلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه
والعلوم الموصلة إلى علم التفسير في اللغة وعلم النحو وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم القراءات
ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول وأحكام الناسخ والمنسوخ وإلى معرفة أخبار أهل الكتاب ويستعان فيه بعلم أصول الفقه وعلم الجدل
ومن الكتب المختصرة فيه زاد المسير لابن الجوزي والوجيز للواحدي ومن المتوسطة تفسير الماتريدي والكشاف للزمخشري وتفسير البغوي وتفسير الكواشي ومن المبسوطة البسيط للواحدي وتفسير القرطبي ومفاتيح الغيب للإمام فخر الدين بن الخطيب
واعلم أن أكثر المفسرين اقتصر على الفن الذي يغلب عليه فالثعلبي تغلب عليه القصص وابن عطية تغلب عليه العربية وابن الفرس أحكام الفقه والزجاج المعاني ونحو ذلك وهاهنا بحث وهو من المعلوم البين أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتاب كل قوم على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سنذكره بعد تقرير قاعدة وهي أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة
أحدها كمال فضيلة المصنف فإنه بجودة ذهنه وحسن عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز يراه كافيا في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن هنا شرح بعض العلماء تصنيفه
وثانيها حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر وكذلك ترتيب إهمال بعض الأقيسة وإغفال علل بعض القضايا
فيحتاج الشارح أن يذكر المقدمات المهملات ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم وينبه على الغنية عن البيان ويرشد إلى أماكن ما لا يتبين بذلك الوضوع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطي علل ما لا يعطي المصنف علله
وثالثها احتمال اللفظ لمعان تاويلية كما هو الغالب على كثير من اللغات أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ المجازية واستعمال الدلالة الالتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه لغير ضرورة إلى غير ذلك مما يقع في الكتب المصنفة فيحتاج الشارح أن ينبه على ذلك
وإذا تقررت هذه القاعدة نقول إن القرآن العظيم إنما أنزل باللسان العربي في زمن أفصح العرب وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر وجودة التأمل والتدبر مع سؤالهم النبي صلى الله عليه و سلم في الأكثر ودعا لحبر الأمة فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
ولم ينقل إلينا عن الصدر الأول تفسير القرآن وتأويله بجملته فنحن نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه زيادة على ما لم يكونوا يحتاجون إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد احتياجا إلى التفسير
ومعلوم أن تفسيره يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته وحسن معانيه وهذا لا يستغني عن قانون عام يعول في تفسيره عليه ويرجع في تأويله إليه ومسبار
تام يميز ذلك وتتضح به المسالك وقد أودعناه كتابنا المسمى نغب الطائر من البحر الزاخر وأردفناه هنالك بالكلام على الحروف الواقعة مفردة في أوائل السور اكتفاء بالمهم عن الإطناب لمن كان صحيح النظر
علم دراية الحديث علم يتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواة وأصناف المرويات واستخراج معانيها ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبديع والأصول ويحتاج إلى تاريخ النقلة والكلام في احتياجه إلى مسبار يميزه كالكلام فيما سبق
والكتب المنسوبة إلى هذا العلم كالتقريب والتيسير للنووي وأصله ككتاب علوم الحديث لابن الصلاح وأصله ككتاب المعرفة للحاكم وكتاب الكفاية للخطيب أبي بكر بن ثابت إنما هي مداخل ليست بكتب كافية في هذا العلم
علم أصول الدين علم يشتمل على بيان الآراء والمعتقدات التي صرح بها صاحب الشرع وإثباتها بالأدلة العقلية ونصرتها وتزييف كل ما خالفها
والمشهور أن أول من تكلم في هذا العلم في الملة الإسلامية عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما من رجال المعتزلة لما وقعت لهم الشبهة في كلام الله تعالى كيف يكون محدثا وهو صفة من صفات القديم وكيف يكون قديما وهو أمر ونهي وخبر وتوراة وإنجيل وقرآن
والشبهة في مسألة القدر هل الأشياء الكائنة كلها بقدر الله ولا قدرة للعبد على الخروج عنها فكيف العقاب وإن كان للعبد قدرة على مخالفة المقدور فيلزم تغير علم الأول بالكائنات إلى غير ذلك من المسائل
وأخذ عنهم أبو الحسن الأشعري وخالفهم في كثير من المسائل
ومن الكتب المختصرة فيه قواعد العقائد للخوجة نصير الدين الطوسي ولباب الأربعين للقاضي جمال الدين بن واصل ومن المتوسطة المحصل للإمام
فخر الدين ولباب الأربعين للأرموي ومن المبسوطة نهاية العقول للإمام فخر الدين والصحائف للسمرقندي
علم أصول الفقه علم يتعرف منه تقرير مطالب الأحكام الشرعية العلمية وطريق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر
ومن الكتب المختصرة فيه القواعد لابن الساعاتي ومختصر ابن الحاجب والمنهاج للبيضاوي ومختصر الروضة لابن قدامة ومن المتوسطة التحصيل للأرموي ومن المبسوطة الأحكام للآمدي والمحصول للإمام فخر الدين بن الخطيب
علم الجدل علم يتعرف منه كيفية تقرير الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة وترتيب النكت الخلافية وهذا متولد من الجدل الذي هو أحد أجزاء المنطق لكنه خصص بالمباحث الدينية وللناس فيه طرق أشبهها طريقة العميدي ومن الكتب المختصرة فيه المغني للأبهري والفصول للنسفي والخلاصة للمراغي
ومن المتوسطة النفائس للعميدي والرسائل للأرموي ومن المبسوطة تهذيب النكت للأرموي
علم الفقه علم بأحكام التكاليف الشرعية العملية كالعبادات والمعاملات العادات ونحوها
الفائدة الرابعة قال عبد الله بن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقال أيضا بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا
عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك فقال عبد الله يا أبا إسحاق عمن هذا قلت له هذا من حديث شهاب بن خراش فقال ثقة عمن قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قلت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه و سلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف
وقال أبو الزناد أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله ذكر ذلك مسلم في صحيحه
والإسناد مصدر من قولك أسندت الحديث إلى قائله إذ رفعته إليه بذكر ناقله
وأما السند فهو في اللغة ما استندت إليه من جدار وغيره وهو في العرف طريق متن الحديث وسمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه
مثال الحديث المسند قول يحيى أحد رواة الموطأ أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يبع بعضكم على بيع بعض فمتن الحديث فيه هو لا يبع بعضكم على بيع بعض
والمتن في أصل اللغة الظهر وما صلب من الأرض وارتفع ثم استعمل في العرف فيما ينتهي إليه السند والإضافة فيه للبيان
وسند الحديث هو ما ذكر قبل المتن ويقال له الطريق لأنه يوصل إلى المقصود هنا وهو الحديث كما يوصل الطريق المحسوس إلى ما يقصده السالك فيه وقد يقال للطريق الوجه تقول هذا حديث لا يعرف إلا من هذا الوجه
وأما الإسناد فقد عرفت أنه مصدر أسند ولذلك لا يثنى ولا يجمع وكثرا ما يراد به السند فيثنى ويجمع تقول هذا حديث له إسنادان وهذا حديث له أسانيد وأما السند فيثنى ولا يجمع تقول هذا حديث له سندان ولا يقال هذا حديث له أسناد بوزن أوتاد وكأنهم استغنوا بجمع الإسناد بمعنى السند عن جمعه وقد ذكر بعض اللغويين أن السند بمعانيه اللغوية لم يجمع أيضا وقد وقع
ذهول لكثير من الأفاضل عن أن الإسناد يأتي بمعنى المصدر ويأتي اسما بمعنى السند فاضطربت عباراتهم حتى أوقعوا المطالع في الحيرة
الفائدة الخامسة اتفق علماء الحديث على أنه لا يؤخذ بالحديث إلا إذا كانت رواته موصوفين بالعدالة والضبط وأن العدالة وحدها غير كافية ولنذكر لك شيئا مما قالوه في ذلك
قال أبو الزناد عبد الله بن ذكوان أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله
وقال عبد الله بن المبارك قلت لسفيان الثوري إن عباد بن كثير من تعرف حاله وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه قال سفيان بلى قال عبد الله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول لا تأخذوا عنه
وقال يحيى بن سعيد القطان لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث قال مسلم يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب
وقال أيوب السختياني إن لي جارا ثم ذكر من فضله ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة
وقال عفان بن مسلم كنا عند إسماعيل بن علية فحدث رجل عن رجل فقلت إن هذا ليس بثبت فقال الرجل اغتبته فقال إسماعيل ما اغتابه ولكنه حكم أنه ليس بثبت
وقال زكريا بن عدي قال لي أبو إسحاق الفزاري اكتب عن بقية ما روى عن المعروفين ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين ولا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين ولا غيرهم
وقال عبد الله بن المبارك بقية صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر ذكر ذلك مسلم في صحيحه
وكان الإمام مالك شديد الانتقاد للرواة وقد نقل عنه في ذلك أقوال أوردها الجلال في إسعاف المبطأ برجال الموطأ ونحن نورد هنا شيئا منها
روى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنه قال ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم
وقال يحيى بن معين كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة إلا عبد الكريم البصري أبا أمية
وقال النسائي ما أحد عندي من التابعين أنبل من مالك بن أنس ولا أجل ولا آمن على الحديث منه ثم يليه شعبة في الحديث ثم يحيى بن سعيد القطان ليس بعد التابعين آمن على الحديث من هؤلاء الثلاثة ولا أقل رواية عن الضعفاء
وقال معن بن عيسى كان مالك يقول لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك لا يؤخذ من سفيه ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به
وقال إسحاق بن محمد الفروي سئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال لا فقيل أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث به فقال لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ ويكون قد طلب وجالس الناس وعرف وعمل ويكون معه ورع
وقال إسماعيل بن أبي أويس سمعت خالي مالكا يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه
وقال أبو سعيد الأعرابي كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه سئل ع غير واحد فقال ثقة روى عنه مالك
وقال شعبة بن الحجاج كان مالك أحد المميزين ولقد سمعته يقول ليس كل الناس يكتب عنهم وإن كان لهم فضل في أنفسهم إنما هي أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تؤخذ إلا من أهلها
وقال ابن كنانة قال مالك من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة
الفائدة السادسة من أصعب الأشياء الوقوف على رسم العدالة فضلا عن حدها وقد خاض العلماء في ذلك كثيرا فقال بعضهم العدالة هي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر وقال بعضهم هي ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وعن فعل صغيرة تشعر بالخسة كسرقة باقة بقل وقال بعضهم من كان الأغلب من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته ومن كان الأغلب من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته وروايته
وقال الغزالي في المستصفى العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب
ثم لا خلاف في أنه لا تشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يجترئ على الكذب للأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاح
والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائر في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض ا هـ
وقال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل وهذا القول وأمثاله وإن كان مخالفا لما عليه الجمهور في الظاهر فهو المعول عليه عند الجهابذة في الباطن
وقد انتبه لذلك بعض المتأخرين فقال ما لبابه قد نقل عن كثير من الرواة المأخوذ بروايتهم الإصرار على الصغائر من الغيبة والنميمة وهجران الأخ من غير موجب في الشرع ونحو ذلك من حسد الأقران والبغي عليهم بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يدعو إلى اعتقاد ما لا يدل عليه نقل أو عقل ونسبة من لا يقول به إلى البدعة بل إلى الكفر والظاهر أن المعتبر في عدالة الراوي هو كونه بحيث لا يظن به الاجتراء على الافتراء على النبي صلى الله عليه و سلم
وقال العز بن عبد السلام في القواعد الكبرى فائدة لا ترد شهادة أهل الأهواء لأن الثقة حاصلة بشهادتهم حصولها بشهادة أهل السنة أو أولى فإن من يعتقد أنه يخلد في النار على شهادة الزور أبعد في الشهادة الكاذبة ممن لا يعتقد ذلك فكانت الثقة بشهادته وخبره أكمل من الثقة بمن لا يعتقد ذلك
ومدار قبول الشهادة والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء تحققه في أهل السنة والأصح أنهم لا يكفرون ببدعهم ولذلك تقبل شهادة الحنفي إذا حددناه في شرب النبيذ لأن الثقة بقوله لم تنخرم بشربه لاعتقاده
إباحته وإنما ردت شهادته الخطابية لأنهم يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضا فلا تحصل الثقة بشهادتهم لاحتمال بنائها على ما ذكرناه ا هـ
ولعدم وقوف بعض الناس على ما ذكرنا من أن بعض العلماء يميل إلى أن الثقة بالخبر هي المعول عليه في أمره انقسم الأغمار منهم إلى فريقين ففريق منهم اعترض على كثير من جهابذة المحدثين حيث رووا عمن لا ترتضى سيرتهم ظنا منهم بأن ذلك من قبيل الشهادة لهم بحسن السيرة ونقاء السريرة فنسبوهم إلى الجهل أو التجاهل وما دروا بأن الرواية عنهم إنما تشعر بالوثوق بخبرهم
وهذا أيضا إنما يكون في الكتب التي التزم أربابها أن لا يذكروا فيها سوى ما صح من الأخبار
وفريق منهم صار يذب عن كل من روى عنه إمام من أئمة الحديث وإن كان ممن اتفق علماء الأخبار والآثار على الطعن فيه زعما منهم أنهم لا يروون إلا عمن يكون حسن السيرة نقي السريرة نعم لهم وجه في هذه الدعوى لو صرح ذلك الإمام بأنه لا يروي إلا عمن يكون كذلك
هذا ومما يستغرب ما ذهب إليه بعض من ينحو في الظاهر نحو مذهب الظاهرية فقال في مقالة له في أصول الفقه وإذا ورد الخبر عن قوم مستورين لم يتكلم فيهم بجرح ولا تعديل وجب الأخذ بروايتهم فإن جرح أحد منهم بجرحة تؤثر في صدقه ترك حديثه وإن كانت الجرحة لا تتعلق بنقله وجب الأخذ به إلا شارب الخمر إذا حدث في حال سكره فإن علم أنه حدث في حال صحوه وهو ممن هذه صفته أخذ بقوله والأصل العدالة والجرحة طارئة وإذا ثبت على حد ما قلناه ترك الأخذ بحديث صاحب تلك الجرحة ا هـ
وقد نحا نحو هذا المنحى بعض الشيعة فجوز الأخذ برواية الفاسق إذا كان متحرزا من الكذب وعلل ذلك بأن العدالة المطلوبة في الرواية موجودة فيه
تتمة العدالة مصدر عدل بالضم يقال عدل فلان عدالة وعدولة فهو عدل أي
رضا ومقنع في الشهادة والعدل يطلق على الواحد وغيره يقال هو عدل وهما عدل وهم عدل ويجوز أن يطابق فيقال هما عدلان وهم عدول وقد يطابق في التأنيث فيقال امرأة عدلة وأما العدل الذي هو ضد الجور فهو مصدر قولك عدل في الأمر فهو عادل
وتعديل الشيء تقويمه يقال عدله تعديلا فاعتدل أي قومه فاستقام وكل مثقف معدل وتعديل الشاهد نسبته إلى العدالة وقد فسر العدالة في المصباح فقال قال بعض العلماء العدالة صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة ظاهرا فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرا لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال
ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة قدح وإلا فلا وعرف المروءة فقال هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات يقال مرؤ الإنسان فهو مريء مثل قرب فهو قريب أي ذو مروءة قال الجوهري وقد تشدد فيقال مروة
وقد اعترض بعض العلماء على إدخال المروءة في حد العدالة لأن جلها يرجع إلى مراعاة العادات الجارية بين الناس وهي مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأجناس وقد يدخل في المروءة عرفا ما لا يستحسن في الشرع ولا يقتضيه الطبع على أن المروءة من الأمور التي يعسر معرفة حدها على وجه لا يخفى
قال بعضهم المروءة الإنسانية وقال بعضهم المروءة كمال المرء كما أن الرجولية كمال الرجل وقال بعضهم المروءة هي قوة للنفس تصدر عنها الأفعال
الجميلة المستتبعة للمدح شرعا وعقلا وشرفا ولعل المروءة بهذا المعنى هو الذي أراده من قال
( مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت على ما تنتحب الفتاة )
( فقالت كيف لا أبكي وأهلي ... جميعا دون كل الخلق ماتوا )
وقال بعض الفقهاء المروءة صون النفس عن الأدناس ورفعها عما يشين عند الناس وقيل سير المرء بسيره أمثاله في زمانه
فمن ترك المروءة لبس الفقيه القباء والقلنسوة وتررده فيهما بين الناس في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه ومنه المشي في الأسواق مكشوف الرأس حيث لا يعتاد ذلك ولا يليق بمثله ومنه مد الرجلين في مجالس الناس ومنه نقل الرجل المعتبر الماء والأطعمة إلى بيته إذا كان عن بخل وشح وإن كان عن تواضع واقتداء بالسلف لم يقدح ذلك في المروءة وكذلك إذا كان يأكل ما يجد ويأكل حيث يجد زهدا وتنزها عن التكلفات المعتادة ويعرف ذلك بقرائن الأحوال
وإنما لا تقبل شهادة من أخل بالمروءة لأن الإخلال بها يكون إما لخبل في العقل أو لنقصان في الدين أو لقلة حياء وكل ذلك رافع للثقة بقوله
ولم يتعرض كثير من علماء الأصول لذكر المروءة لأن المخل بشيء مما يتعلق بها إن كان إخلاله به مما يرفع الثقة بقوله فقد احترزوا عنه وإن كان مما لا يرفع الثقة بقوله لم يضر قال بعضهم العدالة الاستقامة وليس لكمال الاستقامة حد يوقف عنده فاعتبر فيها أمر واحد وهو رجحان جهة الدين والعقل على طريق الشهوة والهوى فمن ارتكب كبيرة سقطت عدالته وقل الوثوق بقوله وكذلك من أصر على صغيرة فأما من أتى بشيء من الصغائر من غير إصرار فعدل بلا شبهة
وللمحقق ابن تيمية مقالة في العدالة والدل جرى فيها على منهج من يقول برعاية المصالح الأحكام قال العدل في كل زمان ومكان وقوم بحسبه فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم وإن كان لو كان في غيرهم كان عدله على
وجه آخر وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كانت الصحابة لبطلت الشهادات كلها أو غالبها
وقال في موضع آخر ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل الجيش وحوادث البدو وأهل القرى الذين لا يوجد فيهم عدل وله أصول منها قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم وشهادة بعضهم على بعض في قول ومنها شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال وشهادة الصبيان فيما لا يشهده الرجال
ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان ليسا بملازمين للحدود أو اثنان مبتدعان فهذان خير من الكافرين والشروط التي في القرآن إنما هي في استشهاد التحمل للأداء وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص كما أن المحدثين كذلك
ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين والتثبت كما قال تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) وفي القراءة الأخرى ( فتثبتوا ) فعلينا التبين والتثبت وإنما أمر بالتبين عند خبر الفاسق الواحد ولم يأمر به عند خبر الفاسقين وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجب خبر الواحد أما إذا علم أنهما لم يتواطآ فهذا قد يحصل به العلم
وقال في موضع آخر شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع وفيما يندر حكمه ويخاف فيه
الاشتباه الأعلم والأئمة إذا ترجح عنده أحدهم قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قولا على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين لأن الحق واحد ولا بد ويجب أن ينصب الله على الحكم دليلا
الفائدة السابعة قد ظن بعض الناس أن العدالة على مذهب الجمهور لا تقبل الزيادة والنقصان فهي كالإيمان عند من يقول بعدم قبوله ذلك والصحيح أن العدالة كالضبط تقبل الزيادة والنقصان والقوة والضعف وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول في باب الترجيح في الأخبار وصرح العلامة نجم الدين سليمان الطوفي في شرح الأربعين حيث قال إن مدار الرواية على عدالة الراوي وضبطه فإن كان مبرزا فيهما كشعبة وسفيان ويحيى القطان ونحوهم فحديثه صحيح وإن كان دون المبرز فيهما أو في أحدهما لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن هذا أجود ما قيل في هذا المكان
واعلم أن العدالة والضبط إما أن ينتفيا فيالراوي أو يوجد فيه العدالة وحدها أو الضبط وحده فإن انتفيا فيه لم يقبل حديثه أصلا وإن اجتمعا فيه قبل وهو الصحيح المعتبر وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط قبل حدثه لعدالته وتوقف فيه لعدم ضبطه على شاهد منفصل يجبر ما فات من صفة الضبط وإن وجد فيه الضبط دون العدالة والضبط لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الراية ثم كل واحد من العدالة له مراتب عليا ووسطى ودنيا ويحصل بتركيب بعضها مع بعض مراتب للحديث مختلفة في القوة والضعف وهي ظاهرة مما ذكرناه ا هـ
وقد تبين بذلك أن الرواة الجامعين بين العدالة والضبط ينقسمون باعتبار تفاوت درجاتهم فيها إلى تسعة أنواع
النوع الأول رواة في الدرجة العليا من العدالة والضبط
النوع الثاني رواة في الدرجة العليا من العدالة وفي الدرجة الوسطى من الضبط
النوع الثالث رواة في الدرجة العليا من العدالة وفي الدرجة الدنيا من الضبط
والنوع الرابع رواة في الدرجة الوسطى من العدالة وفي الدرجة العليا من الضبط
النوع الخامس رواة في الدرجة الوسطى من العدالة والضبط
النوع السادس رواة في الدرجة الوسطى من العدالة وفي الدرجة الدنيا من الضبط
النوع السابع رواة في الدرجة الدنيا من العدالة وفي الدرجة العليا من الضبط
النوع الثامن رواة في الدرجة الدنيا من العدالة وفي الدرجة الوسطى من الضبط
النوع التاسع رواة في الدرجة الدنيا من العدالة والضبط
وهذه الأنواع التسعة متفاوتة الدرجات بعضها أعلى من بعض فالنوع الأول أعلى مما سواه من سائر الأنواع والنوع التاسع أدنى مما سواه منها وما سواهما من الأنواع منه ما يظهر تقدمه على غيره ظهورا بينا كالنوع الثاني بالنظر إلى النوع الثالث وكالنوع الرابع بالنظر إلى النوع الخامس ومنه ما يخفى تقدمه كالنوع الثاني بالنظر إلى النوع الرابع وكالنوع السادس بالنظر إلى النوع الثامن
وهذا من متعلقات مبحث الترجيح الذي هو من أصعب المباحث مسلكا وأبعدها مدركا
واعلم أن الذي أوجب خفاء تفاوت العدالة عند بعض العلماء أنهم رأوا أن أئمة الحديث قلما يرجحون بها وإنما يرجحون بأمور تتعلق بالضبط وسبب ذلك أنهم رأوا أن الترجيح بزيادة العدالة يوهم الناس أن الراوي الآخر غير عدل فيسوء به ظنهم ويشكون في سائر ما يرويه وقد فرض أنه عدل ضابط
فإن قلت فما يفعلون إذا كان كلاهما في درجة واحدة في الضبط قلت يمكن الترجيح فيها بأمور عارضة ككون الحديث الذي رواه قد تلقاه عمن كثرت ملازمته له وممارسته لحديثه ونحو ذلك بخلاف الراوي الآخر
وقد زعم بعضهم عدم تفاوت الضبط أيضا ورد عليه بعضهم بقوله لا شك في تحقق تفاوت مراتب العدالة والضبط في العدول والضابطين من السلف والخلف وقد وضح ذلك حتى صار كالبديهي
وهذه المسألة لها نظائر لا تحصى قد غلط فيها كثير ممن له موقع عظيم في النفوس فإنهم يذهلون عن بعض الأقسام فتراهم يقولون الراوي إما عدل أو غير عدل وكل منهما إما ضابط أو غير ضابط غير ملاحظين أن العدالة والضبط مقولان بالتشكيك فينبغي الانتباه لذلك فإنه ينحل به كثير من المشكلات
استدراك وبعد أن وصلت إلى هذا الموضع وقفت على عبارة للحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري خالف فيها الجمهور في ترجيح الأعدل على العدل فأحببت إيرادها ملخصة
وقد علم من وقف على كثير من مؤلفاته أنه يجنح في أكثر المواضع إلى مخالفة الجمهور وهو في أكثر ما خالفهم فيه أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب
وقد أطلق فكره في ميادين جمح به فيها أشد جماح غير أنه يلوح من حاله أنه لم يكن يريد إلا الإصلاح ومن أعظم ما ينقمون عليه أنه أفرط في التشنيع على من يرد عليهم ولو كانوا من العلماء الأعلام ولعل ذلك نشأ عما أشار إليه في كتاب مداواة النفوس حيث قال ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربوا في الطحال شديدا فولد ذلك علي من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمرا حاسبت نفسي فيه فأنكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي ولنرجع إلى المقصود فنقول
قال في كتاب الإحكام في أصول الأحكام في صفة من يلزم قبول نقله ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أن قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله لأنه لا يخلو كل حد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء
والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله
فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل
قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن يقال إنهم أترك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأقل عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى
ولكن لا بد لنا من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر فأول ذلك أن الله عز و جل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر الله تعالى أو أمر رسوله عليه الصلاة و السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله فقد قفا ما ليس له به علم
وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وأيضا فكل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد الرسل وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط
ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أنه أكثر نوافل في الخير فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراويين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر
وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له فمن حكم في دين الله عز و جل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون
برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه نعوذ بالله من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور فيجب قبول ما قام عليه الدليل سواء طابت عليه النفس أو لم تطلب وبما ذكرنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه
تنبيه الضابط من الرواة هو الذي يقل خطؤه في الرواية وغير الضابط هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها سواء كان ذلك لضعف استعداده أو لتقصيره في اجتهاده قال الترمذي في العلل كل من كان متهما في الحديث بالكذب وكان مغفلا يخطئ كثيرا فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه
وقد توهم بعض الناس أن الضبط لا يختلف بالقوة والضعف فزعم أن الراوي إما أن يوصف بالضبط وإما أن يوصف بعدمه والموصوفون بالضبط نوع واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في الدرجة فلا يقال فلان أتم ضبطا من فلان وقد عرفت أنهم ثلاثة أنواع والعيان يغني عن البرهان
وأما الثقة فهو الذي يجمع بين العدالة والضبط وهو في الأصل مصدر وثق تقول وثقت بفلان ثقة ووثوقا إذا ائتمنته ولكونه مصدرا في الأصل قيل هو وهي وهما وهم وهن ثقة ويجوز تثنيته وجمعه فيقال هما ثقتان وهم وهن ثقات وتقول وثقت فلانا توثيقا إذا قلت إنه ثقة ومثل الثقة الثبت قال في المصباح رجل ثبت بفتحتين إذا كان عدلا ضابطا والجمع أثبات والثبت أيضا الحجة تقول لا أحكم إلا بثبت وقد ذكروا أنه من أعلى الألفاظ التي تستعمل في الرواية
المقبولة ثقة ومتقن وثبت وحجة وعدل حافظ وعدل ضابط
الفصل الخامس
في أقسام الخبر إلى متواتر وآحاد قد تقرر أن من الأشياء ما يعرف بواسطة العقل ككون الواحد نصف الاثنين وككون كل حادث لا بد له من محدث وأن منها ما يعرف بواسطة الحس ككون زيد قال كذا أو فعل كذا فإن القول يدرك بحاسة السمع والفعل يدرك بحاسة البصر والذي يعرف بواسطة الحس قد يعرفه من لم يحس به بواسطة خبر من أحس به
ولما لم يكن كل مخبر صادقا وكان الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته اقتضى الحال أن يبحث عما يعرف به صدق الخبر إما بطريق اليقين وذلك في الخبر المتواتر أو بطريق الظن وذلك في غير المتواتر إذا ظهرت أمارات تدل على صدق الخبر
ولما كان الحديث عبارة عن أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله وكان من لم يدركها بطريق الحس لا سبيل له إلى إدراكها إلا بطريق الخبر اعتنى العلماء
الأعلام ببيان أقسام الخبر مطلقا وجعلوا للحديث الذي هو قسم من أقسام الخبر مبحثا خاصا به اعتناء بشأنه فإذا عرفت هذا نقول
قد قسم علماء الكلام والأصول الخبر إلى قسمين خبر متواتر وخبر آحاد
الخبر المتواتر فالخبر المتواتر هو خبر عن محسوس أخبر به جماعة بلغوا في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه
وخرج بما ذكر ثلاثة أشياء
أحدها الخبر عن غير محسوس كالخبر عن حدوث العالم وكون العدل حسنا والظلم قبيحا
وثانيها الخبر الذي أخبر به واحد
وثالثها الخبر الذي أخبر به جماعة لم يبلغوا في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه وإن دلت قرائن الأحوال على صدقهم
والخبر المتواتر مفيد للعلم بنفسه
خبر الآحاد وخبر الآحاد ويسمى أيضا خبر الواحد هو الخبر الذي لم تبلغ نقلته في الكثرة مبلغ الخبر المتواتر سواء كان المخبر واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة إلى غير ذلك من العداد التي لا تشعر بأن الخبر دخل بها في حيز المتواتر
والتواتر في اللغة التتابع تقول واترت الكتب فتواترت إذا جاء بعضها في إثر بعض وترا وترا من غير انقطاع والمواترة المتابعة ولا تكون بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومواصلة ومواترة الصوم أن تصوم يوما وتفطر يوما أو يومين وتأتي به وترا ولا يراد به المواصلة لأنه من الوتر وتترى أصلها
الطبقة الثانية ما يشترط في الطبقة الأولى من كونها تبلغ في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في الخير وقس على ذلك ما إذا كانت الطبقات ثلاثة فأكثر
ولما كانت الأخبار المتواترة في الغالب متعددة الطبقات قال العلماء لا بد في الخبر المتواتر من استواء الطرفين فالطرفان هما الطبقة الأولى والطبقة الأخيرة والوسط وهو ما بينهما والمراد بالاستواء الاستواء في الكثرة المذكورة ولا الاستواء في العدد بأن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه إذا كان كل عدد منها الكثرة المذكورة مثل أن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه إذا كان كل عدد منها فيه الكثرة المذكورة مثل أن يكون عدد الطبقة ألفا وعدد الثانية تسع مئة وعدد الثالثة ألفا وتسع مئة
وبما ذكر يعلم أن الرواة إذا لم يبلغوا في الكثرة المبلغ المشروط في الخبر المتواتر سواء كان ذلك في جميع الطبقات أو في بعضها لم يسم خبرهم متواترا وإنما يسمى مشهورا
قال الغزالي في المستصفى الشرط الثالث أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد فيه من الشروط ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه العصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد اولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده
والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه الصلاة و السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وفي نص الإمامة ا هـ
المسألة الثانية الخبر المشهور خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين مشهور وغير مشهور فالمشهور هو خبر جماعة لم يبلغوا في الكثرة مبلغا يمنع تواطؤهم على الكذب فيه فخرج بقولهم خبر الواحد وبتتمة التعريف الخبر المتواتر
هذا وقد عرف المتواتر بتعاريف شتى وأدلها على المقصود التعريف الذي ذكرناه وقد وقع لبعضهم في تعريفه ما يوهم دخول بعض أقسام المشهور فيه ولعلهم جروا على مذهب أبي بكر الرازي المعروف بالجصاص فإنه جعل المشهور أحد قسمين المتواتر
وقد ذهب كثير من العلماء إلى تقسيم الخبر إلى ثلاثة أسام متواتر ومشهور وآحاد فيكون المشهور سما مستقلا بنفسه فينبغي الانتباه لذلك
وقد عرف بعضهم المشهور بقوله هو الخبر الشائع عن أصل فخرج بذلك الخبر الشائع لا عن أصل وقد يطلق المشهور على ما اشتهر على الألسنة سواء كان له أصل أو لم يكن له أصل وقد مثلوا ما ليس له أصل بحديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل وحديث ولدت في زمن الملك العادل كسرى
وقد يسمى المشهور مستفيضا يقال استفاض الخبر إذا شاع فهو مستفيض وأقل ما ثبت به الاستفاضة اثنان وينقل لك عن بعض الفقهاء وقيل ثلاثة وينقل ذلك عن بعض المحدثين وقيل أربعة وينقل ذلك عن علماء الأصول فقد قالوا المستفيض ما زاد نقلته على ثلاثة
ومن العلماء من فرق بين المشهور والمستفيض فجعل المشهور أعم إما لكونه لم يشترط في المشهور أن يكون في أوله أيضا مرويا عن غير واحد وشرط ذلك في المستفيض وإما أن يكون جعل المشهور ما رواه اثنان فأكثر والمستفيض ما رواه ثلاثة فأكثر فكل مستفيض عند هؤلاء مشهور وليس كل مشهور مستفيض ومنهم من فرق بينهما بوجه آخر والمهم الانتباه لاختلاف الاصطلاح هنا حذرا من وروع الوهم
وأما النسبة بين المشهور والمتواتر فهي التباين إلا عند من جعل المشهور قسما من المتواتر
وأما قول بعض الأفاضل كل متواتر مشهور وليس كل مشهور متواترا وذلك بعد أن عرف منهما بما عرفه به الجمهور فهو مما ينتقد قال بعضهم ولعله أراد بالمشهور المعنى اللغوي لا الاصطلاحي
وقد وقع لبعض علماء الأثر عبارة تسوغ لصاحبها القول المذكور وهي قوله والغريب وهو ما تفرد به واحد عن الزهري وشبهه ممن يجمع حديثه فإن تفرد اثنان أو ثلاثة سمي مشهورا ومنه المتواتر ا هـ 3فصاحب هذه العبارة يسوغ له أن يقول كل متواتر مشهور وليس كل مشهور متواتر ا ولا ينتقد عليه ذلك وإنما ينتقد عليه مخالفة الجمهور في الاصطلاح لما ينشأ عنها في كثير من الأحيان من إيقاع في أشراك الأوهام ولعل ذلك الفاضل قد جاءه الوهم من هذا الموضع
المسألة الثالثة قد عرفت أن خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين مشهور وقد قسم المحدثون غير المشهور إلى قسمين عيز وغريب
فالعزيز هو الذي يرويه جماعة عن جماعة غير أن عددها في بعض الطبقات يكون اثنين فقط فخرج بذلك المشهور عند من يقول إن أقل ما تثبت به الشهرة ثلاثة وهو المشهور
والغريب هو الذي ينفرد بروايته واحد في موضع ما من مواضع السند
والحاصل أن الخبر ينقسم أولا إلى قسمين وآحاد وأن خبر الآحاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام مشهور وعزيز وغريب وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى
وقد قسم بعض علماء الأصول الخبر إلى ثلاثة أقسام متواتر ومشهور آحاد فجعلوا المشهور قسما مستقلا بنفسه ولم يدخلوه في المتواتر كما فعل الجصاص ولا في خبر الآحاد كما فعل غيرهم وقد عرفوا المشهور بما كان في الأصل خبر آحاد ثم انتشر في القرن الثاني والثالث مع تلق المة له بالقبول فيكون بينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه لصدقهما فيما رواه في الأصل ثلاثة ثم تواتر في القرن الثاني والثالث وانفراد المستفيض عن المشهور فيما رواه في الأصل ثلاثة ثم لم يتواتر في القرن الثاني والثالث وانفراد المشهور عن المستفيض فيما رواه في الأصل واحد أو اثنان ثم تواتر في القرن الثاني والثالث
وقد عرف الجصاص المتواتر بقوله هو ما أفاد العلم بمضمون الخبر ضرورة أو نظرا فزاد قوله أو نظرا ليدخل المشهور
وقد توهم بعضهم من عبارته انه يحكم بكفر منكر المشهور لإدخاله له في المتواتر يكفر جاحده وليس المر كذلك لأن الذي يكفر جاحده إنما هو القسم الأول من المتواتر عنده وهوالذي يفيد العلم ضرورة كصيام شهر رمضان وحج البيت ونحو ذلك بخلاف القسم الثاني منه وهو الذي يفيد العلم نظرا
قال بعض الأفاضل إنما لم يكفر منكر المشهور لأن إنكاره لا يؤدي إلى تكذيب النبي عليه الصلاة و السلام لأنه لم يسمعه منه عليه الصلاة و السلام من غير واسطة ولم يروه عنه عدد لا يتصور منهم الكذب خطأ أو عمدا وإنما هو خبر آحاد تواتر في العصر الثاني وتلقاه أهله بالقبول فإنكاره إنما يؤدي إلى تخطئة العلماء نسبتهم إلى عدم التروي حيث تلقوا بالقبول ما لم يثبت وروده عن الرسول
وتخطئة العلماء ليست بكفر بل هي بدعة وضلالة بخلاف إنكار المتواتر فإنه مشعر بتكذيب النبي عليه الصلاة و السلام إذ المتواتر بمنزلة المسموع منه وتكذيب الرسول كفر
على ان المشهور لا يوجب علم اليقين وغنما يوجب ظنا قويا فوق الظن الذي يحصل من خبر الآحاد تطمئن به النفس إلا عند ملاحظة كونه في الأصل كان من خبر الآحاد وقد ذكروا للمشهور أمثل منها المسح على الخفين
والظاهر أنه ليس كل مشهور يعد إنكاره بدعة وضلالة فقد قال الإمام الشافعي في الأم في أثناء محاورة جرت بينه وبين أحد الفقهاء
وقلت له أرأيت قول الله تبارك وتعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين أليس بين في كتاب الله عز و جل بان الفرض غسل القدمين أو مسحهما قال بلى
قلت لم مسحت على الخفين ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس إلى اليوم من ترك المسح على الخفين ويعنف من مسح
قال ليس في رد من رده حجة وإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم شيء لم يضره من خالفه
قلت ونعمل به وهو مختلف فيه كما نعمل به لو كان متفقا عليه ولا نعرضه على القرآن قال لا بل سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل على معنى ما أراد الله عز و جل
قلنا فلم لا تقول بهذا في اليمين مع الشاهد وغيره مما تخالف فيه الحديث وتريد إبطال الحديث الثابت بالتأويل وبأن تقول الحديث يخالف ظاهر القرآن ا هـ
المسألة الرابعة قد يقوى الخبر وأصله ضعيف وقد يضعف وأصله قوي وذلك لأسباب تعتريه غير ان الخبر إذا عرضت له القوة لا يرتفع عن درجته وإذا عرض له الضعف نزل عنها فالمتواتر مهما زاد تواتره يبقى متواترا إذ درجة فوقه يرتفع إليها وإذا نقص تواتره نقصا بينا نزل عن درجته إلى درجة المشهور ثم قد يضعف إلى أن يصير عزيزا ثم غريبا ثم قد يندرس فكم من خبر متواتر قد درسته الأيام ألا ترى أن كثيرا من الأبنية العظيمة لا يعلم الآن يقينا أسماء بنائها فضلا عن زمانهم قال المتنبي
( أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع )
( تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويلحقها الفناء فتتبع )
والمشهور مهما زادت شهرته لا يرتفع عن درجته إلى درجة المتواتر إذ الشرط في المتواتر أن يكون التواتر موجودا فيه من الطبقة الأولى فما بعدها فإذا فقد ذلك في طبقة من الطبقات لا سيما الأولى لم يعد متواترا فإن كان متواترا في أول الأمر ثم زال عنه التواتر قيل خبر منقطع التواتر فإن لم يكن متواترا من أول الأمر لم يقل له متواتر نعم يسوغ أن يوصف بالتواتر النسبي فيقال هذا الخبر قد تواتر في الطبقة الثانية أو الثالثة مثلا ولا يقال له خبر متواتر على الإطلاق
فإذا ضعفت الشهرة في المشهور نزل عن درجته وانتقل إلى ما بعدها كما أشرنا إليه وقس على ذلك العزيز والغريب غير أن الغريب لما كان في المنزلة الدنيا فإذا ضعف اندرس وصار نسيا منسيا والخبر قد يحيا بعد الاندراس وذلك بظهور أمر يدل عليه واعلم أنه قد يشتبه الشائع عن أصل بالمتواتر بل قد يشيع خبر لا أصل له فيظنه من لم يتتبع أمره متواترا ولكثرة الاشتباه في هذا الباب على كثير من الناس ظن بعضهم أن لا سبيل إلى أخذ اليقين من الأخبار لا سيما التي مضت عليه قرون كثيرة فقد ذكر في كتب الكلام وكتب الأصول أن فرقة من الناس أنكرت إفادة المتواتر العلم اليقيني وقالت إن الحاصل منه هو الظن القوي الغالب وفرقة منهم سلمت إفادته العلم اليقيني في الأمور الحاضرة وأنكرت في الأمور الغابرة
قال الغزالي في المستصفى أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث حصروا العلم في الحواس وأنكروا هذا وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون اللف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء قديما محدثا وامورا أخر ذكرناها في مدراك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم
العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس
ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود النبياء بل ولا في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل ولا في الدول والوقائع الكبيرة
فإن قيل لو كان معلوما ضرورة لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه لقولكم للزمكم ترك المحسوسات لخلاف السوفسطائية ا هـ
وقد أشار في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة إلى أمر اشتباه المشهور بالتواتر على من لم يمعن النظر فقال في أثناء بيان الأمور الخمسة التي يجب على من يخوض في التكفير أن ينظر فيها قبل الإقدام عليه
الثاني في النص المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالإجماع فإن ثبت تواترا فهل هو على شرط التواتر أم لا إذ ربما يظن المستفيض متواترا وحد التواتر ما لا يمكن الشك فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرها وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوة وهل يتصور ان يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار
والشرط في المتواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ وأحوال
القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع الكثير رابطة في التوافق لا سيما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ا هـ
المسألة الخامسة شرط قوم في التواتر أن يكون المخبرون لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو شرط غير لازم فإن الحجاج إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل المدينة إذا أخبروا عن النبي صلى الله عليه و سلم بشيء حصل العلم بخبرهم وقد حواهم بلد وأهل الجامع أذا أخبروا بنائه في الجمعة حالت بينهم وبين صلاتها حصل العلم بخبرهم وقد حواهم الجامع وهو دون البلد
وأرادوا بكون المخبرين لا يحصرهم عدد أنهم لكثرتهم وتباين بلدانهم يتعذر أو يتعسر إحصاؤهم فتشنيع ابن حزم على القائلين به جار على عادته في التهويل وحمل عبارة من خالفه على أقبح محاملها وإن كانت ممكنة التأويل
وشرط قوم في المخبرين عددا معينا بحيث إذا كان عددهم أقل منه لم يسم خبرهم متواترا واختلف في ذلك العدد فقيل هو ثلاثة وقيل أربعة وقيل خمسة وقيل عشرة وقيل اثنا عشر وقيل عشرون وقيل أربعون وقيل خمسون وقيل غير ذلك وهي أقوال ليس لها برهان
وقال الجمهور الشرط ان يبلغ عدد المخبرين مبلغا يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب فيه ولا يمكن تحديد ذلك العدد والضابط في ذلك حصول العلم فإذا حصل علمت أن الخبر متواترا وإلا فلا
قال الغزالي في المستصفى عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم وإلى ما هو زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم ضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع
قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيده في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وان يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور ان يختلف
وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فغن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز ان تختلف فيه الوقائع والأشخاص وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا وهذا غير مرضي لأن مجرد الإخبار يجوز ان يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه إخبار فلا يبعد ان تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالاتها فنقول لا شك في أنا نعرف أمورا ليس محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبة لإنسان وبغضه له وخوف
منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال
ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكد ذلك ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال ولكن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع
ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذله ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر ضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا به علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض
ثم قال فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهد يتطرق إليه الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبيات والمتواترات فليلحق هذا بها وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عند انضمام قرائن إليه ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم
وقال العلامة جمال الدين حسن بن يوسف لن المهر الحلي في نهاية الوصول إلى علم الأصول قال أبو الحسن البصري والقاضي أبو بكر كل عدد وقع العلم
بخبره في واقعه لشخص لا بد وأن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه
وهذا إنما يصح على إطلاقه لو كان العلم قد حصل بمجرد ذلك العدد من غير أن يكون للقرائن المحتفة به مدخل في التأثير لكن العلم قد يحصل بالقرائن العائدة إلى إخبار المخبرين وأحوالهم واختلاف السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله ومع فرض التساوي في القرائن قد يفيد آحادها الظن ويحصل من اجتماعها العلم فأمكن حصول العلم بثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض لما اختص به من القرائن التي لا تحصل لغيره
ولو سلم اتحاد الواقعة وقرائنها لم يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في الفهم للقرائن وتفاوت الأشخاص في الإدراك والذكاء معلوم بالضرورة
وقال أيضا ظن قوم أن لحصول العلم عقب التواتر يشترط عدد معين وليس بحق فإن العلم هو القاضي بعدد الشهادات دون العكس فرب عدد أفاد العلم في قضية لشخص ولا يحصل مع مثله في تلك القضية لغير ذلك الشخص أو في غيرها له
وقال بعض المتكلمين إن حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف باختلاف الوقائع والمخبرين والسامعين فقد يحصل العلم في واقعة بعدد مخصوص ولا به في واقعة أخرى وقد يحصل بإخبار جماعة مخصوصة ولا يحصل بإخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد وقد يحصل لسامع لولا يحصل لسامع آخر
وقد عرف بعض العلماء المتواتر بقوله هو الخبر الذي يوجب بنفسه العلم فخرج بذلك الآحاد فإن منه ما لا يوجب العلم أصلا ومنه ما يوجب العلم لا بنفسه لكن بواسطة القرائن التي احتفت به
وفي هذا التعريف إشكال فإنه يوهم أن الموجب للعلم في المتواتر إنما هو مجرد كثرة المخبرين وستعرف ما يرد في ذلك
قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة ان يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة ا هـ
وقال حجة الإسلام الغزالي عن العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر تقتضي إياله الملك وسياسته إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة على الاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم
وقد صرح كثير من علماء الأصول بأن المتواتر لا بد من القرائن فلا يبقى حينئذ فرق بينه وبين خبر الآحاد الذي احتفت به قرائن أوجبت العلم بصدقه ويكون إيجاب كل منهما للعلم إنما هو بمعونة القرائن
ولا يفيد في الجواب ان يقال القرائن في المتواتر متصلة فهي غير خارجة عنه فصح أن يقال إنه يوجب العلم بنفسه لأن خبر الآحاد المذكور كثيرا ما تكون القرائن فيه متصلة
والمراد بالقرائن ما يكون متعلقا بحال المخبر والمخبر به والخبر أما
المخبر فكأن يكون غير معروف بالكذب ولا داعي له في ذلك الخبر من رغبة او رهبة تلجئه إلى الكذب فيه وأما المخبر به فكأن يكون أمرا ممكن الوقوع لا سيما إن ظهرت من قبل مقدمات تقرب أمره وأما الخبر فكأن يكون مسوقا على هيئة واضحة ليس فيهما جمجمة ولا تلعثم ولا اضطراب
والمراد بالقرائن المنفصلة ما لا يتعلق بما ذكر ومثال ذلك ما إذا أخبر جماعة بموت ابتن لأحد الرؤساء كان مريضا ثم تلا ذلك أن خرج الرئيس من الدار حاسر الرأس حافي القدم ممزق الثياب مضطرب الحال وهو رجل ذو منصب كبير ومروءة تامة لا يخالف عادته إلا لمثل هذه النائبة فإن هذه القرينة منفصلة عن الخبر ولها أعظم مدخل في العلم بصحته
واعترض بعضهم بأن العلم إنما حصل بالقرينة فكيف نسبتموه إلى الخبر وأجيب بأن العلم حصل بالخبر بمعونة القرينة ولولا الخبر لجوزنا شخص آخر أو وقوع كارثة تقوم مقام موت الابن
وقد أسقط بعضهم من تعريف المتواتر قوله بنفسه فقال في تعريفه هو الخبر الذي يوجب العلم وفيه أيضا إشكال لأنه يدخل فيه خبر الآحاد إذا احتفت به قرائن توجب العلم وكأن بعضهم شعر بذلك فقال في تعريفه هو الخبير المفيد للعلم اليقيني
واعلم أن سبب اختلاف العبارات واضطرابها إنما هو غموض هذا المبحث ودقته بحيث صارت العبارات فيه قاصرة عن أداء جميع ما يجول في النفس منه فكن منتبها لذلك وقس عليه ما أشبهه من المباحث واحرص على أخذ زبدة ما يقولون ولا يصدنك عن ذلك اختلاف العبارات او الاعتبارات
نورد ما ذكرناه إتماما للفائدة قال في كتاب الإحكام فصل فيه أقسام الأخبار عن الله تعالى
قال أبو محمد جاء في النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله
ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقول الله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )
فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة عن كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي تى به سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره
وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتآليف
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه ان لا يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة
قال علي وقد اختلف الناس في مقدار النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن وقالت طائفة لا يقبل من أقل من ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل لا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين
قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى ان يكون شيء منها صح عنده بالعدد الذي شرطه كل واحد من ذلك العدد ع مثل ذلك العدد كله وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر من دينه أو دنياه
فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة لا نحاشي شيئا لأنه وإن مع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق
فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا قال علي ونقول ها هنا إن
شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله التوفيق لكل من حد في عدد نقله خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا تحصيهم وغن كان في ذاته محصى ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل
فإذ لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة
وأيضا فإنه ما في العقول فرق بين نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر وبين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال بموجب أن لا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمئة ألف وغير ذلك
ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه العداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف
ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه
وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فغن نظروا هذا بما لا يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان
وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما صح بإجماع أو نص أو أوجبت طبيعته ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد
قال أبو محمد وهذا قول من غمرة الجهل لأنه ليس هذا موجودا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعمله نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه و سلم في العالم وهذا كفر
وأيضا فليزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ان لا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وأن لا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة
وهم يعرفون بضرورة صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح
وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو وشر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده إلا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع انه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب
قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبه إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل تعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسنا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ولا رهبة منه ولا يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك في سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ووعاه فيما يرده كل روم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو واقعة أو غير ذلك وغنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته ما يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت
اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لن نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين ونحو ذلك والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا
وأما الذي لا شك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا ان خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل وما هي إلا سرقات وغارات من بعض الشعراء على بعض
قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في كل وقت ولكن على قدر ما يتهيأ وقد بينا ذلك في كتاب الفصل
قال علي فهذا قسم قال والقسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس
والبرهان على صحة وجوب قبول قول الله عز و جل ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارة النافر منها بأمره النافر بالتفقه وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا المر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه ا هـ
وقال في مقدمة كتاب الملل والنحل بعد أن أبان أن من البديهيات التي يشعر بها الطفل في مكان واحد وأنه لا يعلم الغيب أحد ومن علم في مكانين وأنه لا يكون جسمان في مكان واحد وانه لا يعلم الغيب احد ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض فصح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبرا كاذبا طويلا فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر علاما بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك
فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعدا مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فالبضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي ومرض من مرض وإفاقة من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا
والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لا شك عند أحد يوفي عقله في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
وله في هذا الكتاب مقالة تناسب ما نحن فيه وقد أحببنا إيرادها هنا بطريق الاختصار قال ونحن نذكر صفة وجوه النقل عند المسلمين لكتابهم ودينهم وما روي عن أئمتهم حتى يقف المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة
أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عند أمثالهم جيلا جيلا لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون في ان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز و جل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم أخذ عن اولئك حتى بلغ إلينا
ومن ذلك الصلوات الخمس فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد أن أهل السند يصلونها كما يصليها أهل الأندلس وأن أهل أرمينية يصلونها كما يصليها أهل اليمن
وكصيام شهر رمضان فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه صامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وصامه معه كل من اتبعه في كل لد كل عام ثم كذلك جيلا جيلا إلى يومنا هذا
وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في انه عليه الصلاة و السلام حج مع أصحابه وأقام المناسك ثم حج المسلمون من كل أفق من الآفاق
كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم وكجملة الزكاة وكسائر الشرائع التي في القرآن من تحريم القرائب والميت والخنزير وسائر ما ورد في نص القرآن
الثاني شيء نقلته الكافة تعن مثلها حتى يبلغ المر كذلك إلى النبي عليه الصلاة و السلام ككثير من آياته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق وفي تبوك بحضرة الجيش وككثير من مناسك الحج وكزكاة التمر والبر والشعير والورق والذهب والإبل والبقر والغنم ومعاملته أهل خبير وغير ذلك مما يخفى على العامة وإنما يعرفه كواف أهل العل فقط
الثالث ما نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إلى النبي عليه الصلاة و السلام يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان على ان أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من طرق جماعة من الصحابة وغما إلى الصاحب وغما إلى التابع وغما إلى إمام أخذ عن التابع يعرف لك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن
وهذا نقل خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل وأبقاه عندهم غضا جديدا مد أربع مئة وخمسين عاما في المشرق والمغرب والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصي ععدهم إلا خالقهم من الآفاق البعيدة ويحافظ على تقييده النقاد منهم فلا تفوتهم زلة في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسقا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر
وهذه الأقسام الثلاثة التي نأخذ ديننا منها ولا نتعداها إلى غيرها
والرابع شيء نقله أهل المشرق والمغرب أو الكافة أو الواحد الثقة عن أمثالهم إلى ان يبلغ من ليس بينه وبين النبي عليه الصلاة و السلام إلا واحد فأكثر فسكت ذلك المبلوغ إليه عمن أخبره بتلك الشريعة عن النبي عليه الصلاة و السلام فلم يعرف من هو فهذا نوع يأخذ به كثير من المسلمين ولسنا نأخذ به
البتة ولا نضيفه إلى النبي عليه الصلاة و السلام إذ لم نعرف من حدث به عنه وقد يكون غير ثقة ويعلم منه غير الذي روى عنه ما لم يعرف منه الذي روى عنه
والخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب او كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -
إلا أن في الطريق رجلا مجروحا بكذب أو غفلة او مجهول الحال فهذا أيضا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه
والسادس نقل نقل بأحد الوجوه التي قدمنا إما بنقل من بين المشرق والمغرب او بالكافة عن الكافة أو بالثقة عن الثقة حتى يبلغ ذلك إلى صاحب أو تابع أو غمام دونهما انه قال كذا أو حكم بكذا غير مضاف ذلك إلى النبي عليه الصلاة و السلام فمن المسلمين من يأخذ بهذا ومنهم من لا يأخذ به ونحن لا نأخذ به أصلا لأنه لا حجة في فعل أحد دون من أمرنا الله باتباعه وأرسله إلينا ببيان دينه ولا يخلو فاضل من وهم لا حجة فيمن يهم ولا يأتي الوحي ببيان وهمه
المسألة السابعة ينقسم التواتر إلى قسمين لفظي ومعنوي فاللفظي هو ما اتفقت ألفاظ الرواة فيه مثل أن يقولوا فتح فلان مدينة كذا سواء كان اللفظ أو بلفظ آخر يقوم مقامه مما يدل على المعنى المقصود صريحا والمعنوي هو ما تختلف فيه ألفاظ الرواة بأن يروي قسم منهم واقعة وغيره واقعة أخرى وهلم جرا غير ان هذه الوقائع تكون مشتملة على قدر مشترك فهذا القدر المشترك يسمى التواتر المعني او التواتر من جهة المعنى
وذلك مثل ان يروي واحد أن حاتما وهب مئة دينار وآخر انه وهب مئة من الإبل وآخر انه وهب عشرين فلسا وهلم جرا حتى يبلغ الرواة حد التواتر فهذه
الأخبار تشترك في شيء واحد وهو هبة حاتم شيئا من ماله وهو دليل على سخائه وهو ثابت بطريق التواتر المعنوي ووجه ذلك أن يقال إن هذه الأخبار مشتركة في أمر واحد وهو كونه سخيا فإن الراوي لخبر منها صريحا راو لهذا المشترك بطريق الإيماء فإذا بلغوا حد التواتر كان هذا المشترك وهو سخاؤه مرويا بطريق التواتر إلا أنه من قبيل التواتر المعنوي
وقال بعضهم الوجه في ذلك أن يقال إن هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد ان يكون واحد منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق خبر من هذه الأخبار ومتى صدق واحد منهم ثبت كونه سخيا والوجه الأول أقوى لأن السخاء لا يثبت بالمرة الواحدة
قال بعض علماء الأصول إن الأخبار التي لا تفيد العلم قد تشترك في معنى كلي فإذا بلغ مجموع الرواة حد التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر وذلك مثل أن ينقل جماعة أن عليا رضي الله عنه قتل من العداء كذا في واقعة وينقل جماعة أخرى أنه قتل من الأعداء كذا في واقعة وينقل جماعة أخرى أنه قتل من الأعداء كذا في واقعة أخرى وهلم جرا فإذا بلغ الرواة بأسرهم مبلغ التواتر بين هذه الأخبار وهو شجاعة علي مرويا بالتواتر من جهة المعنى وإن كان كل واحد من تلك الأخبار مرويا بطريق الآحاد وقس على ذلك ما يشبهه مثل حلم أحنف وذكاء إياس
وقال الشيخ جمال الدين أبو عمرو عثمان المعروف بابن الحاجب في كتاب منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل إذا اختلفت أخبار المخبرين في التواتر في الوقائع واشتملت على معنى كلي مشرك بجهة التضمن أو الالتزام حصل العلم به كوقائع عنترة في حروبه وحاتم في سخائه وعلي في شجاعته ولا يبعد أن يكون العلم بغيره أسرع وقال في مختصره المشهور إذا اختلف التواتر في الوقائع فالمعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام كوقائع حاتم وعلي
وقال الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي في اللمع اعلم ان الخبر ضربان متواتر وآحاد فأما المتواتر فهو كل خبر وعلم مخبره ضرورة وذلك ضربان تواتر من جهة اللفظ كالأخبار المتفقة عن القرون الماضية والبلاد النائية وتواتر من طريق المعنى كالأخبار المختلفة عن سخاء حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك ويقع العلم بكلا الضربين ا هـ
وإذا ذكر المتواتر تبادر إلى الذهن القسم الول وقد اختلف العلماء في أحاديث فقال بعضهم هي متواترة وقال بعضهم هي غير متواترة وقال عض المحققين إن الخلاف بين الفريقين لفظي فالذي قال إنها غير متواترة أراد أنها غير متواترة من جهة اللفظ والذي قال إنها متواترة أراد أنها متواترة من جهة المعنى
قال بعض علماء الأصول إن الكتاب لا يثبت إلا بالتواتر وأما السنة والإجماع فيثبتان بالتواتر وبالآحاد لكن المتواتر فيهما قليل بل المرجح أنه ليس في
السنة متواتر إلا المتواتر في المعنى دون اللفظ ومن أطلق فكلامه محمول على إرادة ذلك ولا في الإجماع أيضا متواتر
وقال بعضهم متحقق في أصول الشائع كالصلوات الخمس وعدد ركعاتها والزكاة والحج تحققا كثيرا ومرجع تواترها في الحقيقة المعنى دونه اللفظ ويقل تحققه في الأحاديث الخاصة المنقولة بألفاظ مخصوصة لعدم اتفاق الطرفين والوسط فيها وإن كان مدلول كثير منها متواترا في بعض الموارد فهي كالأخبار الدالة على شجاعة علي وكرم حاتم ونظائرهما حتى قال ابن الصلاح من سئل عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه وحديث إنما الأعمال بالنيات ليس متواترا وإن كانت رواته منذ أصر إلى الآن يزيد عددهم على عدد التواتر أضعافا مضاعفة
وذلك لأن التواتر فيد قد طرأ بعد وكثيرا ما يدعى تواتر ما هو من هذا القبيل مع أن التواتر يشترط فيه أن يكون حاصلا في جميع الأزمنة لا سيما أولها فشرط التواتر فيها مفقود من جهة الابتداء وقد نازع بعض العلماء في ذلك فادعى وجود التواتر بكثرة انتهى باختصار
وقد وقع هنا من الإبهام والإيهام في العبارات ما قد يضر المبتدي فإنه ربما توهم منها أنه ليس في السنة متواتر مع أن ما تواتر منها سواء كان من جهة اللفظ أو من جهة المعنى كثير يعسر إحصاؤه غير ان الأئمة المتعرضين لضبط السنة لم يعرضوا له لأنه ليس من مباحثهم
والخلاف المذكور إنما وقع في أحاديث ذكرت في كتب السنة ولها أسانيد شتى اتفقت لها لفرط العناية بها وإلا فالمتواتر يعسر إيراد إسناد له على قواعد المحدثين فضلا عن أسانيد وذلك أن الإسناد إنما يحرص عليه في أخبار الآحاد لما يعرض فيها من الشك
وإذا ترددت فيما قلنا فارجع إلى نفسك وانظر هل يمكنك ان تورد إسنادا لما
علمته وتيقنته من الأمور المتواترة التي لا تحصى ولو كانت قريبة العهد بك وإنما ذكرنا ذلك مع ظهروه لأنه قد يكون من شدة الظهور الخفاء
قال الإمام الحافظ عثمان بن الصلاح في مقدمته المتعلقة بعلوم الحديث ومن المشهور المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله وأهل الحديث لا يذكرونه إلا باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص وغن كان الخطيب الحافظ قد ذكره ففي كرمه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعاتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في روايته من أوله إلى منتهاه
ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من الحديث وإن نقله عدد التواتر وزيادة لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجد في أوائله على ما سبق ذكره نعم حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار نراه مثالا لذلك فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجم وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم
وذكر أبو بكر البزار الحافظ الجليل في مسنده أنه رواه ع رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو من أربعين رجلا من الصحابة وذكر بعض الحفاظ أنه رواه عنه صلى الله عليه و سلم اثنان وستون نفسا من الصحابة وفيهم العشرة
المشهود لهم بالجنة قال وليس في الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرة غيره ولا يعرف حديث يروي عن أكثر من ستين نفسا من الصحابة عن رسول الله إلا هذا الحديث الواحد
قلت وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد وفي بعض ذلك عدد التواتر ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار والله أعلم ا هـ
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي شرح تقريب النواوي قال ابن الصلاح رواه اثنان وستون من الصحابة وقال غيره رواه أكثر من مئة نفس وفي شرح مسلم للمصنف رواه نحو مئتين قال العراقي وليس في هذا المتن بعينه ولكنه في مطلق الكذب والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيا ثم ذكر أسماءهم واحدا بعد واحد مع الإشارة لمن أخرج حديثه من الأئمة
وقد أورد أمثلة للمتواتر اللفظي منها حديث الحوض فإنه مروي عن نيف وخمسين من الصحابة ومنها حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فإنه مروي عن نحو ثلاثين منهم ومنها نزل القرآن على سبعة أحرف فإنه مروي عن سبع وعشرين
وأورد مثالا للمتواتر المعنوي وهو رفع اليدين في الدعاء فإنه قد روي فيه نحو مئة حديث وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة فكل قضية منها لم تتواتر لكن القدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع ا هـ
هذا وما قاله ابن الصلاح من ان التواتر لا يبحث عنه في علم الأثر مما لا يمترى فيه قال بعض العلماء العلام ليس المتواتر من مباحث علم الإسناد إذ هو علم فيه عن صحة الحديث أو ضعفه من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم ليعمل به أو يترك والمتواتر لا يبحث فيه عن رواته بل يجب العمل به من غير بحث لإفادته علم اليقين وغن ورد عن غير الأبرار بل عن الكفار
وأراد بما ذكر أن المتواتر لا يبحث فيه عن رواته وصفاتهم على الوجه الذي يجري في أخبار الآحاد وهذا لا ينافي البحث عن رواته إجمالا من جهة بلوغهم في الكثرة إلى حد يمنع تواطؤهم على الكذب فيه أو حصوله منهم بطريق التفاق والمراد بالاتفاق وقوع الكذب منهم من غير تشاور سواء كان عمدا وكذلك البحث عن القرائن المحتفة به لا سيما إن كان العدد غير كثير جدا ويلحق بالمتواتر في عدم البحث عنه في علم الأثر المستفيض إذا كان أخص من المشهور
ومما يدل على أن المتواتر ليس من مباحث علم الإسناد أنه لا يكون له إلا في النادر جدا إسناد على الوجه المألوف في رواته أخبار الآحارد ولذلك ترى علماء الأصول يقسمون خبر الواحد إلى قسمين مسند ومرسل ولا يتعرضون إلى تقسيم المتواتر إلى ذلك فإن اتفق للمتواتر إسناد لم يبحث في أحوال رجاله البحث الذي يجري في أحوال الأسانيد التي تروي بها الآحاد هذا إذا ثبت تواتره لأن الإسناد الخاص يكون مستغنى عنه وإن كان لا يخلو عن الفائدة
وأما ما ورد بأسانيد كثيرة فإن كانت كثرتها كافية في إثبات التواتر فالأمر ظاهر وإن كانت غير كافية فيه لزمه البحث عن أحوال الرجال ونحوها من سائر قرائن الأحوال ليرفعه إلى درجة المتواتر إن وجد ما يقتضي رفعه إليها أو ينزله إلى درجة المستفيض أو المشهور إن وجد ما يوجب ذلك والمستبصر لا يخفى عليه ما تقتضيه الحال
وقد أشار الحافظ السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة إلى شيء مما كرنا ولنورد عبارته مختصرة قال حديث جابر مرفوعا من آذى ذميا فأنا خصيمه ومن كنت خصيمه خصمته قال الخطيب منكر وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال أربعة أحاديث تدور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأسواق وليس لها أصل من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة ومن آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة ونحركم يوم صومكم وللسائل حق وإن جاء على فرس
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على ابن الصلاح لا يصح هذا الكلام عن أحمد فإنه أخرج منها حديثا في المسند وهو حديث للسائل حق وإن جاء على فرس وقد ورد من حديث علي وابنه الحسين وابن عباس والهرماس بن زياد
أما حديث علي فأخرجه أبو داود وأما حديث الحسين فأخرجه أبو داود وأحمد من رواية يعلى وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن عدي وأما حديث الهرماس فأخرجه الطبراني
وكذلك حديث من آذى ذميا فهو معروف أيضا فروى أبو داود من رواية
صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم دني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو اخذ نه شيئا فأنا حجيجه يوم القيامة وإسناده جيد وإن كان فيه ما لم يسم فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة فقد رويناه في سنن البيهقي الكبرى قال في روايته عن ثلاثين من أبناء الصحابة
وأما الحديثان الآخران فلا أصل هما ا هـ
وبعد أن وصلت إلى هنا ريت لابن حزم عبارة تؤيد ما ذكرناه قال في كتاب الأحكام فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد فهي منقولة الكافة
ثم قال وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطرح على ما ذكرنا لأنه لا دليل على قبوله البتة فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا أجمع عليها قبلت وإذا اختلفت فيها سقطت وهي كل قولة لم يات بتفصيلها باسمها نص
وقال في موضع آخر وإذا ورد حديث مرسل أو في أحد ناقليه ضعيف فوجدنا ذلك الحديث مجمعا على أخذه والقول به علمنا يقينا أنه حديث صحيح
لا شك فيه وأنه منقول نقل الكافة مستغنى عن نقل الآحاد وذلك كالحديث لا وصية لوارث وما أشبه ذلك
المسألة الثامنة قد عرفت أناسا لم يكتفوا بالشروط التي شرطها الجمهور في المتواتر بل زادوا عليها شروطا أخرى فشرط بعضهم وجود الإمام المعصوم في جملة المخبرين وقد نسب ذلك إلى الشيعة قال الإمام الغزالي في المستصفى شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين
وهذا يوجب العلم بإخبار الرسول صلى الله عليه و سلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى إخبار غيره ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على طريق التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وان لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وان لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم
وأنكر الشيعة نسبة هذا القول إليهم ونسبة بعضهم إلى ابن الراوندي قال العلامة الحلي في نهاية الوصول شرط ابن الراوندي وجود المعصوم فيهم ولا عبرة غيره
وقال المحقق بهاء الدين العاملي في الزبدة وشرطه بلوغ رواته في كل طبقة
حدا يؤمن معه تواطؤهم واستنادهم إلى الحس وحصر أقلهم في عدد مجازفة وقول المخالفين باشتراطنا دخول المعصوم افتراء نعم الشرط المرتضى عدم سبق شبهة تؤدي إلى نفيه وشرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وأن تختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد
قال الغزالي وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الإخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وفتنة وواقعة بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر
فإن قيل فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه
قلنا لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التاويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي ان يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في انهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم ا هـ
وقد نسب الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي اشتراط ان لا يكونوا على دين واحد إلى اليهود قال في المحصول وأما الشرائط التي اعتبرها قوم مع أنها غير معتبرة فأربعة
الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط عن المنارة فيما بين الخلق كان إخبارهم مفيدا للعلم
الثاني أن لا يكونوا على دين واحد وهذا الشرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن التهمة إن حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد او على أديان ارتفعت حصل العلم كيف كانوا
الثالث أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم
الرابع شرط ابن الراوندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خبر أهل التواتر ا هـ
وقد نسب لى اليهود شرط آخر وهو ان يكون في المخبرين أهل الذلة والمسكنة قال الحلي في النهاية شرطت اليهود أن يكون مشتملا على اخبار أهل الذلة والمسكنة ليؤمن تواطؤهم على الكذب وهو غلط فإنا نجد العلم حاصلا عقب إخبار الأكابر والمعظمين والشرفاء اكثر من حصوله عقب خبر المساكين وأهل الذلة لترفع أولئك عن رذيلة الكذب لئلا ينثلم شرفهم
وشرط قوم كونهم مسلمين قال في اللمع ومن أصحابنا من اعتبر أن يكون العدد مسلمين ومن الناس من قال لا يجوز أن يكون العدد أقل من اثني عشر ومنهم من قال أقله سبعون ومنهم من قال ثلاث مئة وأكثر وهذا كله خطأ لأن وقوع العلم به لا يختص بشيء مما ذكروه فسقط اعتبار ذلك
وقال في المستصفى شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين وهو فاسد إذ يحصل بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم
وقال في نزهة الخواطر وكشف غوامض السرائر في اختصار روضة الناظر
وجنة المناظر وليس من شرط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا لأن إفضاءه إلى العلم من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه ويمكن ذلك من الكفار كإمكانه من المسلمين ا هـ
وقال الحلي في النهاية وشرط بعضهم الإسلام والعدالة لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق ولهذا اعتبر إجماع المسلمين دون غيرهم ولأنه لو وقع العلم عقيب إخبار الكفار لوقع عند إخبار النصارى مع كثرتهم عن قتل المسيح وصلبه وهو غلط فإن العلم قد يحصل عند خبر الكفار إذا عرف انتفاء الداعي إلى الكذب كما لو اخبر أهل بلد كافرون بقتل ملكهم والإجماع اختص بالمسلمين عند بعضهم لاستفادته من السمع المختص بإجماع المسلمين وإخبار النصارى غير متواتر لقتلهم في المبدأ
واعلم أنه قد وقع في هذا الموضع اضطراب في كلام بعض المتأخرين من إذا بحث في مسألة ذهل عما يتعلق بها مما ذكر في محل آخر فاقتضى الحال التنبيه على أمور
الأمر الأول شرطوا في الراوي أن يكون مسلما فإن كان كافرا لم تقبل روايته هذا إذا كان من غير أهل القبلة وقد صرح كثير من علماء الأصول بانعقاد الإجماع عليه قال في النهاية أجمع العلماء على عدم قبول رواية الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة سواء علم منه الاحتراز عن الكذب أو لا وقال غيره اتفق أئمة الحديث وأصول الفقه على اشتراط إسلام الراوي حال روايته وإن لم يكن مسلما حال تحمله
وقال عضهم لا يقبل خبر الكافر لوجوب التثبت عند خبر المسلم الفاسق فليزم بطريق الأولى عدم اعتبار خبره وقيل إن الفاسق يشمل الكافر وأما قبول شهادته في الوصية مع أن الرواية أضعف من الشهادة فذلك بنص خاص ويبقى العام معتبرا في الباقي
وقد أبان بعضهم سبب رد رواية الكافر بطريق سهل المسلك فقال ليس الإسلام بشرط لثبوت الصدق إذ الكفر لا ينافي الصدق لأن الكافر إذا كان مترهبا عدلا في دينه معتقدا لحرمة الكذب تقع الثقة بخبره كما لو أخبر عن أمر من أمور الدنيا بخلاف الفاسق فإن جراءته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها تزيل الثقة عن خبرة
ولكن اشتراط الإسلام باعتبار أن الكفر يورث تهمة زائدة في خبره تدل على كذبه لأن الكلام في الاخبار التي تثبت بها أحكام الشرع وهم يعادوننا في الدين أشد العداوة فتحملهم المعاداة على السعي في هد أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه وإليه أشار الله تعالى في قوله عز ذكره ( لا يألونكم خبالا ) أي لا يقصرون في الإفساد عليكم
وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان فإنهم كتوا نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ونبوته من كتابهم بعد أخذ الميثاق عليهم بإظهار ذلك فلا يؤمن من ان يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية بل هذا هو الظاهر فلهذا شرطنا الإسلام في الراوي
فتبين بهذا ان رد خبر الكافر ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره وهو المعاداة بمنزلة شهادة الأب لولده فإنها لا تقبل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو الشفقة والميل إلى الولد طبعا ا هـ
والنص الذي أشير إليه آنفا في قبول شهادة غير المسلم في الوصية والسفر وهو قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) وهذا إنما يجري على مذهب من يقول إن ذلك لم ينسخ ولم يؤول الآية بالتأويل الذي ذكره ابن حزم في الأحكام وانحى على صاحبه بالملام قال في فصل أتم به الكلام في الرد على قوم ادعوا تعارض النصوص وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة ومثلوا ذلك بقوله تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) مع قوله عز و جل ( أو آخران من غيركم )
قال علي وهذا لا معنى له ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسوله والحكم بالآراء الفاسدة على ما امرنا به فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها وقوله تعالى ( أو آخران من غيركم ) مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر ففقط فغنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق
ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر بطلانا من قول من قال ( أو آخران من غيركم ) أي من غير قبيلتكم تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا
وليت شعري أي قبيلة خاطب الله عز و جل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل وقد قال تعالى في أول الآية ( يا أيها الذين آمنوا ) وما علمنا الذين آمنوا قبيلة بعينها بل الذين آمنوا عرب وفرس وقبط ونبط وروم وصقلب وخزر وسودان وحبشة وزنج ونوبة وبجاوة وبربر وهند وسند وترك وديلم وكرد
فثبت بضروة لا مجال للشك فيها أن غير الذين آمنوا هم الكفار ولا ينكر ذلك إلا من سفه نفسه وأنكر عقله وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائل من غيركم من غير قبيلتكم من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره الذي ليس عليه من نور الحق أثر
الأمر الثاني قد توهم بعض الناس أن الذين صرحوا في كتبهم بعدم قبول رواية الكافر هم الذين زادوا في شروط التواتر الإسلام إما وحده أو مقرونا بالعدالة وليس المر كذلك فإن كثيرا ممن صرح بالأول لم يزد في شروط التواتر ذلك وبعضهم ذكره نقلا عن غيره ورد عليه على ان القائلين بهذا الشرط قليلون جدا وتوهم بعضهم أن بين العبارتين تناقضا وليس المر كذلك
وقد أحببت إزالة الإشكال وإن كنت قد التزمت في هذا الكتاب أن أترك إزالة كل إشكال يعرض في مبحث من المباحث إلى المطالعين بعد أن يترووا فيما ذكرناه فيه تمرينا لهم على استعمال الفكر فنقول
إن عدم قبول رواية غير المسلم فيما يتعلق بأمر الدين هو مما لم يختلف فيه غير انه إنما يتعين فيما ورد على طريق الآحاد وذلك لأن خبر الآحاد عند من يقبله يشترط فيه أن يكون الراوي مسلما عدلا ضباطا فإن كان فإن كان مسلما غير عدل لا تقبل روايته مع اعتقاده في الدين وجزمه بان سعادته منوطة به فلأن لا تقبل رواية غير المسلم الذي لا يعتقد في الدين ولا يرى أن سعادته منوطة به أولى وهذا ظاهر بين وأما من لا يقول بخبر الآحاد وإن كان الراوي حائزا لأعلى صفات القبول لاحتمال أن يعرض له السهو والغلط ونحو ذلك فالأمر عندهم أظهر وأبين
وهذه المسألة المفروضة تتصور على ثلاثة أوجه الوجه الأول أن يكون ما رواه قد رواه غيره من المسلمين على الوجه الذي رواه هو به الوجه الثاني أن يكون ما رواه قد رواه غيره من المسلمين على غير الوجه الذي رواه هو به بحيث يقع التعارض بين الروايتين الوجه الثالث أن يكون ما وراه لم يروه غيره من المسلمين
وهذا ضربان أحدهما أن يكون فيه ما يخالف ما تقرر عندهم من القواعد والأصول والثاني أن لا يكون فيه شيء من ذلك
وقد تعرض لطرف من هذه المسألة المفروضة بعض العلماء ففي أصول البردوي قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء إنه لا يعمل بخبره ويتوضأ به فإن تيمم وأراق الماء فهو أحب إلي وفي الفاسق جعل الاحتياط أصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن تكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم
قال في الشرح قوله ويجب أن يكون كذلك أي يجب أن يكون شأن الكافر في رواية الحديث كشأنه في الإخبار عن نجاسة الماء فيما يستحب من الاحتياط أي من الأخذ به يعني لا يقبل خبره في الدين ولا يكون حجة كما لو يقبل في نجاسة الماء إلا ان الاحتياط لو كان في العمل به يستحب الأخذ به من غير وجوب كما تستحب الإراقة ثم التيمم هناك
ويجوز أن يكون معناه ويجب أن يكون الفرق ثابتا بين خبر الكافر والفاسق في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط أيضا وإن لم يكن خبرهما حجة كثبوته في إخبارهما عن نجاسة الماء فإذا روى الفاسق حديثا لا يكون حجة أصلا ولكن
لو كان الاحتياط في الأخذ به يكون الاستحباب في العمل به فوق الاستحباب في العمل بخبر الكافر وعلى هذا الوجه يدل سياق الكلام
ثم قال وإنما قال يجب أن يكون كذلك ها هنا وفيما تقدم لأن الرواية غير محفوظة عن السلف في نقل هؤلاء الحديث
وأما ما يرويه غير المسلمين على طريق التواتر فهو مقبول مطلقا سواء كان ذلك مما يتعلق أو بغير الدين وما يتعلق بالدين لا فرق فيه بين ما يتعلق بديننا أو بدينهم إن كان لهم دين أو بدين آخر فإذا رووا شيأ مما يتعلق بديننا على طريق التواتر وقد عرفت شروطه التي ذكرها الجمهور فلا بد أن يكون مطابقا للواقع ولا بد مع ذلك أن يكون مرويا عندنا على طريق التواتر فإنه لم تعن أمة من الأمم بأمر دينها مثل نا عني به المسلمون وهذا أمر لا يمتري فيه من له أدنى زوال ريبة بأقل عناية
وعلى هذا يكون تواتره عندهم مؤكدا لتواتره عندنا ويكون هذا النوع من أعلى المتواترات ومن خبر المر بنفسه أو نظر في كتب أئمة المتكلمين تبين له أن المتواترات وإن اشتركت في إفادة العلم لكن بعضها في الدرج العليا وبعضها في الدرجة الوسطى وبعضها في الدنيا
وقد أشار ابن حزم إلى هذا النوع في المقالة التي ذكر فيها وجوه النقل عند المسلمين فقال ونحن نذكر إن شاء الله تعالى وجوه النقل التي عند المسلمين لكتابهم ودينهم ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل عيانا فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم فنقول وبالله التوفيق
إن نقل المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا جيلا لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله عز و جل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم اخذ ع أولئك حتى بلغ إلينا ومن ذلك الصلوات الخمس
وقد كرر قوله لا يختلف في ذلك مؤمن ولا كافر في كثير من الأشياء إشارة إلى أنه من أعلى المتواترات حتى شارك فيها غير المسلمين المسلمين فاعرف قدر العبارات وما تضمنه من الإشارات فإن قلت ما الذي دعا من زاد في شروط التواتر إسلام المخبرين إلى هذه الزيادة قلت دعاه إلى ذلك أنه أوردت عليه أخبار غير مطابقة للواقع ومع ذلك أدعى المسلمون أنها متواترة فظن أن العلة فيها جاءت من كون رواتها غير مسلمين فزاد هذا الشرط تخلصا من الإشكال وكان حقه أن يفعل كما فعل الجمهور فإنهم دققوا النظر فيها فتبين لهم أنها غير مستوفية لشرط التواتر المشهورة فارتفع الإشكال من أصله غير أنه كان ضعيفا في علم الكلام
وقد نشأ من هذه الزيادة التي زادها إشكال آخر وهو انسداد باب التواتر في أكثر المتواترات التي لا تحصى وذلك في الأمور التي كانت قبل ظهور الإسلام ولم تذكر في الكتاب العزيز والأمور التي ظهرت بعده وكان المتأولون لنقلها أولا غير المسلمين مع ان الخبر المتواتر من أهم أركان العلم والمعرفة والحاجة في جل الأحوال ملجئة إليه
وقد رأيت أن أورد عبارات شتى لا تخلو عن فائدة فيما نحن فيه قال صدر
الشريعة في كتاب التوضيح الخبر لا يخلو من أن تكون رواته في كل عهد قوما يحصى عددهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم أو يصير كذلك بعد القرن الأول أو لا يصير بل رواته آحاد والأول متواتر والثاني مشهور والثالث خبر الواحد
قال المحقق سعد الدين التفتازاني في التلويح قوله ولا يمكن تواطؤهم أي توافقهم على الكذب حتى لو اخبر جمع غير محصورين بما يجوز تواطؤهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون متواترا
وأما ذكر العدالة وتباين الأماكن فتأكيد لعدم تواطئهم على الكذب وليس بشرط في التواتر حتى لو أخبر جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم حصل لنا اليقين
وأما مثل خبر اليهود بقتل عيسى عليه السلام وتأبيد دين موسى عليه السلام فلا نسلم تواتره وحصول شرائطه في كل عهد ثم المتواتر لا بد أن يكون مستندا إلى الحس سمعا أو غيره حتى لو اتفق أهل إقليم على مسألة عقلية لم يحصل لنا اليقين حتى يقوم البرهان
قال المحقق حن الفناري في حاشيته عليه قوله عند المحققين تفسير للكثرة إيماء إلى أن جعل المصنف الكثرة علة لعدم إمكان التواطئ ليس كما ينبغي
قوله وليس بشرط في التواتر قيل الكلام في تواتر خبر الرسول والعدالة
وتباين الأماكن شرطان فيه لا في مطلق التواتر فلا تقريب لما ذكره والجواب منع القول بالفصل على المختار
هذا وفي حصوله اليقين بإخبار جمع غير محصور من كفار بلدة بموت ملكهم منع ظاهر لجواز اتفاق تلك البلدة على ذلك الكلام لغرض من الأغراض مثل تغرير المسلمين به لئلا يراعوا الحزم عند الجهاد معهم أو لئلا يتحفظوا على أنفسهم منهم فالأولى أن يقتصر على نفي الاشتراط المذكور
قوله فلا نسلم تواتره فإن قتل عيسى عليه السلام نقل عن جماعة من اليهود دخلوا البيت الذي كان فيه وكانوا سبعة وقد روي انهم كانوا لا يعرفون المسيح وغنما جعلوا لرجل جعلا فدلهم على شخص في بيت اجتمعوا عليه وقتلوه وزعموا انهم قتلوا عيسى عليه السلام وأشاعوا الخبر وبمثله لا يحصل التواتر
ومما يتعلق بما نحن فيه ما ذكره علماء الأصول في مسألة هل كان عليه السلام متعبدا بشرع من قبله وقد اختلفوا في ذلك وقد أوضح الفخر الرازي أمرها في المحصول ولنورد لك ما تعلق بغرضنا منه قال القسم الثالث في أن الرسول عليه الصلاة و السلام هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان الأول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان الاول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته قوم ونفاه آخرون وتوقف فيه ثالث
احتج المنكرون بأنه لو كان تعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستيفاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لاشتهر ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم
واحتج المثبتون بأن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها والجواب أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه ولو سلمنا ذلك لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق يوجب العلم أو الظن الغالب وهذ هو المراد من زمان الفترة
البحث الثاني في حاله بعد النبوة قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنه
لم يكن متعبدا بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى
واعلم أن من قال كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به أن الله تعالى يوحي إليه مثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله أو يريد به أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فإن قالوا بالأول فإما أن يقولوا به في كل شرعة أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا بخلاف شرع من قبلنا في كثير من الأمور والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه متعبد بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية ولم يكن عليه السلام تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه
وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه الأول لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه أن يرجع في أحكام تلك الحوادث إلى شرعه وأن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه لم يفعل ذلك ولو فعله لاشتهر
فإن قيل إن الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه عليه الصلاة و السلام علم في تلك الصور أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها إلى نزول الوحي أو لنه عليه الصلاة و السلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع فانتظر الوحي أو ان أحكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا كفارا ورواية الكفار غير مقبولة
فالجواب قوله إنما لم يرجع إليها لأنه علم انه غير متعبد فيها بشرع من قبله قلنا فلما لم يرجع في شيء من الوقائع إليهم وجب ان يكون ذاك علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله
وقوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب الشديد والبحث الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك الطلب والبحث
وقوله لك الحكم إما أن يكون تواترا إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة و السلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية دلالتها على الحكام
ثم تعرض لغير ذلك من أدلة المثبتين وأجاب عنها وكان من المنكرين لتعبده عليه الصلاة و السلام بشرع من قبله سواء كان قبل البعثة او بعدها فارجع إليه إن شئت
ونقل ابن القشيري عن بعضهم أنه عليه الصلاة و السلام كان قبل البعثة متعبدا بشريعة العقل قال وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة وذكر الحلي في النهاية أن بعض الإمامية ذهب إلى انه كان متعبدا بما يلهمه الله تعالى إياه وأقوى أقوال من ذهب إلى انه كان متعبدا بشرع معين قول من ذهب إلى انه شرع إبراهيم عليه السلام
قال الإمام المازري هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع البتة ولا يبني عليها حكم في الشريعة
وأما المسألة الثانية وهي هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا فهي من أهم مسائل الأصول وقد قرب بعضهم أمرها فقال
إن ما لم يعلم من شرائع من قبلنا إلا من جهة المنتمين إليها فهذا لا بحث فيه لاختلاط ما صح منه بما لم يصح على وجه يحار فيه الجهبذ النحرير
وأما ما علم من غير جهتهم وهو ما ذكر منها في الكتاب والسنة فمنه ما دل الدليل على الخذ به وهذا لا خلاف فيه ومنه ما دل الدليل على نسخه في شرعنا وهذا أيضا كذلك ومنه ما لم يدل الدليل على الأخذ به ولا على نسخه فهذا هو الذي اختلف فيه
فقال بعضهم هو شرع لنا وقال بعضهم ليس بشرع لنا وممن قال هو شرع لنا مالك وجمهور أصحابه وأصحاب أبي حنيفة والشافعي قال بان السمعاني قد اومأ إليه الشافعي في بعض كتبه وقال القرطبي ذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية وقال القاضي عبد الوهاب إنه الذي تقتضيه أصول مالك
ونقل ذلك عن محمد بن الحسن قال البرذوي في أصوله قال بعض العلماء تلزمنا شرائع من قبلنا حتى يقوم الدليل على النسخ بمنزلة شرائعنا وقال بعضهم لا تلزمنا حتى يقوم الدليل وقال بعضهم تلزمنا على انها شريعتنا
والصحيح عندنا أن ما قص الله تعالى منها علينا من غير إنكار أو قصة رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير إنكار فإنه يلزمنا على أنه شريعة رسولنا عليه الصلاة و السلام
ثم قال وهو المختار عندنا من الأقوال بهذا الشرط الذي ذكرنا قال الله تبارك وتعالى ( ملة أبيكم إبراهيم ) وقال ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) فعلى هذا الأصل يجري هذا وقد احتج محمد في تصحيح المهايأة والقسمة بقول الله تعالى ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ) وقال ( لها شرب
ولكم شرب يوم معلوم ) فاحتج بهذا النص لإثبات الحكم به في غير المنصوص عليه بما هو نظيره فثبت أن المذهب هو القول الذي اخترناه ا هـ
المسألة التاسعة
للمنكرين لإفادة المتواتر علم اليقين شبه منها أنه يجوز أن يخبرنا جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بأمر كحياة زيد ويخبرنا جماعة أخرى مثلهم بنقيض خبرهم كموت زيد فلو أفاد المتواتر علم اليقين للزم حصول العلم بالنقيضين وهو محال
وأجاب الجمهور بأن هذا غير ممكن ولا بد أن يكون أحد الخبرين غير مستوف لشروط التواتر
ومنها أن كثيرا من الفرق التي لا يحصى عددها تخبر بأمور وهي جازمة وغيرها ينكرها ومن ذلك صلب المسيح عليه السلام فإن اليهود والنصارى يجزمون بوقوعه والمسلمون ينكرون ذلك وينسبون لهم الوهم
والجواب أن المسلمين لم يسلموا لا لاعتقادهم أن المتواتر لا يفيد اليقين بل لأنه تبين لهم أن ذلك الخبر لم يستوف الشروط اللازمة في التواتر
وقد هول المخالفون تهويلا عظيما وزعموا ان المسلمين أنكروا أعظم الأمور المتواترة تواترا فإن النصارى واليهود وهما أمتان عظيمتان قد طبقتا مشارق الأرض ومغاربها وهم يخبرون بصلب المسيح والإنجيل يصرح بذلك فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات التواتر فأي خبر بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه
وقد أجاب عن ذلك علماء الكلام والأصول غير أن كثيرا منهم اقتصر على الجواب المجمل وهو لا يشفي غليل من قويت عنده هذه الشبهة والذين أجابوا
بجواب مفصل بنى أكثرهم كلامه على مجرد الاحتمال وهو وإن كان مجديا في مقام الجدال غير انه أصل الإشكال وسبب ذلك انهم لم يطلعوا على ما ورد في الإنجيل الذي هو العمدة في انتشلر هذا الخبر ولو اطلعوا عليه لرأوا الخطب أسهل مما ظنوه
وقد تصدى ابن حزم للجواب عن هذه المسالة وهو من المطلعين على كتب أهل الكتاب فأحببنا نقل عبارته قال في كتاب الملل والنحل ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ةومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين ان قال قائلهم قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل وجاء القرآن بأنه لم يقتل ولم يصلب فقولوا لنا كيف كان هذا فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الهواء والديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وكتابه وشرائعه
ثم قال في الجواب عنه إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافة ولا صح بالخبر قط لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم وعدم التقائهم وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة أو رجوع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادى على سنن من تواطؤوا عليه فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه
فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ويضطر على صحته إلا ببرهان
فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة
صلبه فإن هناك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل
والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا خوف العامة وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح وانه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار وأنه أنزل إثر ذلك وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخاري ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب ولا موقوفا لذلك وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا أن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه بل كانت واقفة على بعد تنظر
هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة بل بخبر يشهد ظاهره على انه مكتوم تواطأ عليه وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غيبا عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين و أن شمعون الصفا غرر ودخل دار قيافا الكاهن أيضا بضوء النار فقيل له أنت من أصحابه فانتفى وجحد وخرج هاربا عن الدار
فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق فكيف أن ينقله كافة وهذا معنى قوله تعالى ( ولكن شبه لهم ) إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤ عليه هم شبهوا على من قلدهم فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة
ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس وفي حيث هو
فلعله نائم أو مشبه على حواسه وفي هذا خروج إلى السخف وقول السوفسطائية والحماقة
وقد شاهدنا نحن مثل ذلك وذلك أننا أندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن وقد شاهد غسله شيخان جليلان حاكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة من عظماء البلد ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ثم لم يلبث إلا شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا وبويع عد ذلك بالخلافة ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بن يديه ورأيته وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام
ثم قال وأما قوله تعالى ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) فإنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود إنه عليه السلام قتل وصلب فهؤلاء شبه لهم القول أي أدخلوا في شبه منه وكان المشبهون لم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المعون أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك وغنما أخذوا من أمنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة التي شبه الخبر لها ا هـ
قال العلامة التقي في الجواب الصحيح وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح عليه السلام بل
شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود
فبعض الناس يقولون إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله ( ولكن شبه لهم ) عن أولئك ومن قال بالأول جعل الضمير في شبه لهم عن السامعين لخبر أولئك
فإذا جاز ان يغلطوا في هذا ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلوه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله يجب اتباعه سواء صلب أو لم يصلب والحواريون مصدقون فيما ينقلونه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان ذلك الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر ا هـ
والضمائر في هذه الآية وفيما قبلها عائدة إلى اليهود قال تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وصدهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما )
قال المفسرون في قوله ( فبما نقضهم ميثاقهم ) ما زائدة والباء للسببية وهي متعلقة محذوف تقديره فعلنا بهم ما فعلنا وأما شبه فهو مسند إلى الجار والمجرور وهو ( لهم ) وهو الظاهر وقال بعضهم ( شبه لهم ) أي مثل لهم من حسبوه إياه وفي قوله ( وما قتلوه يقينا ) أي قتلا يقينا أو متيقنين وقال بعضهم المراد أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا فيه فإنهم كانوا في شك لعدم إيقانهم بقتله إذ لم تكن معهم حجة يسكنون إليها وقال بعضهم المراد وما علموه يقينا وهو من قولهم الشيء علما إذا عرفته معرفة تامة وهو بعيد
ورأى بعض الدارسين لكتب أهل الكتاب بناء على ما تراءى له من قرائن الأحوال أن الذين صمموا على إهلاك المسيح من رؤساء اليهود لما لم يجدوه ويئسوا من عودة إليهم عندوا إلى رجل آخر موهمين أنه هو المسيح فصلبوه إرهابا لأتباعه ولمن يخاف أن يكون عنده ميل إلى اتباعه وضعوا حراسا على القبر خشية أن ينبش فتظهر حقيقة الأمر ثم رأوا أن الحزم يقضي عليهم بنقله منه سرا إلى حيث لا يهتدي إليه ففعلوا وخشية أن يفتتن الناس بعدم وجوده فيه رشوا الحراس بمال جم ليشيعوا أن تلاميذه أتوا في جنح الظلام فأخذوه من القبر وهو نائم
وقال بعض المفسرين إن الذي صلب كان رجلا ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال انا أدلكم عليه وقد كان عيسى استتر فدخل الرجل بيت عيسى ورفع الله عيسى وألقى شبهه على المنافق فقتلوه وصلبوه وه يظنون أنه عيسى عليه السلام وهذا القول على كل ال أقرب من قول بعضهم إن المسيح عليه السلام لما أجمعت اليهود على قتله وأخبره الله سبحانه بأنه سيرفعه إلى السماء قال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهه فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم وقال أنا فألقى الله عليه شبهه فأخذ وقتل وصلب
والمنافق المذكور هو يهو ذا الأسخريوطي وذكر في الإنجيل أنه كان أحد التلاميذ الاثنى عشر الذين اختارهم المسيح لبث دعوته وأعطاهم قوة على إخراج الشياطين وشفاء جميع الأمراض ثم لما بلغه أن رؤساء اليهود قد صمموا على القبض على المسيح وإهلاكه ذهب إليهم وقال لهم أنا أسلمه إليكم فماذا تعطوني على ذلك فأعطوه ثلاثين من الفضة كل واحد منها تساوي قيمة درهما أو درهمين أو نحو ذلك فرضي بها وصار يترقب فرصة لإنجاز ما وعدهم به
ففي ليلة من الليالي ذهب إليهم وقال إن الفرصة قد أمكنت فأرسلوا معه جمعا كبيرا معهم سيوف وعصي وهذا الجمع مؤلف من اناس من خدمة رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وأناس من جند الروم فذهب بهم إلى سفح جبل الزيتون وكان المسيح في بستان هناك وقال لهم إذا وصلت إليه أقبله فالذي
أقبله هو المسيح فاقبضوا عليه وإنما جعل لهم عامة لأن كثيرين منهم كانوا لا يعرفونه فلما دنا منه سلم عليه ثم تقدم فعانقه فقال له المسيح يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان
ثم خرج إلى القوم وقال لهم أنا هو فتقهقروا ناكصين على أعقابهم وسقطوا على الأرض ثم قال لهم المسيح من تطلبون فقالوا نطلب عيسى الناصري فقال لهم قد قلت لكم إني أنا هو فإن كنتم تطلبونني فعوا هؤلاء يهبون وكان مع بطرس الذي يقال له سمعان الصفا سيف فانتضاه وضرب به عبد عظيم الكهنة فأخذ أذنه اليمنى فقال له المسيح اكفف ولمس أذن العبد فبرئت فحينئذ قيض الجماعة عليه وأوثقوه وذهبوا إلى حيث أرادوا
وإن أردت معرفة تتمة المسألة فارجع إلى الأناجيل الأربعة وإن كان فيها من الاضطراب في سوق هذه القضية ما لا مزيد عليه والأولى الرجوع إليها مع مراجعة ما قاله مفسروها وكنت أحببت أن أوردها بتمامها على وجه يرتفع به اللبس إليه لتسكن النفس غير أن ذلك يقتضي بسطا زائدا لا يسعد عليه هذا الموضع
ولنرجع إلى امر يهوذا فنقول ذكر في إنجيل متى أنه يهوذا لما رأى المسيح قد دفن ندم وذهب إلى رؤساء الكهنة وإلى المشايخ وأعاد لهم ما أخذ وقال لهم إني أخطأت بتسليمي إنسانا برا فقالوا ماذا علينا أنت أخبر وطرح ما أخذه في الهيكل وذهب فخنق نفسه وأما ما أعاده من المال فقد اشترى الرؤساء به حقل الفخار وجعلوه مقبرة للغرباء
قال مفسروه إن يهوذا لما رأى اليهود قد حكموا عل المسيح بالهلاك ولم يكن يظن أن الأمر يصل إلى هذا الحد ذهب إلى الرؤساء وقال لهم ما قال وأعاد لهم ما أخذه من المال راجيا بذلك أن يطلقوه فلما لم يجيبوه إلى ما سأل خنق نفسه
هذا ولما ارتاب بعض علمائنا في أمر يهوذا تراءى لهم أنه هو الذي ألي عليه شبه المسيح فأخذ وصلب ولقي جزاء عمله غير أن الذين كانوا يتلقفون أخبار المسيح عليه السلام من كل فم لما لم يقفوا له على عين ولا أثر ظنوا انه هلك أو اهلك نفسه فلفقوا هذا القول بناء على ما وقع في نفوسهم ومثل ذلك لا يحصى وهذا القول أقوى الأقوال التي قالها من ذهب إلى ان المصلوب كان يشبه المسيح عليه السلام بحيث إن من رآه وكان يعرفه من قبل قال إنه هو أو كأنه هو
والقول بالشبه المذكور هو المشهور عند الجمهور وقد أنكره عليهم الجمهور الأمم من غير المسلمين وقد وافقهم على الإنكار ابن حزم مع أن جميع أرباب الملل يقولون بجواز خرق العادة وهذا من أقرب الأمور جوازا في العقل لا سيما إن قضت الحكمة بوقوعه كالمسألة التي نحن بصددها وليس في ذلك ما يوجب إبطال الحقائق
على انه تقرر في علم الكلام أن الحواس قد تغلط في بعض الأحيان وأن ذلك لا يرفع الاطمئنان إلى ما أدركته في سائر الأحيان ومثل ذلك العقل فأي محذور يحصل أن قيل وعلى ذلك إن المسيح عليه السلام لما أراد اليهود إهلاكه لأنه كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على اتباع الحق والسلوك في مهج الصدق ألقى الله شبهه على رجل مارق منافق مستحق للهلاك فأخذ وصلب وهو بذلك حري ونجا من غوائلهم ذلك البر البري
وذكر مفسرو الأناجيل أن المسيح عليه السلام لما أراد الجماعة القبض عليه أظهر ثلاث آيات
الأولى إمساكه أبصارهم حتى لم يعرفوه مع أن ذلك الخائن جعل لمعرفته علامة وكان كثير منهم يعرفه ويؤيد ذلك أنه لما قال لهم من تطلبون ل يقولوا إننا نطلبك بل قالوا عيسى الناصري وذلك لعدم معرفتهم له
الثانية وقوعهم على ظهورهم إلى الأرض بمجرد قوله أنا هو
الثالثة إرجاعه أذن العبد التي قطعها بطرس فانظر كيف أثبتوا أخذ المسيح بأبصار القوم حتى جهله من كان يعرفه فلو أراد المسيح حينئذ أن يتركهم وشأنهم ويذهب حيث شاء لأمكن
فإن قلت لعلع خاف أن يلقوا القبض على تلامذته ظنا أنه بينهم قلت لا خوف في ذلك فإنه تظهر لهم في أقرب مدة حقيقة الحال فيطلقونهم وهم لا مأرب لهم فيما عداه إلا أن نقول لعل اللجاج والعناد يحملهم على دعوى أنه بينهم فيعمدوا إلى أحدهم فيهلكوه لئلا يقال إنه صعد إلى السماء أو نجا منهم بقوة ربانية
وذكروا أيضا أن المسيح أخذ بأبصار اليهود فلم يروه قبل هذه المرة وذلك أنه كان ذات يوم يمشي في الهيكل في رواق سليمان فأحدقت به اليهود وقالوا له حتى متى تعذب نفوسنا فإن كنت المسيح فقل لنا علانية فأجابهم بما أثار غضبهم فتناولوا حجارة ليرجموه فلم يستطيعوا ثم جرت بينهم محاورة أخرى أفضت إلى العزم في إمساكه فخرج من بين أيديهم قالوا فخروجه من بين أيديهم إنما أمكن لكونه حجب أبصارهم فلم يروه
فإن قلت إن المسيح عليه السلام لعله أراد أن ينال على أيديهم الشهادة لتكون له الحسنى وزيادة قلنا لا يسوغ ذلك على هذه الصفة قال تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وهذا من الأمور المحكمة التي اتفقت فيها الشرائع على اختلافها وقد ذكر في الأناجيل أن المسيح عليه السلام كان في الليلة التي قصده فيها القوم يتضرع إلى الله تعالى كثيرا ويسأله أن ينجيه من مكايد أعدائه وكان شديد الحزن والاكتئاب وهذا ينافي أن يكون مريدا للاستسلام لهم
هذا وإن طريقة ابن حزم طريقة معقولة وهي وإن كانت بعيدة في نظر
قوم فهي قريبة في نظر آخرين ممن خبروا أحوال الناس ودققوا النظر في أمر الحوادث وأكثروا من النظر في التاريخ وبحثوا عن أسباب المسائل وعللها ليقفوا على حقائقها ودقائقها
وهنا أمر ينبغي التنبه له وهو أن اليهود في ذلك العصر لم يكونوا مستبدين بأمرهم بل كانوا تحت حكم ملوك الروم وكان ملك الروم حينئذ طيباريوس وهو الذي بنيت في عهده مدينة طبرية ونسبت إليه وكان الوالي عليهم من قبله بيلاطوس قال سعيد بن البطريق في نظم الجوهر وملك طيباريوس قيصر برومية وللمسيح خمس عشرة سنة وكان لقيصر هذا صديق يقال له بلاطس من قرية على شط البنطس ولذلك يسمى بلاطس البنطي فولاه على أرض يهوذا
قال وفي خمس عشرة سنة من ملك طيباريوس هذا ظهر يحيى بن زكريا المعمداني فعمد اليهود في الأردن ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة ثم قال وكتب بلاطس إلى طيباريوس الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعله تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية فلم يتابعه أصحابه على ذلك وملك اثنين وعشرين سنة وستة أشهر
وبيلاطوس المذكور هو الذي ادعى رؤوس اليهود عنده أن المسيح عليه السلام كان يضل شعبهم ويدعي بأنه هو المسيح ملك اليهود وأنه كان يمنع الناس من أداء الجزية لقيصر وطلبوا منه أن يصلبه وإنما لم يتولوا هم المر بأنفسهم لأسباب
الأول انه لم يكن يسوغ أن يقتلوا أحدا ممن حكموا عليه بالقتل دون موافقة الروم وما وقع منهم مرارا من القيام على المسيح وإرادة رجمه فإنما ذلك من قبيل ما يحصل أحيانا من حكام الرعايا حين اشتداد غضبها وكثيرا ما تتغاضى الحكام عن ذلك إذا لم تخش ضررا منه
الثاني أنهم كانوا يخافون من الشعب فإن كثيرين منهم كانوا يميلون إلى
المسيح عليه السلام فإذا تولى الحاكم ذلك ووقع من الشعب فتن أمكنه تسكينها بواسطة الجند
الثالث أن ما ادعوه على المسيح عليه السلام من أنه كان يفتري على الله كذبا ويضل الناس لو صح وثبت فإنه يقتضي بموجب شرعهم الرجم لا الصلب وهم يريدون أن يصلب لاعتقادهم أن الصلب أدعى لزجر الناس عن اتباعه وفيه شفاء غليلهم ما ليس في غيره من انواع القتل
وقد ذكر في الأناجيل أن بيلاطوس المذكور لما سلمه رؤساء اليهود المسيح عليه السلام وطلبوا منه إهلاكه سأله عما اتهموه له فتبين له افتراؤهم وعرف أنهم إنما أسلموا حسدا وبغيا وتعجب جدا وقال لهم إني لم أجد له علة توجب هلاكه حرص على إطلاقه غير انهم أصروا على ما طلبوا منه وحرضوا جمهور الناس على ذلك فاحب إرضاءهم فأمر الشرط بان يذهبوا به ويجروا ما يرضي أولئك القوم
وقد اختلف المفسرون في أمر بيلاطوس فقال بعضهم إنه كان في الباطن يميل إلى قتل المسيح ولذلك بادر إلى إمضائه مع أن في يده إطلاقه حالا فضلا عن إبقائه في السجن إلى أن يتروى في أمره مدة ويجري بعد ذلك ما يقتضيه الحال ويدل على ذلك قوله للمسيح عليه السلام لما سأله فلم يجبه مالك لا تكلمني ألا تعلم أن لي سلطانا على ان أطلقك ولي سلطان على أن أصلبك
وقال أكثرهم لم يكن بيلاطوس يميل إلى الباطن إلى قتل المسيح عليه السلام ويدل على ذلك أشياء
الأول ما ظهر منه من تبرئة المسيح وذبه عنه بقدر ما استطاع
الثاني رؤيا زوجته فإنها أرسلت إليه وهو في مجلس الحكم والمسيح عنده مع القائمين عليه تقول إياك وذلك الصديق لأني رأيت في الحلم من أجله أمورا مزعجة كثيرا وقد اختلفوا في هذا الحلم فقال بعضهم هو من الشيطان ليخلص المسيح فيبقى العالم بغير فداء وقال بعضهم هو من ملك ليشهد الرجال والنساء بكمال المسيح
الثالث خوف ثورة الشعب فإن كثيرا منهم كانوا يميلون إلى المسيح عليه السلام والولاة أبعد الناس عن إثارة الشعب بدون عابث قوي لذلك وهذا الوالي كان من عباد الأوثان ولم يكن لليهود عنده من حيث الدين شأن ولذلك كان القائمون عليه عازمين في أول الأمر على ان يمسكوه ويقتلوه غيلة وأن يكون ذلك في غير العيد لكثرة اجتماع الناس فيه فلما جاءهم يهوذا الخائن غيروا رأيهم واعتقدوا أن الفرصة قد ساعدت وعزموا على ان يكون ذلك على يد الحاكم لأنه أقرب إلى السلامة من الشعب إن ثار ففعلوا ما فعلوا
الرابع ما ذكر عنه من أنه كتب من بعد إلى طيباريوس ملك الروم بخبر المسيح وما وقع له من الآيات وبخبر تلاميذه وما يقع على أيديهم من العجائب غير أن كثيرا منهم توقف في صحة هذا الخبر وقال إنه كان عزم على ذلك غير انه خشي ان يعود عليه ذلك بالضرر حيث قتل المسيح بغير حق
وقد ورد على هذا الفريق إشكال وهو أن يقال إذا كان هذا الوالي يميل إلى إطلاق المسيح والبواعث على ذلك كثيرة فلم لم يطلقه
وقد أجابوا عن ذلك بأن بيلاطوس كان عزم على إطلاقه فصاح اليهود به وقالوا إن تطلق هذا فما أنت بمحب لقيصر لأن من يجعل نفسه ملكا يكون عدوا لقيصر فارتاع بيلاطوس وخشي بطش قيصر إن بلغه ذلك فأسلم المسيح إلى ما أسلمه إليه
وفي هذا الجواب ضعف لأنه يمكنه حينئذ أن يضع المسيح في السجن ويكتب إليه بحقيقة الحال وينتظر ما يأمر به فيجري عليه
وقال بعضهم فعل ما فعل تخلصا من شغب الشعب فإن الرؤساء حرضوهم على الاجتماع عند دار الحكم وأن يلحوا في طلب إهلاكه فكان كلما قال لهم أي شر صنع هذا يزدادون صياحا قائلين ليصلب فلما رأى أن ذلك لا يفيد شيئا بل تزداد الجلبة كلما حاولهم غسل يديه أمامهم وقال أنا بريء من دم هذا
الصديق أنتم أخبر فصاحوا كلهم قائلين دمه علينا وعلى أولادنا وأسلمه إلى الجند لينفذوا الحكم عليه
قال بعض القسيسين فإن قيل يجوز للوالي أن يخضع لرأي الشعب كله في مثل هذا الأمر فالجواب لا بل يجب على الحاكم أن يحتمل ألف ميتة ولا يحيد عن منهج العدل وإذا جمع بين العلتين يكون الجواب أقوى
واعلم أن مسألة الصلب إنما أهمت النصارى مع ضعف مأخذها عندهم لبنائهم أكثر أمور دينهم عليها ونسبتهم أكثر أسراره إليها حتى إنهم ينكرون على منكرها أكثر مما ينكرون على منكر التثليث
وقد بقي في مباحث المتواتر مسائل أخرى مهمة تركناها لأنها مما يهتدي إليها اللبيب بنفسه إذا أمعن فيها النظر
الفصل السادس
في أقسام الحديث قبل الخوض في ذلك ينبغي الوقوف على مسألتين
المسألة الأولى أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر لاستغنائه بالتواتر عن يراد سند له حتى إنه إذا اتفق له سند لم يبحث عن أحوال رواته لما سبق بيانه في المسألة السابعة من الفصل الخامس
فقول المحدثين إن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف يريدون به الحديث المروي من طريق الآحاد وأما الحديث المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة
وقد ألحق بعضهم المستفيض بالمتواتر فجعله أيضا خارجا عن مورد القسمة وقد نقلنا فيما مضى أقوالا في حد المستفيض وقد وقفت الآن على أقوال أخر ذكرها بعض من ألف في القواعد الفقهية فأحببت إيراد خلاصة ذلك قال
قد اقتضى كلام قوم أن المستفيض خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب وكلام قوم أنه خبر جمع يفيد ظنا فوق الظن المجرد وقال بعضهم إنه خبر جمع كثير يقع العلم أو الظن بقولهم
وقال بعض الفقهاء لا تقبل الشهادة بالاستفاضة إلا في مسائل منها النسب والوقف وولاية الوالي وعزله وقال بعضهم إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس لم يحتج إلى البحث والسؤال عنه
وينبغي التنبه لأمر وهو أنه لا يجوز الجرح بمجرد الشيوع والانتشار بل لا بد مع ذلك من حصول العلم فإذا لم يحصل العلم لم يجز الاعتماد عليه وهتك أعراض الناس به وقد صرح بذلك الغزالي وهو الحق لأنه مما يمكن الوقوف عليه وإذا وقع لم يحصل فيه لبس فلا يقع فيه بما لا يفيد العلم من الاستفاضة والاستفاضة تحصل بأقل جموع الكثرة وهو أحد عشر فمن زعم استفاض بدونها فهو ذاهل
وشرط العمل بالاستفاضة أن لا عارض باستفاضة مثلها فإن عورضت بطل حكمها لأنا إن شرطنا في الاستفاضة العلم فالمعارضة تدل على انه لا استفاضة من الجانبين لأن القاطعين لا يتعارضان وإن اكتفينا بالظن فليس أحد الظنين بأولى من مقابله
واعلم أن الشيء الذي لا تنضبط أسباب الاطلاع عليه إذا أثارت أسبابه لبعض العارفين ظنا يسوغ له الشهادة لم يسغ له أن يصرح به عند الحاكم لن من الجائز أن لا يتبين له الظن الذي ثار عند الشاهد لا سيما إن قامت عند الشاهد إشارات تقصر عنها العبارات ومن ثم قالوا فيما يشهد فيه بالاستفاضة إن الشاهد لو صرح بأن مستنده الاستفاضة لم يقبل لأنه أضعف قوله بذكر مستنده ا هـ
وقد تبين من عباراتهم المخلفة أن من العلماء من يجعل المستفيض مرادفا للمتواتر ومنهم من يجعله أعلم منه بحيث يقال كل متواتر مستفيض وليس كل مستفيض متواترا ومنهم من يجعله قسما على حدة غير انه دون المتواتر وفوق المشهور وهذا هو المشهور
والمقصود بما ذكرنا التنبيه على اختلاف الاصطلاح فيه ليعرف المطالع إذا رأى توارد الأحكام المختلفة عليه أن ذلك إنما هو لاختلاف اصطلاح المصطلحين فيه لا لأمر آخر
المسالة الثانية قد سبق ذكر معنى السند والإسناد وقول ابن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقد دعا الحال إلى أن نذكر هنا معنى المسند وما يناسبه فنقول
قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر والمسند في قول أهل الحديث هذا حديث مسند هو مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال
فقولي مرفوع كالجنس وقولي صحابي كالفصل يخرج به ما رفعه التابعي فإنه مرسل أو من دونه فإنه معضل أو معلق وقولي ظاهرة الاتصال يخرج ما ظاهره الانقطاع ويدخل ما فيه الاحتمال وما يوجد فيه حقيقة الاتصال من باب الأولى ويفهم من التقييد بالظهور أن الانقطاع الخفي كعنعنة المدلس والمعاصر الذي لم يثبت لقيه لا يخرج الحديث عن كونه مسندا لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذلك
وهذا تعريف موافق لقول الحاكم المسند ما رواه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه وكذا شيخه عن شيخه متصلا إلى صحابي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما الخطيب فقال المسند المتصل فعلى هذا الموقوف إذا جاء بسند متصل يسمى عنده مسندا لكن قال إن ذلك قد يأتي لكن بقلة
وأبعد ابن عبد البر حيث قال المسند المرفوع ولم يتعرض للإسناد فإنه يصدق على المرسل والمعضل والمنقطع إذا كان المتن مرفوعا ولا قائل به ا هـ
قال بعض العلماء ينبغي أن يراد بموافقة تعريفه لتعريف الحاكم الموافقة في الجملة وإلا فالمتبادر من تعريف الحاكم اختصاص المسند بما اتصل فيه السند حقيقة وقد صرح باشتراط عدم التدليس في رواته نعم إن أرباب المساند لم يتحاموا فيها تخريج معنعنات المدلسين ولا أحاديث من ليس له من النبي صلى الله عليه و سلم إلا مجرد الرؤية
وقد عرفت بما ذكر أن للعلماء في معنى المسند ثلاثة أقوال
القول الأول قول من قال ن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبه جزم الحاكم في كتابه في علوم الحديث ولم يذكر فيه غيره وحكاه الحافظ ابن عبد البر في كتاب التمهيد عن قوم من أهل الحديث
وهذا القول هو المشهور وبه يحصل الفرق بين المسند وبين المتصل والمرفوع وذلك أن المرفوع نظر فيه إلى حال المتن مع قطع النظر عن الإسناد اتصل أم لم يتصل والمتصل نظر فيه إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن مرفوعا كان أم موقوفا والمسند نظر فيه إلى الأمرين وهما الرفع والاتصال فيكون أخص من كل منهما فكل مسند مرفوع وكل مستند متصل وليس كل مرفوع مسندا ولا كل متصل مسندا
القول الثاني قول من قال المسند هو الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه ذكره الخطيب نقلا عن جمهور أهل الحديث قال ابن الصلاح وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم
وعلى ذلك يدخل فيه المرفوع والموقوف فلا يكون بينه وبين المتصل فرق إلا من جهة ان المتصل يستعمل في المرفوع والموقوف على حد سواء بخلاف المسند فإنه يستعمل في المرفوع كثيرا وفي الموقوف قليلا غير أن كلام الخطيب يقتضي دخول المقطوع فيه وهو قول التابعين وكذا قول من بعد التابعين وكلام أهل الحديث يأباه
القول الثالث قول من قال المسند ما رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وهو قد يكون تصلا مثل مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد يكون منقطعا مثل مالك عن الزهري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا مسند لأنه قد أسند إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من ابن عباس قاله ابن عبد البر في التمهيد
فعلى هذا يستوي المسند والمرفوع وقد جرى على ذلك الدارقني في قوله في سعيد بن جبير بن حية الثقفي إنه ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها وغيره يقفها
هذا وقد استشكل بعضهم ما ذكر في القول الأول من قولهم كل مسند تصل وليس كل متصل مسندا فقال إن المسند غنما يطلق على المتن والمتصل إنما يطلق على السند فكيف يسوغ حمل أحدهما على الآخر
ويمكن أن يجاب بأن المراد بقولهم كل مسند متصل أن كل حديث مسند فهو متصل الإسناد وبقولهم ليس كل متصل مسندا أنه ليس كل ما كان متصل الإسناد مسندا وذلك لكونه بعضه ليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وما لا يكون مرفوعا إليه لا يقال له مسند فيصح الحمل في الموضعين على الوجه الذي ذكر
ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى وليس في ذلك تعقيد لتبادر المعنى المراد إلى الذهن ومن وقف مع ظواهر الألفاظ حار في أكثر المواضع
والمراد بالمتصل ما لم يسقط فيه أحد من رجاله ويسمى عدم السقوط اتصالا ويقابل المتصل المنقطع وهو ما سقط فيه واحد من رجاله أو أكثر
تنبيه لا يقال المتصل في حال الإطلاق إلا في المرفوع والموقوف وأما في حال التقييد فيسوغ أن يقال في المقطوع وهو واقع في كلامهم يقولون هذا متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري أو إلى مالك
ولنذكر تفسير هذه الألفاظ فنقول
المرفوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من أقواله وأفعاله أو تقريره سواء أضافه إليه صحابي أو تابعي أو من بعدهما وسواء اتصل إسناده أم لا
وقال الخطيب المرفوع ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه و سلم أو فعله فعلى هذا لا يدخل فيه ما أرسله التابعون ومن بعدهم قال الحافظ ابن الصلاح ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصل
والموقوف ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم وسمي موقوفا لأنه وقف عليهم ولم يتجاوز به إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم إن منه ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي فيكون من الموقوف الموصول ومنه ما لا يتصل إسناده إليه فيكون من الموقوف المنقطع على حسب ما عرف مثله في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وشرط الحاكم في الموقوف أن يكون إسناده غير منقطع إلى الصحابي وهو شرط لم يوافقه عليه أحد وما ذكر من تخصيص الموقوف بالصحابي إنما هو فيما إذا كر مطلقا وإلا فقد يستعمل في غير الصحابي يقال هذا موقوف على عطاء أو على طاوس أو وقفه فلان على مجاهد ونحو ذلك
وقد سمى بعض الفقهاء الموقوف بالأثر وأما المحدثون فجمهورهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف وعلى ذلك جرى الطحاوي في تسمية كتابه المشتمل عليهما بشرح معاني الأثر وكذلك أبو جعفر الطبري في تسمية كتابه المشتمل عليهما بتهذيب الآثار إلا أن إيراده للموقوف فيه إنما كان بطريق التبعية
والمقطوع ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم
وقد استعمل الإمام الشافعي ثم الطبراني المقطوع في المنقطع الذي لم يتصل إسناده ووقع في كلام الحميدي والدارقطني إلا أن الشافعي استعمل ذلك قبل استقرار الاصطلاح كما استعمل الحسن في بعض الأحاديث وهي على شرط الشيخين
ووقع للحافظ أبي بكر أحمد البردعي عكس هذا فاستعمل المنقطع في المقطوع حيث قال المنقطع هو قول التابعي وحكى الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله قال ابن الصلاح وهو بعيد غريب
فائدة قال الحافظ السيوطي جمع أبو حفص ابن بدر الموصلي كتابا سماه معرفة الوقوف على الموقوف أورد فيه ما أورده أصحاب الموضوعات في مؤلفاتهم فيها وهو صحيح عن غير النبي صلى الله عليه و سلم إما عن صحابي أو تابعي فمن بعده وقال إن إيراده في الموضوعات غلط فبين الموضوع والموقوف فرق ومن مظان الموقوف والمقطوع مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم ا هـ
ولنشرع في بيان أقسام الحديث فنقول قلا الإمام أبو سليمان أحمد الخطابي الحديث عند أهله ثلاثة أقسام صحيح وحسن وسقيم
فالصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته
والحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدرا أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامة الفقهاء
والسقيم على ثلاث طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول
قال العراقي في نكته لم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه المذكور وإن كان في كلام المتقدمين ذكر الحسن هو موجود في كلام الشافعي والبخاري وجماعة ولكن الخطابي نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه ابن الصلاح
وأراد الخطابي بأهل الحديث في قوله الحديث عند أهله ثلاثة أقسام أكثرهم ويمكن إبقاؤه على عمومه نظرا لاستقرار اتفاقهم على ذلك بعد الاختلاف
وقد اعترض بعضهم على هذا التقسيم بأنا إن نظرنا إلى نفس الأمر فما ثم إلا صحيح وغير صحيح وإن نظرنا إلى اصطلاح المحدثين فهو ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك وأجابوا بأن هذا التقسيم مبني عل اصطلاح المحدثين والأقسام التي أشار إليها راجعة إلى هذه الثلاثة
وأما المتقدمون فقد كان أكثرهم يقسم الحديث إلى قسمين فقط صحيح وضعيف وأما الحسن فذكر بعض العلماء أنهم كانوا يدرجونه في الصحيح لمشاركته له في الاحتجاج به
وذكر العلامة ابن تيمية أنهم كانوا يدرجونه في الضعيف قال في منهاج السنة النبوية أما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه
وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح وإما ضعيف والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك فتكلم أئمة الحديث بلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف لا اصطلاح الترمذي فسمع بعض قول الأئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقه من يرى أنه اتبع للحديث الصحيح وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان
هذا وقد رأينا أن نورد كل قسم من الأقسام الثلاثة في مبحث وجل ما نذكره في الغالب مأخوذ من كلام مهذب هذا الفن الحافظ عثمان بن الصلاح أو كلام من اقتفى أثره من بعده من المختصرين لكلامه أو المستدركين عليه مع التصرف في بعض المواضع إن دعت الحال إليه
المبحث الأول
في الحديث الصحيح الحديث الصحيح هو الحديث الذي يكون متصل الإسناد من أوله إلى منتهاه بنقل العدل الضابط عن مثله ولا يكون فيه شذوذ ولا علة
فخرج بقولهم الذي يكون متصل الإسناد ما لم يتصل إسناده وهو المنقطع والمرسل والمعضل وبقولهم بنقل العدل ما في سنده من لم تعرف عدالته وهو من عرف بعدم العدالة أو من جهلت حاله أو لم يعرف من هو وبالضابط غير الضابط وهو كثير الخطأ فإن ما يرويه لا يدخل في حد الصحيح وإن عرف هو بالصدق والعدالة وبقولهم ولا يكون فيه شذوذ ما يكون فيه شذوذ والشذوذ مخالفة الثقة في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين وبقولهم ولا علة ما يكون فيه علة
والمراد بالعلة هنا أمر يقدح في صحة الحديث ولما كان من العلل ما لا يقدح في ذلك قيد بعضهم العلة بالقادحة فقال ولا علة قادحة ومن أطلق العبارة اكتفى بدلالة الحال على ذلك ولكل وجهة وقد زاد بعضهم في تقييد العل فقال ولا علة خفية قادحة والأولى ترك هذه الزيادة لأنها توهم أن العلة الظاهرة لا تؤثر مع أنها أولى بالتأثير من العلة الخفية والعلة الظاهرة مثل ضعف الراوي أو عدم اتصال السند
وقد اعتذر بعضهم عن ذلك فقال إنما قيد العلة بالخفية لأن الظاهرة قد وقع الاحتراز عنها في أول التعريف وهو مما لا يجدي نفعا
واختصر بعضهم هذا التعريف فقال الحديث الصحيح ما اتصل سنده
بنقل عدل ضابط عن مثله وسلم من شذوذ وعلة فأورد عليه بأن الاختصار يقتضي أن يقال بنقل ثقة عن مثله فإن الثقة هو الجامع بين وصف العدالة والضبط وأجيب عن ذلك بأن الثقة قد يطلق على من كان مقبولا وإن لم يكن تام الضبط والمعتبر في حد الصحيح إنما هو تام الضبط ولذا فسروا الضابط في تعريفه بتام الضبط
وما ذكر هو حد الحديث الذي يحكم له بالصحة أهل الحديث بلا خلاف بينهم وأما اختلافهم في صحة بعض الأحاديث فهو إما لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه وإما لاختلافهم في اشتراط هذه الوصاف كما في المرسل
وإنما قيد نفي الخلاف بأهل الحديث لأنه قد نقل عن أناس من غيرهم أنهم لم يكتفوا بما ذكر في صحة الحديث 3فقد نقل عن إبراهيم بن إسماعيل بن علية أنه جعل الرواية مثل الشهادة فلم يقبل ما ينفرد به الراوي العدل الضابط وشرط في قبول الحديث أن يرويه اثنان عن اثنين وهو من الفقهاء المحدثين إلا أنه غير مقبول القول عند الأئمة لميله إلى الاعتزال وقد كان الشافعي يرد عليه ويحذر منه
ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة انه قال لا يقبل الخبر إذا رواه العدل إلى إذا انضم إليه خبر عدل آخر أو عضده موافقة ظاهر الكتاب او ظاهر خبر آخر أو يكون منتشرا بين الصحابة أو عمل به بعضهم كى ذلك أبو الحسين البوصيري في المعتمد
قال الغزالي إن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية كل واحد
إلا من رجلين آخرين وإلى ما ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا
وقال الفخر الرازي رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين مقبولة وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل بعض أصحابه أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم
وقد نقل عن بعض أصحاب الحديث أيضا أنهم اشترطوا التعدد في الراوي وكأن الناقل أخذ ذلك من كلام الحاكم
فقد قال في كتاب علوم الحديث وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم وله راويان ثقتان ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية وله رواة ثقات وقال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل الصحيح من الحديث عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف عليها
فالأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح وهو أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم له راويان ثقتان فأكثر يم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من اتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك قال الحاكم والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث
القسم الثاني مثل الأول إلا أن رواته من الصحابة ليس له إلا راو واحد
القسم الثالث مثل الأول إلا أن رواته من التابعين ليس له إلا راو واحد
القسم الرابع الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول
القسم الخامس أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإياس بن معاوية عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات
قال الحاكم فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة فيحتج بها وإن لم يخرج منها في الصحيحين حديث يعني غير القسم الول قال والخمسة المختلف فيها المرسل وأحاديث المدلسين إذ لم يذكروا سماعهم وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين انتهى كلام الحاكم
فقد جعل ما ذكره في علوم الحديث شرطا للصحيح مطلقا وجعل ذلك في المدخل شرطا للصحيح عند الشيخين
وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى من أنه شرط الشيخين بما في الصحيح من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راو في الكتابين يشترط أن يكون له راويان لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه
وقال أبو علي الغساني ونقله عنه القاضي عياض ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه ثم عن تابعيه فمن بعده فغن ذلك يعز وجوده وإنما المراد أن هذا الصحابي وهذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة
قال أبو عبد الله بن المواق مت حمل الغساني عليه كلام الحاكم وتبعه عليه عياض وغيره ليس بالبين ولا أعلم أحدا روى عنهما انهما صرحا بذلك ولا وجود له في كتابيهما ولا خارجا عنهما
فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح لتصرفهما في كتابيهما فلم يصب لأن الأمرين معا في كتابيهما وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريا في كتابيهما فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه ولعل وجود ذلك أكثريا إنما هو لن من روى عنه أكثر من واحد أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد في الرواة مطلقا لا بالنسبة إلى من خرج لهم في الصحيحين
وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط من غير أن يثبت عنهما ذلك مع وجود إخلالهما به أنهما إذا صح عنهما اشتراط ذلك كان في إخلالهما به درك عليهما
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في شرح الموطأ كان مذهب الشيخين أن الحديث لا يثبت حتى يرويه اثنان وهو مذهب باطل بل رواية الواحد عن الواحد صحيحه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال في شرح البخاري عند حديث إنما الأعمال بالنيات انفرد به عمر وقد جاء من طريق أبي سعيد رواه البزار بإسناد ضعيف
قال وحديث عمر وإن كانت طريقة واحدة فإنما بنى البخاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد فهذا الحديث ليس من ذلك الفن لأن عمر قاله على المنبر بمحضر الأعيان من الصحابة فصار كالمجمع عليه فكأن عمر ذكرهم لا أخبرهم
ال ابن رشيد العجب منه كيف يدعي عليهما ذلك ثم يزعم انه مذهب باطل فليت شعري من اعلمه بأنهما اشترطا ذلك إن كان منقولا فليبين طريقة لننظر فيها وغن كان عرفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك ولقد كان يكفيه في في ذلك أول حديث في البخاري
وما اعتذر به عنه فيه تقصير لأن عمر لم ينفرد به وحده بل انفرد به علقمة عنه وانفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة وانفرد به يحيى بن سعيد بن محمد وعن يحيى تعددت رواته وأيضا فكون عمر قاله على المنبر لا يستلزم أن يكون كر السامعين بما عندهم بل هو محتمل للأمرين وإنما لم ينكروه أنه عندهم ثقة فلو حدثهم بما لم يسمعوه قط لم ينكروا عليه
وقد ادعى الحافظ ابن حبان أن رواته اثنين عن اثنين إلى ان ينتهي السند لا توجد أصلا قال بعض المحققين إن أراد أو رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلا فيمكن أن يسلم وأما صورة العزيز فموجودة والعزيز عندهم هو الذي يكون في طبقة من طبقاته اثنان من الرواة فقط وتكون الرواة في سائر طبقاته ليست أقل من اثنين فيشمل ما كان في سائر طبقاته اثنان أو أكثر
والذي أنكره ابن حبان هو رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي السند فإنكاره ذلك لا يستلزم إنكار الحديث العزيز الذي قرره المحدثون وإنما أنكر نوعا منه وعبارته لا تحتمل غير ذلك
وها هنا أمر ينبغي الانتباه له وهو أن ظاهر عبارة ابن العربي تشعر بأن الشيخين يشترطان التعدد حتى في الصحابة وظاهر عبارة الحاكم تشعر بخلاف ذلك
والمشهور عند المحدثين أنهم لم يشترطوا في المشهور فضلا على العزيز التعدد في الصحابة نعم قد اشترط ذلك أبو علي الجبائي ومن نحا نحوه وقد توهم بعضهم أن الحاكم قد نحا في كتابه علوم الحديث منحى أبي علي
على أن كثيرا من العلماء قال إن عبارته المذكورة لا تدل على أن الحديث المروي يجب أن يجتمع في راويان عن الصحابي الذي رواه ثم عن تابعيه فمنة بعده وإنما تدل على ان كلا من الصحابي والتابعي ومن بعده قد روى عنه رجلان
خرج بهما عن حد الجهالة ليعلم أن الحديث قد رواه المشهورين بالرواية
وأغرب مما قاله ابن العربي وإن كان لا يستغرب منه ذلك لجريه على عادته في عدم التثبت وإقدامه على ما لا قدم له فيه وتهويله على مخالفيه قول أبي حفص عمر الميانجي في كتاب ما لا يسع المحدث جهلة شرط الشيخين في صحيحهما أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما وذلك ما رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم اثنان فصاعدا وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر وان يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة
هذا وقد اعترض بعض المحققين من أهل الأثر على ما ذكره الحاكم في المدخل من أن الشيخين إنما خرجا من الأقسام الخمسة المتفق عليها عند أئمة الحديث القسم الأول الذي هو الدرجة الأولى من الصحيح وأما الأقسام الأربعة الباقية فإنهما لم يخرجا منها في الصحيحين حديثا فإن البحث والتتبع أدياه إلى أن فيهما شيئا من كل واحد منها
أما القسم الثاني وهو ما ليس لراويه من الصحابة غير راو واحد مثل حديث عروة بن مضرس الذي ليس له غير الشعبي ففيهما منه جملة من الأحاديث
وأما القسم الثالث وهو ما ليس لراويه من التابعين إلا راو واحد مثل محمد بن جبير وعبد الرحمن بن فروخ ففيهما قليل من ذلك كعبد الله بن وديعة وعمر بن محمد بن جبير بن مطعم
وأما القسم الرابع وهو الأحاديث الأفراد الغرائب التي ينفرد بها ثقة من الثقات ففيهما كثير منه لعله يزيد على مئتي حديث وقد أفردها الحافظ ضياء الدين المقدسي وهي المعروفة بغرائب الصحيح
وأما القسم الخامس وهو أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كعمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإياس بن معاوية بن مرة عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات فليس المانع من إخراجهما هذا القسم في صحيحهما كون الرواية وقعت عن الأب عن الجد بل لكون الراوي أو أبيه ليس على شرطهما وإلا ففيهما أو في أحدهما من ذلك رواية علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده ورواية محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده ورواية أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده ورواية الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما عن جدهما وغير ذلك
وأما الخمسة المختلف فيها فيظن في بادئ الرأي أنه ليس في الصحيحين منها شيء وليس الأمر كذلك
أما القسم الأول منها وهو مرسل والقسم الثاني وهو أحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم فليس فيهما من ذلك شيء
وأما القسم الثالث وهو ما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات ففي الصحيحين عدة أحاديث اختلف في وصلها وإرسالها
وأما القسم الرابع وهو روايات الثقات غير الحفاظ العارفين فهو متفق على قبوله والاحتجاج به إذا وجدت شرائط القبول وليس هو من قبيل المختلف فيه ولا يبلغ الحفاظ العارفون نصف رواة الصحيحين وليس يشترط في الراوي أن يكون حافظا
وأما القسم الخامس وهو روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين فهو كما ذكر من الاختلاف فيه وقد وقعت فيهما أحاديث عن جماعة من المبتدعة عرف صدقهم واشتهرت معرفتهم بالحديث فلم يطرحوه للبدعة
ومن الأقسام المختلف فيها رواية المجهول فقد قبلها قوم وردها آخرون
وقد بقي للصحيح شروط قد اختلف فيها
فمنها ما ذكره الحاكم في علوم الحديث من كون الراوي مشهورا بالطلب
وليس مراده الشهرة المخرجة عن الجهالة بل قدر زائد على ذلك قال عبد الرحمن بن عون لا يؤخذ العلم إلا عمن شهد له بالطلب وعن مالك نحوه وفي مقدمة صحيح مسلم عن أبي الزناد قال أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله
قال الحافظ ابن حجر والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك إلا إذا كثرت مخارج الحديث فيستغنيان عن اعتبار ذلك كما يستغنى بكثرة الطرق عن اعتبار الضبط التام قال ويمكن أن يقال إن اشتراط الضبط يغني عن ذلك إذ المقصود بالشهرة بالطلب أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية لتركن النفس إلى كونه ضبط ما روى
ومنها ثبوت التلاقي بين كل راو ومن روى عنه وعدم الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان التلاقي بينهما وقد اشترط ذلك البخاري قيل إنه لم يذهب أحد إلى أن هذا شرط لكون الحديث صحيحا بل لكونه أصح وقد أنكر هذا الشرط مسلم في صحيحه وشنع على قائله
قال العلامة محيي الدين يحيى النووي في شرحه إن مسلما ادعى إجماع العلماء قديما وحديثا على ان المعنعن وهو الذي فيه فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم مع التدليس
ونقل مسلم عن بعض أهل عصره انه قال لا تقوم الحجة بها ولا تحمل على الاتصال حتى يثبت انهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي إمكان تلاقيهما قال مسلم وهذا قول ساقط مخترع مستحدث لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه وإن القول به بدعة باطلة وأطنب في التشنيع على قائله
واحتج مسلم رحمه الله بكلام مختصرة أن المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال وكذا إذا أمكن التلاقي
وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون هذا الذي صار إليه ضعيف والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري وغيرهما
وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي فاشترط طول الصحبة بينهما وزاد أبو عمرو الداني المقرئ فاشترط معرفته بالرواية عنه
ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري وموافقوهما أن المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال لأن الظاهر ممن ليس بمدلس أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع ثم الاستقراء يدل عليه فإن عادتهم انهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه إلا المدلس ولهذا رددنا رواية المدلس فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال والباب مبني على غلبة الظن فاكتفينا به
وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ويصير كالمجهول فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله والله اعلم
هذا حكم المعنعن من غير المدلس وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة وهذا كله تفريع على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول أن المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال الانقطاع وهذا المذهب مردود بإجماع السلف ودليلهم ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء والله اعلم
هذا حكم المعنعن أما إذا قال حدثني فلان أن فلانا قال كقوله حدثني الزهري أن سعيد بن المسيب قال كذا أو حدث بكذا أو نحوه فالجمهور على أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم وقال أحمد بن حنبل ويعقوب بن شيبة وأبو بكر البرديجي لا تحمل أن على الاتصال وإن كانت عن للاتصال والصحيح الول وكذا قال وحدث وذكر وشبهها فكله محمول على الاتصال والسماع ا هـ
ومنها ما ذكره السمعاني في القواطع وهو أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط وغنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثر السماع والمذاكرة قال بعضهم إن هذا داخل في اشتراط كونه غير معلول لأن الاطلاع على ذلك إنما يحصل بما ذكر من الفهم والمعرفة وغرهما
واعلم أن هذه المسألة هي من أهم مسائل هذا الفن الجليل الشأن والناظرون في هذا الموضع قد انقسموا إلى ثلاث فرق
الفرقة الأولى فرقة جعلت جل همها النظر في الإسناد فإذا وجدته متصلا ليس في اتصاله شبهة ووجدت رجاله ممن يوثق بهم حكمت بصحة الحديث قبل إمعان النظر فيه حتى إن بعضهم يحكم بصحته ولو خالف حديثا آخر رواته أرجح ويقول كل ذلك صحيح وربما قال هذا صحيح وهذا أصح وكثيرا ما يكون الجمع بينهما غير ممكن
وإذا توقف توقف في ذلك نسبة إلى خالفة السنن وربما سعى في إيقاعه في محنة من المحن مع أن جهابذة هذا الفن قد حكموا بان صحة الإسناد لا تقتضي صحة المتن ولذلك لا يسوغ لمن رأى حديثا له إسناد صحيح أن يحكم
بصحته إلا أن يكون من أهل هذا الشأن لاحتمال أن تكون له علة قادحة قد خفيت عليه وقد وصل الغلو بفريق منهم إلى أن ألزموا الناس بالأخذ بالأحاديث الضعيفة الواهية فأوقعوا الناس في داهية وما أدراك ماهيه وهذه الفرقة هم الغلاة في الإثبات
وأكثرهم من أهل الأثر الذين ليس بهم فيه فضلا عن غيره دقة نظر وقد أشار مسلم إلى ناس منهم يعتدون برواية الأحاديث الضعاف مع معرفتهم بحالها ووصفهم بما هم جديرون به قال في مقدمة كتابه المشهور وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم عقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا
وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين غنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على من سمع بعض تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أن الأخبار الصحاح من رواته الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع
ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن
والضعف إلا ان الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد
ومن ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم ا هـ
الفرقة الثانية فرقة جعلت جل همها النظر في نفس الحديث فإن راقها أمره حكمت بصحته وأسندته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وإن كان في إسناده مقال مع أن في كثير من الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ما هو صحيح المعنى فصيح المبنى غير أنه لم تصح نسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وذكر مسلم في مقدمة كتابه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن رقبة أن أبا جعفر الهاشمي المديني كان يضع أحاديث كلام حق وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم وكان يرويها النبي صلى الله عليه و سلم
قوله كرم حق بنصب كرم على انه بدل من أحاديث يريد به كلاما صحيح المعنى وهو حكمه من الحكم وقد كذب فيه لنسبته إلى النبي عليه الصلاة و السلام وهو ليس من كلامه وأبو جعفر هذا قد ذكره البخاري في تاريخه فقال هو عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب أبو جعفر القرشي الهاشمي وذكر كلام رقبة وهو هذا الكلام الذي هنا
وقال بعض الوضاعين لا بأس إذا كان الكلام حسنا أن تضع له إسنادا وحكى القرطبي عن بعض أهل الرأي أنه قال ما وافق القياس الجلي يجوز أن
يعزى إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وإن راعهم أمره لمخالفته لشيء مما يقولون به وإن كان مبنيا على مجرد الظن بادروا لرد الحديث والحكم بوضعه وعدم صحة رفعه وإن كان إسناده خاليا عن كل علة وإن ساعدهم الحال على تأويله على وجه لا يخالف أهواءهم بادروا إلى ذلك
وهذه الفرقة هم المعتزلة والمتكلمون الذين حذوا حذوهم وقد نحا أناس م غيرهم نحوهم وقد طعنت الفرقة الأولى في هذه الفرقة طعنا شديدا وقابلتهم هذه الفرقة بمثل بمثل ذلك أو أشد نسبوا رواة ما أنكروه من الأحاديث إلى الاختلاق والوضع مع الجهل بمقاصد الشرع وقد ذكر ابن قتيبة شيئا من ذلك في مقدمة كتابه الذي وضعه في تأويل مختلف الحديث
والمجاملون منهم اكتفوا بان نسبوا إلى الرواة الوهم والغلط والنسيان وهو مما لا يخلو عنه إنسان وقالوا إن المحدثين أنفسهم قد ردوا كثيرا من أحاديث الثقات بناء على ذلك
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي قد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من أجلة أهل العلم وضعفوهم من قبل حفظهم ووثقهم آخرون من الأئمة لجلالتهم وصدقهم وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد ين عمرو ثم روى عنه وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة
هكذا بغير الإسناد وإنما جاء هذا من قبل حفظه لأن أكثر من مضى من اهل العلم كانوا لا يكتبون ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع
وكان كثير من الرواة يروي بالمعنى فكثيرا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرا عن أداء المعنى بتمامه وكثيرا ما يكون أدنى تغيير حيلا له وموجبا لوقوع الإشكال فيه وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى قال وكيع إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس وإنما تفاضل أحد من الأئمة مع حفظهم وقال مجاهد انقض من الحديث إن شئت ولا تزد فيه
ولا يدخل في هذه الفرقة أناس ردوا بعض الأحاديث الصحيحة الإسناد لشبهة قوية عرضت لهم أوجبت شكهم في صحتها إن كانت مما لا يدل فيه النسخ أو في بقاء حكمها إن كانت مما يدخل فيه فقد وقع التوقف في الأخذ بأحاديث صحيحة الإسناد فقد وقع لك لأناس من العلماء الأعلام المعروفين بنشر السنن بل وقع لأناس من كبار من الصحابة
فقد زعم محمود بن الربيع الأنصاري وكان ممن عقل رسول الله وهو صغير أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري وكان ممن شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي يذلك وجه الله وكان رسول الله في دار عتبان
ولهذا الحديث قصة قال محمود فحدثتها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله في غزوته التي توفي فيها بأرض الروم فأنكرها علي أبو أيوب وقال والله ما أظن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما قلت قط فكبر ذلك علي فجعلت لله علي إن سلمني حتى أقفل من غزوتي أن أسأل عنها عتبان بن مالك إن وجدته حيا في مسجد قومه فقفلت ذكر ذلك البخاري في باب صلاة النوافل جماعة فارجع إليه إن أحببت معرفة القصة وتمام الكلام في ذلك
فانظر إلى أبي أيوب الأنصاري الذي كان من خواص النبي عليه الصلاة و السلام كيف غلب على ظنه عدم صحة هذا الحديث وأقسم على ذلك بناء على انه لم يسمع منه قط عليه السلام ما يشاكل هذا الكلام مما يوهم خلاف المرام ومثل هذا كثير فيما يروي وما كان منه بأسانيد صحيحة مما لا يثبت في نفس الأمر فأكثره مما روي بالمعنى غير أن الراوي لم يساعده اللفظ عن أدائه بتمامه
قال الشراح قيل إن الباعث له على الإنكار هو أن ظاهر هذا الحديث يوهم أنه لا يدخل أحد من عصاة الموحدين النار وهو مخالف لآيات كثيرة وأحاديث مشهورة وأجيب بحمل التحريم على عدم الخلود
وقد استدلت المرجئة بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم والمرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة
والإرجاء من البدع التي يعظم ضررها أنها تنزل بالأمة إلى الحضيض الأسفل وتجعل عاقبتها الدمار وقد نسب ذلك إلى كثير من أعيان الأمة إلا أن النسبة غير صحيحة في كثير منهم والذين صحت نسبة لك إليهم يقولون إن كثيرا ممن ينبزوننا بهذا اللقب لا فرق بيننا وبينهم في المآل وإن فرق بيننا وبينهم ظاهر المقال
وأما المعتزلة فإنهم ينكرون هذا الحديث ونحوه أشد إنكار وينسبون وضعه للمرجئة ومن نحا نحوهم لمخالفته لمذهبهم فإنهم هم والخوارج يقولون إن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة نصوح عنها مخلد في النار ولا يخرج منها أبدا ولا يحاولون تأويل هذا الحديث ونحوه على وجه لا يزعزع مذهبهم لأنهم يقولون إن في ظاهرة إغراء على المعاصي وذلك مناف للحكمة لا سيما من صاحب الشرع الذي بعث لزجر الناس عنها وتنفيرهم منها
وكانت المرجئة كثيرا ما ترمي من يبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بالقدر يريدون بذلك أذاهم ولا يخفى شدة نفره الناس لا سيما الأمراء والعامة من القدرية وهم المعتزلة
وقد شاع وذاع أن مذهب المعتزلة نشأ عن التوغل في علم الفلسفة وهو قول أشاعه إما جاهل أو متجاهل فإن مذهب الاعتزال نشأ واستقر في آخر عصر الصحابة ولم يكن قد ترجم شيء من كتب الفلسفة التي يزعمون أنها أغوتهم فانحرفوا بها عن مذهب أهل السنة ولذلك قال بعض العلماء قد رويت أحاديث في ذم القدرية روى بعضها أهل السنن وبعض الناس يثبتها ويقويها ومن العلماء من يطعن فيها ويضعفها ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس
وقد وقع في مذهبهم مسائل تبعد عن العقل جدا وذلك مثل قولهم من أتى بكبيرة واحدة فقد حبطت جميع طاعاته ومن عمر عمرا مديدا وأتى بكل ما أمكنه من الطاعات واجتنب جميع المنكرات وكان من الموفقين للبر والإحسان ثم عرض له أن تناول جرعة خمر فغص بها فقضي عليه فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبدا
نعم هم أكثر الفرق اعتناء بالقاعدة المشهورة وهي لا يأتي في النقل الصحيح ما يخالف العقل الصريح فإن أتى في النقل الصحيح ما يوهم المخالفة وجب الجمع بينهما وذلك بحمل النقل على معنى لا يخالف العقل وتجعل دلالة العقل قرينة على ذلك
وهي قاعدة متفق عليها ولم تنقل المخالفة فيها إلا عن أناس من الحشوية وهم فرقة لا يعبأ بها ولعل مخالفتهم مبنية عل كونهم لم يعرفوا ما أريد بالعقل الصريح وقد ظن أناس أن هذه المسألة من مسائل علم الكلام فقط وليس كذلك بل هي من مسائل أصول الفقة أيضا فقد ذكروا ذلك في مبحث التخصيص وفي مبحث ما يرد به الخبر
وهاك عبارات مما ذكروا في مبحث التخصيص قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع الأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان متصل منفصل
فالمتصل هو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة ولها أبواب تأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وأما المنفصل فضربان من جهة العقل ومن جهة الشرع فالذي من جهة العقل ضربان
أحدهما ما يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز التخصيص به لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع
والثاني ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفي الخلق عن صفاته فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) بالصفات وقلنا المراد به ما خلا الصفات لأن العقل قد دل على انه لا يجوز أن يخلق صفاته فخصصنا العموم به
تنبيه التخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله وهو قد يكون بغير مستقل كالاستثناء والشرط وقد يكون بمستقل كالعقل والعادة وخصت الحنفية اسم التخصيص بما يكون بمستقل وقال الغزالي في المستصفى وبدليل العقل خصص قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) إذ خرج عنه ذاته وصفاته إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به وكذلك قوله تعالى ولله على الناس حج البيت ) خرج منه الصبي والمجنون لأن العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم
فإن قيل كيف يكون العقل مخصصا وهو سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا ولأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن ان يتناوله اللفظ
قلنا قال قائلون لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز فقد بينا أن تخصيص العام محال لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم وانه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا ودليل العقل يجوز لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله ( خالق كل شيء ) نفسه وذاته فإنه وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله
وأما قولهم لا يجوز دخوله تحت اللفظ فليس كذلك بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان ولكن يكون قائله كاذبا ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع
وقال الفخر الرازي في فصل تخصيص العموم بالعقل هذا قد يكون بضرورة العقل كقوله تعالى ( خالق كل شيء ) فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظر العقل كقوله تعالى ( ولله على الناس ح البيت من استطاع إليه سبيلا ) فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما
ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى لأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور
فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فليلزم صدق النقيضين وهو محال
أو يرجح النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل فالقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا
وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم للعقل
وأما البحث اللفظي فهو ان العقل هل يسمى خصصا أم لا فنقول إن أردت بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام في بعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة فالعقل يكون دليل المخصص على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ
فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل
وقال القرافي في تنقيح الفصول يجوز عند مالك وأصحابه تخصيص العام بالعقل خلافا لقوم كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) خصص العقل ذات الله وصفاته وقال في شرحه الخلاف محكي على هذه الصورة وعندي أنه عائد على التسمية فإن خروج الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم غير أنه لا يسمى بالتخصيص إلا ما كان باللفظ هذا ما يمكن أن يقال أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله مسلم
وقال جمال الدين الأسنوي في شرح المنهاج أقول لما فرغ المصنف من المخصصات المتصلة شرع في المنفصلة والمنفصل هو الذي يستقل بنفسه أي لا يحتاج في ثبوته إلى ذكر العام معه بخلاف المتصل كالشرط وغيره وقسمه المصنف إلى ثلاثة أقسام وهي العقل والحس والدليل السمعي
ولقائل أن يقول يرد عليه التخصيص بالقياس وبالعادة وقرائن الأحوال إلا أن يقال إن القياس من الأدلة السمعية ولهذا أدرجه في مسائله ودلالة القرينة والعادة العقلية
وفيه نظر لأن العادة قد ذكرها في قسم الدليل السمعي وحينئذ يلزم فساده أو فساد الجواب
الأول العقل والتخصيص به على قسمين أحدهما أن يكون بالضرورة كقوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) فإنا نعلم بالضرورة انه ليس خالقا لنفسه والتمثيل بهذه الآية ينبني على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه وهو الصحيح كما تقدم وعلى أن الشيء يطلق على الله تعالى وفيه مذهبان للمتكلمين والصحيح إطلاقه عليه لقوله تعالى ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد ) الآية
الثاني أن يكون بالنظر كقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت ) فإن العقل قاض بإخراج الصبي والمجنون للدليل الدال على امتناع تكليف الغافل
وقال بعض العلماء أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم واختلفوا في تسميته تخصيصا وممن لم يسم ذلك تخصيصا الإمام الشافعي ومن حذا حذوه في ذلك نظرا إلى أن ما خص بالعقل لا تصح إرادته بالحكم وقال من سمى ذلك تخصيصا إن عدم صحة إرادته بالحكم إنما يقتضي عدم التناول من
حيث الحكم لا من حيث اللفظ وهذا كاف في تحق التخصيص والخلاف بين الفريقين لاتفاقهم على الرجوع إلى العقل فيما نفي عنه حكم العام
وقال في نزهة الخواطر في اختصار روضة الناظر لا نعلم اختلافا في جواز تخصيص العموم وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قول الله تعالى ( الله خالق كل شيء ) و ( تجبى إليه ثمرات كل شيء ) و ( تدمر كل شيء ) وقد ذكر أن أكثر العمومات مخصصة
وقال عبيد الله المعروف بصدر الشريعة في التنقيح وشرحه المسمى بالتوضيح بعد أن ذكر ان قصر العام على بعض ما يناوله قد يكون بغير مستقل وقد يكون بمستقل وأنه في غير المستقل يكون حقيقة في البواقي وهو حجة بلا شبهة فيه وأما في المستقل فإنه يكون مجازا يفي البواقي بطريق إطلاق اسم الكل على البعض من حيث القصر وحقيقة من حيث التناول وهو حجة فيه شبهة
ولم يفرقوا بين الكلام وغيره لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيا لأنه في حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء معتمدا على العقل على أنه مفروغ عنه حتى لا نقول إن قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) ونظائره دليل فيه شبهة
وهذا فرق قد تفرد بذكره وهو واجب الذكر حتى لا يتوهم أن خطابات الشرع التي خص منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهة كالخطابات الواردة
بالفرائض فإنه يكفر جاحدها إجماعا مع كونها مخصوصة فإن التخصيص بالعقل لا يورث شبهة فإن كل ما يوجب العقل تخصيصه يخص وما لا فلا ا هـ
وقد تعرض ابن حزم الظاهري في كتاب الإحكام لهذه المسألة في باب العموم وقد نقلنا مع العبارة المقصودة ما قبلها من العبارات على طريق التلخيص إتماما للفائدة
قال الباب الثالث عشر في حمل الأوامر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقف أو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق
قال علي اختلف الناس في هذا الباب فقالت طائفة لا تحمل الألفاظ لا على الخصوص ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض
وقال بعضهم بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة للتعبير عن المعاني الواقعة تحته ثم اختلفوا على قولين
فقالت طائفة منهم إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شيء أم لا فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا
وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر ولكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره
وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من
أفعالهم فيما خلا فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على توجيه مسائلهم وفي هذا عجب أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول وإنما فائدة الدليل وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال فمتى يهتدي من اتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله وإلا فهي مطرحة عنده
قال علي فما احتج به من ذهب إلى اللفظ لا يحمل على عمومه إلى بعد طلب دليل على الخصوص أو إلا بدليل على انه للعموم إن قالوا قد وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص فعلمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل
قال علي وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر ونقول ها هنا إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب إلى أن يبطل كل لفظ ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها ولو كان ذلك لكاتن وجودنا آيات منسوخة لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها
وقالوا أيضا لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما فصح أن كل خطاب إنما قصد من بلغه ذلك الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم
قال علي هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم ليت شعري أين كان عن قوله تعالى ( وهو بكل شيء عليم ) وأيضا فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العاملين بالمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولمن نعن بقولنا بالأمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم وإنما عنينا حمل كل لفظ أتى
على ما يقتضي ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع فإن ذلك عموم له
وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي وم حيوان نهي عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومن خالفنا لزمه أن لا ينفذ تحريم قتل نفي إلا بدليل ومثل قوله عليه الصلاة و السلام كل مسكر حرام فالواجب أن يحمل على كل مسكر ومن تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة وحكم العقل وحكم الديانة
قال علي وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى ( إن الفجار لفي جحيم ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقالوا إنها غير محمولة على عمومها قال ونحن لم ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل
ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى ( تدمر كل شيء ) وقال تعالى ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقال تعالى ( وأوتيت من كل شيء ) وقد علمنا أن الريح لم تدمر كل شيء في العالم وأن بلقيس لم تؤت من كل شيء لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي
قال علي وهذا كله لا حجة لهم فيه
أما قوله تعالى ( تدمر كل شيء ) فإنه لم يقل ذلك وأمسك بل قال تعالى ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) فصح بالنص عموم هذا اللفظ لأنه تعالى إنما قال إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية
وأما قوله ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) فإنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم
وأما قوله تعالى ( وأوتيت من كل شيء ) فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد ونحن لا نحتج بقول الهدهد وإنما نحتج بما قال الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه أو حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالا كثيرة ليست مما يصح فإن قال قائل إن سليمان عليه السلام قال للهدهد ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) قلنا نعم ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق
واحتجوا بقوله تعالى ( خلق كل شيء ) وهو عز و جل غير مخلوق وبقوله تعالى ( والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) قالوا وإنما قال لهم ذلك بعض الناس وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس
قال علي نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة بل أجزنا ذلك وقد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء أن ذلك في كل ما دونه عز و جل على العموم وهذا مفهوم من نص الآية لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله فيما ذكر أنه خلقه
وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن الناس قد جمعوا لهم ناسا غير الناس الجامعين وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل ا هـ
وهاك عبارات مما ذكروا في مبحث ما يرد به الخبر قال الشيرازي في اللمع في باب بيان ما يرد به خبر الواحد إذا روى الخبر ثقة رد بأمور
أحدها ن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول واما بخلاف العقول فلا
والثاني أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ
والثالث أن يخالف الإجماع فيستدل به على انه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه
والرابع أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم
والخامس أن ينفرد برواي ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية فأما إذا ورد مخالفا للقياس أو انفرد الواحد برواية ما تعم به البلوى لم يرد وقد حكينا الخلاف في ذلك فأغن عن الإعادة ا هـ
وقال الغزالي في المستصفى القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة
الأول ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره او الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة الثاني ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواتر وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة و السلام وللأمة
الثالث ما صرح بتكذيبه مع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته
وقال القرافي الدال على كذب الخبر خمسة وهو منافاته لما علم بالضرورة أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواترا ولم يتواتر وكقواعد الشرع أو لهما جميعا كالمعجزات او طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقرار الأحاديث فلم يوجد
ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية
الفرقة الثالثة فرقة جعلت همها البحث عما صح من الحديث لتأخذ به
فأعطت المسألة حقها من النظر فبحثت في الإسناد والمتن معا بحث مؤثر للحق فلم ينسب إلى الرواة الوهم والخطأ ونحو ذلك لمجرد كون المتن يدل على خلاف رأي لها مبني على مجرد الظن ولم تعتقد فيهم انهم معصمون عن الخطأ والنسيان
وهذه الفرقة قد ثبت عندها صحة كثير من الأحاديث التي ردتها الفرقة الثانية وهي المفرطة في أمر الحديث كما ثبت عندها عدم صحة كثير من الأحاديث التي قبلتها الفرقة الأولى وهي المفرطة فيه وهذه الفرقة هي أوسط الفرق وأمثلها وأقربها للامتثال وهي أقل الفرق عددا ومقتفى أثرها ممن أريد به رشدا
ملحة من ملح هذا المبحث أخرج البخاري تعن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منها في ذات الله قوله ( إني سقيم ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) واحدة في شأن سارة قال شراحه إنما أطلق عليه الكذب تجوزا وهو من باب المعاريض المحتملة للأمرين لمقصد شرعي
وقد روى البخاري في الأدب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن الحصين إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب فأطلق الكذب على ذلك مع ونه من المعاريض نظرا لعلو مرتبته
وقد أنكر بعض المفسرين من المتكلمين هذا الحديث بناء على ما أسسوه في كتب الكلام فقال في تفسير قوله تعالى ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) ذكر قوله إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم وقال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم كذب ورووا حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فقلت لبعضهم هذا الحديث
لا ينبغي ان يقبل لأن فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم فقال ذلك لارجل كيف يحكم بكذب الرواة العدول فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بكونه كذبا خبرا شبيها بالكذب ا هـ
اعتراضات على الحد المذكور للحديث الصحيح مع الجواب عنها الاعتراض الأول قال الحافظ السيوطي في التدريب أورد عليه التواتر فإنه صحيح قطعا ولا يشترط فيه مجموع من الشروط قال شيخ الإسلام ولكن يمكن أن يقال هل يوجد حديث متواتر لم تجتمع فيه هذه الشروط ا هـ
أقول قد وجد ذلك فيما ذكر ابن حم وقد نقلنا ذلك فيما مضى وهو قال علي وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول قل كافة كنقل القرآن فاستغنى عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح وهي منقولة نقل الكافة
على ان في هذا الإيراد نظرا لأن المتواتر يجب أن لا يدخل حد الصحيح المذكور لوجهين
الأول ما سبق من أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر لاستغنائه بالتواتر عن إيراد سند له حتى إنه إذا اتفق له سند لم يبحث عن أحوال رواته فقول المحدثين إن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف يريدون به الحديث المروي من طريق الآحاد وأما المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة وقد ألحق بعضهم المستفيض بالمتواتر في ذلك
الثاني ما ذكروا من انهم إذا قالوا هذا صحيح فإنما يريدون بلك أنه مستوف لشروط الصحة ولا يريدون بذلك أنه صحيح في نفس الأمر
قال الحافظ ابن الصلاح ومتى قالوا هذا صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس المر إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول وكذلك إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور
والصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك ثم إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها وينقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاضر ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق ا هـ
هذا وليس في عبارة ابن الصلاح المذكور أولا ما يوجب خروج المتواتر لكونه مقطوعا به عن الصحيح المذكور لأنه لم يقل ومن شرط الصحيح أن لا يكون مقطوعا به في نفس الأمر بل قال وليس من شرط الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر وهي عبارة لا تنافي أن يكون في الصحيح المذكور ما يكون مقطوعا به في نفس الأمر وبهذا تعلم أن لا تنافي بين ما قاله هنا وبين ما قاله فيما بعد وهو أن الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم مقطوع بصحته ما توهم ذلك بعض الحفاظ
ومن الغريب محاولة شيخ الإسلام إدخال المتواتر في تعريف الصحيح المذكور مع أنه قاال في شرح النخبة وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل لأنه على
هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث
وقال في موضع آخر في تعريف الصحيح لذاته وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته فأدخل في التعريف ما يخرج به المتواتر قطعا وأما تعريف الجمهور فإنه يمكن دخول المتواتر فيه لو لم يصرحوا بأنهم لم يقصدوا دخوله فيه لو لم يصرحوا بأنهم لم يقصدوا دخوله فيه وما ذكر من أنه قد وجد في المتواتر ما لا سند له أصلا أو ما له سند ولكن فيه مقال قد يقال إنه نادر وخروج الصور النادرة من التعريف قد أجازه بعض العلماء
هذا وقد وقع لبعض من كتب في هذا الفن وهو فيه ضعيف أن قال قد توهم بعض الأفاضل من قولهم في تعريف المتواتر إنه خبر جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب أنه لا يكون إلا صحيحا وليس كذلك في الاصطلاح بل منه ما يكون صحيحا اصطلاحا بأن يرويه عدول عن مثلهم وهكذا من ابتدائه إلى انتهائه ومنه ما يكون ضعيفا كما إذا كان في بعض طبقاته غير عدل ضابط فهذا ليس بصحيح اصطلاحا وإن كان صحيحا بمعنى انه مطابق للواقع باعتبار أمن تواطئ نقلته على الكذب وعبارة التقريب فيه صريحة فيما ذكرناه إذ جعله قسما من المشهور وقسمة إلى صحيح وغيره أي حسن وضعيف فتبصر ا هـ
أقول يكفي المتبصر أن يرجع إلى وجدانه وأقرب إليه من ذلك أن ينظر في عبارة التقريب التي نقلناها عنه آنفا وليت هذا الناقل اقتفى أثر ذلك الفاضل
الاعتراض الثاني قد تقرر أن الحسن إذا روي من غير وجه انتقل من درجة الحسن إلى درجة الصحة وهو غير داخل في الحد المذكور وكذلك ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول فإن بعض العلماء له بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح
قال ابن عبد البر في الاستذكار لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر هو الطهور ماؤه وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده لكن الحديث عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول وقال أبو الحسن بن الحصار في تقريب المدارك على موطأ مالك قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به
وأجيب عن ذلك بأن الحد المذكور إنما هو للصحيح لذاته وما أورد فهو من قبيل الصحيح لغيره
الاعتراض الثالث من شرط الحديث الصحيح أن لا يكون في المنكر فحقهم أن يزيدوا في الحد ما يخرج به المنكر وأجيب عن لك بأن الناس في المنكر فريقان فريق يقول إنه هو والشاذ سيان وعلى ذلك فلا إشكال وفريق يقول إن المنكر أسوأ حالا من الشاذ وعلى ذلك يقال إن اشتراط نفي الشذوذ يقتضي اشتراط نفيه بطريق الأولى
وقد تبين بما ذكرنا أن هذا الحد لا يرد عليه شيء ومما يستغرب في هذا الحد أنه
يمكن أن يوافق أكثر الفرق التي زادت بعض الشروط كالجبائي ومن نحا نحوه مثلا فإنه لا يقول بصحة الحديث إذا انفرد به واحد ولو في طبقة واحدة من الطبقات إلا أن يعضد الحديث عاضد مما ذكر سابقا فإذا استعمل هذا الحد أخرج ما انفرد به واحد من غير أن يكون له عاضد بقوله من غير شذوذ وفسر الشذوذ بما يوافق ما ذهب إليه مع ان الجمهور يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة لمن هو أرجح منه وكمن يشترط في صحة الحديث أن لا يكون الراوي قد عمل بخلافة بعد روايته له فإذا استعمل هذا الحد أخرج الحديث الذي عمل الراوي له بخلافه بقوله ولا علة وجعل من العلل القادحة مخالفة عمل الراوي لما رواه
وإن أردت إيراد حد يدخل فيه الصحيح لغيره يمكنك أن تقول الحديث الصحيح هو الحديث الذي اتصل إسناده على وجه تسكن إليه النفس مع السلامة من الشذوذ والعلة وإن أردت أجمع منه يمكنك أن تقول الحديث الصحيح هو الحديث المروي على وجه تسكن إليه النفس من الشذوذ والعلة
فوائد تتعلق بمبحث الصحيح
الفائدة الأولى
في أن من ألف في الصحيح المجرد هو البخاري ومسلم أول من صنف في الصحيح المجرد الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي وتلاه الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري وكان مسلم مم أخذ عن البخاري واستفاد منه وهو مع ذلك يشاركه في أكثر شيوخه وكتاباهما أصح كتب الحديث
وأما قول الإمام الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك فإنه كان قبل وجود كتابيهما
وأما قول بعضهم إن مالكا أول من صنف في الصحيح فهو مسلم غير أنه
لم يقتصر في كتابه عليه بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف كما ذكره الحافظ ابن عبد البر فهو لم يجرد الصحيح
واعترض بعضهم على ذلك فقال إن مثل ذلك قد وقع في كتاب البخاري قال الحافظ ابن حجر إن كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما لا على الشرط الذي تقدم التعريف به
قال والفرق بين ما فيه من المنقطع وبين ما في البخاري أن الذي في الموطأ هو مسموع لمالك كذلك غالبا وهو حجة عنده والذي في البخاري قد حذف إسناده عمدا لقصد التخفيف إن كان ذكره في موضع آخر موصولا أو لقصد التنويع إن كان على غير شرطه ليخرجه عن موضوع كتابه وإنما يذكر ما يذكر من ذلك تنبيها أو استشهادا أو استئناسا أو تفسيرا لبعض آيات أو غير ذلك مما سيأتي عند الكلام على التعليق فظهر بهذا أن الذي في البخاري لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ
الفائدة الثانية
في شرط البخاري ومسلم ألف الحازمي كتابا في شروط الأئمة ذكر فيه شرط الشيخين وغيرهما فقال مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضا وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزم إخراجه وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه لا في الشواهد والمتابعات وهذا باب فيه غموض وطريقة معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم ولنوضح ذلك بمثال
وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها
فالأولى في غاية الصحة نحو مالك وابن عيينة ويونس وعقيل ونحوهم وهي مقصد البخاري
والثانية شاركت الأولى في العدالة غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري حتى كان منهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر والثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى كالليث بن سعد والأوزاعي والنعمان بن راشد وهو شرط مسلم والثالثة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح فهم بين الرد والقبول كجعفر بن برقان وسفيان بن حسين السلمي وزمعة بن صالح المكي وهم شرط أبي داود والنسائي
والرابعة تقوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري لأنهم لم يلازموه كثيرا كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي والمثنى بن الصباح وهو شرط الترمذي
والرابعة قوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري لنهم لم يلازموه كثيرا كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي والمثنى بن الصباح وهم شرط الترمذي
والخامسة نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود فمن دونه فأما عند الشيخين فلا كبحر بن كنيز السقاء والحكم بن عبد الله الأيلي
وقد يخرج البخاري أحيانا عن أعيان الطبقة الثانية ومسلم عن أعيان الطبقة الثالثة وأبو داود عن مشاهير الرابعة وذلك لأسباب اقتضته
وقال ابن طاهر شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة رجاله إلى الصحابي المشهور قال العراقي وليس ما قاله بجيد لأن النسائي
ضعف رجالا أخرج لهم الشيخان او أحدهما وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين
قال الحافظ ابن حجر تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك وإن نقله عن متقدم فلا قال ويمكن أن يجاب بان نما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه
وسئل العلامة تقي الدين بن تيمية عن مسائل وهي ما معنى إجماع العلماء وإذا أجمعوا فهل يسوغ للمجتهد مخالفتهم وهل قول الصحابي حجة وما معنى الحسن والمرسل والغريب من الحديث وما معنى قول الترمذي حديث حسن صحيح غريب فقد جمع بين الحسن والصحة والغرابة في حديث واحد وهل في الحديث متواتر لفظا وهل أحاديث الصحيحين تفيد اليقين أو الظن وما شرط البخاري ومسلم فإنهم قد فرقوا بينهما
فأجاب عنها وقال في الجواب عن المسألة الخبيرة التي نحن الآن في صدد البحث عنها بما صورته
واما شرط البخاري ومسلم فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم ولهذا رجال يروي عنهم يتص بهم وهما مشتركان في رجال آخرين وهؤلاء الذين اتفقا عليهم عليهم مدار الحديث المتفق عليه وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به
وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ في فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الحديث وليس الأمر كذلك فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن كيحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري صاحب الصحيح والدارقطني وغيرهم وهذه علوم يعرفها أصحابها ا هـ
وأما ما أشار إليه الحاكم من انهما لم يخرجا حديث من لم يرو عنه إلا راو واحد فقد سبق ما قيل فيه وأنه مخالف للواقع
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب ولم يرو عنه غير ابنه سعيد
وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب ني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي ولم يرو عنه غير الحسن
وحديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي يذهب الصالحون ولم يرو عنه غير قيس
وأخرج مسلم حديث رافع بن عمرو الغفاري ولم يرو عنه غير عبد الله بن
الصامت وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير أبي سلمة ونظائر ذلك في الصحيحين كثيرة
وقد تعرض الحافظ السيوطي في التوشيح لبيان شروط البخاري وموضوع كتابه فأحببت إيراده بتمامه لما فيه من الفوائد المهمة قال في أوله
فصل في بيان شروط البخاري وموضوعه اعلم أن البخاري لم يوجد عنده تصريح بشرط معين وغنما أخذ ذلك من تسمية الكتاب والاستقراء من تصرفه
أما أولا فإنه سماه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه
فعلم من قوله الجامع أنه لم يخصه بصنف دون صنف ولهذا أورد فيه الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية والآتية وغير ذلك من الآداب والرقائق
ومن قوله الصحيح أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده وإن كان فيه مواضع
قد انتقدها غيره فقد أجيب عنها وقد صح عنه أنه قال ما أدخلت في الجامع إلا ما صح
ومن قوله المسند أن مقصوده الأصلي الأحاديث التي اتصل إسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم سواء كانت من قوله أم فعله أم تقريره وأما ما قع في الكتاب من غير ذلك فإنما وقع عرضا وتبعا لا أصلا مقصودا
وأما ما عرف بالاستقراء من تصرفه فهو أنه يخرج الحديث الذي اتصل إسناده وكان كل من رواته عدلا موصوفا بالضبط فإن قصر احتاج إلى ما يجبر ذلك التقصير وخلا عن أن يكون معلولا أي فيه علة خفية قادحة أو شاذا أي خالف رواته من هو أكثر عددا منه أو أشد ضبطا مخالفة تستلزم التنافي ويتعذر معه الجمع الذي لا يكون فيه تعسف
والاتصال عندهم أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصفة صريح في السماع منه كسمعته وحدثني وأخبرني أو ظاهرة فيه كعن أو أن فلانا قال وهذا الثاني في غير المدلس الثقة أما هو فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى وشرط حمل الثاني على السماع عند البخاري أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة
وعرف بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يخرج لهم أنه ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه وإن أخرج من حديث من لا يكون بهذه الصفة فإنما يخرج في المتابعات أو حيث تقوم له قرينة بأن ذلك مما ضبطه هذا الراوي فبمجموع ذلك وصف الأئمة كتابا قديما زحديثا بأنه أصح الكتب المصنفة في الحديث
وأكثر ما فضل كتاب مسلم عليه أن يجمع المتون في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب ويسوقها تامة ولا يقطعها في التراجم ويحافظ على الإتيان بألفاظها ولا يروي بالمعنى ويفردها ولا يخلط معها شيئا من أقوال الصحابة ومن بعدهم
وأما البخاري فإنه يفرقها في الأبواب اللائقة بها لكن ربما كان ذلك الحديث ظاهرا وربما كان خفيا فالخفي ربما حصل تناوله بالاقتضاء أو باللزوم أو بالتمسك بالعموم أو بالرمز إلى مخالفة مخالف أو بالإشارة إلى أن بعض طرق ذلك الحديث ما يعطي المقصود وإن خلا عنه لفظ المتن المسوق هناك تنبيها على ذلك المشار إليه بذلك وأنه صالح لأن يحتج به وإن كان لا يرتقي إلى درجة شرطه
واحتاج لذلك أن يكرر الأحاديث لأن كثيرا من المتون تشمل على عدة أحكام فيحتاج أن يذكر في كل باب ما يليق به من حكم ذلك الحديث بعينه فإن ساقه بتمامه إسنادا ومتنا طال وإن أهمله فلا يليق به فتصرف فيه بوجوه من التصرف
وهو أنه ينظر الإسناد إلى غاية من يدور عليه الحديث من الرواة أي ينفرد بروايته فيخرجه في باب عن راو يرويه عن ذلك المنفرد وفي باب آخر عن راو آخر عن ذلك المنفرد وهلم جرا فإن كثرت الأحكام عن عدد الرواة عدل عن سياقه تمام الإسناد إلى اختصاره مطلقا فيسوق المتن تارة تاما وتارة مختصرا
ثم إنه حال تصنيفه كان قد بسط التراجم والأحاديث فجعل لكل ترجمة حديثا وبقيت عليه تراجم لم يجد في الحالة الراهنة ما يلائمها فأخلاها عن الحديث وبقيت عليه أحاديث لم يتضح له ما يرتضيه في الترجمة عنها فجعل لها أبوابا بلا تراجم فيوجد فيه أحيانا باب تراجم وليس فيه سوى آية أو كلام الصحابي أو التابعي وأحيانا باب غير مترجم وقد ساق فيه حديثا أو أكثر
نقل ذلك أبو ذر الهروي عن المستملي وأشار إلى أن بعض من نقل الكتاب بعد موت مصنفه ربما ضم بابا مترجما إلى حديث غير مترجم وأخلى البياض الذي بينهما فيظن بعض الناس أن هذا الحديث يتعلق بالترجمة التي قبلها فيجعل لها وجوها من المحامل المتكلفة ولا تعلق له به البتة ا هـ
وقد أوضح الحافظ ابن حجر ما ذكر في آخر هذا الفصل فقال في مقدمة شرحه وقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة وفي بعضها ما فيه واحد وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله وبعضها لا شيء فيه البتة وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدا وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم له ومن ثم وقع من بعض من نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب فأشكل فهمه على الناظر فيه
وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال أخبرني الحافظ أبو ذر عبد بن أحمد الهروي قال حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض
قال أبو الوليد الباجي مما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشميهيني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلك
بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة انه من موضع ما فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث
قال الباجي وغنما اوردت هذا هنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ انتهى
قلت هذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدا ستظهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى
ثم ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على أطوار
إن وجد حديثا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي وافق شرطه أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلح لموضوع كتابه وهي حدثنا وما قام مقام ذلك والعنعنة بشرطها عنده
وإن لم يجد فيه إلا حديثا لا يوفق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه ومن ثم أورد التعاليق كما سيأتي في فصل حكم التعليق
وإن لم يجد فيه حديثا صحيحا لا على شرط غيره وكان مما يستأنس به ويقدمه قوم على القياس استعمل لفظ ذلك الحديث أو معناه ترجمة باب ثم أورد في ذلك إما آية من كتاب الله تشهد له أو حديثا يؤيد عموم م دل عليه ذلك الخبر وعلى هذا فالأحاديث التي فيه على ثلاثة أقسام ا هـ
وقد أشكلت عبارة الباجي على بعض الناس فقال وهذا الذي قاله الباجي فيه نظر من حيث إن الكتاب قرئ على مؤلفه ولا ريب أنه لم يقرأ عليه إلا مرتبا مبوبا فالعبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها
وفي هذا النظر نظر لأن الباجي لم يذكر أن الكتاب كان غير مبوب ولا مرتب بل ذكر أنه يوجد في بعض المواضع منه تراجم ليس بعدها شيء وأحاديث للم يترجم لها وهي كما قال الحافظ مواضع قليلة جدا والكتاب على هذه الصفة يمكن قراءته وأخذه بالرواية
فإن قلت كيف يفعل إذا ول إلى ترجمة ليس بعدها شيء قلت هنا احتمالان أحدهما أن يترك قراءة الترجمة والثاني أن يقرأها ويشير إلى أنه لم يجد إلى ذلك الوقت ما يناسبها فإن قلت فلم لا يضرب عليها قلت إن كثيرا من المؤلفين مثل ذلك ويأملون أن يجدوا بعد حين ما يناسب الترجمة على ان كثيرا من المؤلفات التي قرئت على مؤلفيها لا تخلو عن بياض
وأما الأحاديث التي لم يترجم لها فالأمر فيها سهل فإنه يمكن أن يجعل عنوان الترجمة باب ويذكر بعده الحديث الذي بم يجعل له ترجمة خاصة ولا يحتمل هنا عدم قراءته لأن المقصود الأول في كتابه هو معرفة الأحاديث الصحيحة
وقد وقع في البخاري كثيرا ذكر لفظ باب وليس بعده شيء فمن ذلك في كتاب الإيمان باب حدثنا أبو اليمان قال الشراح باب التنوين بغير ترجمة ولفظ الباب ساقط عند الأصيلي وحينئذ فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة وعلى رواية إثباته فهو كالفصل عن سابقه لتعلقه به وفي الحديث السابق بيان أن حب الأنصار من الإيمان وفي الحديث اللاحق الإشارة إلى سبب تلقيبهم بالأنصار لأن ذلك كان ليلة العقبة لما بايعوا على إعلاء كلمة الله وكان يقال لهم بنو قيلة وقيلة بالفتح الأم التي كانت تجمع القبلتين ا هـ
واعلم أن صحيح مسلم قد قرئ على جامعه مع خلو أبوابه عن التراجم
قال شارحه إن مسلما رتب كتابه على الأبواب فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لنم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد حجم الكتاب أو لغير ذلك وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيد وبعضها ليس بجيد إما لقصور في عبارة الترجمة أو لركاكة في لفظها وإما لغير لك وأنا أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها
وأما قول ذلك القائل إن العبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها فالجواب أن الرواية إنما تلقيت من نسخ الأصول المأخوذة تلك المسودة وهي في الحقيقة مبيضة
الفائدة الثالثة
في أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك قد ظن أناس انهما قد التزما ان يخرجا كل ما صح من الحديث في كتابيهما فاعترضوا عليهما بأنهما لم يقوما بما التزما به وليس الأمر كذلك
فقد روي عن البخاري أنه قال ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت جملة من الصحاح خشية أن يطور الكتاب
وروي عن مسلم أنه لما عوتب على ما فعل من جمع الأحاديث الصحاح في كتاب وقيل له إن هذا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في الصحيح قال إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح ولم أقل إن لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف وإنما أخرجت هذا الحديث من الصحيح ليكون عندي وعند من يكتبه عني ولا يرتاب في صحته
وقد رفع بذلك العتب ولسان حاله يقول إلام على ما يوجب الحب
ومن الغريب أن بعض الناس لنفرته من تجريد الصحاح صرح بتفضيل سنن النسائي على صحيح البخاري وقال إن من شرط الصحة فقد جعل لمن لم يستكمل في الإدراك سببا إلى الطعن على ما لم يدخل وجعل للجدال موضعا فيما أدخل
وهو قول شاذ لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولو لم يكن الناقل عن هذا القائل وأمثاله ممن يوثق بنقله لشك اللبيب في صدور ذلك عمن له أدنى سهم في الفهم وكانهم لم يشعروا بما نشأ عن مزج الصحيح بغيره من الضرر الذي حصل لكثير من الناس
وليتهم نظروا في مقدمة كتاب مسلم نظرة ليقفوا على الباعث لتجريد الصحيح لعلهم يسكتون فيسكت عنهم ولكن الميل إلى الإغراب غريزة في بعض النفوس
والمقصود هنا قول مسلم وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم ن طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأخبار الصيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغنياء من الناس وهو مستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف عل قلوبنا إجابتك إلى ما سألت ا هـ
وقد نقلنا فيما سبق مقالة أخرى في ذم هذه الفرقة قال في آخرها ومن
ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم
وبما ذكرنا من عدم التزامهما إستيعاب الأحاديث الصحيحة أجمع يظهر لك أن لا وجه لإلزام من ألزمهما إخراج أحاديث لم يخرجاها مع كونها صحيحة على شرطيهما قال في شرح مسلم ألزم الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وغيره البخاري ومسلما رضي الله عنهما إخراج أحاديث تركا إخراجهما مع أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها في صحيحهما بها
وذكر الدارقطني وغيره وغيره أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فليزمهما إخراجهما على مذهبيهما
وذكر البيهقي أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه وأن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها مع ان الإسناد واحد وصنف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما
وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة إنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعبا وإنما قصد جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله
لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلا في بابه ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالهما أنهما اطلعا
فيه على علة إن كانا روياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانا أو إيثارا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أو لغير ذلك والله أعلم
والظاهر أن المعترضين عليهما في ذلك لم يبلغهم تصريحهما بما ذكر ومنهم ابن حبان فإنه قال ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما
وقال بعضهم لعل شبهة المعترضين نشأت من تسمية البخاري كتابه بالجامع وهي شبهة واهية لا سيما إن نظر إلى تتمة الاسم وقد عرفت سابقا أنه سماه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه وأما الحاكم فإنه الحاكم فإنه اقتصر على ان قال ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشتمون برواة الآثار ويقولون إن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث
وقد اختلف العلماء في مقدار ما فاتهما من جهة القلة والكثرة فقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم شيخ الحاكم قلما يفوت البخاري ومسلما مما يثبت من الحديث ويرد على ذلك قول البخاري فيما نقله الحازمي والإسماعيلي وما تركت من الصحاح أكثر
وقال لانووي قد فاتهما كثير والصواب قول من قال إنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير
والأصول الخمسة هي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي
وقد جعل بعضهم الأصول ستة بضم سنن ابن ماجة إليها قيل أول من فعل ذلك ابن طاهر المقدسي فتابعه أصحال الأطراف والرجال على ذلك وتبعهم
غيرهم وإنما لم تذكر هنا لما قال المزي وهو ان كل ما انفرد به ابن ماجة عن الخمسة فهو ضعيف قال الحسيني يعني من الأحاديث وقال ابن حجر إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة فالأولى حمل الضعف على الرجال
وقد جمع مجد الدين ابن الأثير الأصول الخمسة في كتاب وضم إليها موطأ الإمام مالك حتى صارت بذلك ستة وسماه جامع الأصول من حديث الرسول فصار الوصول إلى هذه الأصول سهل المسلك قريب المدرك
والمراد بسنن النسائي هنا هي الصغرى لما روي أنه لما صنف الكبرى أهداها لأمير الرملة فقال له أكل ما فيها صحيح فقال فيها الصحيح والحسن وما يقاربهما فقال ميز لي الصحيح من غيره فصنف له الصغرى وسماها المجتبى من السنن
ويرد على ما ذكر النووي أيضا قول البخاري فيما نقل عنه أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح والأحاديث التي في الأصول الخمسة لا تبلغ خمسين ألفا فضلا عن ان تقرب من مئة ألف فيكون ما فاتها من الصحيح كثير جدا
قال بعض أهل الأثر إن كثيرا من المتقدمين كانوا يطلقون اسم الحديث على ما يشمل آثار الصحابة والتابعين وتابعيهم وفتاويهم ويعدون الحديث المروي بإسنادين حديثين وحينئذ يسهل الخطب وكم من حديث ورد من مئة طريق فأكثر
وهذا حديث إنما الأعمال بالنيات نقل مع ما فيه عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي أنه كتبه من جهة سبع مئة من أصحاب يحيى بن سعيد وقال الإسماعيلي عقب قول البخاري لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر إنه لو أخرج كل حديث صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة ولذكر طرق كل واحد منهم إذا صحت فيصير كتابا كبيرا جدا
وقال الجوزقي إنه استخرج على أحاديث الصحيحين فكانت عدة الطرق خمسة وعشرين ألف طريق وأربع مئة وثمانين طريقا
قال بعض المحققين وإذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ جملة ما في كتابيهما بالمكرر ذلك فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ ذلك أيضا أو يزيد وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي شرطهما لعله يبلغ
ذلك أو يقرب منه فإذا أضيف ذلك إلى ما جاء عن الصحابة والتابعين بلغ العدة التي يحفظها البخاري بل ربما زادت
وهذا الحمل متعين وإلا فلو عدت أحاديث المسانيد والجوامع والسنن والمعاجم والفوائد والأجزاء وغيرها مما هو بأيدينا صحيحهما وغيره ما بلغت ذلك بدون تكرار بل ولا نصفه ا هـ
وقال بعضهم ويؤيد ان هذا هو المراد أن الأحاديث التي بين أيدينا من الصحاح بل وغير الصحاح ولو تتبعت من المسانيد والجوامع والسنن والأجزاء وغيرها ما بلغت مئة ألف بلا تكرار بل ولا خمسين ألفا وتبعد كل البعد أن يكون رجل واحد يحفظ ما فات الأمة جميعه مع انه إنما حفظه من أصول مشايخه وهي موجودة ا هـ
وقد تبين بما ذكر أن ما قاله البخاري لا ينافي ما قاله ابن الخرم فضلا عما قاله النووي على ان بعضهم حمل كلام ابن الأخرم فيما فاتهما على الصحيح المجمع عليه فكأن قال لم يفتهما من الصحيح الذي هو في الدرجة الأولى إلا القليل والأمر كذلك والأحاديث التي هي في الدرجة الأولى لا تبلغ كما قال الحاكم عشرة آلاف
تتمة في بيان عدد أحاديث الصحيحين قال الحافظ ابن الصلاح جملة ما في صحيح البخاري سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث قال الحافظ العراقي هذا مسلم في رواية الفربري وأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمئتي حديث ودون ذلك هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل
قال الحافظ ابن حجر إن عدة أحاديث البخاري في روايات الثلاث سواء وغنما حصل الاشتباه من جهة أن الأخيرين فاتهما من سماع الصحيح على البخاري ما ذكر من آخر الكتاب فروياه بالإجازة فالنقص إنما هو السماع لا في الكتاب
قال والذي تحرر لي أنها بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات والموقوفات سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون حديثا وبغير المكرر من المتون الموصولة ألفان وست مئة وحديثان ومن المتون المعلقة المرفوع التي لم يصلها في موضع آخر منه مئة وتسعة وخمسون فمجموع غير المكرر ألفان وسبع مئة واحد وستون نقل ذلك بعض تلاميذه عنه
وقد نقل بعض العلماء عن الحافظ المذكور حاصل ما قاله في تحرير العدد إلا أن في زيادة بسط فيما يتعلق بالمكرر فأحببت إيراد ذلك على وجه يكون أقرب منالا قال
جملة أحاديث البخاري بالمكرر سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون 7397
وجملة ما فيه من المعلقات وذلك سوى المتابعات وما يذكر بعدها ألف وثلاث مئة وواحد وأربعون حديثا 1341
وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلاث مئة ولأربعة وأربعون حديثا 344
فجملة ما في البخاري المكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون 9082 سوى الموقوفات
أقسام الكتاب 12345
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق