الجمعة، 7 يناير 2022

20 //ج 4.منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل المبحث الثالث: أجناس العلل الخفية في المتون وما بعده الي اخر الصفحة


منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
المبحث الثالث: أجناس العلل الخفية في المتون
:
سنتعرض في هذا المبحث لأجناس العلل الخفية في المتون عند الإمام الدارقطني في كتابه العلل، وكان كل ما سبق ذكره من قبيل أجناس العلل التي تخص الإسناد دون المتن، وأما في هذا المبحث فسوف نقوم إن شاء الله بدراسة مجموعة من أجناس العلل الخاصة بالمتون ثم نضرب لها أمثلة تُبيّنها وتظهر المقصود من العلة، ومنهج الدارقطني فيها.
الجنس الأول: التصحيف والتحريف في متن الحديث.
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث همام بن منبه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((النَّارُ جُبَارٌ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبدالرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، قال إسحاق بن إبراهيم بن هاني: عن أحمد بن حنبل إنما هو البئر جبار، وأهل صنعاء يكتبون النار بالباء على الإمالة للفظهم، فصحفوا على عبدالرزاق البئر بالنار، والصحيح الْبِئْرُ.
قال الشيخ: إسحاق هذا له عن أحمد مسائل وكان ألزم لأحمد من أبيه " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: التصحيف في متن الحديث حيث صحَّفه أهل صنعاء من البئر إلى النار، والرِّوايات كلها تخالف هذا اللفظ، واستدل الدارقطني بقول الإمام أحمد بن حنبل: على أنَّ الصحيح في هذه اللفظة " الْبِئْرُ ".
_________
(1) وهو جزء من حديث متفق عليه على الوجه الصحيح بتمامه: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)،كتاب الزكاة، باب في الركائز الخمس، (ج3/ص414)، برقم (1499)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، (ج6/ ص241)، برقم (1710)،كلاهما من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة مثله.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص164 - 165)، سؤال رقم (2197).
(1/189)
الجنس الثاني: ما كان علته أنَّه لا يشبه كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه العلة من أغمض العلل وأصعبها، ولا يطلع على حقيقتها إلا أهل الحذق والمعرفة الدقيقة بهذا العلم الشريف، وقد تكلم عليها ابن القيم في المنار المنيف فقال: " ومنها أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلا عن كلام رسول الله الذي هو وحي يوحى كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1)، أي وما نطقه إلا وحي يوحى، فيكون الحديث مما لا يشبه الوحي، بل لا يشبه كلام الصحابة " (2) وسوف نضرب بعض الأمثلة لتوضيح هذه العلة.
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المعِدَةُ حَوْضُ البَدَنِ وَالْعُرُوقُ إِليهَا وَارِدَةٌ)) (3)
فقال - الدارقطني - يرويه يحيى بن عبدالله بن الضحاك البابلتي الحراني، عن إبراهيم بن جريج الرهاوي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
واختلف عنه فرواه أبو فروة الرهاوي عنه، فقال: عن الزهري، عن عروة عن عائشة. وكلاهما وهم لا يصح ولا يعرف هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من كلام عبدالملك بن سعيد بن أبجر، قيل لأبي الحسن الدارقطني هل سمع زيد بن أبي أنيسة من الزهري فقال: نعم ولم يرو هذا مسندا غير إبراهيم بن جريج، وكان طبيبا فجعل له إسنادا ولم يُسْنِد غير هذا الحديث " (4).
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: " عن حديث ابن المسيّب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الإحْصَانُ إِحْصَانَانِ إِحْصَانُ عَفَافٍ، وَإحْصَانُ نِكَاحٍ))، فقال
_________
(1) سورة النَّجم: الآيات (3، 4).
(2) ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي (ت: 751هـ)، المنار المنيف في الصحيح والضعيف، طبع مكتبة المطبوعات الإسلامية، بيروت، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، (ص 61 - 62).
(3) أخرجه الطبراني: في المعجم الأوسط (ج10/ص48)، برقم (4494)، وفيه عبدالله بن الضحاك البابلتي (ت: 218هـ)، ضعيف أخرج له النسائي، تهذيب التهذيب (ج12/ص 286).
(4) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص42 - 43)، سؤال رقم (1401).
(1/190)
- الدارقطني -: يرويه مبشر بن عبيد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعا، ومبشر متروك الحديث يشبه أن يكون من كلام الزهري، بل هو محفوظ عن عقيل، ومعمر، عن الزهري قوله ورأيه " (1).
قلتُ: وواضح من العلة التي أشار إليها الدارقطني في المثالين السابقين أنّ المتن في كليهما لا يشبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عليه نور الوحي، وحجته في الأول أنَّ هذا الكلام ثابت من كلام عبدالملك بن سعيد بن أبجر، وفي حجته في الثاني أنَّه محفوظ من كلام الزهري كما رواه عنه عقيل، ومعمر أنَّه مجرد رأيه وقوله، والله الهادي.
الجنس الثالث: ما كان فيه كلام مدرج، ليس من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث جابر بن عبدالله عن عمر رضي الله عنه عن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ عِشْتُ لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)) (2).
فقال -الدارقطني-: يرويه أبو الزبير ووهب بن منبه عن جابر واختلف عن الزهري فرواه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة عن الزهري قال: حدثني ابن تدرس وهو أبو الزبير عن جابر عن عمر. وخالفه محمد بن فليح رواه عن موسى بن عقبة عن الزهري قال: قال جابر عن عمر مرسلاً، ورواه أبو أحمد الزبيري عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن عمر هذا الحديث وألحق به كلاما آخر أدرجه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهين أن يسمى رباحاً ونجيحاً، ووهم في إدراجه هذا الكلام عن عمر" (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني في هذا المتن هي إدراج لفظة: " لأنهين أن يسمى رباحاً ونجيحاً " في آخر الحديث، ولم تثبت من كلام النَّبي صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ورجح الدارقطني أنها من قول عمر رضى الله عنه، وحجته في ذلك أنَّ الثقات رووه بغير هذه اللفظة، وإنما ثبتت من قول عمر رضى الله عنه، والله أعلم.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص133)، سؤال رقم (1677).
(2) أخرجه أحمد على الوجه الصحيح على شرط مسلم: في المسند، (ج1/ص29)، برقم (201).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص95 - 96)، سؤال رقم (137).
(1/191)
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث أبي عبدالرحمن السلمي عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه علقمة بن مرثد وسعد بن عبيدة، وعبد الملك ابن عمير وسلمة بن كهيل، وعاصم بن بهدلة، والحسن بن عبيدالله، وعبدالكريم وعطاء ابن السائب، واختلف عنه عن أبي عبد الرحمن السلمي، واختلف عن علقمة بن مرثد: فرواه موسى بن قيس الفراء من رواية أبي نعيم عنه، وعمرو بن قيس الملائي ...
ورواه الجراح بن الضحاك الكندي، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبدالرحمن، عن عثمان، وقد اختلف عن إسحاق بن سليمان (2) فيه: فقال يعلى بن المنهال، عن إسحاق بن سليمان عن الجراح: " وفضل كلام الله على سائر خلقه ... "، أدرجه في كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هُو من كلام أبي عبدالرحمن السُلَمِي، وبين ذلك إسحاق بن راهويه وغيره في روايتهم عن إسحاق بن سليمان " (3).
قلتُ: ورجح الدارقطني هنا أنّ لفظة " وفضل كلام الله على سائر خلقه ... "، مدرجة على كلام النّبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هي ثابتة من قول أبي عبدالرحمن السُّلَمِي، وحجته ما رواه إسحاق بن راهويه وغيره في روايتهم عن إسحاق بن سليمان، من عدم إدارج هذه اللفظة في الحديث.
الجنس الرابع: ما كانت علته من تغير بزيادة على المتن المحفوظ.
وتنشأ هذه العلة عند الوهم أو الخطأ في متن الحديث بزيادة تدخل عليه، ليست من أصل الرواية، بخلاف المحفوظ من مرويَّات الثقات، ولا شك أنَّ هذا النوع مختلف عن
_________
(1) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)،كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، (ج9/ص85)، برقم (5027)، بغير اللفظة المدرجة.
(2) هو إسحاق بن سليمان الرازى، أبو يحيى العبدى الكوفي، (ت: 200 هـ وقيل قبلها)، ثقة فاضل، من الطبقة التاسعة صغار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج12/ص 286).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج3/ص53 - 57)، سؤال رقم (283).
(1/192)
النوع الذي قبله وهو المدرج، فإنَّ المدرج قد يكون من أصل الرواية، ولكنه ليس من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يكون من قول بعض الرواة، وقد أعلَّ الدارقطني بهذه العلة بعض الأحاديث نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث حُصَيْنٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَلَى الْمِنْبَرِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ((لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ إِلاَّ الْحَدَثُ لاَ أَسْتَحْيِيكُمْ مِمَّا لاَ يَسْتَحْيِي مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالْحَدَثُ أَنْ يَفْسُوَ أَوْ يَضْرِطَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه أبو سنان ضرار بن مرة (2)، واختلف عنه فرواه حبان ومندل ابنا علي، عن أبي سنان، عن حصين المزني، عن علي.
وخالفهما أبو بكر بن عياش فرواه: عن أبي سنان، عن الحكم بن عتيبة، عن شريح بن هانئ، عن علي وفي متن الحديث زيادة: إذا توضأ الرجل فهو في صلاة ما لم يحدث ويشبه أن يكون الصحيح قول مندل وحبان والله أعلم، وقال أبو مسعود أحمد بن الفرات في هذا الحديث عن شيخ له عن أبي بكر بن عياش عن أبي سنان عن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن شريح عن علي ولم يتابع عليه " (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنّ أبو بكر بن عياش وهم فزاد في المتن لفظة " إذا توضأ الرجل فهو في صلاة ما لم يحدث "، وهي زيادة ليست من أصل الحديث ولا
_________
(1) أخرجه أحمد: في المسند، (ج1/ص138)، برقم (1164) بسندٍ ضعيفٍ لضعف حبان بن علي لكنَّه حسن لغيره لما له من شواهد صحيحة، حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد الخدري غيرهما.
(2) هو ضرار بن مرة الكوفى، أبو سنان الشيبانى الأكبر (ت: 132 هـ)، ثقة ثبت من العباد الثقات، من الطبقة السادسة من الذين عاصروا صغار التابعين، أخرج له مسلم والترمذي والنسائي تهذيب التهذيب (ج4/ص 400 - 401).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج3/ص189 - 190)، سؤال رقم (352).
(1/193)
الرِّواية، وإنَّما هي مجرد خطأ وقع من الرَّاوي، وقد رجح الدارقطني أن هذه الزيادة معلولة، وحجة الدارقطني في ذلك مقارنة المرويَّات الأخرى من نفس مخرج الحديث وهو أبو سنان ضرار بن مرة، ثم إنَّ أبا بكر بن عياش لم يُتابع على هذه الزيادة، وهو ثقة فيه كلامٌ يسير (1).
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث مسروق، عن علي - رضي الله عنه -: ((وَمَا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الشعبي واختلف عنه: فرواه يوسف بن أسباط، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن علي. وخالفه عبدالرحمن بن مهدي وغيره ورووه، عن الثوري، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن علي لم يذكروا بينهما أحدا، وكذلك رواه أبو شهاب الحناط وعبيدالله الأشجعي، وعبدالله ابن إدريس وابن عيينة وداود بن الزبرقان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن علي. ورواه هُريم بن سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن علي وزاد فيه ألفاظ لم يأت بها غيره، ...
عن علي - رضي الله عنه - قال: ((إنْ كُنَّا لَنَرَى أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلى لِسَانِ عُمَر، وإِنْ كُنَّا لَنَرَى أَنَّ شَيطَانَهُ يَخَافُه أَنْ يَجُرَهُ إِلَى مَعْصِيةِ اللهِ تَعَالَى)) " (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ هُريم بن سفيان (4) روي الأثر من طريق إسماعيل، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه، وزاد زيادة ليست من أصل الرواية ولا تصح عن
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: " ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح "، تقريب التهذيب، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية سنة 1415هـ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، (ج2/ص 366).
(2) أخرجه أحمد على الوجه الصحيح: في المسند، (ج1/ص106)، برقم (834)، من طريق يحيى بن أيوب الْبَجَلِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ وَهْبٍ السُّوَائِيِّ قَالَ خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه، نحواً منه وبسند صحيح بدون الزيادة المعلولة التي أشار إليها الدارقطني.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج4/ص136 - 139)، سؤال رقم (471).
(4) هو هُريم بن سفيان البجلي، أبو محمد الكوفى (ت:؟)، من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، صدوق ثقة، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج11/ص 29).
(1/194)
الشعبي، ورجح الدارقطني أنها زيادة معلولة وحجته في ذلك أنَّ هُريم بن سفيان خالف جماعة من الأثبات الثقات بهذه الزيادة، والله سبحانه الموفق.
الجنس الخامس: ما كانت علَّته دخول متن حديث على متنِ حديثٍ آخر:
وهذه العلة تقع عند دخول متن حديث على متن حديث آخر بإسناد معروف عند الثقات ويكون المرجوح في الخلاف هو الحديث المعلول، وهذه علة مشهورة في كتب العلل، وقد أعل الدارقطني أحاديث بهذه العلة نذكر منها مثالاً:
المثال: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث عامر الشعبي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أقبل أبو بكر وعمر - رضي الله عنهم - ((فقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) (1). الحديث
قال - الدارقطني -: يرويه يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي حدث به عنه أبو قتيبة واختلف عنه في متنه: فرواه إبراهيم بن عبدالله بن بشار الواسطي، عن أبي قتيبة بهذا الإسناد، وهذه الألفاظ.
وخالفه غير واحد ممن رواه عن أبي قتيبة بهذا الإسناد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى)) (2). وكذلك رواه إسرائيل بن يونس عن أبيه يونس عن الشعبي عن أبي هريرة، وهو أصح من الأول " (3).
_________
(1) أخرجه أحمد على الوجه الصحيح: في المسند، (ج1/ص80)، برقم (602)، من طريق عبدالله بن عمر اليمامي عن الحسن بن زيد بن حسن حدثني أبي عن أبيه عن على رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد: في المسند، في مواضع من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كلها ضعيفة لا تخلو من مقال، (ج3/ص26،27،72،93،98)، بأرقام: (11222)، (11229)، (11708)، (11900)، (11958) من طرق عن الأعمش عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري بلفظ: ((قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى يَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ كَمَا يُرَى الْكَوْكَبُ الطَّالِعُ فِي الْأُفُقِ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا)).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص113 - 114)، سؤال رقم (2156).
(1/195)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ لفظ الحديث: ((إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى)) جاء بإسناد معروف عند الثقات وهو: " عن الشعبي حدث به عنه أبو قتيبة "، فأدخل إبراهيم بن عبدالله بن بشار الواسطي متناً آخر على نفس الإسناد فقال: ((هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فأوهم، وقد رجح الدارقطني أنَّ هذا الإسناد متنه هو: ((إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى))، واستدل الدارقطني بمتابعة إسرائيل بن يونس عن أبيه يونس عن الشعبي عن أبي هريرة: فذكر نفس المتن، والله أعلم.
الجنس السادس: ما كان علته أنّه لم يثبت في متنه شيء صحيح مرفوع.
وهذه العلة يحكم بها النقاد عند عدم ثبوت صحة متن وإن كثرت رواياته، مثل قولهم: " أصح شيء في هذا الباب "، يعني أنَّ كل ما شابه هذا المتن ضعيف لا يثبت منه شيء، أو قولهم: " لا يثبت فيه شيء "، وقد أعل الدارقطني بعض الأحاديث نذكر منها أمثلة:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث مصعب بن سعد عن سعد - رضي الله عنه -، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ)) (1).
فقال - الدارقطني - يرويه محمد بن جحادة واختلف عنه فرواه: إسماعيل بن عبدالله ابن زرارة، عن داود بن الزبرقان، عن ابن جحادة، عن يونس بن أبي الحصيب، عن مصعب بن سعد، عن سعد، وخالفه الحسن بن عمر بن شقيق رواه، عن داود بن الزبرقان، عن محمد بن جحاد، عن عبدالأعلى، عن مصعب بن سعد، عن سعد، وجميعاً لا يصح " (2).
_________
(1) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الصيام، باب ما جاء في كراهية الحجامة للصائم (ح3/ص 144)، برقم (774)، وقال أبو عيسى الترمذي: " قال الشافعي: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه احتجم وهو صائم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: أفطر الحاجم والمحجوم، ولا أعلم واحداً من هذين الحديثين ثابتا، ولو تَوَقَّى رَجُلٌ الْحِجَامَةَ وهو صائم كان أحب إِلَيَّ ولو احتجم صائم لم أَرَ أن ذلك يفطره ".
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج4 /ص324)، سؤال رقم (595).
(1/196)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ هذا المتن لا يصح فيه شيء، وقد ذكر ذلك جمع من أئمة النقاد، منهم الإمام أحمد، قال الترمذي: " وذكر عن أحمد بن حنبل أنَّه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج، وذكر عن علي بن عبدالله - ابن المديني- أنَّه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس" (1).
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الأعمش، واختلف عنه، فرواه مالك بن وابض عن أبي مطيع البلخي، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، وخالفه عبدالله بن عبدالقدوس، ورواه عن الأعمش عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن حذيفة.
وخالفه حمزة الزيات، واختلف عنه:
فرواه سعيد بن زكريا المدائني، عن حمزة، عن الأعمش، عن مصعب بن سعد، وقال غيره، عن حمزة، عن الأعمش، عن رجل، عن مصعب بن سعد، عن سعد، وقال المسيب بن شريك، عن الأعمش عن سالم بن [أبي] الجعد عن ثوبان، ولا يصح منها شئ.
ثنا عبدالباقي بن قانع قال: ثنا أبو نعيم عبدالرحمن بن قريش ثنا مالك بن وابض ثنا أبو مطيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ))، والصحيح أنَّه من قول مطرف بن عبدالله بن الشخير " (3).
_________
(1) الترمذي: في السنن، (ح3/ص 144)، بعد حديث رقم (774).
(2) أخرجه الطبراني: في المعجم الأوسط (ج9/ص160)، برقم (4107)، وقال الطبراني: " لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا عبدالله بن عبدالقدوس"، قلتُ: بل قد رواه جمعٌ كما ذكر الدارقطني.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص145 - 146)، سؤال رقم (1935).
(1/197)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ هذا الحديث لا يثبت متنه ولا يصح مرفوع، بل ثبت أنَّهُ من قول مطرف بن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه، وحُجَة الدارقطني في ذلك ضعف كل رواية مرفوعة في هذا المتن، وثبوتها موقوفة.
الجنس السابع: ما كان علته تغير بنقص في المتن بخلاف المحفوظ.
وتنشأ هذه العلة عندما يقع النقص في الرواية من الراوي بسبب الخطأ أو الوهم، وهي من أدق العلل، ولا يمكن أن يكتشف ذلك النقص إلا بمقارنة المرويَّات المختلفة في الحديث من طرق كثيرة حتى يتمكن الناظر فيها من إدراك النقص الذي حدث في هذه الرواية من عدمه والراجح فيه، وهي علة مشهورة في كتب العلل لا يكاد يخلو منها كتاب، وقد أعل الدارقطني بهذه العلة بعض الأحاديث نذكر بعضها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث حميد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، وَقَالَ: هَلَكْتُ ...)) (1). الحديث
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري، واختلف عنه، فرواه مالك بن أنس، واختلف عنه في متنه:
فرواه القعنبي، ومعن، وأصحاب الموطأ عن مالك، وقالوا فيه: أنَّ رجلاً أفطر في رمضان مبهماً. رواه حماد بن مسعدة، والوليد بن مسلم عن مالك فقالا فيه: أفطر بجماع، وكذلك رواه إبراهيم بن طهمان عن مالك، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج وأبو أويس، وفليح بن سليمان، وعمر بن عثمان المخزومي، وعبدالله بن أبي بكر ويزيد بن عياض، وشبل بن عباد بهذا الإسناد.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد على الوجه الناقص: في المسند، (ج2/ص273)، برقم (7678)، من طريق عبدالرزاق أنا بن جريج وبن بكر قال أنا بن جريج حدثني بن شهاب عن حميد بن عبدالرحمن أن أبا هريرة حدثه: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا))، وهو حديث صحيح على شرط الشيحين.
(1/198)
وقالوا فيه: أن رجلا أفطر في رمضان، كما قال أصحاب الموطأ عن مالك، وكذلك قال عمار بن مطر عن إبراهيم بن سعد، وكذلك قال أشهب بن عبد العزيز: عن الليث ابن سعد، ومالك عن الزهري، وقالوا كلهم في أحاديثهم: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين العتق، أو الصيام، أو الإطعام ورواه نعيم بن حماد عن ابن عيينة، فتابعهم على أن فطره كان مبهما وخالفهم في التخيير.
ورواه عن الزهري أكثر منهم عددا بهذا الإسناد، وقالوا فيه: أن فطره كان بجماع، وأنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أمره أن يعتق، فإن لم يجد صام، فإن لم يستطع أطعم " (1)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ جماعة من الرواة رووا هذا الحديث بلفظ: " أنَّ رجلاً أفطر في رمضان "، بدون بيان سبب الفطر، وهم من الثقات الأثبات
ورواه آخرون بلفظ: " أنَّ رجلاً أفطر في رمضان بجماع "، بزيادة سبب الفطر، ثم رجح الدارقطني الرواية التي فيها ذكر سبب الفطر، وحُجَّته في ذلك أنَّ الذين رووا الزيادة أكثر ممن رووا النقص، وهذه العلة لا تؤثر على الحديث الذي حدث به النَّقص، وإنِّما يكون هناك زيادة لم تذكر به، وقد يُرجح النقص على الزيادة وذلك تبعاً للقرائن والأدلة على صحة الزيادة أو النقص، والله أعلم.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلاَ يَدْرِي أَصَلّى أَرْبَعَاً أَمْ ثَلاَثاً فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ يُسَلِّمَ)) (2).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص223 - 225)، سؤال رقم (1988).
(2) أخرجه الإمام أحمد على الوجه الناقص: في المسند، (ج2/ص 241)، برقم (7284)، من طريق سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَاتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فَيَلْبِسُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ فَلاَ يَدْرِي أَزَادَ أَمْ نَقَصَ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ))، وهو حديث صحيح على شرط الشيحين.
(1/199)
فقال - الدارقطني -: يرويه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة واختلف في متنه:
فرواه عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وقال فيه: " وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمَ ".
ورواه شيبان وعلي بن المبارك وهشام والأوزاعي وغيرهم عن يحيى، ولم يذكروا فيه التسليم قبل ولا بعد، وكذلك قال الزهري، عن أبي سلمة، ورواه محمد بن إسحاق عن سلمة بن صفوان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال فيه: " ثُمَّ يُسَلّمَ " كما قال عكرمة بن عمار، عن يحيى.
وهما ثقتان وزيادة الثقة مقبولة، ورواه فليح بن سليمان عن سلمة بن صفوان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال فيه: " وَلِيُسَلِّمَ ثُمَّ لِيَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ " وهذا خلاف ما رواه ابن إسحاق " (1).
الجنس الثامن: ما كان علته تغير في بعض ألفاظه مع بقاء السياق:
وتنشأ هذه العلة عند تغير في بعض ألفاظ الرواية مع بقاء سياق الحديث كما هو، وقد لا تؤثر هذه العلة على الحكم بصحة الحديث، وإنّما يُبَيّن النقاد اللفظة الراجحة من الغير راجحة، فتكون الراجحة لها الحكم بالصحة على غيرها، وهذه العلة تدل على مدى دقة علماء الحديث واهتمامهم بمتون الحديث إلى هذه الدرجة من الإتقان والدقة، ولقد أعل الدارقطني بعض الأحاديث نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ)) (2).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص279 - 281)، سؤال رقم (1761).
(2) متفق عليه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)،كتاب فضائل القرآن باب من لم يتغن بالقرآن، (ج9/ص79)، برقم (5023)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، (ج3/ ص336)، برقم (792)،كلاهما من طريق ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة نحواً منه.
(1/200)
فقال - الدارقطني -: يرويه يحيى بن أبي كثير، والزهري، وعمرو بن دينار، ومحمد ابن إبراهيم، ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
فرواه الأوزاعي واختلف عنه: فقال: هقل بن زياد، والوليد بن مزيد، وأيوب بن خالد ومحمد بن يوسف الفريابي، ومحمد بن شعيب، وابن أبي العشرين، وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال: رواه عن الأوزاعي، عن الزهري، وقال ابن أبي العشرين، والوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ...
واختلف عن ابن جريج: فرواه أبو أمية الطرسوسي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة: ((أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ))، ووقع في إسناده وهم من ابن أمية، وهو قوله سعيد بن المسيب مع أبي سلمة، وفي متنه وهم يقال إنه من أبي عاصم لكثير من رواه عنه كذلك والمحفوظ عن الزهري بهذا الإسناد ما أذن الله لشيء " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ الحديث رواه جماعة من الرواة بلفظ: " مَا أَذِنَ الله لِلنَّبِيِّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ... "، ثم رواه أبي عاصم وهو الضحاك ابن مخلد الشيباني النبيل وهو من الثقات الأثبات (2)، فأخطأ فيه فقال في أول الحديث: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " بدلاً من المحفوظ " مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ "، وليس هذا من حديث الزهري، وحجة الدارقطني في ذلك مقارنة مرويَّات الزهري من طرق أخرى للحديث، ومخالفة الثقات له.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص238 - 244)، سؤال رقم (1734).
(2) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج12/ص 128).
(1/201)
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث زرارة بن أوفى عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: ((لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلاَ جَرَسٌ)) (1).
فقال- الدارقطني -: يرويه قتادة، واختلف عنه، فرواه عمران القطان، عن قتادة، عن زرارة عن أبي هريرة موقوفا.
وخالفه سعيد بن بشير فرواه، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
واختلف عن سعيد بن بشير في متنه: فقيل عنه: ((لاَ تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً [فِيهَا] جِلْدُ نَمِرٍ)) قاله الوليد بن المسلم (2)، ولا يصح القولان " (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ الحديث رواه جماعة من الرواة بلفظ: " لاَ تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ "، وهم أثبات ثقات، ثم رواه الوليد ابن المسلم فانقلب عليه اللفظ فقال: " لاَ تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ"، فأخطأ واستدل على خطأه بمخالفة الثقات له، وأنَّ الرواية المحفوظة هي الأولى.
الجنس التاسع: ما كان في متنه قلب في لفظة مما يغير المعنى.
وهذه العلة تنشأ بسبب قلب أحد الرواة كلمة في الحديث فتغير المعنى، ولا تكون هذه اللفظة محفوظةً عند الثقات، وهي من أدق الأسباب التي تؤدي إلى وجود العلة، وقد أعلّ الدارقطني قليلاً من هذا النوع نذكر مثالاً عليه:
_________
(1) أخرجه مسلم على الوجه الصحيح في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب اللباس والزينة، باب كراهة الكلب والجرس في السفر، (ج7/ ص346)، برقم (2113) من طريق بشر يعني ابن مُفَضَّلٍ حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة به.
(2) هو الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي (ت: 194 أو 195 هـ)، ثقة لكنَّه كثير التدليس، من الطبقة الثامنة، الوسطى من أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج11/ص 133).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص328 - 329)، سؤال رقم (2039).
(1/202)
المثال: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني-: عن حديث أبي سلمة وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة: ((أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُولُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا. الحديث، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه: فرواه محمد بن أبي عتيق، وشعيب وعبيد الله بن أبي زياد، وإسحاق بن راشد والنعمان بن راشد، والموقري، عن الزهري عن أبي بكر وأبي سلمة، عن أبي هريرة واختلف عن معمر: فرواه عبدالأعلى، عن معمر عن الزهري، عنهما عن أبي هريرة ...
ورواه مالك في الموطأ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال محمد بن مصعب القرقساني (2)، عن مالك، عن الزهري، عن أبى سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِذَا افْتَتَحَ الْصَلاةَ))، ووهم في هذا القول وإنَّما أراد أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلم كان يكبر" (3).
قلتُ: والعلة المشار إليها أنَّ محمد بن مصعب القرقساني أخطأ فانقلب عليه اللفظ، فقال: " كَانَ يَرْفَعُ يَدَهُ "، بدلاً من لفظة " يُكَبر "، واستدل على خطئه بمخالفة الثقات له في لفظ الحديث، وأنَّ حديث أبي هريرة ليس محفوظ عنهم بهذه اللفظة، والله أعلم.
الجنس العاشر: ما كانت علته الشك في ثبوت المتن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الاضطراب فيه.
وتقع هذه العلة عند شك الراوي في متن الحديث سواء كان في كل المتن، أو في جزء من
_________
(1) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)،كتاب الأذان، باب باب يهوي بالتكبير حين يسجد، (ج2/ص336)، برقم (803) من نفس الطريق المذكورة.
(2) هو محمد بن مصعب بن صدقة القرقساني، أبو عبدالله (ت: 208 هـ)، صدوق من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، أخرج له الترمذي وابن ماجه، تهذيب التهذيب (ج9/ص 405).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص257 - 259)، سؤال رقم (1745).
(1/203)
المتن، مما يدل على عدم تثبت الراوي من الحديث، ونضرب هنا بعض الأمثلة:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث محمد بن المنكدر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيلِ فَلْيُوقِظِ امْرَأَتَهُ فِإنَّ لمَ تَسْتَيْقِظْ فَلْيَنْضَّحْ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه الثوري واختلف عنه: فرواه أبو عامر العقدي، عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن أبي هريرة، وخالفه عبدالرحمن بن مهدي، رواه عن ابن المنكدر، عمَّن سمع أبا هريرة، وكذلك قال وكيع، وعبد الله بن الوليد العدني، وإبراهيم بن خالد الصنعاني، عن الثوري، وكلهم قال عن الثوري إنَّهُ في شك في رفعه بغير شك، حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين، قال ثنا إسحاق بن زريق، قال ثنا إبراهيم بن خالد، قال ثنا الثوري، عن محمد بن المنكدر، قال حدثني من سمع أبا هريرة يقول ولا أراه إلا رفعه يقول: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُم مِنَ اللَّيلِ فَلْيُوقِظْ أَهْلَهُ فِإنَّ لَمْ تَسْتَيْقِظْ فَلْيَنْضَّحْ وَجْهَهَا بِالْمَاءِ)) (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي الشك في متن الحديث، هل هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أنَّهُ ليس كذلك، وهذه العلة تدل على عدم تثبت الراوي أحياناً من الحديث، ولم يُخَرج أحدٌ من الكتب الستة، ولا التسعة هذا الحديث، وهذه العلَّة بخلاف علَّة اختلاف المرويَّات في الوقف والرفع والترجيح بينهما كما ذكرنا في المبحث السابق، وإنَّما تَخْتَص بالشك في كون المتن مرفوعاً أم لا؟، والله أعلم.
_________
(1) أخرجه عبدالرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الصنعاني (ت: 211هـ): في المصنف طبعة إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، (ج3/ص48)، برقم (4739)
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص13 - 14)، سؤال رقم (1615).
(1/204)
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ وَالإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْرِّقِ ...)) (1)، حديث طويل.
فقال - الدارقطني -: يرويه أبو إسحاق واختلف عنه: فرفعه أبو أحمد الزبيري عن الثوري، عن أبي إسحاق علي شك منه في رفعه، ووقفه غيره عن الثوري، ورواه عبدالمجيد عن معمر عن أبي إسحاق مرفوعاً، ورواه زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عاصم والحارث، عن علي، وشك زهير في رفعه كذلك، قال الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، ورواه أبو بدر شجاع بن الوليد، عن أبي إسحاق، عن عاصم والحارث، عن علي فرفعه بغير شك إلا أنَّهُ لم يذكر في حديثه إلا زكاة البقر فقط" (2)
قلتُ: والعلة المشار إليها هنا هي الشك في متن الحديث، هل هو مرفوع كله أو جزء منه؟، كما رواه زهير وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي من الثقات الأثبات (3)، فمرة شك في رفع كل المتن، ثم رواه بغير شك في رفعه ولكنَّه لم يذكر فيه إلا جزء زكاة البقر فقط، وتعرف هذه العلة بالتصريح بالشك غالباً كقول الراوي أحسبه عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أو لفظة تدل على الشك أو الاضطراب في ثبوت الحديث مرفوعاً.
ويتضح مما سبق:
- أنَّ الدارقطني كان غالباً ما يذكر الإسناد الراجح عنده، أو الأقرب للصواب في بداية إجابته للسؤال، ثم يذكر بعد ذلك من خالف في هذا الإسناد، ثم يُبّين الصحيح الراجح عنده من المرويّات في الحديث، ويلتزم هذا الترتيب غالباً.
_________
(1) أخرجه أبو داود: في السنن، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، (ج1/ص 492) برقم (1572)، من طريق زهير حدثنا أبو إسحق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه، وفيه شك زهير المذكور هنا في العلل بقوله: " قال زهير أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج4/ص73 - 74)، سؤال رقم (438).
(3) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج3/ص 303).
(1/205)
- أنَّ الدارقطني كان يجزم في بعض الأحيان بعلة الحديث، ثم يرجح الصحيح المحفوظ من المرويَّات، وأحياناً يأتي بالبرهان والحجة، وأحياناً أخرى لا يذكره.
- أنَّ الدارقطني كان أحياناً يذكر الخلاف في الحديث المعلول، ثم يذكر احتمال أن تكون أحد المرويَّات أقرب للصواب بقولهِ أنَّ هذا الطريق: " هو الأشبه ".
- أنَّه كان أحياناً يصرح ويحدد مصدر الوهم أو الخطأ، أو من كان سبباً في الوهم ويذكر القرينة على ذلك الوهم أو الخطأ، وترجيح الرواية الصحيحة.
- أنَّه كان أحياناً يذكر بعض ما حضر له من الشواهد والمتابعات، كبراهين لما ذهب إليه من الترجيح بين المرويَّات المختلف فيها، ويثبت الصحيح منها.
- أنَّه كان يذكر علة المتن مع علة الإسناد إن وجد، وأحياناً يذكر علة المتون بدون التعليق على الأسانيد وهو قليل.
- أنّه كان أحياناً يبرهن على صحة ما ذهب إليه من المرويَّات عن طريق سوق ما سمعه من شيوخه بإسناده إلى مصنف الكتاب، أو إسناد الحديث عن شيوخه.
- أنَّه كان يهتم بالعلل التي قد تطرأ على متون الأحاديث، ويرجح الصحيح منها.
(1/206)


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
المبحث الرابع: أجناس العلل الظاهرة.
سنتعرض في هذا المبحث لأجناس العلل الظاهرة في كتاب العلل للدارقطني، وقد أثبتنا من قبل أنَّ النقاد المتقدمين قد أشاروا في مصنفاتهم إلى العلل الظاهرة كجرح الرواي بالضعف الشديد أو أنَّه متروك أو كذاب، بجانب العلل الخفية إلاَّ أنَّ نسبة الأحاديث التي أعلُّوها بأسباب ظاهرة أقل بكثير من تلك التي أعلَّوها بأسبابٍ خفيةٍ، وقد يكون سبب الإشارة إلى العلة الظاهرة في الحديث للتنبيه على سببٍ خفي لا يطلع عليه إلا أهل الخبرة والمعرفة بالعلل، مثل كون الراوي عن الضعيف من الثقات الأثبات، فقد يُظن أنَّ الضعيف مستقيم الرواية ويخفى حاله، أو كون الراوي الضعيف يشتبه اسمه مع ثقة وغيرها من الأسباب الخفية التي لا يتفطن إليها إلا أهل الخبرة، ولقلة الأحاديث المعلولة بالأسباب الظاهرة ظنَّ قوم أنَّ مفهوم العلّة عند المتقدمين هو ما كان بسبب خفي فحسب وليس كذلك، وسوف نسوق هنا بعض أجناس العلل الظاهرة لإبطال ما ذهبوا إليه.
الجنس الأول: ما كان علته هي الضعف في الراوي.
والقصد من الضعف في الراوي الدرجة الأولى في جرح الرواة، أي الضعف الذي لا يصل إلى حد الضعف الشديد أو الترك عند الإمام الدارقطني، كالذي يقال عنه: كثير الغلط أو سيئ الحفظ أو لين الحديث، ولقد أعلَّ الدارقطني بهذه العلة أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَاكُلُوا بِهِ وَلاَ تَسْتَكْثِرُوا بِهِ وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ وَلاَ تَغْلُوا فِيهِ)) (1).
_________
(1) أخرجه على الوجه الصحيح أحمد: في المسند (ج3/ص 766)، برقم (15574)، من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي راشد عن عبد الرحمن بن شبل به، وهو صحيح.
(1/207)
فقال - الدارقطني -: يرويه يحيى بن أبي كثير واختلف عنه: فرواه الضحاك بن نبراس البصري وهو ضعيف (1)، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة ووهم فيه والصحيح عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، عن أبي راشد، عن عبدالرحمن بن شبل عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ " (2).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة المشار إليها في الحديث هي ضعف الضحاك بن نبراس، فقد ضعفه أهل العلم (3)، لكن العلة التي قد تخفى على الكثير هي أنَّ الحديث ليس من مسند أبي هريرة إنَّما هو من مسند عبدالرحمن بن شبل رضي الله عنهم.
ولذا قال الدارقطني ووهم فيه والصحيح عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، عن أبي راشد، عن عبدالرحمن بن شبل، لِيُنبه على الوهم والخطأ الذي وقع فيه الضحاك بن نبراس بجانب أنَّه ضعيف، وهذا لعمري غاية في دقة النقد، ولا يفهمه إلا أهل التحقيق، والله أعلم.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث يزيد الأودي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَقَامَاً مَحْمُودَاً}، قَالَ: الشَفَاعَةُ)) (4).
فقال - الدارقطني -: يرويه وكيع واختلف عنه: فرواه أبو بكر بن أبي شيبة في " المسند " عن وكيع، عن إدريس الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهو غلط، ورواه في موضع آخر،
_________
(1) الضحاك بن نبراس الأزدى الجهضمى، أبو الحسن البصري (ت:؟)، لين الحديث من الطبقة السابعة كبار أتباع التابعين، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، تهذيب التهذيب (ج4/ص 399).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص279)، سؤال رقم (1760).
(3) قال ابن عدي: عبدالله بن عدي بن عبدالله أبو أحمد الجرجاني، في الكامل في ضعفاء الرجال طبعة دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1409هـ -1988م، تحقيق: يحيى مختار غزاوي (ج4/ص97): " قال يحيى - يعني بن معين -: الضحاك بن نبراس ليس بشيء، وقال النسائي: ضحاك بن نبراس متروك الحديث ".
(4) أخرجه الترمذي: في السنن كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، (ج5/ ص 303)، برقم (3137)، من طريق وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة. وهو حديث ضعيف لضعف داود بن يزيد الزعافري، الآية في سورة الإسراء رقم (79).
(1/208)
عن وكيع، عن داود الأودي، عن أبي هريرة، والصواب عن داود، وهو داود بن يزيد بن عبدالرحمن الزعافري وهو ضعيف كوفي (1)، وهو الذي روى عن الشعبي عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: لا صداق أقل من عشرة دراهم قال الثوري: لقن غياث بن إبراهيم لداود الأودي هذا الحديث فتلقنه فصار حديثاً " (2).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة المشار إليها في هذا الحديث هي ضعف داود بن يزيد الزعافري فقد ضعفه أهل العلم حتى قال ابن المدينى عن يحيى بن سعيد قال سفيان: شعبة يروى عن داود بن يزيد!! تعجباً منه (3)، وهو يتعجب، لأنَّ شعبة وهو ابن الجحاج أبو بسطام كان شديد الاحتراز في الرواية عن الضعفاء، وأما العلة التي قد تخفى على الكثير هي:
1 - رواية وكيع عنه، وهو ابن الجراح ثقة مشهور، مما قد يوهم أنَّه مستقيم الرواية، فيصحح حديثه.
2 - وقع في مسند أبي بكر بن شيبة الحديث من طريق وكيع، عن إدريس الأودي عن أبيه، عن أبي هريرة، فتعقبه الدارقطني فقال: "وهو غلط ... والصواب عن داود "، لأنَّ إدريس الأودي وهو أخوه ثقة أخرج له الستة (4)، وهو يروي عن أبيه كذلك مما قد يبدو أنَّها متابعة لداود فيصحح الحديث من أجلها
وبهذا يعلم فائدة إعلال الحديث بالعلل الظاهرة للتحذير من مثل هذه الأوهام، والتي قد تفسد الاطمئنان إلى الأحاديث الثابتة، وليعلم الغث من السمين.
_________
(1) داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودى الزعافرى، أبو يزيد الكوفى الأعرج (ت: 151 هـ)، ضعيف من الطبقة السادسة، الذين عاصروا صغارالتابعين، تهذيب التهذيب (ج3/ص 178).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص321)، سؤال رقم (1591).
(3) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج3/ص 178).
(4) المصدر السابق: (ج1/ص 171).
(1/209)
المثال الثالث: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث سالم، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ فِي سُوقٍ مِنَ الأَسْوَاقِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه عمرو بن دينار قهرمان (2) آل الزبير البصري وكنيته أبو يحيى عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عمر.
واختلف عن عمرو في إسناده رواه: حماد بن زيد، وعمران بن مسلم المنقري، وسماك ابن عطية، وحماد بن سلمة وغيرهم، عن عمرو بن دينار هكذا، واختلف عن هشام بن حسان فرواه عنه: عبدالله بن بكر السهمي فتابع حماد بن زيد ومن تابعه، ورواه فضيل ابن عياض، عن هشام، عن سالم، عن أبيه ولم يذكر عمر، ورواه سويد بن عبدالعزيز عن هشام، عن عمرو، عن ابن عمر، عن عمر موقوفاً ولم يذكر فيه سالماً، ويشبه أن يكون الاضطراب فيه من عمرو بن دينار لأنَّه ضعيف قليل الضبط " (3).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة المشار إليها في هذا الحديث هي ضعف عمرو بن دينار، وهو قهرمان مولى آل الزبير، فقد ضعفه أهل الحديث، والعلة التي قد تخفى على غير أهل الحديث هي:
1 - رواية حماد بن زيد عنه، وهو مشهور من الثقات الأثبات مما يوهم أنَّه مستقيم ... الرواية، فيصحح حديثه.
2 - تشابه اسمه بثقة، وهو عمرو بن دينار الأثرم الجمحي، ولذا نبه عليه حتى يمييز.
وبهذا يتبين مدى أهمية ذكر العلل الظاهرة.
_________
(1) أخرجه على الوجه المعلول أحمد: في المسند (ج1/ص 47)، برقم (327)، من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار مولى آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه به، وهو ضعيف.
(2) عمرو بن دينار البصري، أبو يحيى الأعور، قهرمان آل الزبير، ضعيف من الطبقة السادسة، الذين عاصروا صغارالتابعين، أخرج له الترمذي وابن ماجه، تهذيب التهذيب (ج8/ص 27).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص48 - 50)، سؤال رقم (101).
(1/210)
الجنس الثاني: ما كان علته هي الضعف الشديد أو الترك للراوي.
ويقصد بالضعف الشديد الذي يوصف صاحبه بأنه متروك الحديث، أو بأنه ذاهب الحديث، أو لا شيء، وغيرها من الألفاظ التي تؤدي إلى ثبوت الضعف الشديد في الراوي، وقد أعل الدارقطني بهذه العلة الظاهرة بعض الأحاديث نذكر منها:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث علقمة عن عبدالله - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: ((إِنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إِلَى الْجُمُعَاتِ الأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد، واختلف عنه:
فرواه الحسن بن البزار، عن عبدالمجيد عن مروان بن سالم، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبدالله. وخالفه كثير بن عبيد: فرواه عبدالمجيد، عن معمر، عن الأعمش بهذا الإسناد، وخالفهما عبدالصمد بن الفضل فرواه، عن أبيه، عن عبدالمجيد، عن الثوري، عن الأعمش والأول أشبه بالصواب، ومروان بن سالم متروك الحديث " (2).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة المشار إليها في هذا الحديث هي الضعف الشديد في مروان بن سالم وقد تكلم فيه الأئمة فقال الإمام الذهبي: " أحمد وغيره: ليس بثقة، وقال البخارى ومسلم: منكر الحديث، وقال النسائى: متروك " (3).
_________
(1) أخرجه ابن ماجه: في السنن كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في التهجير إلى الجمعة، (ج1/ ص 348)، برقم (1094)، من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: خرجت مع عبد الله إلى الجمعة ثم ساق الحديث، والحديث ضعيف، لأنَّ معمر وهو ابن راشد ثقة ثبت، ولكنه ضعيف في الأعمش وهذه من مروياته.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص137 - 139)، سؤال رقم (773).
(3) الذهبي: ميزان الاعتدال طبعة دار المعرفة، بيروت، تحقيق: محمد البجاوي، (ج4/ص90).
(1/211)
ولكن قد يخفى أنَّ عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد وهو صدوق يخطئ (1)، وقد روى عنه مما يوهم أنّه مستقيم الرواية فيصحح حديثه، والحديث ضعيف جداً لا يثبت مما يكون سبباً في خفاء علته.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث علقمة عن عبدالله - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: ((سَطَعَ نُورٌ فَي الْجَنَّةِ فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإذَا هُو مِنْ ثَغْرِ حُورٍ أَضْحَكَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه حلبس بن محمد بن الكلابي وهو متروك الحديث كوفي عن الثوري، واختلف عنه: فرواه ابن الطباع عيسى بن يوسف بن عيسى، عن حلبس عن الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله. ورواه محمد بن مهاجر عن حلبس، عن الثوري، عن منصور أو مغيرة، عن أبي وائل عن عبدالله " (3).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة المشار إليها في هذا الحديث هي الضعف الشديد في حلبس بن محمد، وقد تكلم فيه أهل الحديث، والعلة التي قد تخفى هي رواية هذا الضعيف عن سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث مما يوهم صحة الحديث، هذا معنى قولهم: ... " منكر الحديث عن الثقات " في نقد حلبس بن محمد هذا وغيره.
فهو احتراز من مثل هؤلاء ليعلم حالهم، مما يرى الناظر المنصف قدر أولئك النقاد الجهابذة، ومدى ما بذلوه لتصفية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكذوب عليه.
_________
(1) ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب (ج1/ص 612).
(2) أخرجه ابن عدي: في الكامل في الضعفاء (ج2/ص 457)، ترجمة رقم (567)، وقال: ... " حلبس بن محمد الكلابي وأظن أنه حلبس بن غالب يكنى أبا غالب بصري منكر الحديث عن الثقات" وقال الذهبي في ترجمته: " حديث باطل "، ميزان الاعتدال (ج1/ص 587).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص169)، سؤال رقم (801).
(1/212)
الجنس الثالث: ما كان علته الانقطاع في سند الحديث.
ويقصد بالانقطاع سقوط رواة في الإسناد، ومما لاشك فيه أنَّها علة ظاهرة حيث يظهر الفرق واضحاً بين طبقات الإسناد، وتفاوت كبير بين رجاله، ولكن قد يخفى أحياناً على من ليس له خبرة بالتاريخ ومعرفة الرجال وأحوالهم وشيوخهم وتلاميذهم، ومن تلاقوا منهم ومن لم يتلاقوا وغيرها من أدوات معرفة الانقطاع في الإسناد، فنبه النقاد على مثل هذه العلة لهذه الأسباب، وقد أعل الدارقطني بعض الأحاديث نذكر منها:
المثال: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث مسعود بن الحكم الزرقي، عن علي - رضي الله عنه -: ((أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ قَعَدَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علي. قال ذلك الليث بن سعد، وعبدالوهاب الثقفي، ويزيد بن هارون، وخالفهم جرير بن عبدالحميد فرواه عن يحيى بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن نافع بن جبير، عن مسعود ابن الحكم ووهم فيه جرير، ورواه الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن نافع بن جبير، عن علي أسقط من الإسناد رجلين ولم يقم إسناده، والصواب قول الليث بن سعد، ومن تابعه عن يحيى، عن واقد بن عمرو " (2).
الجنس الرابع: ما كان علته جهالة الراوي في سند الحديث.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: " ثم الجهالة: وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض وصنفوا فيه الموضح، وقد يكون مقلا فلا يكثر الأخذ عنه وصنفوا
_________
(1) أخرجه مسلم على الوجه الصحيح المتصل في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة، (ج4/ ص34)، برقم (962) من طريق يحيى بن سعيد عن واقد ابن عمرو بن سعد بن معاذ أنَّه قال: رآني نافع بن جبير ونحن في جنازة قائماً، وقد جلس ينتظر أن توضع الجنازة فقال: لي ما يقيمك فقلت أنتظر أن توضع الجنازة لما يحدث أبو سعيد الخدري فقال: نافع فإنَّ مسعود بن الحكم حدثني عن علي بن أبي طالب أنه قال: ((قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ)).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج4/ص127 - 129)، سؤال رقم (466).
(1/213)
فيه الوحدان " (1).
وقال السيوطي: " قال الخطيب البغدادي: المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحدة وأقل ما يرفع الجهالة رواية اثنين مشهورين قال ابن الصلاح: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة " (2).
وقد أعلَّ الدارقطني بهذه جملة من الأحاديث نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: ((لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَلْحَقَتْ بِقَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وأَيُّمَا عَبْدٍ انْتَفَى مِنْ وَلَدَهِ)) (3).
فقال- الدارقطني -: يرويه موسى بن عبدة الربذي، واختلف عنه: فرواه بكار بن عبدالله بن عبيدة الربذي، عن عمه موسى بن عبدة، عن المقبري عن أبي هريرة.
وخالفه زيد بن الحباب، فرواه عن موسى بن عبيدة وأدخل بينه وبين المقبري رجلاً يقال له: يحيى بن حرب وهو رجل مجهول وقوله: زيد بن الحباب أشبه بالصواب " (4).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة التي أشار إليها الدارقطني في هذا الحديث هي جهالة يحيى بن حرب وهو المدني، وقد بيين أهل العلم أنَّه مجهول، قال الذهبي: " فيه جهالة، ما حدث عنه سوى موسى بن عبيدة ". (5)، وأما وما قد يخفي على الكثير كون الراوي عنه زيد ابن الحباب
_________
(1) ابن حجر العسقلاني: نخبة الفكر (مع نزهة النظر) طبعة مكتبة التراث، القاهرة، (ص51).
(2) السيوطي: تدريب الراوي (ج1/ص317).
(3) أخرجه ابن ماجه: في السنن كتاب الفرائض، باب من أنكر وَلَدَهُ، (ج2/ ص 916)، برقم (2743)، من طريق زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة حدثني يحيى بن حرب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة نحواً منه. والحديث ضعيف بسبب عدة علل منها جهالة يحيى بن حرب.
(4) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص375)، سؤال رقم (2062).
(5) الذهبي: ميزان الاعتدال، (ج4/ص 368).
(1/214)
وهو صدوق (1)، مما يوهم أنَّه معروف وروايته مستقيمة، والله أعلم.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث علقمة عن عبدالله - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَقْرَضَ مَرَّتَينِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَحَدِهِمَا لَو تَصَدَّقَ بِهِ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه قيس بن رومي كوفي، عن علقمة، عن عبدالله رفعه ورواه سليم بن أذنان، عن علقمة واختلف عنه: فرفعه عطاء بن السائب عنه ووقفه غيره والموقوف أصح، ولا يعرف قيس بن رومي إلا في هذا " (3).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة التي أشار إليها الدارقطني في هذا الحديث هي جهالة قيس بن رومي فقد قال الذهبي في الميزان: " لا يكاد يعرف، ما حدث عنه سوى سليمان بن يسير ". (4)، وقد يخفي أمره لأن جميع رواة الحديث ثقات فنبه عليه حتى لا يصحح حديثه، وقد أعل الدارقطني الحديث بعلتين:
1 - مخالفة الثقات الذين رووه موقوفاً، فأعلَّ الحديث بالوقف.
2 - جهالة قيس بن رومي في الإسناد.
الجنس الخامس: ما كان علته أنَّ راويه متهم بالكذب أو بالوضع.
قال السيوطي: " الموضوع هو الكذب، المختلق المصنوع وهو شر الضعيف وأقبحه، وتحرم روايته مع العلم به أي بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها إلا مبيناً، أي مقروناً ببيان وضعه لحديث مسلم: ((مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَذَّابَينِ))، وَيُعْرَف الوضع للحديث بإقرار واضعه أنَّه وضعه ... أو معنى إقراره أو قرينة في الراوي أو المروي فقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة لفظها
_________
(1) ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب، (ج1/ص327).
(2) أخرجه ابن عدي: في الكامل في الضعفاء (ج4/ص 159)، ترجمة رقم (981).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص 157)، سؤال رقم (789).
(4) الذهبي: ميزان الاعتدال، (ج3/ص 396).
(1/215)
ومعانيها " (1).
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي رافع، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فِي الْوضُوءِ بَالنَّبِيذِ)) (2).
فقال - الدارقطني -: روى عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله بن مسعود والراوي له متروك الحديث، وهو الحسين بن عبيد الله العجلي، عن أبي معاوية كان يضع الحديث على الثقات، وهذا كذب على أبي معاوية وعلى الأعمش " (3).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة التي أشار إليها الدارقطني في هذا الحديث أنَّ الحسين بن عبيدالله العجلي هذا كذاب يضع الحديث، فقد قال ابن عدي: " والحسين بن عبيدالله العجلي يشبه أن يكون ممن يضع الحديث لأن هذين الحديثين باطلان بأسانيدهما، ولا يبلغ عنهما غيره " (4)
مما قد يخفى أنَّه يكذب على أبي معاوية، وعلى الأعمش وهما ثقتان أثبات مما يوهم صحة الحديث، أو أنَّ له أصلاً، والله أعلم.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: "وسئل - الدارقطني - عن أحاديث رويت عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين منها: حديث يرويه جرير بن أيوب البجلي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَدْخَلَ أَحُدُكُمْ قَدَمَيْهِ طَاهِرَتَينِ فَلْيَمْسَحْ، لِلمُقِيمِ
_________
(1) (2) السيوطي: تدريب الراوي (ج2/ص54).
(2) أخرجه ابن ماجه: في السنن كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بالنبيذ، (ج1/ ص 135) برقم (384)، من طريق عبدالرزاق عن سفيان عن أبي فزارة العبسي عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود نحواً منه، ولا يصح في هذا الباب شيء، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمة أبي زيد المخزومي: " قال البخاري: لا يصح حديثه وقال الحاكم أبو أحمد: لا يوقف على صحة "، تهذيب التهذيب (ج12/ص 91).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص 345)، سؤال رقم (940).
(4) ابن عدي: في الكامل في الضعفاء (ج2/ص 364)، ترجمة رقم (494).
(1/216)
يَومَاً وَلِلمُسَافِرِ ثَلاَثَاً)) (1).
فقال - الدارقطني -: هذا باطل عن أبي هريرة، وقد قال أبو نعيم: كان جرير يضع الحديث " (2).
قلتُ: والعلةُ الظاهرة التي أشار إليها الدارقطني في هذا الحديث أنَّ جرير بن أيوب البجلي متهم بوضع الحديث (3)، مما قد يخفى أنَّه يروي عن أبي زرعة، وهو ابن عمرو ابن جرير بن عبدالله البجلى الكوفى، قيل اسمه هرم وقيل عمرو وقيل غير ذلك، وهو أحد الثقات، وأخرج له الستة، ثم إنَّ أخاه يحيى بن أيوب البجلي ثقة (4)، مما يوهم أنَّ للحديث أصلاً، وليس كذلك بل هو باطل، فوجب التنبيه عليه.
ويتضح مما سبق:
- أنَّ الإمام الدارقطني كان يُعل الأحاديث بالعلل الظاهرة على عدة صور منها:
1 - التعليل بضعف الرواي في الإسناد.
2 - التعليل بكون الراوي للحديث متروكاً أو شديد الضعف.
3 - التعليل بالانقطاع في الإسناد.
4 - التعليل بكون الراوي للحديث مجهولاً.
5 - التعليل بكون الرواي للحديث مُتّهماً بالكذب أو بالوضع.
_________
(1) لم أجد من أخرجه مرفوعاً، وإنما أخرج جزءاً منه موقوفاً من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الإمام مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي (ت:179هـ)، في الموطأ دار القلم، دمشق، الطبعة: الأولى 1413 هـ تحقيق: د. تقي الدين الندوي، (ج1/ص104)، رقم (49).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص274 - 275)، سؤال رقم (1563).
(3) قال الذهبي في ميزان الاعتدال (ج1/ص391): " روى عباس عن يحيى: ليس بشيء، وقال أبو نعيم: كان يضع الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك ".
(4) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج12/ص 98).
(1/217)
- أنَّ الدارقطني وغيره من النقاد المتقدمين كانوا يستخدمون العلل الظاهرة للإشارة إلى علل أخرى خفية قد تخفى على من ليس له خبرة ومعرفة بهذا العلم.
- أنَّ الدارقطني أحياناً يتكلم على العلل الخفية والظاهرة في الحديث أو السؤال الواحد، وأحياناً أخرى يتكلم على العلل الخفية بمفردها أو الظاهرة بمفردها.
نتائج هامة:
- يعتبر كتاب العلل للدارقطني من أوسع المصنفات التي حوت أجناس العلل التي قد تطرأ على الحديث النبوي الشريف، حيث ضم الكلام على أنواع علل أكثر من بقية مصنفات العلل الأخرى مثل: علل الإمام أحمد، وعلل ابن المديني، وعلل الترمذي وغيرهم.
- يعتبر الإمام الدارقطني من أوسع نقاد الحديث كلاماً على أوجه العلل المختلفة، وذكر القرائن والشواهد والأدلة على ما ذهب إليه.
- أنَّ أجناس العلل التي ذكرها أئمة النقاد في مصنفاتهم، كثيرة ومتنوعة ولم يسبق أن جمعت في مصنف واحد على سبيل الحصر لها، والأمثلة التي توضحها.
- أنَّ كتاب العلل للدارقطني الموجود بين أيدينا وما يشمله من التكملة والتي أشرنا إليها من قبل، يحتاج إلى دراسة علمية لضبط أسماء الرواة في الأسانيد، وكذلك ضبط متون الأحاديث بالرجوع إلى مصادرها الأصلية.
- وجدت أثناء بحثي أنَّ هناك حاجة لدراسة علمية هامة لم تُسبق في كتاب العلل وهي: سبر جميع الأحاديث التي جزم الدارقطني بأنها معلولة، أو كان الراجح عنده أنها معلولة وتنقيح وتحليل ذلك، ومناقشة الدارقطني فيما ذهب إليه.
- أنَّ الدارقطني كان أوسع النقاد الذين تكلموا في علل متون الأحاديث، وأنَّ كتابه قد تضمن الكلام على المتون بجانب الأسانيد، والتحقيق أنَّ الدراسة تبين افتراء المستشرقين على أئمة الحديث، وجبال هذا العلم، بقولهم: " أنهم نَقَدَة أسانيد وحسب "، كما زعموا زوراً وبهتاناً.
(1/218)
- أنَّ نسبة العلل الظاهرة في الإسناد التي ذكرها نقاد الحديث المتقدمين في مصنفاتهم تعد أقل بكثير من العلل الخفية في الإسناد والمتون، وعلى رأسهم الدارقطني في كتابه العلل.
وبنهاية هذا المبحث نكون قد أنهينا الباب الثاني من الدراسة بفضل الله عز وجل، ونكون قد عرضنا جانباً كبيراً من أجناس العلل الظاهرة والخفية في الإسناد والمتون، مصنفة تصنيفاً موضعياً، ومدعومة بالأمثلة والنماذج من كلام الإمام الدارقطني وبابتكار لم نسبق إليه بحمد الله وتوفيقه سبحانه، ومما نظن أنَّه سيكون نموذجاً يُحتذى به في دراسة مصنفات العلل الأخرى، والله الموفق لا رب سواه.
(1/219)
==================


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
الباب الثالث
ألفاظ التعليل ومدلولاتها عند الإمام الدارقطني
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الألفاظ الدالة على ضعف الخبر أو عدم ثبوته.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ألفاظ التضعيف ومدلولاتها عند الإمام الدارقطني.
المبحث الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان ومدلولاتهما عند الإمام الدارقطني.
الفصل الثاني: الألفاظ الدالة على الخطأ والوهم والاختلاف.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ألفاظ الخطأ والوهم ومدلولهما عند الإمام الدارقطني.
المبحث الثاني: ألفاظ المخالفة والنَّكارة ومدلولهما عند المحدثين والإمام الدارقطني.
الفصل الثالث: الألفاظ الدالة على الغرابة والتفرد والترجيح.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الغرابة والتفرد ومدلولهما عند النُّقاد والإمام الدارقطني.
المبحث الثاني: ألفاظ الترجيح ومدلولاتها عند النُّقاد والإمام الدارقطني.
(1/221)
الفصل الأول
الألفاظ الدالة على ضعف الخبر أو عدم ثبوته
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ألفاظ التضعيف ومدلولاتها عند الإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الضعف لغةً واصطلاحًا.
المطلب الثاني: أهمية كتابة الحديث الضعيف عند النقاد.
المطلب الثالث: ألفاظ التضعيف عند الدارقطني في العلل.
المبحث الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان ومدلولاتهما عند الإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الوضع والبطلان لغةً واصطلاحًا.
المطلب الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان عند الإمام الدارقطني.
(1/223)
الفصل الأول
الألفاظ الدالة على ضعف الخبر أو عدم ثبوته
سنتعرض في هذا الفصل للألفاظ التي تدل على ضعف الرواية أو الخبر عند الإمام الدارقطني، ولقد تنوعت ألفاظ التضعيف للأحاديث المعلولة التي كان يطلقها الدارقطني
ليشير إلى درجة ضعفها ولأنها ليست في درجة واحدة من الضعف، وإنَّما هي متفاوتة فمثلاً قوله: " حديث ضعيف غير ثابت "، بخلاف قوله: " فلان ليس بقوي "، بخلاف قوله: " حديث باطل أو موضوع "، فإنَّ بينهما فرق واضح فيما يقصده الدارقطني، ولذا سوف نسوق اللفظ ثم نمثل له كي يفهم مراده ومعناه عند الدارقطني.
المبحث الأول: ألفاظ التضعيف ومدلولاتها عند الإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الضعف لغةً واصطلاحاً.
الضعف لغةً:
والضعف في اللغة ضد القوة وهو الفُتُور، قال ابن منظور في لسان العرب: " (ضعف) الضَّعْفُ والضُّعْفُ خِلافُ القُوّةِ وقيل الضُّعْفُ بالضم في الجسد والضَّعف بالفتح في الرَّاي والعَقْلِ، وقيل: هما معاً جائزان في كل وجه، وخصّ الأَزهريُّ بذلك أَهل البصرة فقال: هما عند أَهل البصرة سِيَانِ يُسْتعملان معاً في ضعف البدن وضعف الرَّاي، وفي التنزيل: {الله الذي خَلَقَكم من ضُعفٍ ثم جَعَل من بعد ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفاً} (1)، وقوله تعالى: {وخُلِق الإنسانُ ضَعِيفاً} (2)،أَي يَسْتَمِيلُه هَواه
والضَّعَفُ لغة في الضَّعْفِ عن ابن الأَعرابي وأَنشد:
ومَنْ يَلْقَ خَيراً يَغْمِزِ الدَّهْر عَظْمَه ... على ضَعَفٍ من حالهِ وفُتُورِ " (3).
_________
(1) سورة الروم، آية رقم (54).
(2) سورة النساء، آية رقم (28).
(3) ابن منظور: لسان العرب (ج9/ص203) مادة (ضعف).
(1/225)
الضعيف في الاصطلاح:
والضعيف في الاصطلاح: هو كل حديث لم تجتمع فيه شروط الصحة المعروفة لدى أهل الحديث، قال السيوطي: "وهو ما لم يجمع صفة الصحيح أو الحسن جمعهما تبعاً لابن الصلاح، وإن قيل إن الاقتصار على الثاني أولى لأنَّ ما لم يجمع صفة الحسن فهو عن صفات الصحيح أبعد " (1).
ولاشك أنَّ الضعف مراتب كما أشرنا من قبل، وذلك تبعاً للأسباب التي أدت إلى ضعفه، فمن الضعيف ضعف يسير محتمل، وهو ما لم يترجح فيه جانب الرد، ولا جانب القبول فإذا كانت مرتبة الحديث كذلك، فهو يعتبر به؛ لأنَّه يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، ومن هنا يُعلم سر كتابة أهل العلم والنقاد للأحاديث الضعيفة في مصنفاتهم للاعتبار بها، فربَّ حديث حَكَمَ عليه النُّقاد بالضعف لتفرد سيِّء الحفظ به مثلاً، ولم يكن له شاهد أو متابع يقويه، أو قرينة تدل على أنه ثابت، ثم ظهر له شاهد أو متابع أو قرينة فارتفع من احتمال الضعف إلى الحسن أو الصحة.
ومن الضعيف ما ترجح فيه جانب الرد على جانب القبول، كحديث المتروك والضعيف الذي ثبت خطؤه في الحديث، والأحاديث الموضوعة والمكذوبة، وما شابه ذلك، وهذا النوع لا يعتبر به، ولا يصلح كشاهد أو متابع أو قرينة، وخلاصة الأمر أنَّ الضعيف في مفهومه مغاير للمعلول، فلماذا حَكَمَ النُّقادُ المتقدمون على بعض الأحاديث بالضعف في مصنفات العلل؟، وللإجابة على هذا السؤال سوف نوضح العلاقة بين مفهوم الحديث الضعيف، ومفهوم الحديث المعلول.
_________
(1) السيوطي: تدريب الراوي (ج1/ 179).
(1/226)
علاقة الحديث الضعيف بالحديث المعلول:
والجدير بالذكر أنَّ هناك علاقة بين الضعيف والمعلول، وقد سبق بيان مفهوم الحديث المعلول من قبل في التمهيد، وتم الإشارة إلى مفهوم الضعيف ضعفاً محتملاً وغيره، فالضعيف إما أن يكون:
1 - ضعيفاً ضعفاً محتملاً، قد يجبر بمتابعة أو شاهد أو قرينة أخرى.
2 - ضعيفاً ضعفاً راجحاً، وقد ثبت بطلانه، فلا يُعتبر به ولا يصلح كقرينة.
وفي المقابل مفهوم المعلول وهو ما ثبت بالقطع خطأ الراوي فيه، فلا يصلح أن يكون قرينة يتقوي بها حديث آخر، ومن هنا يعلم وجه التغاير بين المفهومين، لكن بين الضعيف والمعلول خيط يربطُهما ببعض، وهو أنَّ الحديث المعلول يعد من أنواع الضعيف الذي رجح فيه جانب الرد على جانب القبول، ولذا يمكن القول أنَّ بينهما عموم وخصوص، فكلُّ حديث معلول ضعيف وليس العكس.
فإنَّ الضعيف قد يكون محتمل الخطأ ومحتمل الصواب، بخلاف المعلول فهو ما ثبت خطأ الراوي فيه، وكلام النقاد يدل على ما ذهبنا إليه، فهذا صنيع شعبة بن الحجاج في حديث الشُّفعة قال ابن عدي في ترجمة عبدالملك بن أبي سليمان العَرْزمي: " أخبرنا الساجي ومحمد بن أحمد بن الحسين، ثنا عبدالله بن سعيد ثنا، وكيع ثنا شعبة، عن عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر - رضي الله عنه - أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ يُنْتَظَرُ وَإِنْ كَانَ غَائِبَاً إِذا كَانَ طَرِيقَهُمَا وَاحِداً)) (1).
_________
(1) أخرجه البيهقي: في السنن الكبرى (ج6/ص106)، وأصل الضعف في حديث جابر المذكور تفرد عبدالملك بن أبي سليمان العَرْزمي بهذا اللفظ ومخالفته للثقات، ولهذا قال البيهقي: " قال الشافعي في هذا الحديث: سمعنا بعض أهل العلم بالحديث يقول: نخاف أن لا يكون هذا الحديث محفوظاً، قيل له ومن أين قلت؟، قال إنَّما رواه عن جابر بن عبدالله، وقد روى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن جابر مفسراً: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشُفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شُفعة))، وأبو سلمة من الحفاظ، وروى أبو الزبير وهو من الحفاظ عن جابر ما يوافق قول أبى سلمة، ويخالف ما روى عبدالملك بن أبى سليمان.
(1/227)
وحديث الشُّفعة الذي أُنكر على عبدالملك هو هذا الحديث، وزاد الساجي، قال وكيع: قال لنا شعبة: " لو كان شيئاً يُقويه؟! ".
وقال أمية بن خالد: قلتُ لشعبة إنَّك تحدث عن محمد بن عبيدالله العَرْزمي وتدع عبدالملك بن أبي سليمان العَرْزمي وهو حسن الحديث، قال: من حسنها فَرَرْتُ " (1).
قلتُ: وواضح من كلام الإمام شعبة بن الحجاج أنَّهُ لم يجد لحديث الشفعة متابعاً لعبدالملك بن أبي سليمان العَرْزمي أو شاهداً يقويه، فدل على أنَّ النُّقاد المتقدمين كانوا يعتبرون بالضعيف؛ لأنَّه محتمل أن يكون صحيحاً إذا كان له ما يقويه من وجهٍ آخر.
وقال العلامة المعلمي في التنكيل: " أنَّ أئمة الحديث قد يتبين لهم في حديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنَّه ضعيف، وفي حديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنَّه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم، وأولى من ذلك إذا كان الراوي وسطاً كالنهشلي وابن أبي الزناد " (2).
المطلب الثاني: أهمية كتابة الحديث الضعيف.
ولقد قام جهابذة هذا الفن بكتابة الحديث الضعيف لأسباب غاية في الأهمية، وقد أجمل أهل العلم في مصنفاتهم هذه الأسباب، وذكروا لنا طريقتهم في ذلك.
وما أجمل ما ذكره ابن حبان البستي في المجروحين: ورأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين في زاوية بصنعاء، وهو يكتب صحيفة معمر، عن أبان، عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه.
فقال أحمد بن حنبل له: تكتب صحيفة معمر، عن أبان، عن أنس، وتعلم أنها موضوعة؟!، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في " أبان"، ثم تكتب حديثه على الوجه؟!
_________
(1) ابن عدي: الكامل في الضعفاء (ج5/ص302).
(2) عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (ت: 1386هـ): التنكيل طبعة المكتب الإسلامي، بيروت (دت)، تحقيق: العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله، (ج2/ص36).
(1/228)
قال: رحمك الله يا أبا عبدالله أكتب هذه الصحيفة عن عبدالرزاق، عن معمر، عن أبان عن أنس، وأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجيء إنسان، فيجعل بدل: " أبان": " ثابتاً "، ويرويها عن معمر، عن ثابت، عن أنس، فأقول له: كذبت، إنَّما هي: " أبان " لا " ثابت" (1).
وقال ابن عبدالبر في جامع بيان العلم: " قال سفيان الثوري: إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه، حديث أكتبه أريد أن أتخذه ديناً، وحديث رجل أكتبه فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به. وقال الأوزاعي: تعلم ما لا يؤخذ به كما تتعلم ما يؤخذ به " (2).
وقال النووي في شرح مسلم: " فقد يقال لِمَ حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم؟!، ويجاب عنه بأجوبة:
أحدها: أنهم رووها؛ ليعرفوها، وليبينوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم، أو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها.
الثاني: أنَّ الضعيف يُكتب حديثه ليعتبر به، أو يستشهد به كما قدمناه في فصل المتابعات ولا يحتج به على انفراده.
الثالث: أنَّ روايات الراوي الضعيف يكون فيها: الصحيح والضعيف والباطل فيكتبونها، ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض وذلك سهل عليهم معروف عندهم وبهذا احتج سفيان الثوري رحمه الله حين نهى عن الرواية عن الكلبي، فقيل له: أنت تروي عنه؟!، فقال: أنا أَعْلمُ صدقه من كذبه.
_________
(1) ابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد أبى حاتم البُستي (354هـ)، المجروحين طبعة دار المعرفة، بيروت، تحقيق محمود ابراهيم زايد، (ج1/ص31 - 32).
(2) ابن عبدالبر: يوسف بن عبدالله بن عبد البر القرطبي (ت:463هـ)، جامع بيان العلم وفضله طبعة دار الكتب العلمية، بيروت 2000م، تحقيق: مسعد عبدالحميد السعدني، (ص76).
(1/229)
الرابع: أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال والقصص، وأحاديث الزهد ومكارم الأخلاق، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام، وسائر الأحكام وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه، ورواية ما سوى الموضوع منه والعمل به.
لأنَّ أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله، وعلى كل حال فإنَّ الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئاً يحتجون به على انفراده في الأحكام، فإنَّ هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء.
وأمَّا فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك، واعتمادهم عليه فليس بصواب بل قبيح جداً وذلك لأنَّه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به، فإنهم متفقون على أنَّه لا يحتج بالضعيف في الأحكام، وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يحجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفاً، أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفاً، والله أعلم " (1).
وليس الإمام الدارقطني إلا واحداً من هؤلاء النقاد فنجده يروي عن الضعفاء في كتابه السنن والعلل وغيرها ويعتبر بها، وهذه قاعدة عامة عنده، وله أحكام خاصة ببعض الرواة الضعفاء لا يحتج بهم، وسوف نضرب بعض الأمثلة التي تبين منهجه في ذلك:
1 - مثل قوله في عمرو بن دينار: "وهو ضعيف الحديث لا يحتج به " (2).
2 - وقوله في سعيد بن عبدالملك بن واقد الحراني:"وسعيد هذا ضعيف لا يحتج به" (3).
_________
(1) النووي: شرح النووي على صحيح مسلم، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الثانية سنة 1992م، (ج1/ص126).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص50) سؤال رقم (101).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص237) سؤال رقم (241).
(1/230)
3 - وكذلك قوله في: " أيوب بن جابر من أهل اليمامة ضعيف لا يحتج به " (1).
4 - وكذلك قوله في حجاج بن أرطاة: " وحجاج لا يحتج به " (2).
5 - وكذلك قوله في عبدالله بن لهيعة: " وابن لهيعة لا يحتج به " (3).
كما أنَّ له أحكاماً لبعض الرواة عن بعض أنها لا يثبت فيها شيء، نذكر منها:
1 - حكمه في ترجمة الحسن البصري: " الحسن عن أبي هريرة، قال: ليس فيها شيء ثابت " (4).
2 - حكمه في ترجمة عاصم بن أبي النجود عن عطية عن أبي سعيد: " ولا يصح لعاصم عن عطية شيء " (5).
3 - حكمه في ترجمة محمد بن المنكدر عن أبي برزة: " ولا يثبت لابن المنكدر سماع من أبي برزة " (6).
4 - حكمه في ترجمة أبو رافع عن ابن مسعود: " وأبو رافع (7) لا يثبت سماعه من ابن مسعود " (8).
_________
(1) المصدر السابق: (ج5/ص160) سؤال رقم (792).
(2) المصدر السابق: (ج5/ص347) سؤال رقم (940).
(3) المصدر السابق: أيضاً (ج5/ص347) سؤال رقم (940).
(4) المصدر السابق: (ج11/ص223) سؤال رقم (2243)، وقال الترمذي: في السنن (ج5/ص61)، حديث رقم (2703): " قال أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعلي بن زيد إن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ".
(5) المصدر السابق: (ج11/ص293) سؤال رقم (2290).
(6) المصدر السابق: (ج6/ص308) سؤال رقم (1159).
(7) وهو نفيع، أبي رافع الصائغ المدني، مولى ابنة عمر بن الخطاب مشهور بكنيته (ت:؟)، ثقة ثبت من الطبقة الثانية كبار التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج10/ص 420).
(8) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص346) سؤال رقم (940).
(1/231)
المطلب الثالث: ألفاظ التضعيف عند الدارقطني في العلل.
لا شك أنَّ النقاد المحدثين كان لهم ألفاظ يستعملونها في الإفصاح عن الضعف الموجود في الرواية، وأنهم كانوا يقصدون به معنىً ما، والجدير بالذكر أنَّ كل إمام كان له ما يخصه من الألفاظ إلا أنهم لا يختلفون في المقصود من مرتبة الضعف المشار إليها في اللفظ.
وقد أطلق الإمام الدارقطني بعض الألفاظ التي تدل على الضعف، نأخذ نماذج منها:
أولاً: لفظة: " ضعيف ".
استخدم الإمام الدارقطني هذه اللفظة في الحكم على بعض الأحاديث نذكر منها مثالاً:
المثال: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث مالك بن يخامر، عن معاذ - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَا عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا عَظُمَتْ مَؤُنَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ تِلْكَ الْمَؤُنَةَ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ)) (1)
فقال - الدارقطني -: يرويه ثور بن يزيد واختلف عنه: فرواه محمد بن علاثة (2)، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن مالك بن يخامر، عن معاذ. ورواه أحمد بن معدان العبدي، عن ثور، عن خالد، عن معاذ. لم يذكر فيه مالكا، وهو حديث ضعيف غير ثابت " (3).
قلتُ: والعلة المشار إليها في الحديث أنَّ محمد بن عبدالله بن علاثة أخطأ في إسناد الحديث فأدخل مالك بن يخامر بين خالد بن معدان، ومعاذ، وحجة الدارقطني هي مخالفة أحمد بن معدان العبدي له، فقد ساقه بدون ذكر مالك بن يخامر، فظهر الانقطاع الذي بين خالد بن معدان، ومعاذ بن جبل رضي الله عنه وبينهما مفاوز، وقول الدارقطني هنا ضعيف يعني أنَّ
_________
(1) أخرجه البيهقي: في شعب الإيمان طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1410 هـ، تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول، (ج6/ص118) برقم (7664).
(2) هو محمد بن عبدالله بن علاثة العقيلي الجزري، أبو اليسير الحراني القاضي (ت: 168 هـ)، صدوق يخطئ، قال البخاري: فيه نظر، ووثقه ابن معين وغيره، وقال الدارقطني: متروك، ... وقال ابن عدى: أرجو أنه لا بأس به، ميزان الاعتدال (ج3/ص 594).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ص50) سؤال رقم (969).
(1/232)
الحديث من جميع الوجوه ضعيف لا يثبت (1)، والله أعلم
ثانياً: لفظة: " وهذا إسناد غير ثابت ".
استخدم الدارقطني هذا اللفظ في الحكم على الحديث لما سئل عن حديث أبي كبشة الأنْمَاري، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَي مُتَعَمِّدَاً ...)) (2)، فذكر الخلاف ثم ساق الحديث بإسناده فقال:
حدثنا علي بن مبشر، قال حدثنا إسحاق بن أحمد القاص، قال حدثنا يونس بن عطاء قال ثنا أبو معمر الأصغر، عن أبي معمر الأكبر، عن أبي بكر الصديق عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذا إسناد غير ثابت " (3).
والضعف المشار إليه أنَّ هذا المتن صحيح، ولكنه لم يثبت له إسناد صحيح من مسند أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وفرق كبير بين لفظة "حديث ضعيف لا يثبت "، وبين لفظة " إسناد غير ثابت "؛ لأنَّ الأول يدل على ضعف السند والمتن، والثاني يخص الإسناد بعينه دون المتن، لثبوت المتن من أسانيد صحيحة متواترة عن على وأبي هريرة وغيرهما رضى الله عنهم، وقد أخرجه الستة في مصنفاتهم.
ثالثاً: لفظة: " وهذا إسناد مقلوب ".
مثاله: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث شقيق عن عبدالله - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا والاَهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ)) (4).
_________
(1) أخرج الشاهد الطبراني في المعجم الأوسط، (ج5/ص228)، برقم (5162) من طريق عبدالله ابن زيد الحمصي قال: حدثنا الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر به. بإسناد ضعيف.
(2) أخرجه البزار: في مسنده (البحر الزَّخار)، (ج1/ص98)، برقم (67)، بسند ضعيف.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج1/ص 246) سؤال رقم (44).
(4) أخرجه الترمذي على الوجه الصحيح: في السنن، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، (ج4/ص 561)، برقم (2322)، وابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، (ج2/ص 1377)، برقم (4112)، كلاهما من طريق عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان قال: سمعت عطاء بن قرة قال: سمعت عبدالله بن ضمرة، قال: سمعت أبا هريرة به، قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب "، وهو حديث حسن.
(1/233)
فقال - الدارقطني -: يرويه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان واختلف عنه: فرواه أبو المطرف مغيرة بن مطرف، عن ابن ثوبان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق، عن عبدالله. وهذا إسناد مقلوب وإنَّما رواه ابن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبدالله بن ضمرة، عن أبي هريرة. وهو الصحيح " (1).
قلتُ: والعلة المشار إليها في الحديث أنَّ أبا المطرف مغيرة بن مطرف أخطأ فقلب إسناد الحديث عن عبدالرحمن بن ثوبان فجعله من مسند عبدالله بن مسعود بقوله: " عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق، عن عبدالله "، والصحيح أنَّه من مسند أبي هريرة رضي الله عنه.
رابعاً: لفظة: " ليس بقوي ".
ومثاله قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث نافع، عن ابن عمر عن عمر - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّينِ))، فساق الدارقطني الخلاف فيه ثم قال: " ورواه خالد بن أبي بكر بن عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... عن سالم، عن أبيه، عن عمر. وأغرب فيه بألفاظ لم يأت بها غيره، ذكر فيه المسح وقال فيه: على ظهر الْخُفِّ، وذكر في التوقيت ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم، وخالد بن أبي بكر العمري (2) هذا ليس بقوي " (3).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص89) سؤال رقم (735).
(2) هو خالد بن أبى بكر بن عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي المدني (ت: 162 هـ)، فيه لين، من الطبقة السابعة كبار أتباع التابعين، أخرج له الترمذي، قال البخارى: له مناكير، تقريب التهذيب (ج1/ص 255)، الذهبي: ميزان الاعتدال (ج1/ص 628).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص22) سؤال رقم (92).
(1/234)
خامساً: لفظة: " مجهول ".
ومثاله: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي أمامة الباهلي عن عمر - رضي الله عنه - أنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: ((مَنْ لَبِسَ ثَوْباً، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي)) (1) الحديث.
فقال - الدارقطني -: حدث به ياسين الزيات، عن عبيدالله بن زحر، عن القاسم عن أبي أمامة، عن عمر وعبيدالله بن زحر، إنَّما يروي عن علي بن يزيد، عن القاسم ولم يذكره ياسين في الإسناد.
ورواه أبو السائب عن وكيع، عن مسعر، عن عبيدالله بن زحر ولم يتابع عليه، وغيره يرويه عن وكيع عن خلاد الصفار، عن عبيدالله بن زحر وهو الصواب.
وروى هذا الحديث أصبغ بن زيد عن أبي العلاء عن أبي أمامة، وأبو العلاء هذا مجهول وعبيدالله بن زحر ضعيف والحديث غير ثابت " (2).
سادساً: لفظة: " لا يصح أو لا يثبت ".
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث حدَّثَ به محمد بن عبدالواحد، ثنا أبو بكر محمد بن السري التَّمار، ثنا عباس الدوري، ثنا أبو داود الحفري، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن مصعب بن سعد، عن سعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَي مُتَعمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).
_________
(1) أخرجه الترمذي على الوجه الضعيف: في السنن، كتاب الدعوات، بَاب فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، (ج5/ص558)، برقم (3560)، وابن ماجه في السنن، كتاب اللباس، باب ما يقول الرجل إذا لبس ثوبا جديداً، (ج2/ص 1178)، برقم (3557)، كلاهما من طريق يزيد بن هارون قال: حدثنا أصبغ بن زيد، حدثنا أبو العلاء، عن أبي أمامة، بسند ضعيف معلول.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص22) سؤال رقم (160).
(1/235)
فقال - الدارقطني -: هذا لا يصح عن مصعب بن سعد، ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن الثوري، ولعل هذا الشيخ دخل عليه حديث في حديث " (1).
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى مَسْجِدٍ أَوْ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ إِلَى بَعِيرٍ فِإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الأوزاعي واختلف عنه: فرواه رواد بن الجراح، عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقيل عن رواد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أيوب بن موسى ولا يصح عن الزهري، وقال بقية عن الأوزاعي، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة موقوفا. والحديث لا يثبت " (3).
قلتُ: وكل هذه الألفاظ التي سبقت تدل على ضعف الحديث عند الدارقطني، ولا أدعي أنني قد أستوعبت جميع الألفاظ التي تدل على الضعف عند الدارقطني في كتابه العلل وإنَّما هي غالب الألفاظ التي استعملها في تضعيفه للأحاديث، والله أعلم.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج4/ص331) سؤال رقم (603).
(2) أخرجه أبو داود على الوجه الضعيف: في السنن، كتاب الصلاة، باب الخط إذا لم يجد عصا (ج1/ص 240)، برقم (689)، وابن ماجه في السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، بَاب ما يستر المصلي، (ج1/ص 303)، برقم (943)، كلاهما من طريق أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث، عن جده حريث بن سليم، عن أبي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا ثُمَّ لا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ))، بإسنادٍ ضعيف لجهالة أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث وجده.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص50) سؤال رقم (1410).
(1/236)
المبحث الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان ومدلولاتهما عند الإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الوضع والبطلان لغة واصطلاحاً.
أولاً: تعريف الوضع لغةً:
وهو ما وضع باليد، أوكان بمعنى ضد الرفع، قال ابن منظور في لسان العرب: " ... (وضع) الوَضْعُ ضدُّ الرفع وضَعَه يَضَعُه وَضْعاً ومَوْضُوعاً ... ، والمواضِعُ معروفة واحدها مَوْضِعٌ واسم المكان المَوْضِعُ والموضَعُ بالفتح الأَخير نادر ... ، والموضَعةُ لغة في الموْضِعِ حكاه اللحياني عن العرب قال يقال: ارْزُنْ في مَوضِعِكَ ومَوْضَعَتِكَ، والوَضْعُ مصدر قولك وَضَعْتُ الشيء من يدي وَضْعاً وموضوعاً، وهو مثل المَعْقُولِ ومَوْضَعاً وإِنه لحَسَنُ الوِضْعةِ أَي الوَضْعِ، والوَضْعُ أَيضاً الموضوعُ " (1).
ثانياً: تعريف الموضوع في الاصطلاح:
وهو ما يغلب على الظن أو يجزم أنَّه حديث كذب مختلق، قال السيوطي: " الموضوع هو الكذب المختلق المصنوع، وهو شر الضعيف وأقبحه، وتحرم روايته مع العلم به أي بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها، إلا مبينا أي مقروناً ببيان وضعه لحديث مسلم: ((مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ)) (2)، ويعرف الوضع للحديث بإقرار واضعه أنه وضعه " (3).
وقال الإمام مسلم عن هذا النوع من الأخبار: " إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أنَّ
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج8/ص396)، مادة (وضع).
(2) أخرجه مسلم: في الصحيح (مع شرح النووي)، المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات ترك الكذابين والتحذير من الكذب على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، (ج1/ص95).
(3) السيوطي: تدريب الراوي (ج1/ص274).
(1/237)
الأخبار الصحاح من رواية الثقات، وأهل الْقَنَاعَةِ أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع.
ولا أحسب كثيراَ ممن يعرج من النَّاس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضِعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف، إلا أنَّ الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه. وكان بأن يسمى جاهلاً أولى من أن ينسب إلى علمٍ" (1).
ثالثاً: تعريف البطلان لغةً:
وهو كل شيء فيه خُسران، نقيض الحق، ويعني الكذب والافتراء كذلك، قال ابن منظور في لسان العرب: " (بطل) بَطَل الشيءُ يَبْطُل بُطْلاً وبُطُولاً، وبُطْلاناً ذهب ضيَاعاً وخُسْراً فهو باطل وأَبْطَله هو، ويقال ذهب دَمُه بُطْلاً أَي هَدَراً، وبَطِل في حديثه بَطَالة وأَبطل هَزَل، والاسم البَطل والباطل نقيض الحق والجمع أَباطيل على غير قياس كأَنه جمع إِبْطال أَو إِبْطِيل هذا مذهب سيبويه.
وفي التهذيب: ويجمع الباطل بواطل، قال أَبو حاتم: واحدة الأَباطيل أُبْطُولة، وقال ابن دريد: واحدتها إِبْطالة ودَعْوى باطِلٌ وبَاطِلة عن الزجاج وأَبْطَل جاء بالباطل والبَطَلة السَّحَرة ماخوذ منه، وقد جاء في الحديث ((ولاَ تَسْتَطِيعُهُ البَطَلة)) قيل هم السَّحَرة، ورجل بَطَّال ذو باطل، وقَوْلٌ باطِل بَيِّن البُطُول، وتَبَطَّلوا بينهم تداولوا الباطل، عن اللحياني والتَّبَطُّل فعل البَطَالة وهو اتباع اللهو والجَهالة، وقالوا: بينهم أُبْطُولة يَتَبَطَّلون بها أَي يقولونها ويتداولونها، وأَبْطَلت الشيءَ جعلته باطلاً وأَبْطل فلان جاء بكذب وادَّعى باطلاً، وقوله تعالى: {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (2)، قال: الباطل هنا إِبليس أَراد ذا الباطل أَو صاحب الباطل
_________
(1) الإمام مسلم: صحيح مسلم (مع شرح النووي)، المقدمة (ج1/ص132 - 133).
(2) سورة سَبأ آية رقم (49).
(1/238)
وهو إِبليس " (1). وبهذا يدور معنى الباطل في اللغة حول الفساد، والسقوط، والخسران، أو المخالفة للحق.
رابعاً: تعريف الباطل في الاصطلاح:
لم أجد تعريفاً في كتب المصطلح يعرف البطلان، ولكن قد أطلقه جمع من النقاد المحدثين في مصنفاتهم للدلالة على الخبر المكذوب، أو ما لا أصل له أو موضوع، وقد يقصدون به كل حديث ساقط لا أصل له، أو أنَّه مغاير لحقيقة الصحة، كاختلاف الألفاظ التي تغير المعنى، وغيرها من العلل التي تطرأ على الحديث فتجعله نقيض الحق، فهو أقرب للمعنى اللغوي للبطلان فهو الخبر الساقط، المخالف للحق والصحة، والله أعلم.
المطلب الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان عند الإمام الدارقطني.
وقد أطلق الإمام الدارقطني بعض الألفاظ التي تدل على الوضع والبطلان وهي قليلة، نذكر نماذج منها:
أولاً: لفظة: " كان يضع أو يكذب ".
أطلق الإمام الدارقطني هذا اللفظ على حديث واحد لما سُئل عن حديث أبي رافع عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((في الوضوء بالنبيذ)) (2)، فقال: "والراوي له متروك الحديث وهو الحسين بن عبيدالله العجلي عن أبي معاوية كان يضع الحديث على الثقات، وهذا كذب على أبي معاوية وعلى الأعمش " (3).
ثانياً: لفظة: " قال ما لم يقله أحد من أهل العلم ".
وقد أطلق الإمام الدارقطني هذه اللفظة على حديث واحد لما سُئل عن حديث أنس،
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج11/ص56)، مادة (بطل).
(2) سبق تخريجه: صفحة 204 من هذه الدراسة.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص 346) سؤال رقم (940).
(1/239)
عن عمر - رضي الله عنه -: ((أنَّه سَألَ عَنْ قَولِهِ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةً وَأَبَّا} (1)، فَمَا الأبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللهِ التَّكَلّف، فَخُذُوا أَيْهُا النَّاسُ بِمَا تَبَيَّنَ لَكُمْ فِيهِ فَمَا عَرَفْتُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَعْرِفُوا فَكِلُوا عِلْمَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى))، فقال - الدارقطني -: " من روى هذا الحديث فكِلوه إلى خالقه فقد وهم وقال ما لم يقله أحد من أهل العلم بالحديث فإنه لا يعرف فيه إلا قوله فكِلوه إلى عالمه أي كِلُوا عِلْمَهُ إلى الله عز وجل أو فدعوه " (2).
ثالثاً: لفظة: " ليس هذا بشيء ".
وقد ذكر الإمام الدارقطني هذه اللفظة في حديث واحد لما سُئل عن حديث أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى تَكَونَ خُصُومَتُهُم فَي رَبِّهِمْ)) (3).
فقال - الدارقطني -: "يرويه أبو قلابة (4)، عن حسين بن حفص، عن الثوري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، ووهم فيه، وإنَّما روي عن الثوري هذا الحديث من حديث منذر الثوري عن محمد ابن الحنفية من قوله غير مرفوع.
ثنا محمد بن محمود بن محمد بواسط، ثنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد، ثنا حسين بن حفص، ثنا سفيان الثوري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى تَكَونَ خُصُومَتُهُم فَي رَبِّهِمْ))، قال أبو قلابة: فذكرت ذلك لعلي بن المديني فقال: ليس هذا بشئ، إنَّما الحديث حديث ابن الحنفية: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى تَكَونَ خُصُومَتُهُم فَي رَبِّهِمْ)) " (5).
_________
(1) سورة عَبَسَ آية رقم (31).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص 120)، سؤال رقم (153).
(3) لم يخرجه إلا الدارقطني: في العلل (ج10/ص167)، سؤال رقم (1959)، وقد فتشت عنه طويلاً فلم أجده.
(4) هو عبدالملك بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالملك الرَّقاشي، أبو قلابة البصري (ت: 276 هـ)، صدوق يخطىء تغير حفظه لما سكن بغداد، من الطبقة الحادية عشر، أوساط الآخذين عن تبع الأتباع، أخرج له ابن ماجه، تقريب التهذيب (ج1/ص 619).
(5) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص167)، سؤال رقم (1959).
(1/240)
رابعاً: لفظة: " وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد ".
وقد ذكر الإمام الدارقطني هذه اللفظة في حديث واحد لما سُئل عن حديث يزيد بن شُريكٍ، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَى قَسِيمِ النَّارِ يَدْخُلُ أَوْلِيَاؤُهُ الْجَنَّةَ، وَأَعْدَاؤُهُ النَّارَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: " حَدَّثنا الشّافِعِيُّ أَبُو بَكرٍ (2)، قال: حَدَّثنا مُحَمد بن عُمَر القَبَلِيُّ، قال: حَدَّثنا مُحَمد بن عُمَر القَبَلِيُّ، قال: حَدَّثنا مُحَمد بن هاشِمٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثنا عُبَيدالله ذَلِك، قال الشَّيخُ: وهَذا الحَدِيثُ باطِلٌ بِهَذا الإِسنادِ، ومِن دُونِ عُبَيدِالله ضُعَفاءٌ، القَبَلِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وإِنَّما رَوَى هَذا الحَدِيث الأَعمَشُ، عَن مُوسَى بنِ طَرِيفٍ عَن عَبايَة، عَن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - " (3).
قلتُ: والعلة التي في هذا الحديث أنَّه اجتمع فيه ضعيفان محمد بن هاشم الثقفي ... ومحمد بن عمر القبلي، بخلاف نكارة المتن لذا حكم عليه الدارقطني بالبطلان، وقوله: " بهذا الإسناد " حكمٌ دقيق، فهناك فرق بين الحكم على الإسناد أو المتن، والحكم على الحديث ككل، فإنَّ الحكم على الإسناد يخص الإسناد فقط، وقد يثبت المتن بإسناد آخر صحيح، وأما الحكم على الحديث بالبطلان يخص الإسناد والمتن معاً.
خامساً: لفظة: " هذا باطل عن فلان ".
وقد ذكر الإمام الدارقطني هذه اللفظة في حديث واحد لما سُئل عن أحاديث رويت عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين منها: حديث يرويه جرير بن أيوب البجلي، عن
_________
(1) لم يخرجه إلا الدارقطني: في العلل (ج6/ص273)، سؤال رقم (1132)، وقد فتشت عنه طويلاً فلم أجده.
(2) هو محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد ربه (ت354هـ)، محدث، ثقة، من أهل جبل (قرب واسط)، وقام برحلة طويلة في طلب الحديث انتهت باستقراره ووفاته في بغداد، وله مُصنّفات جليلة الأعلام للزركلي (ج6/ص 224)، قلت: وقد اشتبه اسمه مع الإمام محمد بن إدريس الشافعي على بعض المحققين، وأمره واضح؛ لأنَّ الدارقطني لم يدرك الإمام الشافعي أصلاً.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ص273)، سؤال رقم (1132).
(1/241)
أبي زرعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إِذَا أَدْخَلَ أَحُدُكُمْ قَدَمَيْهِ طَاهِرَتَينِ فَلْيَمْسَحْ، لِلمُقِيمِ يَوماً وَلِلمُسَافِرِ ثَلاَثاً)) (1).
فقال - الدارقطني-: هذا باطل عن أبي هريرة، وقد قال أبو نعيم: كان جرير يضع الحديث " (2).
قلتُ: والعلة التي في هذا الحديث من جرير بن أيوب البجلى قال الذهبي: " الكوفي مشهور بالضعف، روى عباس عن يحيى - يعني ابن معين -: " ليس بشيء ".
وروى عبدالله بن الدورقى، عن يحيى: " ليس بذاك ". وقال أبو نعيم: " كان يضع الحديث ". قال البخاري: " منكر الحديث ". وقال النسائي: " متروك " (3).
سادساً: لفظة: " وكلها باطلة ".
وقد ذكر الإمام الدارقطني هذه اللفظة في حديثٍ واحدٍ لما سُئل عن حديث يرويه أبان ابن عبدالله البجلي وكان ضعيفاً، عن مولى لأبي هريرة - رضي الله عنه - في المسح على الخفين مرفوعاً فقال: " وأبان ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في المسح " (4).
ويتضح مما سبق:
- أنَّ الإمام الدارقطني كان يستعمل ألفاظاً للدلالة على ضعف الحديث وهي:
1 - لفظة: " ضعيف ".
2 - لفظة: " وهذا إسناد غير ثابت ".
_________
(1) سبق تخريجه: صفحة رقم (208) من هذه الدراسة.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص275)، سؤال رقم (1563).
(3) الذهبي: ميزان الاعتدال (ج1/ص391).
(4) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص276)، سؤال رقم (1563).
(1/242)
3 - لفظة: " وهذا إسناد مقلوب ".
4 - لفظة: " ليس بقوي ".
5 - لفظة: " مجهول ".
6 - لفظة: " لا يصح أو لا يثبت ".
- وأنَّ الدارقطني وغيره من النقاد المتقدمين كانوا يستخدمون بعض هذه الألفاظ للإشارة إلى علة الضعف في الأحاديث والأخبار.
- وأنَّ الدارقطني كان يذكر الضعف في الحديث ويبين السبب الذي من أجله كان ضعيفاً، ونادراً ما يذكر لفظ الحكم بدون السبب.
- وأنَّ الإمام الدارقطني كان يستعمل ألفاظاً للدلالة على بطلان الأخبار وهي:
1 - لفظة: " كان يضع أو يكذب ".
2 - لفظة: " قال ما لم يقله أحد من أهل العلم ".
3 - لفظة: " ليس هذا بشيء ".
4 - لفظة: " وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد ".
5 - لفظة: " هذا باطل عن فلان ".
6 - لفظة: " وكلها باطلة ".
(1/243)
نستنج أنَّ:
- الأحكام التي ذكرها الدارقطني على الأخبار والأحاديث الضعيفة في العلل أكثر من الأحكام على الأحاديث الباطلة والموضوعة.
- وأنَّ نسبة كلام الدارقطني على الرجال في الأحاديث الضعيفة، والباطلة والموضوعة أكبر من نسبة كلامه في الحكم على الحديث ككل أو الخبر جملة.
- وأنَّ الدارقطني كان يستعمل الألفاظ التي كان النُّقاد المتقدمون يستعملونها للدلالة على ضعف أو بطلان الحديث أو الخبر.  (1/244) 
--------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...