الجمعة، 7 يناير 2022

21- تابع ..ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم

وهي أحاديث تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدراسة في كتبه، وحكم عليها: بالصحة، أو الضعف، أو غير ذلك من أحكام.
وقد حرصت في انتقاء هذه الأحاديث على أن تكون شاملةً لجملة متنوعة من أحكام ابن القَيِّم الحديثية، مع اشتمالها - كذلك - على أكبر قدر ممكن من الكلام على العلل الحديثية المختلفة، وكيفيةِ تعاملِ ابن القَيِّم - رحمه الله - معها.
فيجدُ الناظر في هذه الأحاديث: كلامَ ابن القَيِّم في الحكم على الحديث ابتداء، ويجد كَلامَهُ في تَعَقُّبِ بعض الأحكام الحديثية لآخرين، ويجد - أيضاً - تناول ابن القَيِّم لعلل بعض الأحاديث، وكذا أجوبته عن عللٍ لأحاديث أخرى لا يراها معلولة.
وبذلك تمثل هذه الدراسة لهذه المجموعة من الأحاديث: جملةً من المناقشات العلمية الحديثية التي كان ابنُ القَيِّم طرفاً رئيساً فيها.
الهدف من جمع هذه الأحاديث ودراستها:
وقد قَصَدتُ من وراءِ دراسة هذه الأحاديث:
1- أَنْ يَكون ذلك بِمَثابة تطبيقٍ عَمَلِيٍّ على ما تَقَدَّمَ بيانُه من منهج ابنِ القَيِّم وآرائه في الحديث وعلومه.
(2/76)
2- تُمَثِّلُ هذه الدراسة محاولةً لجمع شتات ما تَفَرَّقَ من أحكام ابن القَيِّم الحديثية في كُتُبه المختلفة، على أَنَّ ذلك يُعَدُّ مرحلةً أولى في سبيلِ إخراج "موسوعة ابن القَيِّم الحديثية" كاملة.
3- تسهيل الوصول إلى البُغْيَةِ من هذه الأحكام بأيسر طريق؛ إذ إِنَّ استخراجَ ذلك من كُتُبِهِ - مع كثرتها، وتنوع مباحثها، وعدم توافر فهارس دقيقة لها - لا يَتِمُّ إلا بعسرٍ ومشقة.
4- كما أن ذلك يتيحُ الفرصةَ لدراسةِ أحكام ابن القَيِّم دراسةً مُقَارَنَةً بأحكامِ غَيْرِهِ من أئمة هذا الشأن وَنُقَّادِهِ، فيُعْرَفُ بذلك مكانه بينهم، ومكانته في هذا الفن.
5- ويمثل ذلك - أيضاً - خدمةً حديثيةً جليلة لعددٍ هائلٍ من كُتُبِ ابن القَيِّم رحمه الله؛ وذلك: بتخريج أَحَادِيثِها، والحكمِ عليها؛ إذ إن كثيراً من كُتُبِ ابن القَيِّم لم تُخْدَمْ من الناحية الحديثية.
6- وأخيراً: فإن هذه المحاولة لجمع ودراسةِ أحكام ابن القَيِّم الحديثية، قد تُسْهِم في إضافة مَرْجَعٍ مُهِمٍّ إلى جملة المراجع في باب الدِّراسة الحديثية النقدية.
منهجي في دراسة هذه الأحاديث:
وقد اتَّبَعْتُ في دراسة هذه الأحاديث الخطوات التالية:
1- رَتَّبْتُ هذه الأحاديث على كتب الفقه وأبوابه المعروفة، تسهيلاً لمراجعتها وحصول البغية منها.
(2/77)
2- لَمْ أَلْتَزِم في ذلك استيعاب كُلِّ أبوابِ الفقه المشهورة، ولكنني - مع ذلك - حرصت على استيعاب أكبر قدر منها.
3- وَقَد رَقَّمْتُ هذه الأحاديث ترقَيِّماً تسلسلياً، وكذا رقمتُ الكتبَ الفقهية، والأبوابَ الواردة تحتَ كُلِّ كتابٍ.
4- أَبْدَأ بذكر متن الحديث المراد دراسته، مقتصراً على ذكر صَحَابِيِّه فقط.
5- وَكثيراً ما يذكرُ ابن القَيِّم طرفاً من الحديث، أو يذكره بمعناه، أو يشير إليه، وقد التزمت في ذلك كُلِّهِ بسياق لفظ الحديث كاملاً من مصادره الأصلية، مع التنبيه على المصدر الذي سقت لفظه.
6- ثم أُتْبِعُ ذلك بنقلِ كلام ابن القَيِّم وحُكْمِهِ على الحديث، فإذا كان كلامه على الحديث طويلاً، فإنني ألخصه، ذاكراً من ذلك النقاط الأساسية في كلامه.
7- ثم انتقلُ إلى تخريج الحديث من دواوين السنة المشهورة، ولم التزم في ذلك باستيعاب المصادِرِ التي خَرَّجَتْ الحديث، وَإِنَّمَا أَكْتَفِي - في الغالب - بأمهات كتب الحديث: من سنن، ومسانيد، ومعاجم وغيرها.
8- في الترجمة لرجال الإسناد: لم أترجم إلا لمن تدعو الحاجة إلى ترجمته، ممن يكون - في الغالب - مُضَعَّفَاً، أو مُخْتَلَفَاً في توثيقه وتضعيفه، وقد أترجم لبعض الثِّقَاتِ من غير المجمع عليهم من باب التعريف بهم.
(2/78)
9- وقد اكتفيتُ في الترجمة لرجال الإسناد: بـ (تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، ولا أخرجُ عنه إلا لضرورة، كأن يكون الرَّجُلُ مختلفاً فيه، فأنقل أقوال الأئمة في ذلك، أو عندما يُخَالَف ابن حجر في حكمه، وكذا عندما لا يكون الرجل من رجال (التقريب) .
10- أعرضُ حكمَ ابن القَيِّم على ما حَكَمَ به أَئِمَّةُ الشأن على الحديث، وأُرَجِّحُ - عند الاختلاف - ما أراه الصواب، وذلك بحسب ما يظهر لي أن الأدلَّة في جانبه، وذلك على ضوء قواعد أهل الفن.
11- قد أسوقُ بعض المتابعات والشواهد لبعض الأحاديث إذا دَعَتْ الحاجة إلى ذلك.
12- ثم أذكر - في نهاية المطاف - خلاصةَ البحث في الحكم على الحديث، موضحاً ما تَرَجَّحَ لديّ من خلال الدراسة.
13- لم أتعرضْ في دراستي هذه لشيءٍ من الأحاديث الْمُخَرَّجَةِ في الصحيحين أو أحدهما، وإن كان لابن القَيِّم حُكْمٌ عليها.
14- وقد استعملتُ رموزاً للدلالة على بعض المصادر الحديثية وغيرها عند التخريج، وذلك من باب الاختصار، وقد سبق ذكر هذه الرموز في أول الكتاب1.
__________
1 انظر: (1/22 - 23) .
(2/79)
من كتاب الطهارة
1ـ باب ما جاء في الرخصة في استقبال القبلة عند الحاجة
...
- من كتاب الطهارة
1- باب ما جاء في الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة
1- (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُوِلِ الله صلى الله عليه وسلم قَومٌ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمُ القِبْلَةَ. فَقَال: "أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا، اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي القِبْلَة" 1.
أوردَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في كتابيه: (زاد المعاد) 2، و (تهذيب السنن) 3، وذكر أنه ضعيف بجملة أمور:
- أولها: أنه مضطرب.
- ثانيها: أنه منقطع.
- ثالثها: أن الصواب فيه الوقف.
- رابعها: ضَعفُ "خالد بن أبي الصَّلْت" في إسناده.
قلت: هذا الحديث مداره على: خالد4 الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت5، عن عراك بن مالك6، عن عائشة رضي الله عنها به. ورواه عن خالد الحَذَّاء جماعة:
__________
1 أي: حَوِّلوا موضع قضاء حاجتي إلى جهة القبلة؛ لبيان جواز ذلك في البيوت، وليزول ما في قلوبهم من الإنكار لذلك.
(2/ 384) .
(1/ 22-23) .
4 ابن مهران، أبو المنازل، البصري، الحَذَّاء ... ثقة يرسل، من الخامسة، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تَغَيَّرَ لَمَّا قَدِم من الشام / ع. (التقريب 191) .
5 البصري، مدني الأصل، كان من جهة عمر بن عبد العزيز بواسط، مقبول، من السادسة / ع. (التقريب 188) .
6 الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات في خلافة يزيد بن عبد الملك، بعد المائة/ع. (التقريب 388) .
(2/83)
منهم: حماد بن سلمة، فرواه أبو داود الطيالسي1 عن حماد. وأخرجه أحمد2، وابن ماجه3، والدارقطني4 عن وكيع.
وأخرجه الدارقطني في (سننه) 5 عن يحيى بن إسحاق. وأخرجه أحمد في (مسنده) 6 عن بَهْز7. كُلُّهُم عن: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء بالإسناد الماضي ذكره.
وألفاظهم بنحو لفظ ابن ماجه الذي صَدَّرْنَا به البحث، إلا رواية بهز عند أحمد ففيها قول خالد بن أبي الصلت: ذكروا عند عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - استقبال القبلة بالفُرُوجِ، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة ... الحديث.
وتابع حمادَ بن سلمة على هذه الرواية: عليُّ بن عاصم8، عن خالد الحَذَّاء، بالإسناد المتقدم، أخرجه: أحمد في (مسنده) 9، والدارقطني10،
__________
1 المسند: (ح 1541) .
2 المسند: (6/ 137) .
(1/ 117) ح 324، باب الرخصة في ذلك في الكنيف ... واللفظ الذي ذكرته لفظه.
4 السنن: (1/ 60) ح 7.
(1/ 60) ح 7.
(6/ 219) .
7 ابن أسد العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت، من التاسعة، مات بعد المائتين، وقيل قبلها / ع. (التقريب 128) .
8 ابن صهيب الواسطي، التيمي مولاهم، صدوق يُخْطِئ وَيُصِرُّ، وَرُمِيَ بِالتَّشَيُّع، من التاسعة، مات سنة 201 هـ / د ت ق. (التقريب 403) .
(6/ 184) .
10 (1/ 59 - 60) ح 6.
(2/84)
والبيهقي1 في (سننيهما) ، ولفظه عندهم عن خالد بن أبي الصَّلْت أنه قال: "كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، وعنده عراك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلت القبلة ولا استدبرتُهَا ببولٍ ولا غائطٍ منذ كذا وكذا. فقال عراك: حَدَّثَتْنِي عائشة ... فذكره. قال البيهقي عقبه: "تابعه حماد بن سلمة في إقامة إسناده ... " يشيرُ إلى رواية حماد التي رواها عنه الجماعة المتقدمون، والتي توافق رواية علي بن عاصم هذه.
ورواه أبو عوانة، والقاسم بن مطيب2، ويحيى بن مطر، ثلاثتهم: عن خالد الحَذَّاء، عن عراك بن مالك عن عائشة به. أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 عنهم هكذا بإسقاط "خالد بن أبي الصَّلْت" من الإسناد، ثم نَبَّهَ - رحمه الله - على سقوط ابن أبي الصَّلْت، فقال: "بين خالد وعراك: خالد بن أبي الصَّلْت".
ثم أخرجَ رواية حماد بن سلمة، وعلي بن عاصم المتقدمتين، ثم قال: "وهذا أَضْبَطُ إسنادٍ، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب"4.
ورواه عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن رجل، عن عراك، عن عائشة به. أخرجه كذلك الدارقطني في (سننه) 5، فجعل مكان خالد ابن أبي الصلت: "عن رجل".
__________
(1/ 92- 93) .
2 العجلي، البصري، فيه لين، من الخامسة / بخ. (التقريب 452) .
(1/ 59) ح 3، 4، 5.
4 سنن الدارقطني: (1/60) .
(1/60) ح 8.
(2/85)
فهذه بعض أوجه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وقد أُعِلَّ لذلك بالاضطراب، فقال البخاري لَمَّا سَأَلَهُ عنه الترمذي: "هذا حديث فيه اضطراب"1.
ولكن عند التأمل نجدُ أنه يمكنُ ترجيحُ رواية حماد بن سلمة، وعلي ابن عاصم: عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة. وقد مضى معنا أن الدارقطني صوب هذه الرواية، وقال إنه "أضبط إسناد".
وأما العِلَّة الثَّانية، وهي أنه منقطعٌ: فقد سألَ ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال: "مرسل". فقال له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة رضي الله عنها؟ فأنكره، وقال: "عراك بن مالك؟! من أين سمع عائشة؟! ما له ولعائشة، إنما يروى عن عروة، هذا خطأٌ. قال لي: من روى هذا؟ قلت: حمادُ بن سلمة، عن خالد الحذاء. فقال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء، ليس فيه "سمعت"، وقال غير واحد أيضاً: عن حماد بن سلمة، ليس فيه: سمعت"2. ونقل العلائي في (جامع التحصيل) 3 أن أحمد بن حنبل - رحمه الله - حَكَمَ عليه بذلك، وسأله عنه الأثرم، فقال قولاً قريباً من قول أبي حاتم رحمهما الله تعالى.
وأما العِلَّة الثالثة، وهي أن الصواب وقفه على عائشة: فقد
__________
1 علل الترمذي: (1/90) .
2 علل ابن أبي حاتم: (ص 162 - 163) .
(ص 288) ترجمة عراك بن مالك.
(2/86)
حكم عليه بذلك البخاري وأبو حاتم رحمهما الله، قال البخاري: "والصحيح: عن عائشة، قولها"1. وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه، فقال: "فلم أزل أقفو أثر هذا الحديث، حتى كتبت بمصر عن إسحاق بن بكر بن مضر أو غيره، عن بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة موقوف. وهذا أشبه"2.
وأشار البخاري - رحمه الله - إلى هذه الرواية في (التاريخ الكبير) 3، ثم قال: "وهذا أصحُّ". وكذا رَجَّحَ رواية الوقف ابن عساكر رحمه الله، ونَقَلَهُ عنه الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 4.
قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في تأكيده لهذه العلة: "وقال بعض الحُفَّاظ: هذا حديث لا يصحُّ، وله عِلَّةٌ لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة، المُعَانُون عليها؛ وذلك أنَّ خالد بن أبي الصَّلْت لم يحفظ متنه، ولا أقامَ إسنَادَهُ. خَالَفَهُ فيه الثقة الثبت، صاحب عِراك بن مالك المختصُّ به، الضابط لحديثه: جعفر بن ربيعة الفقيه، فرواه عن عراك، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تنكر ذلك وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك"5.
__________
1 علل الترمذي: (1/ 91) .
2 علل ابن أبي حاتم: (1/ 29) ح 50.
(2/1/ 156) .
(1/ 356) .
5 تهذيب السنن: (1/ 22) .
(2/87)
وأما العِلَّة الرابعة، وهي ضعفُ خالد بن أبي الصَّلْت: فقال أحمد بن حنبل: "ليس معروفاً"1. وقال عبد الحق: "ضعيف"2. وقال ابن حزم: "حديث ساقط، وخالد بن أبي الصلت مجهول، لا يُدْرَى من هو؟ "3. وقال الذهبي: "لا يَكَاد يُعْرَف"4. وَوَثَّقَهُ ابن حبان على قاعدته المعروفة5. وقد سَبَقَ حُكمُ الحافظ ابن حجر عليه بأنه "مقبول" يعني إذا تُوبع، وإلا فلين الحديث، وهو لم يُتَابِع، بل خَالَفَهُ جعفر بن ربيعة كما مضى، فتكون روايته منكرة كما سيأتي.
فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حُجَّة، وقد تقدمت أقوال العلماء في إعلاله وتضعيفه، وهذا ما ذَهَبَ إليه ابن القَيِّم رحمه الله، فأصاب.
ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب أيضاً:
2- (2) عن جابر رضي الله عنه قال: "نَهَى نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِبَولٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أن يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا".
ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 6 مُبَيِّناً أنه
__________
1 تهذيب التهذيب: (3/ 98) .
2 المصدر السابق.
3 المحلى: (1/ 261) .
4 الميزان: (1/ 632) .
5 الثقات: (6/ 252) .
(2/ 385) .
(2/88)
لا يعارضُ أحاديثَ المنع؛ لأنه ما بَين معلولِ السَّنَد، أو ضعيف الدلالة.
ثم نقل عن الترمذي أنه اسْتَغْرَبَهُ بعد تحسينه، وأن البخاري صَحَّحَهُ، ثم قال: "فإن كان مرادُ البخاري صِحَّتَهُ عن ابن إسحاق، لم يدل على صِحَّتِه في نفسه، وإن كان مراده صِحَّته في نفسه، فهي واقعةُ عَين ... ".
ثم ذَكَر الحديث في (تهذيب السنن) 1، وذكر أن ابن حزم ضَعَّفَهُ بجهالة أبان بن صالح، ثم نقل كلاماً لابن مُفَوِّز في الرد على ابن حزم وتوثيق أبان بن صالح، لكنه انفرد به ابن إسحاق ولا يحتجُّ به في الأحكام.
ثم قال ابن القَيِّم: "وهو - لو صحَّ - حكاية فعل لا عموم لها فكيف يُقَدَّم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع".
قلت: هذا الحديثُ أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، وأحمد في (مسنده) 3، وابن الجارود في (المنتقى) 4، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) 5، والدارقطني والبيهقي في
__________
(1/ 22) .
2 د: (1/ 21) ح 13 باب الرخصة في ذلك (يعني استقبال القبلة عند قضاء الحاجة) . ت: (1/ 15) ح 9، باب الرخصة في ذلك. جه: (1/ 117) ح 325، باب الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحاري. ثلاثتهم في كتاب الطهارة.
(3/ 360) .
(ص 21) ح 31.
5 خز: (1/ 34) ح 58. حب: الإحسان (2/ 346) ح 1417. ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة الحديث أنه ناسخ للزجر ...
(2/89)
(سننيهما) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، كلهم من طريق:
محمد بن إسحاق3، عن أبان بن صالح4، عن مجاهد5 عن جابر به. ولفظهم هو الذي سُقْنَاه أول البحث، إلا أن لفظه عند أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، والدارقطني: "كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَانَا أن نَسْتَدْبِر القِبْلَةَ أو نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إذا أهرقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة".
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلل، وهي:
1- عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس، ومن أجل ذلك توقف فيه النووي - رحمه الله - في (كلامه على سنن أبي داود) - ونقله عنه صاحب (البدر المنير) 6 - فقال: " ... ابن إسحاق مُدَلِّس، والْمُدَلِّس إِذَا قال: "عن" لا يحتجُّ به، فكيفَ حَسَّنَهُ الترمذي؟! ".
__________
1 قط: (1/ 58) ح 2. هق: (1/ 92) .
(1/ 154) .
3 ابن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يُدَلِّس، وَرُمِيَ بالتَّشَيُّع والقَدر، من صغار الخامسة، مات سنة150 هـ/خت م4. (التقريب 467) .
4 ابن عمير بن عبيد القرشي مولاهم، وَثَّقَهُ الأئمة، وَوِهِمَ ابن حزم فَجَهَّلَهُ، وابن عبد البر فضعفه، من الخامسة، مات سنة بضع عشرة / خت 4. (التقريب 87) .
5 ابن جبر، أبو الحجاج المخزومي، المكي، ثِقَةٌ إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة، مات سنة 101 هـ، وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 520) .
6 جـ 1 (105/ أ) .
(2/90)
- وقال آخرون: انفرد به ابن إسحاق، وليس هو ممن يحتجُّ به في الأحكام، فكيف يُعارض بأحاديثه الأحاديث الصحيحة. قاله ابن مُفَوِّز، ونقله عنه ابن القَيِّم1.
3- وضعفه آخرون بـ "أبان بن صالح" فقال ابن عبد البر: "وليس حديث جابر بصحيح عنه، فَيُعَرَّجُ عليه؛ لأنَّ أبان بن صالح الذي يرويه ضعيفٌ"2. وَجَهَّلَهُ ابن حزم3.
والجواب عن هذه العلل كما يلي:
أولاً: أما عنعنة ابن إسحاق: فقد صَرَّحَ بالتحديث في رواية أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي؛ فعند هؤلاء جميعاً قول ابن إسحاق: "حدثني أَبَانُ بن صالح". فزالت بذلك شُبْهَة التدليس عن ابن إسحاق ولله الحمد، وقد أشار إلى جواب هذه الشبهة ابن الملقن4 رحمه الله.
ثانياً: وأما القول بأن ابن إسحاق لا يُحْتَجُّ به في الأحكام: فليس الأمر كذلك، بل قد وَثَّقَهُ أَئِمَّة، واحتجَّ به آخرون، واسْتَشْهَدَ به الإمام مسلم في (صحيحه) ، والأمر فيه على ما قاله الذهبي: "فالذي يظهر لي: أن ابنَ إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفردَ به ففيه
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 22) .
2 التمهيد: (1/ 312) .
3 المحلى: (1/ 265) .
4 البدر المنير: جـ 1 (ق 105/ أ) . وانظر: التلخيص الحبير: (1/104) .
(2/91)
2 نكارةٌ؛ فإنَّ في حفظه شيئاً، وقد احتجَّ به أئمة، فالله أعلم"1.
قلت: ولم ينفرد ابن إسحاق برواية هذا الحُكْمِ، بل جاء مثل ذلك عن غيره، كحديث ابن عمر، وحديث عراك بن مالك، على كلام فيه مضى بيانه.
ثالثاً: وأما تضعيفُ ابن عبد البر لأ بَان بن صالح: فقد رَدَّه عليه الأئمة، وكذا رَدُّوا على ابن حزم حكمه عليه بالجهالة. قال ابن الملقن في (البدر المنير) 2: "وهذا تعليل ساقط؛ فإن أَبَان لم يضعفه أحد، وهو أبان ابن صالح بن عمير القرشي مولاهم ... " ثم ساق أقوال الأئمة في توثيقه3. وقال ابن حجر: "وَضَعَّفَهُ ابن عبد البر بِأَبَان بن صالح، وَوَهِمَ في ذلك؛ فإنه ثِقَة باتفاق، وادَّعى ابن حزم أنه مجهول فَغَلِطَ"4. وكذا رَدَّ ابن مفوز على ابن حزم، وأفاض في إثبات ثقة أبان والاحتجاج به5، وكذا رد عليه ابن عبد الحق6.
ومع أن هذه العلل مردودةٌ، فإن هذا الحديث قد صَحَّحَهُ جماعة، وَحَسَّنَهُ آخرون: فقال البخاري: "حديث صحيح، رواه غير واحد عن محمد ابن إسحاق". كذا نقل غير واحد عن البخاري: أن الترمذي سأله عنه؟
__________
1 ميزان الاعتدال: (3/475) .
2 جـ 1 (ق 105/ أ) .
3 وانظر: تهذيب الكمال: (2/10-11) .
4 التلخيص الحبير: (1/104) .
5 انظر: تهذيب السنن: (1/22) .
6 انظر: البدر المنير: جـ 1 (ق105/ أ) .
(2/92)
فقال ذلك، منهم: البيهقي، وعبد الحق1، وكذا ابن القَيِّم2، وابن حجر3 وغيرهم. لكن الذي في (العلل) 4 للترمذي قول البخاري: "رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق" دون قوله: "صحيح". ثم رجعت إلى النسخة الخطية من (العلل) فوجدت هذه الكلمة ملحقة في هامش النسخة5.
وحَسَّنَهُ الترمذي، وكذا البزار6 وَصَحَّحَهُ ابن السكن7، وقال الدارقطني عن إسناده: "كلهم ثقات". وقال الحاكم أبو عبد الله: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، لكن تعقبهما ابن الملقن، فقال: "وفي كونه على شرط مسلم نظرٌ؛ لأن في إسناده ابن إسحاق، ولم يحتجَّ به مسلم، إنما أخرج له متابعة"8. وقال ابن الملقن: "صحيح، معمول به"9. وقال الشيخ الألباني: "حسن"10. هذا مع تصحيح ابن خزيمة وابن حبان له.
__________
1 كما في البدر المنير: جـ 1 (ق105/ أ) .
2 تهذيب السنن: (1/22) .
3 التلخيص الحبير: (1/104) .
(1/87) . باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول.
5 انظر العلل رواية أبي طالب: (ق2/ب) . نسخة أحمد الثالث المصورة في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم 530.
6 انظر: البدر المنير: جـ 1 (ق 105/ أ) .
7 المصدر السابق، والتلخيص الحبير: (1/104) .
8 البدر المنير: جـ 1 (ق 105 / أ) .
9 المصدر السابق.
10 صحيح ابن ماجه: (ح 261) .
(2/93)
وقد ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أن هذا الحديث ناسخٌ لأحاديث المنع، لكن لم يوافق على دعوى النسخ جماعة، منهم: ابن قتيبة1. وقال ابن حجر: "والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافاً لمن زعمه"2. وكذا استبعد النسخ ابن خزيمة، فقال في ترجمته لهذا الحديث: " ... وَيَتَوَهَّمُ من لا يفهمُ العلم، ولا يُمَيِّزُ بين المفسر والمجمل: أن فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ناسخٌ لنهيه عن البول مستقبل القبلة"3. وكذا قال ابن حبان حيث ترجم له بقوله: "ذكرُ خبرٍ أوهم من لم يُحْكِمْ صناعة الحديث أنه ناسخ للزجر الذي تَقَدَّمَ ذكرنا له"4.
والذي ذهب إليه الجمهور وارتضاه أكثر العلماء: هو الجمع بين الأخبار في هذا الباب، قال ابن قتيبة: "وليسا عندنا من الناسخ والمنسوخ، ولكن لكل واحد منهما موضع يستعمل فيه، فالموضع الذي لا يجوز أن تُسْتَقْبَل القبلة فيه بالغائط والبول: هي الصحارى والبراحات. وكانوا إذا نزلوا في أسفارهم لهيئة الصلاة، استقبل بعضهم القبلة بالصلاة، واستقبلها بعضهم بالغائط، فَأَمَرَهُمْ أن لا يستقبلوا القبلة بغائط ولا بول إكراماً للقبلة وتنزيهاً للصلاة. فظن قوم أن هذا أيضاً يكره في البيوت والكُنُفِ المحتفرة ... "5.
وترجم ابن خزيمة في (صحيحه) 6 وكذا ابن حبان7 بما يفيد ذلك.
__________
1 تأويل مختلف الحديث: (ص 90) .
2 فتح الباري: (1/ 245) .
3 صحيح ابن خزيمة: (1/ 34) .
4 الإحسان: (2/ 346) .
5 تأويل مختلف الحديث: (ص 90) .
(1/ 34) ح 59، باب رقم (44) .
7 الإحسان: (2/ 347) ح 1418.
(2/94)
وقال الخطابي في (معالم السنن) 1: "وذهب عبد الله بن عمر إلى أن النهي عنه إنما جاء في الصحاري، فأما الأبنية فلا بأس باستقبال القبلة فيها". ثم قال: "الذي ذهب إليه ابن عمر ومن تابعه من الفقهاء أولى؛ لأن في ذلك جمعاً بين الأخبار المختلفة، واستعمالها على وجوهها كلها".
وقال ابن عبد البر - بعد أن ذكر أن ذلك مذهب مالك، والشافعي، وقول ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه -: "والصحيح عندنا الذي يُذهب إليه: ما قاله مالك وأصحابه، والشافعي؛ لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها، دون رَدِّ شيء ثابتٍ منها"2.
وقال الحافظُ ابن حجر: "وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقاً قال الجمهور ... وهو أَعْدَلُ الأقوال، لإعمال جميع الأدلة"3.
وبعدُ، فإن حديث جابر رضي الله عنه في استقباله صلى الله عليه وسلم القبلة ببوله: لا يَقِِلُّ عن درجة الحسن، وما أُعِلَّ به قد أُجيب عنه، والذي يظهر من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - الميل إلى القول بضعفه، وأنه ذَهَبَ - بناء على ذلك - إلى القول بعدم جواز استقبال أو استدبار القبلة ببولٍ أو غائطٍ مطلقاً، وقد ظَهَرَ مما تَقَدَّمَ أن الصواب خلاف ذلك، والله أعلم.
__________
(1/ 20) .
2 التمهيد: (1/ 312) .
3 فتح الباري: (1/ 246) .
(2/95)
2- باب وضع الخاتم عند دخول الخلاء
3- (3) عن أنس رضي الله عنه قال: "كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دَخَل الخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمه".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذا الحديث رواه همام1 - وهو ثقة - عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس"2.
ثم نَقَل عن الدارقطني أنه ذكر في (علله) وجوه الاختلاف فيه، وأنه ذهب إلى شذوذه بهذا اللفظ، ونَاقَشَ بعض شواهده، ونقل أقوال الأئمة حول هذا الحديث، وتَوَصَّل في النهاية إلى أن الحديث شاذ أو منكرٌ، وإن كان سَنَدُه صَحِيحَاً.
قلت: الحديث بهذا الإسناد الذي ذكره ابن القَيِّم أخرجه: أصحاب السنن الأربعة3، والترمذي في (الشمائل) 4، وابن حبان في
__________
1 ابن يحيى بن دينار العوذي، أبو عبد الله أو أبو بكر، البصري، ثِقَة رُبَّما وَهِمَ، من السابعة، مات سنة 164 هـ أو 165 هـ / ع. (التقريب 574) .
2 تهذيب السنن: (1/ 26) .
3 د: (1/25) ح19ك الطهارة، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل به الخلاء. ت: (4/ 229) ح1746، ك اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين. س: (8/ 178) ك الزينة، باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء. جه: (1/ 110) ح 303، ك الطهارة، باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء.
(ص 93) ح 88.
(2/96)
(صحيحه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (سننه) 3. كلهم باللفظ المذكور آنفاً، إلا الترمذي في كتابيه، والنسائي، فإنَّ لفظه عندهما: "نَزَع خَاتَمه" بدل: "وَضَعَ".
والحديثُ بهذا الإسناد أعله جماعة من الأئمة، فقال أبو داود: "هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق ثم ألقاه"، والوهمُ فيه من هَمَّام، ولم يروه إلا همام". وقال النسائي: "هذا حديث غير محفوظ"4. وأشار الدارقطني إلى شذوذه5. وذكره الحافظ العراقي في (ألفيته) 6 مثالاً للمنكر. وحكم الحافظ ابن حجر بشذوذه7.
ووجه شُذُوذ هذا الحديث أو نكارته: أن هَمَّامَاً تَفَرَّد عن ابن جريج بذكر نزع الخاتم، والمحفوظ عن ابن
__________
1 الإحسان: (2/ 344) ح 1410، باب الخبر الدال على نفي إجازة دخول المرء الخلاء بشيء فيه ذكر الله.
(1/ 187) .
(1/ 94) .
4 وعبارة النسائي هذه لم أجدها في (المجتبى) عقب روايته الحديث، لكن نقلها عنه: المنذري في: (اختصار السنن 1/26) ، والمزي في: (تحفة الأشراف 1/385) ، وابن حجر في (التلخيص الحبير 1/107 - 108) ، وفي (النكت على ابن الصلاح 2/677) .
5 في (علله) ولم أقف على كلامه فيه بعد البحث، لكن نقله عنه ابن القَيِّم هنا، وغيره.
6 الألفية مع شرحها للعراقي: (1/ 197 - 201) .
7 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) .
(2/97)
جريج في ذلك ما ذكره أبو داود، وهو حديث اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق، ثم أنه ألقاه بعد ذلك.
وقد كشف الدارقطني - رحمه الله - عن وجوه الاختلاف فيه في (علله) - ونقله ابن القَيِّم عنه - فقال: "رواه سعيد بن عامر وهدبة بن خالد، عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفهم عمرو بن عاصم، فرواه عن هَمّام، عن ابن جريج، عن الزهري عن أنس "أنه كان إذا دخل الخلاء" موقوفاً، ولم يُتابع عليه. ورواه يحيى ابن المتوكل ويحيى بن الضريس، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام. ورواه عبد الله بن الحارث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فاضطربَ النَّاس الخواتيم، فَرَمَى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا أَلْبَسُهُ أبداً". وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج"1.
وهذه الرواية التي قال عنها الدارقطني: إنها المحفوظة عن ابن جريج، سبق أن نقلنا عن أبي داود أنه قال ذلك فيها أيضاً.
وقد أخرج هذه الرواية الإمام مسلم في (صحيحه) 2 من طريق ابن جريج، أخبرني زياد بن سعد، أن ابن شهاب أخبره، أن أنس بن مالك أخبره: "أنَّه رَأى في يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَاتَمَاً من وَرق يوماً واحداً، ثُمَّ
__________
1 تهذيب السنن: (1/26-27) .
(3/1658) ح (60) ... ك اللباس، باب في طرح الخواتم.
(2/98)
إن الناس اضطربوا1 الخواتم من وَرِق، فلبسوها، فَطَرَحَ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتمهم".
وعَلَّقَه البخاري في (صحيحه) 2 وقد نُسِبَ الزهري في هذا الحديث إلى الغلط؛ لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم كان من ذهب كما في حديث ابن عمر وغيره، وقد أجيب عن ذلك بأجوبة بسطها ابن حجر في (فتح الباري) 3 فلتنظر هناك.
قال ابن القَيِّم رحمه الله - عَقِبَ نقله كلام الدارقطني هذا-: "وهَمَّام وإن كان ثقة صدوقاً احتجَّ به الشيخان في الصحيح، فإن يحيى بن سعيد كان لا يُحَدِّث عنه ولا يَرْضَى حفظه ... وقال يزيد بن زريع - وسُئِل عن همام-: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئاً. وقال عفان: كان هَمَّام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا يَنْظر فيه، وكان يُخَالَفُ فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قال: ثُمَّ رَجَعَ بعد فنظر في كتبه، فقال: يا عفان كُنَّا نخطئ كثيراً، فنستغفر الله عز وجل".
ثم قال ابن القَيِّم: "ولا ريبَ أَنه ثقةٌ صدوق، ولكنه خُولِفَ في هذا الحديث، فَلَعَلَّهُ مِمَّا حَدَّثَ به من حفظه فَغَلِطَ فيه، كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني وعلى هذا: فالحديث شاذ أو منكر كما
__________
1 اضطرب خاتماً: سأل أن يُضْرَبَ له، وهو افتعل من الضرب: الصياغة، والطاء بدل من التاء. (النهاية 3/80، ولسان العرب ص2565، مادة: ضرب) .
2 البخاري مع الفتح: (10/318) ح5868، ك اللباس، باب خاتم الفضة.
(10/320 - 321) .
(2/99)
قال أبو داود، وغريبٌ كما قال الترمذي"1.
قلت: وقد مَالَ الحافظ ابن حجر إلى كونه شاذاً، واستبعد أن يكون منكراً، فقال: "وَحُكْمُ النسَائِي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شَاذٌّ في الحقيقة؛ إذ المنفرد به من شرط الصحيح، لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذاً"2.
ثم رد ابن القَيِّم - رحمه الله - على من نَازَعَ في نَكَارَتِهِ أو شذوذِهِ، فقال: "فإن قيل: إن هَمَّامَاً ثقة، وتَفَرُّدُ الثقة لا يوجبُ نكارة الحديث، فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث: النهي عن بيع الولاء وهبته، وَتَفَرَّدَ مالك بحديث: دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المِغْفَر. فهذا غايته أن يكون غريباً كما قال الترمذي، وَأَمَّا أن يكون منكراً أو شاذاً: فلا؟ "3.
ثم أجاب ابن القَيِّم عن ذلك، فقال: "التَّفَرُّدُ نوعان: تَفَرُّدٌ لم يُخَالَف فيه من تفردَ به، كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وَتَفَرُّدٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن4 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِقٍ ... " الحديث. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وَتَفَرَّدَ هَمَّام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 28) . وانظر: أقوال العلماء في "همام بن يحيى" في تهذيب التهذيب: (11/ 68 - 70) .
2 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) .
3 تهذيب السنن: (1/ 28) .
4 وهو حديث (نزع الخاتم عند دخول الخلاء) ، وهو موضوع دراستنا هذه.
(2/100)
دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1.
قلتُ: وقد خالف هَمَّاماً جماعةٌ من أصحاب ابن جريج كما تقدم من كلام الدارقطني، ولا شك أن العددَ الكثير أولى بالحفظ والضبط من الواحد.
وأما المتابعة التي ذكرها الدارقطني لهمام، من رواية يحيى بن المتوكل2، ويحيى بن الضريس3: فقد أخرج رواية ابن المتوكل الحاكم في (المستدرك) 4، عنه عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَاتَمَاً نقشه "محمد رسول الله"، فكان إذا دَخَلَ الخلاء وَضَعه". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إنما أخرجا حديث نقش الخاتم فقط"، ووافقه الذهبي. وقد سقط ذكر أنس رضي الله عنه من مطبوعة (المستدرك) ، لكنه في رواية البيهقي من طريقه.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 5 من طريق الحاكم، ثم قال: "وهذا شاهد ضعيف".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وإنما ضَعَّفَه لأنَّ يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد: وَاهِي الحديث. وقال ابنُ مَعين: ليس بشيءٍ. وَضَعَّفَهُ
__________
1 تهذيب السنن: (2/ 29 - 30) .
2 الباهلي، البصري، أبو بكر، صدوق يُخْطِئ، من التاسعة، مات بالمصيصة/تمييز. (التقريب 596) .
3 البجلي، الرازي، صدوق، من التاسعة، مات سنة 203هـ/م ت. (التقريب592) .
(1/ 187) .
(1/ 95) .
(2/101)
الجماعة كلهم"1.
كذا قال ابن القَيِّم! وقد وَهِمَ في ذلك رحمه الله؛ فإن يحيى بن المتوكل الذي ضَعَّفَه أحمد ويحيى والجماعة كلهم هو: أبو عقيل العمري المدني، مولى العمريين2، أما المقصود هنا: فَإِنَّه البَاهِلِي البصري أبو بكر، فهو الذي يروي عن ابن جريج، قال ابن معين: "لا أعرفه"3. وذكره ابن حبان في (الثقات) 4. وقال: "كان يخطئ". قال ابن حجر: " ... قُولُ يحيى بن معين: لا أعرفه، أراد به جَهَالة عدالته لا جهالة عينه، فلا يُعْتَرَض عليه بكونه روى عنه جماعة؛ فإن مُجَرَّد روايتهم عنه لا تَسْتَلْزِم معرفة حاله. وأما ذكر ابن حبان له في (الثقات) : فإنه قال فيه - مع ذلك -: كان يُخْطِئ، وذلك مِمَّا يُتَوقَّف به عن قبول أفراده"5.
لكن يحيى هذا قال عنه الذهبي: "صدوق"6، وقال الحافظ ابن حجر: "صَدُوقٌ يُخْطِئ"، وقال - أيضاً - عن حديثه هذا: "رجاله ثقات"7. وحينئذٍ فقد يصلح حديثه للمتابعة.
وأما المتابعة الأخرى عن يحيى بن الضريس: فإنني لم أَقِف على من أَخْرَجَها، ولا وَجَدت أحداً أشار إلى مُخْرِجِها، سوى ما جَاءَ من ذكر
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 27) .
2 انظر ترجمته في: (الميزان 4/404) ، وتهذيب التهذيب: (11/270) .
3 سؤالات ابن الجنيد لابن معين: (ص487) .
(7/612) .
5 النكت على ابن الصلاح: (2/677 - 678) .
6 المغني: (2/742) .
7 التلخيص الحبير: (1/ 108) .
(2/102)
الدارقطني لها في كلامه آنف الذكر، لكن قال ابن حجر في (التلخيص الحبير) 1: "وأخرجهما - يعني: رواية يحيى بن المتوكل، ويحيى بن الضريس - الحاكم والدارقطني"! كذا قال رحمه الله، ولم أجده في واحد منهما بعد البحث، أما الحاكم فقد أخرج حديث يحيى بن المتوكل وحده كما تقدم، وأما الدارقطني فلم أجد فيه أَيّاً منهما.
حتى إن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يذكر من أخرج هذه المتابعة، وكأنه لم يقف على ذلك، ولكنه قال: "وأما حديث يحيى بن الضريس: فيحيى هذا ثقة، فَيُنْظَرُ الإسنادُ إليه"2.
وقال مرة: "وحديث ابن الضريس يُنْظَرُ في حاله، ومن أخرجه"3.
وعلى كل حال: فإنَّ هذه المتابعة من يحيى بن المتوكل، ثم من يحيى ابن الضريس قد تفيد في تقوية رواية همام، لكنها مع ذلك تبقى مُخَالِفَةً لرواية الجماعة من أصحاب ابن جريج، وهم أكثر عَدَدَاً، وفيهم أبو عاصم النبيل "الثقة الثبت"، وعبد الله بن الحارث المخزومي "الثقة"، وغيرهما من ثقات أصحاب ابن جريج؛ ومن هنا جاء حكم الحفاظ على هذه الرواية بالشذوذ.
__________
(1/ 108) .
2 تهذيب السنن: (1/ 27 - 28) .
3 المصدر السابق: (1/ 30) .
(2/103)
على أَنَّ هناك اتجاهاً نحو القول بأن هذا الحديث جاء عن الزهري على أوجه كثيرة، وأن حديث همام هذا أحدها، وقد عَبَّر ابن حجر - رحمه الله - عن هذا الاتجاه فقال: "على أن للنظر مجالاً في تصحيح حديث هَمَّام؛ لأنه مبني على أن أصله حديث الزهري، عن أنس في اتخاذ الخاتم. ولا مانع أن يكون هذا متن آخر غير ذلك المتن ... "1.
لكن أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك، فإنه سَاقَ عدة روايات عن الزهري في اتخاذه صلى الله عليه وسلم الخاتم، ثم قال: "هذه الروايات كُلها تَدُلُّ على غَلَط هَمَّام؛ فإنها مجمعةٌ على أن الحديث إِنَّمَا هو في اتخاذ الخاتم ولبسه، وليس في شيءٍ منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حَكَمَ لأجله هؤلاء الحُفَّاظ بنَكَارَة الحديث وشذوذه، والمصحح له لَمَّا لم يمكنه دَفْعَ هذه العلة حكم بغرابته2 لأجلها، فلو لم يكن مخالفاً لرواية من ذُكِرَ فما وجه غرابته؟ "3.
وَلِرواية هَمَّام هذه عِلَّة أخرى لم يَتَعَرَّض لَهَا ابن القَيِّم رحمه الله، وهي: تَدْلِيس ابن جريج، قال الحافظ ابن حجر: "والخَلَلُ في هذا الحديث من جهة أن ابن جريج دَلَّسَهُ عن الزهري بإسقاط الواسطة، وهو زياد بن سعد"4. بل ذهب الحافظ - رحمه الله - إلى أن التَّدْلِيسَ هو
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (2/ 678) .
2 يشير بذلك إلى حكم الترمذي - رحمه الله - عليه، حيث قال "حسن غريب" وسيأتي.
3 انظر: تهذيب السنن: (1/ 30- 31) .
4 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) .
(2/104)
عِلَّتَهُ الوحيدة - بعد أن قال بإمكان تصحيح رواية هَمَّام وحَمْلِهَا على أَنَّهَا متن آخر لحديث الزهري - فقال: "ولا عِلَّة له عِنْدي إلا تَدْلِيس ابن جريج، فإن وُجْدَ عنه التصريح بالسَّماع فلا مَانِعَ مِنَ الحكم بِصِحَّتِه في نقدي. والله أعلم"1. وقد ذَهَبَ فريق آخر من أهل العلم إلى تصحيح هذا الحديث، ولم يروه معلولاً، فقال الترمذي: "حسن غريب"، وفي نسخة: "حسن صحيح غريب"2. وصَحَّحَه الحاكم على شرط الشيخين من طريق يحيى ابن المتوكل، عن هَمَّام، ووافقه الذهبي كما مضى. وَرَجَّحَ الْمُنذري ما حكمَ به الترمذي، وأنه يكون غريباً - كما قال الترمذي - لا شاذاً3. وذكره ابن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) 4 ضمن الأحاديث الصحيحة التي خَتَمَ بها كتابه. وصححه كذلك ابن التركماني وقال: بأن الأمر على ما قال الترمذي من الحسن والصحة5.
وفي نظري: أن أَكْثَر من صَحَّحَه إِنَّمَا نَظَر إلى ظاهر إسنادِهِ، ولم يلتفت إلى العِلَّةِ الواقعة في مَتْنِه، وهو ما الْتَفَتَ إليه وَنَبَّه عليه حُذَّاقُ الأئمة العارفين بمكامن العلل، ومواطن الأدواء: كأبي داود، والنسائي، والدارقطني، وقد تقدم قولهم في ذلك، ولذلك قال النووي في
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (2/677) .
2 كما في تحفة الأشراف: (1/ 385) .
3 مختصر السنن: (1/ 26) .
(ص 433) .
5 الجوهر النقي: (1/ 95) .
(2/105)
(الخلاصة) 1: "قول الترمذي: حسن، مردود عليه".
ثُمَّ إن قول الترمذي - الذي اسْتَنَد إليه بعض من صَحَّحَهُ - يُمْكِنُ أن يَلْتَقِي مع قول من أَعَلَّهُ ولا يُعَارِضُه، وقد عَبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك فقال: "وَلَعَلَّ الترمذي موافق للجماعة؛ فإنه صَحَّحَهُ مِن جِهَةِ السَّنَد لِثِقَةِ رُوَّاتِهِ، واسْتغربه لهذه العِلَّة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيح متنه، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند لكنه معلول"2.
فالحاصلُ: أن الراجح إعلال هذا الحديث، وأنه غيرُ محفوظ بهذا اللفظ، بل المحفوظ عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس خلافه، وهذا ما رَجَّحَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في بَحْثٍ لَّهُ نافع ماتع، أثبتَ فيه أن ذلك ليس من باب تَفَرُّدِ الثِّقَةِ بما لم يروه غيره أصلاً، وَإِنَّمَا من باب مُخالفةِ الثِّقَة لِمَنْ هو أَوْثَقُ منه: وهو الشاذُّ.
وإنني أرى أن الحكم عليه بالشذوذ أولى من الحكم بنكارته، وهذا الذي ذهب إليه النسائي، وَرَجَّحَهُ الحافظ ابن حجر كما مضى.
كما أن الحديث معلول - بالإضافة إلى ذلك - بتدليس ابن جريج، وهذا ما لم يتعرض له ابن القَيِّم في بحثه، وقد نَبَّهْتُ على ذلك مُسْتَشْهِدَاً بكلام الحافظ ابن حجر رحمه الله.
وقد ضَعَّفَ الحديث - أيضاً - الشيخ الألباني، وَصَوَّبَ القول بأنه شاذ3، والله أعلم.
__________
(ق 10 / ب) .
2 تهذيب السنن: (1/ 31) .
3 مختصر الشمائل: (ح 75) ، والتعليق على المشكاة: (ح 343) .
(2/106)
3- باب ما جاء في تخليل الأصابع عند الوضوء
4- (4) عَنِ الْمُسْتَورد بن شَدَّاد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّه كَانَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْه عِنْدَ الوضوءِ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في معرض كلامه على عدم مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل، ثم تَكَلَّم - رحمه الله - على هذا الحديث بما حاصله:
1- أن في إسناده ابن لهيعة، لذلك: فالحديث - في نظره - في ثبوته نظر. لكن كأنه لم يقطع بضعفه، وأنه قَابلٌ للتصحيح، ولذلك قال:
2- "وهذا إن ثبتَ عنه: فإنما كان يفعله أحياناً". ثم استدل على عدم مداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله:
3- "ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه، كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سنهم) 2 وأحمد في (مسنده) 3، والبيهقي في (سننه) 4، من طرق، عن:
__________
1 انظر: زاد المعاد: (1/ 198) .
2 د: (1/ 103) ح 148، باب غسل الرجلين. ت: (1/ 57) ح 40، باب ما جاء في تخليل الأصابع. جه: (1/ 152) ح 446، باب تخليل الأصابع، ثلاثتهم في ك الطهارة.
(4/ 229) .
(1/ 76) باب كيفية التخليل.
(2/107)
ابن لهيعة1، عن يزيد بن عمرو2، عن أبي عبد الرحمن الحبلي3، عن المستورد بن شداد4 رضي الله عنه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ يدلك أصابعَ رجليه بخنصره". هذا لفظ أبي داود، ومثله الترمذي. وعند أحمد: "يُخَلِّلُ"، وابن ماجه "خَلَّلَ" بدل: "يدلك". ولفظ البيهقي مثل أبي داود، لكن عنده: "ما بين أصابع رجليه".
أما إعلال هذا الحديث بأن ابن لهيعة في إسناده: فقد أجاب عنه الأئمة: بأن ابن لهيعة لم ينفرد به، بل تُوبع عليه:
قال ابن القطان: "وابن لهيعة ضعيف، ولكنه قد رواه غيره، فَصَحَّ"5، ثم ساق هذه المتابعة من طريق ابن أبي حاتم6.
وأشار ابن الْمُلَقِّن7 - رحمه الله - إلى هذه المتابعة. وقال ابن حجر: "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه: الليث بن سعد، وعمرو بن
__________
1 عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري، القاضي، صدوقٌ خَلَّطَ بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدلُ من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة 174 هـ/م د ت ق. (التقريب 319) .
2 المعافري، المصري، صدوق، من الرابعة/د ت ق. (التقريب 604) .
3 هو: عبد الله بن يزيد المعافري، ثقة، من الثالثة، مات سنة100هـ بإفريقية/بخ م 4. (التقريب 329) .
4 ابن عمرو القرشي الفهري، حجازي، نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، مات سنة 45هـ/ خت م 4. (التقريب 527) .
5 بيان الوهم والإيهام: (5/264) ح 2463.
6 وهي في (الجرح والتعديل) - المقدمة: (1/ 31-32) .
7 البدر المنير: جـ 1 (ق 95/ب) .
(2/108)
الحارث. أخرجه البيهقي، وأبو بشر الدولابي، والدارقطني في غرائب مالك، من طريق ابن وهب عن الثلاثة"1.
قلت: وهذه المتابعة أخرجها البيهقي2 من طريق: عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: أنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب3، قال: سمعت عَمِّي - يعني عبد الله بن وهب - يقول: سمعت مالكاً يُسْئَلُ عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خَفَّ الناس، فقلت له: يا أبا عبد الله! سمعتك تُفْتِي في مسألة تخليل أصابع الرجلين، زعمت أن ليس ذلك على الناس، وعندنا في ذلك سُنَّة. فقال: وما هي؟ فقلت: ثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث4، عن يزيد بن عمرو المعافري ... فساق الحديث كما مضى. قال مالك: هذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته يسئل بعد ذلك، فأمر بتخليل الأصابع.
فهذه - كما نرى - متابعةٌ قويةٌ من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث لابن لهيعة على هذا الحديث، ولا سيما أنها من طريق ابن وهب، وروايته عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيره عنه5.
__________
1 التلخيص الحبير: (1/ 94) .
2 السنن: (1/ 76-77) .
3 ابن مسلم، المصري، لقبه: بحشل، أبو عبيد الله، صدوق تغير بأخرة، من الحادية عشرة، مات سنة 264 هـ/م. (التقريب 82) .
4 ابن يعقوب الأنصاري مولاهم، المصري، أبو أيوب، ثقة فقيه حافظ، من السابعة، مات قديماً قبل 150 هـ/ع. (التقريب 419) .
5 قال الذهبي رحمه الله: "حدث عنه ابن المبارك وابن وهب وأبو عبد الرحمن المقرئ وطائفة قبل أن يكثر الوهم في حديثه وقبل احتراق كتبه، فحديث هؤلاء عنه أقوى، وبعضهم يصححه، ولا يرتقى إلى هذا". (تذكرة الحفاظ 1/238) . وتقدم معنا نقل كلام الحافظ ابن حجر في ذلك في مطلع الدراسة لهذا الحديث.
(2/109)
لكنَّ ابن التركماني - رحمه الله – حاولَ غمز هذه المتابعة، فقال: "في ذلك السند أحمد بن أخي ابن وهب؛ وهو وإن خَرَّجَ عنه مسلم، فقال أبو زرعة: أدركناه ولم نكتب عنه. وقال ابن عدي: رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه"1.
كذا قال ابن التركماني، ولم يذكر أن جماعةً وَثَّقُوه وارتضوه، منهم: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حيث قال: "ثِقَة، ما رأينا إلا خيراً"2. وقال أبوحاتم: "أدركته وكتبت عنه"3. ومرة قال: "كان صدوقاً"4. وقال أبوحاتم: "سمعت عبد الملك بن شعيب بن الليث يقول: ... ثقة"5.
وأما عدم كتابة أبي زرعة عنه فلأنه خلط في أحاديث6، ولكنه رجع عن ذلك رحمه الله، وقد بلغ أبا زرعة رُجُوُعُه عن تلك الأحاديث، فقال: "إن رجوعه مما يُحَسِّنُ حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك"7. ومن أجل رجوعه تَمَسَّكَ ابن خزيمة بالرواية عنه؛ فإنه قِيلَ له: لِمَ رويتَ عن ابن أخي ابن وهب وتركتَ سفيان بن وكيع؟ فقال: "لأن أحمد لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها إلى آخرها، إلا حديث
__________
1 الجوهر النقي: (1/76-77) .
2 الجرح والتعديل: (1/1/60) .
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
5 المصدر السابق.
6 انظر: الكواكب النيرات: (ص63-71) .
7 الجرح والتعديل: (1/1/60) .
(2/110)
مالك عن الزهري عن أنس "إذا حَضَرَ العشاء ... " وأما سفيان بن وكيع: فَإِنَّ وَرَّاقَهُ أدخل عليه أحاديث فرواها، فَكَلَّمْنَاهُ فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركته"1. وقال ابن القطان: "وَثَّقَهُ أهل زمانه"2.
فهؤلاء الأئمةُ قد وثقوه وأثنوا عليه، وحمدوا له رجوعه عن تلك الأحاديث التي أُنْكِرت عليه، وتمسك بالرواية عنه ابن خزيمة مع شدة تحريه في الرجال، هذا كله مع إخراج مسلم له في (الصحيح) ، فهل يُسْمَعُ بعد ذلك قولُ طاعن فيه؟!
ولكن، ثَمَّةَ أمرٌ آخر قد يكون مدخلاً للطعن في هذه المتابعة، وهو ما ذكره ابن القطان - رحمه الله - إذ قال: "وَإِنَّمَا الذي يجب أن يُتَفَقَّدَ من أمر هذا الحديث: قول أبي محمد بن أبي حاتم: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن. فإني أظنه يعني في الإجازة؛ فإنه لَمَّا ذكرهُ في بابه قال: إِنَّ أبا زرعة أدركه ولم يكتب عنه، وإن أباه قال: أدركته وكتبتُ عنه. وظاهر هذا أنه هو لم يسمع منه؛ فإنه لم يقل: كتبت عنه مع أبي، وسمعت منه، كما هي عادته أن يقول فيمن يشترك فيه مع أبيه"3.
وقد أجاب ابن الملقن - رحمه الله - عن شبهة ابن القطان هذه، فقال: "وقد استغنينا عن هذا التفقد الذي أشار إليه ابن القطان برواية البيهقي المتقدمة حيث قال - يعني ابن أبي حاتم-: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وكذلك - أيضاً - رواه عن ابن أخي ابن وهب: أبو بشر أحمد بن محمد بن حماد الدولابي، حَدَّثَ به الدارقطني في (غرائب
__________
1 تهذيب التهذيب: (1/54-55) .
2 بيان الوهم والإيهام: (5/265) .
3 بيان الوهم والإيهام: (5/266) .
(2/111)
مالك) عن أبي جعفر ... عن الدولابي: ثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عمى ... عن ابن لهيعة والليث بن سعد، ولم يذكر عمرو بن الحارث. فهذا أبو محمد بن أبي حاتم، وأبو بشر الدولابي كلٌّ منهما يقول: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن"1.
قلت: فزالت - بحمد الله - هذه الشبهة، وبقيت هذه المتابعة قوية، تشد رواية ابن لهيعة الماضية وتعضدها.
وقد صَحَّحَ العلماء حديث المستورد هذا بهذه المتابعة، فقال ابن القطان - ومضى كلامه -: " ... فَصَحَّ بإسناد صحيح". وقال ابن الملقن: "الحديث حسن صحيح"2. وقد مضى استحسان الإمام مالك له وعمله به. وظاهرُ صَنِيع البيهقي يقتضي تصحيحه إياه، حيث سَاقَ له هذه المتابعة بإسناده إلى ابن وهب. وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث ... "3. وقال في (النكت الظراف) 4 - مُعَلِّقَاً على قول الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة -: "وهو يُتَعَقَّبُ؛ فقد أخرجه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ... وصَحَّحَه ابن القطان من هذا الوجه". وذكره البغوي في قسم الحسن من (مصابيحه) ، وتَبِعَهُ على ذلك
__________
1 البدر المنير: جـ 1 (ق 95/ب) .
2 البدر المنير: جـ 1 (ق95/ب) .
3 التلخيص الحبير: (1/94) .
(8/376) .
(2/112)
التبريزي في (المشكاة) 1. وصَحَّحَه الشيخ الألباني2.
ومع ذلك فللحديث شواهد عدة، أَمْثَلُهَا - كما قال الزيلعي3 - حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: "أَسْبِغْ الوضوء، وخَلِّلْ بين الأصابع، وَبَالِغْ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" هذا لفظ الترمذي4، وأخرجه أيضاً: أبو داود في (سننه) 5، وأحمد، والدرامي في (مسنديهما) 6، وابن الجارود في (المنتقى) 7، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) 8، والحاكم في (المستدرك) 9، والبيهقي في (سننه) 10. وسياقه عند أحمد وأبي داود مُطَوَّل، فيه ذكر قصة وفد بني المنتفق، أما الباقون فلفظهم مختصر قريب من لفظ الترمذي. وهو عند الجميع من طريق: عاصم بن لقيط11، عن أبيه لقيط بن صبرة به.
__________
(1/128) ح407.
2 صحيح ابن ماجه: (ح360) ، وحاشية المشكاة: (1/128) ح407.
3 نصب الراية: (1/ 27) .
(3/ 146) ح 778 ك الصوم، باب كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم.
(1/ 97) ح 142، ك الطهارة، باب في الاستنثار.
6 حم: (4/ 211) مي: (1/ 144) ح 711 ك الطهارة، باب تخليل الأصابع.
(ص 36) ح 80.
8 خز: (1/ 78) ح150 ك الطهارة، باب الأمر بالمبالغة في الاستنشاق إذا كان المتوضئ مفطراً. حب: الإحسان: (2/ 208) ح 1084.
(1/147، 148) .
10 (1/76) باب تخليل الأصابع.
11 ابن صبرة العقيلي، ثقة، من الثالثة/بخ 4. (التقريب 286) .
(2/113)
قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال البغوي: "حسن"1، وَصَحَّحَه ابن القطان2. وقال الحاكم: "حديث صحيح، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وقال ابن الملقن: "رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن كثير المكي ... وإلا عاصم بن لقيط بن صبرة"3. ثم نقل أقوال الأئمة في توثيقهما. وَتَقَدَّمَ قول الزيلعي أنه أمثل الأحاديث الواردة في ذلك.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديثَ المستورد بن شداد صحيحٌ، أو حسنٌ على أقلِّ أحواله، وما أَعَلَّهُ به ابن القَيِّم من وجود ابن لهيعة في إسناده مردود بمتابعة جماعةٍ له على روايته. ثم يأتي حديث لقيط بن صبرة فيشهد له ويشد أزره.
__________
1 مصابيح السنة: (1/22) باب سنن الوضوء.
2 بيان الوهم والإيهام: (5/592) ح2810.
3 البدر المنير: (3/312) .
(2/114)
4- باب من قال بالموالاة في الوضوء وعدم جواز تفريقه
5- (5) عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي، في ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ1 قَدْرَ الدِّرْهَم لم يُصِبْهَا الماءُ، فَأَمَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعِيدَ الوضوء والصلاة".
بَحَثَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وأجاب عَمَّا أُعِلَّ به، وذلك في (كلامه على سنن أبي داود) 2، وسيأتي نقل كلامه في ذلك.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي كذلك في (سننه) 4 من طريق أبي داود. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية5، عن بحير بن سعد6، عن خالد بن معدان7، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به.
__________
1 اللُّمْعَة في الأصل: القطعةُ من النَّبْتِ تأخذُ في اليبس، قال ابن الأعرابي: "وفي الأرض لمعة من خَلىً" أي: شئ قليل، والجمع: لِمَاعٌ ولُمِعٌ. وقيل للموضع الذي لا يصيبه الماء في الغسل أو الوضوء من الجسد: لَمْعَةٌ على التشبيه بالقطعة من النبت. (النهاية: 4/272) ، و (المصباح المنير: 2/559) .
2 تهذيب السنن: (1/128-129) .
(1/121) ح175 ك الطهارة، باب تفريق الوضوء.
(1/83) .
5 ابن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي، أبو يحمد، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، من الثامنة، مات سنة 197هـ/خت م 4. (التقريب 126) .
6 السحولي، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت، من السادسة /بخ 4. (التقريب 120) .
7 الكلاعي الحمصي، أبو عبد الله، ثقة عابد يرسل كثيراً، من الثالثة، مات سنة 103هـ، وقيل بعد ذلك /ع. (التقريب 190) .
(2/115)
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين:
أولهما: أن في إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال. قال ذلك المنذري في (مختصر السنن) 1.
العلة الثانية: أن راويه مجهول لا يُدْرَى من هو. أَعَلَّه بذلك ابن حزم2 وأَعَلَّه ببقية أيضاً.
وقد نَقَلَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هاتين العلتين، ثم شَرَعَ في الجواب عنهما3 فقال:
"أما الأولى: فإن بقية ثِقَةٌ في نفسه صدوق حافظ، وإنما نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين4 وأما إذا صَرَّحَ بالسَّمَاع فهو حُجَّةٌ5. وقد صَرَّحَ في هذا الحديث بسماعه له6، قال
__________
(1/128) .
2 المحلى: (2/98) .
3 انظر: تهذيب السنن: (1/129) .
4 وقد نَصَّ أكثر من واحد من أئمة الشأن على قبول رواية بقية إذا رَوَى عن الثقات المعروفين، وترك روايته إذا روى عن الضعفاء والمجاهيل، منهم: أحمد بن حنبل، وابن معين، والعجلي، وأبو زرعة، وابن سعد وغيرهم. انظر حول ذلك: (تهذيب الكمال: 4/196-198) .
5 وقد ذكره ابن حجر في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين، وهم الذين اتفق على عدم قبول شيء من حديثهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع. (طبقات المدلسين ص121) .
6 لكن تبقى عنعنته في شيخ شيخه؛ فإنه كان معروفاً بتدليس التسوية، وقد رَوَى هذا الحديث بالعنعنة في شيخ شيخه "خالد بن معدان" فينظر في ذلك، وقد يَجْبرُ ذلك كون روايات بقية عن "بحير بن سعد" لها مزيَّة عن غيرها؛ رُبَّمَا لنوع اختصاص له به، ولذا كان شعبة يحضُّ بقية على التحديث عنه فيقول له: "بَحِّر لنا، بَحِّر لنا". ويقول له: "أهد إلى حديث بحير" وهذا الحديث من روايته عنه، والله أعلم. (الميزان 1/338) .
(2/116)
أحمد في (مسنده) 1: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، وقال: فأمره أن يعيد الوضوء".
كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، وسبقه إلى هذا الجواب ابن دقيق العيد، على ما نقله عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2، لكن وقع عنده: (في المستدرك) بدل (مسند أحمد) ، وحمله ابن الملقن - رحمه الله - على أنه خطأ من الناسخ، بدليل أنه جاء به في (الإلمام) على الصواب. وقد تابع ابن دقيق العيد على ذلك: ابنُ حجر رحمه الله، لكنه قال: "في المسند والمستدرك تصريح بقية بالتحديث"3! ونقل ذلك عنه الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) 4! كذا قالوا، وليس هذا الحديث في (المستدرك) ألبتة، كما نَبَّهَ على ذلك ابن الملقن رحمه الله، وبحثت أنا عنه كثيراً فلم أقف له على أثر فيه.
وأما قول ابن القَيِّم - ومن بعده ابن الملقن، ثم ابن حجر -: إنه في (المسند) "عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم". فلم أجده هكذا، وإنما هو عند الإمام أحمد بالإسناد الذي ساقه ابن القَيِّم: "عن بعض أصحاب النبي" فلينظر في ذلك؟
__________
1 انظر: المسند: (3/424) .
2 جـ 1 (ق97/أ) .
3 التلخيص الحبير: (1/96) .
(1/127) .
(2/117)
ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما العلة الثانية1: فباطلة أيضاً على أصل ابن حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالةُ الصَّحَابِي لا تَقْدَح في الحديث؛ لثبوت عدالة جميعهم. وأما أصل ابن حزم: فإنه قال في كتابه في أثناء مسئلة: كلُّ نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم ثقات فواضل عند الله عز وجل، مقدسات بيقين".
وما ذكره ابن القَيِّم في جوابه عن أصل ابن حزم: فإنه قاله بناءً على رواية أحمد التي ذكرها وفيها: "عن بعض أزواج النبي"، وقد قَدَّمْنَا أن رواية المسند التي أمامنا ليس فيها إلا ما يُوافِقُ رواية أبي داود المتقدمة وهو: "بعض أصحاب النبي".
وقد شاركَ ابن حزم في القول بهذه العلة: البيهقيُّ، فقال في (سننه) 2: "وهو مرسل". وكذا قال ابن القطان، كما في (البدر المنير) 3، و (التلخيص الحبير) 4.
قلت: وما أَعَلُّوهُ به من جهالة راويه قد يكون له وجهٌ؛ حيث إن عَنْعَنَة التابعي عن رجل - أو جماعة - من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يَقْبَلْهَا بعضهم، فقال أبو بكر الصيرفي - من الشافعية -: "وإذا قال في الحديث بعض التابعين: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لا يُقبل؛ لأني لا أعلم سمع التابعيُّ من ذلك الرجل؟ إذ قد يُحَدِّث التَّابِعِيُّ عن رجل وعن رجلين
__________
1 وهي جهالة راويه.
(1/83) .
3 جـ 1 (ق97/أ) .
(1/96) .
(2/118)
عن الصحابي، ولا أدري: هل أَمْكَنَ لِقَاءَ ذلك الرجل أم لا، فلو علمت إمكانه منه لجعلته كَمُدْرِكِ العصر. وإذا قال: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِلَ؛ لأن الكل عدول". نقله عنه الحافظ العراقي في (التقييد والإيضاح) 1 ثم قال: "وهو حسنٌ مُتَّجِهٌ، وكلامُ من أَطْلَقَ قبوله محمول على هذا التفصيل، والله أعلم".
لكن نَازَعَهَما الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال في (النكت على ابن الصلاح) 2: "وفيه نظرٌ؛ لأن التابعيَّ إذا كان سالماً من التدليس حُمِلَتْ عنعنته على السماع".
ثم قال رحمه الله: "وإن قلت: هذا إنما يَتَأتَّى في حقِّ كبار التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغارُ التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن التابعين: فلابد من تحقيق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمعه حتى يُعْلَم هل أدركه أم لا؟ فينقدحُ صِحَّة ما قال الصيرفي. قلت: سَلاَمَتُهُ من التدليس كافية في ذلك؛ إذ مدار ذلك على قوة الظَّنِّ به، وهي حاصلة في هذا المقام"3.
وقد يُقال: خالد بن معدان كثيرُ الإرسال، وَوَصَفَهُ الحافظ الذهبي بالتدليس4، الأمر الذي قد يورث خشيةً من عنعنته هنا كما قرره الحافظ ابن حجر. لكن يُقال: قد جعله الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الطبقة
__________
(ص 74) في نوع " المرسل ".
(2/ 562) .
3 النكت على ابن الصلاح: (2/ 563) .
4 طبقات المدلسين: (ص 62) .
(2/119)
الثانية من طبقات المدلسين، وهم الذين احتمل الأئمةُ تدليسهم لإمامتهم، وَقِلَّةِ تدليسهم في جنبِ ما رووا1. وقد قال أبو عبد الله الحاكم في (مستدركه) 2- عقب حديث أخرجه من طريقه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: "خالد بن معدان من خيار التابعين، صَحِبَ معاذ ابن جبل فمن بعده من الصحابة، فإذا أَسْنَدَ حديثاً إلى الصحابة فإنه صحيحُ الإسنادِ، وإن لم يُخْرِجَاهُ".
وقد سَأَلَ الأثرمُ الإمام أحمد فقال: "هذا إسناد جيد؟ قال: جيد"3. وَقَوَّاه كذلك ابن التركماني4، وصححه الشيخ الألباني5.
ومع ذلك، فللحديث شاهدٌ من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً تَوَضَّأَ فترك موضع ظُفْرٍ على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارْجِعْ فَأَحسِن وضُوءَكَ". فرجع ثم صلى6.
فَظَهَرَ من ذلك أن حديث خالد بن معدان هذا ثابت، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وُفِّقَ في رَدِّ العلل التي رُمِيَ بها الحديث على ما بَيَّناهُ من كلامه، مع وجود شاهد له في (صحيح مسلم) . والله أعلم.
__________
1 طبقات المدلسين: (ص 62) .
(2/ 600) .
3 نقله ابن القَيِّم في تهذيب السنن: (1/129) . وانظر: البدر المنير: جـ1 (ق 97/أ) ، والتلخيص الحبير: (1/96) .
4 الجوهر النقي: (1/ 83 - 84) .
5 إرواء الغليل: (1/ 127) ح 86.
6 أخرجه مسلم في صحيحه: (1/ 215) ح 243.
(2/120)
5- بابُ الوضوء من مس الذكر
6- (6) عن بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: "قال الدارقطني: قد صح سماع عروة من بسرة هذا الحديث"1. وهو يشير بذلك إلى الرد على من أعله بعدم سماع عروة منها.
قلت: هذا الحديث مداره على عروة بن الزبير، ويرويه عنه: ابنه هشام بن عروة، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم.
أما رواية هشام بن عروة عن أبيه: فأخرجها ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق عبد الله بن إدريس. وابن الجارود في (المنتقى) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4 كلاهما من طريق أبي أسامة. وابن حبان في (صحيحه) 5، والدارقطني في (سننه) 6 كلاهما من طريق سفيان الثوري، كلهم عن:
هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن بسرة - رضي الله عنها - به. وعند ابن حبان والدارقطني زيادة قوله: " ... فليتوضأ وضوءه للصلاة".
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 133) .
(1/ 161) ح 479. ك الطهارة، باب الوضوء من مَسِّ الذَكَر.
(ح رقم 17) .
(1/ 22) ح 33 باب استحباب الوضوء من مس الذكر.
5 الإحسان: (2/221) ح 113.
(1/ 146) ح2.
(2/121)
وقد رواه جماعة آخرون عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة، بدون ذكر "مروان بن الحكم"، أخرج ذلك: الترمذي في (جامعه) 1، والنسائي في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 ثلاثتهم من طريق: يحيى بن سعيد القَطَّان. وابن حبان في (صحيحه) 4 من طريق: علي بن المبارك. والدارقطني في (سننه) 5 من طريق: عبد الحميد بن جعفر، كلهم عن:
هشام بن عروة، عن أبيه عروة، عن بسرة به. ولفظ ابن حبان: " ... فَلْيُعِدْ الوضوءَ". وعند الدارقطني زيادة وهي: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ أو أنثييه أو رفغيه6 فليتوضأ". قال الدارقطني: "كذا رواه عبد الحميد ابن جعفر عن هشام، وَوَهِمَ في ذكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه ذلك في حديث بسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ: أن ذلك من قول عروة غير مرفوع، كذلك رواه الثقات عن هشام، منهم: أيوب السختياني، وَحَمَّاد بن زيد وغيرهما".
وقد ظَنَّ بَعْضُهم أن هذا الخبر منقطعٌ، لإسقاط هؤلاء الجماعة "مروان بن الحكم" من الإسناد، وقالوا: إن عروة لم يسمعه من بسرة.
__________
(1/ 126) ح 82. ك الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر.
(1/ 216) ك الغسل والتيمم، باب الوضوء من مس الذكر.
(6/ 406 - 407) .
4 الإحسان: (2/ 221) ح 1112.
(1/ 148) ح 10.
6 الرَّفْغُ - بالضم والفتح -: واحد الأَرْفَاغ، وهي أصول المغابن كالآباط والحوالب، وغيرها من مَطَاوي الأعضاء وما يجتمع فيه من الوسَخِ والعَرَقِ. (النهاية 2/244) .
(2/122)
وقد صَوَّرَ الدارقطني - رحمه الله - ما تَوَهَّمَهُ هؤلاء ثم أجاب عنه، فقال: "فلما وَرَدَ هذا الاختلاف عن هشام، أشكلَ أمر هذا الحديث، وظنَّ كثير من الناس - مِمَّن لم يمعن النظر في الاختلاف - أن هذا الحديث غيرُ ثابت ... فلما نظرنا في ذلك وبحثنا عنه: وجدنا جماعة من الثقات الحفاظ منهم: شعيب بن إسحاق، وربيعة بن عثمان، والمنذر بن عبد الله الحزامي، وعنبسة بن عبد الواحد الكوفي، وعلي بن مسهر القاضي ... وزهير بن معاوية الجعفي، رووا هذا الحديث عن: هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، وذكروا في روايتهم في آخر الحديث: أن عروة قال: ثم لقيت بسرة بعد فسألتها عن الحديث، فحدثتني به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني مروان عنها. فَدَلَّ ذلك من رواية هؤلاء النَّفَر على صحة الروايتين الأولتين جميعاً، وزال الاختلاف والحمد لله، وصحَّ الخبر، وثبتَ أن عروة سمعه من بسرة، وشَافَهَتْهُ به بعد أن أخبره مروان عنها". قال: "ومِمَّا يُقَوِّي ذلك ويَدُلُّ على صحته، وأن هشاماً كان يُحَدِّثُ به مرة عن أبيه، عن مروان عن بسرة عن السماع الأول، وكان يحدث به تارة أخرى عن أبيه عن بسرة على مشافهة عروة لبسرة وسماعه منها بعد أن سمعه من مروان عنها: ما قَدَّمْنَا ذكره من رواية ابن جريج، وحماد بن سلمة، وزمعة، وأبي علقمة الفروي ... فإنهم رووه عن هشام على الوجهين جميعاً، وكان هشامٌ ربما نَشِطَ فَحَدَّثَ به على الوجهين جميعاً ... "1. وقال الحاكم نحواً من كلام الدارقطني هذا ثم قال: " ... فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّة الحديث وثبوته على شرط الشيخين، وزالَ عنه الخلاف والشبهة، وثبت سماع عروة من بسرة"2.
__________
1 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 194 - 196) .
2 المستدرك: (1/136) .
(2/123)
وأنا أوردُ طرفاً من هذه الروايات التي صَرَّحَ فيها عروةُ بسماعه من بُسْرَة، والتي أشار الدارقطني إلى جملة منها آنفاً:
فرواية "شعيب بن إسحاق": أخرجها ابن حبان في (صحيحه) 1، والدارقطني في (سننه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 عن هشام، عن أبيه، أن مروان حَدَّثَهُ عن بسرة، فأنكر ذلك عروة، فسأل بسرة، فَصَدَّقَتْهُ بما قال. قال الدارقطني: "صحيح".
ورواية "ربيعة بن عثمان": أخرجها ابن الجارود في (المنتقى) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والحاكم في (المستدرك) 6 وفيه قول عروة: "فسألت بسرة، فَصَدَّقَتْهُ".
واستوعَبَ الحاكم في (المستدرك) 7 بقية هذه الروايات، فلتنظر هناك.
وَجَزَمَ ابن خزيمة في (صحيحه) 8 بسماع عروة من بسرة هذا الحديث، فقال - بعد أن نَقَلَ عن الشافعي وجوب الوضوء من ذلك -:
__________
1 الإحسان: (2/220) ح 1110.
(1/ 146) ح 1.
(1/ 136- 137) .
(ح رقم 18) .
(ح رقم 1111) .
(1/137) .
(1/137) .
(1/ 23) .
(2/124)
"وبقول الشافعي أقول؛ لأن عروة قد سمع خبر بسرة منها، لا كما تَوَّهَّمَ بعض علمائنا ... ".
هذا ما يتعلق بالكلام على رواية هشام بن عروة، عن أبيه عروة.
وأما رواية عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة: فأخرجها مالك في (الموطأ) 1 عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة به. وأخرجه الشافعي في (مسنده) 2 عن مالك، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق الشافعي.
وأخرجه أبو داود في (سننه) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5 من طريق مالك. وأحمد6، وابن الجارود7من طريق سفيان الثوري، وأحمد8 - أيضاً - والطبراني9 من طريق الزهري. والدارمي10 من طريق ابن إسحاق، كُلُّهُم عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال:
__________
(1/42) ح 58، باب الوضوء من مس الفرج.
(ص12) باب ما خرج من كتاب الوضوء.
(1/128) .
(1/125) ح181، باب الوضوء من مس الذكر.
5 الإحسان: (2/220) ح1109.
6 المسند: (6/406) .
7 المنتقى: (ح رقم 16) .
8 المسند: (6/407) .
9 المعجم الكبير: (24/194) ح 490.
10 في مسنده: (1/150) ح 731، باب الوضوء مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ.
(2/125)
سمعت عروة بن الزبير يقول: دخلتُ على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: وَمَنْ مَسِّ الذَّكَرِ الوضوء. فقال عروة: ما علمتُ هذا. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... فذكره، هذا لفظ مالك ومن رواه من طريقه، وعند الباقين - إلا الدرامي - أن عروة أَنْكَرَ ذلك، فأرسلَ مروان رسولاً - وفي رواية حَرَسِيًّا - إلى بُسْرة فجاء بذلك.
وقد وقع خلافٌ في إسناد حديث عبد الله بن أبي بكر أيضاً: فرواه سائر أصحاب مالك عنه كما ذكرنا، وخالفهم عبد الوهاب بن عطاء، فرواه عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة عن بسرة، بإسقاط "مروان بن الحكم" من الإسناد، قال الدارقطني: "والأول أصحُّ"1.
وأخرجه كذلك بإسقاط مروان: النسائي في (سننه) 2من طريق سفيان. والدارمي في (مسنده) 3، والطبراني في
__________
1 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 196) .
(1/216) .
(1/150) ح730.
(2/126)
(الكبير) 1من طريق الزهري، كلهم عن عبد الله بن أبي بكر به.
وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2 من طريق شعبة، عن عبد الله بن أبي بكر - أو أخيه محمد بن أبي بكر - به. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 3من طريق ابن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، وأسقط من الإسناد "عبد الله بن أبي بكر".
وَرُوِيَ على وجوه أخرى غير هذه، وقد استوعبها الدارقطني كُلَّها في (علله) 4 فأفادَ وأجادَ رحمه الله.
وقد حَكَمَ قومٌ بعدم سماع هشام هذا الحديث من أبيه، قال النسائي: "هشام بن عروة لم يسمع من أبيه هذا الحديث"5. وطعن - كذلك - الطحاويُّ في رواية هشام عن أبيه، وقال بأن هشاماً إِنَّمَا أَخَذَهُ عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم6. ولعله استندَ في ذلك إلى ما رواه الطبراني في (الكبير) 7 من طريق: حجاج، عن هَمَّام، عن هشام بن عروة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عن عروة، عن بُسرة به.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهذه الرِّواية لا تَدُلُّ على أن هشاماً لم يسمعه من أبيه، بل فيها: أنه أَدْخَلَ بَينهُ وبينهُ واسطة، والدليل على أنه سمعه من أبيه - أيضاً - ما رواه الطبراني8 أيضاً: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، قال: قال شعبة: لم يسمع هشام حديث أبيه في مَسِّ الذَّكَرِ. قال يحيى: فسألت هشاماً، فقال:
__________
(24/193) ح487.
(ح 1657) .
(24/193) ح 486.
4 جـ5 (ق 196-209) .
5 السنن: (1/216) .
6 شرح معاني الآثار: (1/73) .
(24/198) ح 504.
8 المعجم الكبير: (24/202) ح 519.
(2/127)
أخبرني أبي"1. ثم أشار ابن حجر - رحمه الله - إلى الروايات التي فيها تصريح هشام بسماعه من أبيه وتحديثه إياه، وقد تَقَدَّمَتْ عند الكلام على رواية هشام بن عروة2. ثم قال رحمه الله: "ورواه الجمهور من أصحاب هشام، عنه، عن أبيه بلا واسطة، فهذا: إما أن يكون هشام سمعه من أبي بكر عن أبيه، ثم سمعه من أبيه، فكان يُحَدِّثُ به تارةً هكذا، وتارةً هكذا. أو يكون سمعه من أبيه وَثَبَّتَهُ فيه أبو بكر، فكان تارةً يذكر أبا بكر، وتارةً لا يذكره، وليست هذه العِلَّةُ بقادحة عند المحققين"3.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث أيضاً بمروان بن الحكم، فقال الذين ذهبوا إلى عدم سماع عروة من بسرة: الواسطةُ بين عروة وبسرة: إما مروان بن الحكم، وهو مطعونٌ في عدالته، أو حَرَسِيّه، وهو مجهول4.
وقد تَقَدَّمَ كلام الأئمة في ثبوت سماع عروة هذا الحديث من بسرة، فمن لم يَقْبَل رواية مروان ولم يحتج به، فأمامه رواية عروة عن بسرة مباشرة، ويكون الاعتماد عليها.
وهذا ما قَرَّرَهُ ابن حبان فقال: "عائذ بالله أن نَحْتَجَّ بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا ... وأما خبر بسرة الذي ذكرناه: فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم عن بسرة، فلم يُقْنِعْهُ ذلك حتى بعث مروان شُرطياً له إلى بسرة فسألها، ثم أتاهم فأخبرهم
__________
1 التلخيص الحبير: (1/123) .
2 وانظر: رواية يحيى القطان عن هشام في مسند أحمد: (6/406-407) .
3 التلخيص الحبير: (1/123) .
4 التلخيص الحبير: (1/122) .
(2/128)
بمثل ما قالت بسرة، فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها، فالخبر عن عروة عن بسرة مُتَّصِلٌ ليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد"1.
ومع ذلك فإنَّ عروة نفسه قال في حقِّ مروان: "كان مروان لا يُتَّهَمُ في الحديث"2.
فإذا ظَهَرَ أن جميع ما أُعِلَّ به هذا الحديث مدفوع لا يثبت، فإنني أسوق طرفاً من أقوال الأئمة في تصحيح هذا الحديث:
فقد صَحَّحَه يحيى بن معين واحتجَّ به ونَاظَرَ عليه علي بن المديني3. وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح؟ قال: بل هو صحيح"4. وقال البخاري - وقد سأله عنه الترمذي -: "أصحُّ شيء عندي في مَسِّ الذَّكَرِ حديث بسرة ابنة صفوان"5. وقال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الدارقطني في سننه: "صحيح"، وقد تَقَدَّمَ كلامه عليه وتصحيحه إياه في (علله) . وقال الإسماعيلي في (صحيحه) : "يلزم البخاري إخراجه؛ فقد أخرج نَظِيرَهُ"6 وَصَحَّحَهُ ابن خزيمة وابن حبان،
__________
1 الإحسان: (2/220) .
2 تهذيب التهذيب: (10/92) .
3 سنن البيهقي: (1/136) .
4 التلخيص الحبير: (1/122) .
5 علل الترمذي: (1/156) .
6 التلخيص الحبير: (1/122) .
(2/129)
وقد تقدم كلامهما. وصححه أبو عبد الله الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: " ... هو على شرط البخاري بكل حال"1 وقال الشيخ الألباني: "صحيح"2.
فالحاصل: أن حديثَ بُسْرَة قد أُعِلَّ بعلل، منها: انقطاعه بين عروة وبسرة. ومنها: عدم سماع هشام من أبيه عروة. ومنها: الكلام في مروان بن الحكم. وقد أَشَارَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى جواب العلة الأولى، فنقل عن الدارقطني صحة سماع عروة من بسرة، ولم يتعرض -رحمه الله- لباقي العلل، وقد ثبت صحة الحديث والحمد لله.
ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب:
7- (7) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ، ليس بَيْنَهُ وبينه شيءٌ، فَلْيَتَوَضَّأ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وعزاه إلى الشافعي، ثم نقل قول ابن السكن، وابن عبد البر، والحازمي في تصحيحه3. وسيأتي بيان ذلك.
قلت: هذا الحديث أخرجه: الشافعي في (مسنده) 4 - ومن طريقه
__________
1 التلخيص الحبير: (1/122) .
2 الإرواء: (1/150) ح 116.
3 تهذيب السنن: (1/134) .
(ص 12-13) باب ما خرج من كتاب الوضوء.
(2/130)
الحازمي1 - وأحمد في (مسنده) 2، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 3، من طرق عن:
يزيد بن عبد الملك4، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، واللفظ الذي ساقه ابن القَيِّم هو لفظ الشافعي، إلا أن فيه "ليس بينه وبينه شيء"، لكنه عند الحازمي - من طريق الشافعي - كما ساقه ابن القَيِّم. ولفظ الإمام أحمد: "من أَفْضَى بِيَدِهِ إلى ذَكَرِهِ، ليس دونه سِتْرٌ، فقد وَجَبَ عليه الوضوء". وهو عند البيهقي مختصر، ولفظه: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فعليهِ الوضوء"، لكن أخرجه من وجه آخر، ولفظه: "من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وَجَبَ عليه وضوء الصلاة".
والحديث من هذا الطريق ضعيف؛ لضعف يزيد بن عبد الملك النوفلي، لكن تابعه عليه نافع بن أبي نعيم5.
فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 6، والطبراني في (الصغير)
__________
1 الاعتبار: (ص43) .
(2/333) .
3 قط: (1/147) ح6. هق: (1/130، 133) .
4 ابن المغيرة بن نوفل بن الحارث الهاشمي النوفلي، ضعيف، من السادسة /ق. (التقريب 603) .
5 نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القاريء، المدني، مولى بني ليث، وقد ينسب لجده، صدوقٌ ثَبْتٌ في القراءة، من كبار السابعة، مات سنة 169هـ/ فق. (التقريب558) .
6 الإحسان: (2/222) ح 1115.
(1/42) .
(2/131)
من طريق: أصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك كليهما، عن سعيد المقبري به. وعند ابن حبان: " ... وليس بينهما سترٌ ولا حجابٌ فليتوضأ".
قال أبو حاتم ابن حبان - رحمه الله - عقب إخراجه: "احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك النوفلي؛ لأن يزيد بن عبد الملك تَبَرَّأْنَا من عهدته في كتاب الضعفاء"1.
وصَحَّحَ رواية نافع بن أبي نعيم هذه أيضاً: ابن السكن، فقال: "هذا الحديث من أجودِ ما رُوِي في هذا الباب، لرواية ابن القاسم صاحب مالك، عن نافع بن أبي نعيم، وأما يزيد: فضعيف"2.
وقال ابن عبد البر: "كان حديث أبي هريرة هذا لا يعرف إلا بيزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد، عن أبي هريرة، حتى رواه أصبغ ابن الفرج، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك جميعاً، عن سعيد، عن أبي هريرة. فَصَحَّ الحديث بنقل العدل عن العدل على ما ذكر ابن السكن، إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم، وخالفه ابن معين فيه، فقال: هو ثقة، وقال أحمد بن حنبل: هو ضعيف، منكر الحديث"3.
قلت: وهذه المقالة من الإمام أحمد لم أقف على مثلها عند غيره.
__________
1 انظر كلامه عليه في المجروحين: (3/102) .
2 الاستذكار: (1/311) .
3 الاستذكار: (1/311-312) .
(2/132)
وَوَثَّقَهُ ابن معين كما تقدم، فقال: "ثقة"1. وقال ابن المديني: "كان عندنا لا بأس به"2. وقال ابن سعد: "كان ثبتاً"3. وقال الساجي: "صدوق"4. وقال أبو حاتم: "صدوق صالح الحديث"5 وقال النسائي: "ليس به بأس"6. وقال ابن عدي: " ... ولم أَرَ في حديثه شيئاً منكراً، وأرجو أنه لا بأس به"7.
وذكره ابن حبان في (الثقات) 8. فأنَّى له - بعد أقوال هؤلاء الأئمة - أن يكون منكر الحديث؟! بل يحصل من مجموع كلامهم - رحمهم الله - أنه حسن الحديث على أقل أحواله، ولذلك صَحَّحَ الأئمة حديثه كما تَقَدَّمَ، وجعلوه شاهداً لحديث يزيد بن عبد الملك.
وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) 9 من طريق نافع هذا وحده، غير مقرون بيزيد، وقال: "حديث صحيح، وشاهده الحديث المشهور عن يزيد بن عبد الملك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة".
__________
1 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/602) .
2 الميزان: (4/242) .
3 تهذيب التهذيب: (10/408) .
4 المصدر السابق.
5 الجرح والتعديل: (4/1/457) .
6 الميزان: (4/242) .
7 الكامل: (7/51) .
(7/532) .
(1/138) .
(2/133)
وقال الحازمي: " ... وقد رُوِي عن نافع ... كما رواه يزيد بن عبد الملك، وإذا اجتمعت هذه الطرق دَلَّتْ على أن هذا الحديث له أصل من رواية أبي هريرة"1.
وقال ابن حبان في كتاب (الصلاة) : "هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته"2.
فَتَحَصَّل عندنا أن هذا الحديث وإن كان يُضَعَّف من طريق "يزيد ابن عبد الملك"، فإنه بانضمام طريق "نافع بن أبي نعيم" إليه يأخذ قوة ويصير حسناً، وقد حَكَمَ عليه الأئمة الحُفَّاظ بالصحة: ابن السكن، وابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر، والحازمي. وقد نَقَلَ ابن القَيِّم - رحمه الله - قول ابن السكن، وابن عبد البر، والحازمي كما تَقَدَّم.
__________
1 الاعتبار: (ص43-44) .
2 التلخيص الحبير: (1/126) .
(2/134)
6- باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر
8- (8) حديث طلق بن علي أنه سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يَمَسُّ ذَكَرَهُ بعد الوضوءِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ هُوَ إلا مُضْعَةٌ مِنْكَ، أو بَضْعَةٌ مِنْكَ".
تَكَلَّمَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث، فَذَهَبَ إلى أنه مَرْجُوحٌ، وأن حديث بُسْرة - الماضي ذِكْره - وغيره من الأحاديث الواردة في انتقاض الوضوء بمس الذَّكَرِ راجحة على حديث طَلْقٍ هذا في عدم الانتقاض، وذكر جملةً من المرجحات1 سيأتي نقلها عنه إن شاء الله.
قلت: حديث طلق هذا مداره على قيس بن طلق2، عن أبيه طلق بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.
وقد رواه عن قيس بن طلق جماعة، منهم:
__________
1- عبد الله بن بدر3: أخرج ذلك أبو داود4، والترمذي5،
1 تهذيب السنن: (1/ 134 - 135) .
2 ابن علي الحنفي، اليَّمَامِي، صدوق، من الثالثة، وَهِمَ من عَدَّهُ من الصحابة/4. (التقريب 457) .
3 ابن عميرة الحنفي السحيمي، اليمامي، كان أحد الأشراف، ثِقةٌ، من الرابعة/ 4. (التقريب 296) .
(1/127) ح 182 ك الطهارة، باب الرخصة في ذلك (يعني: مس الذكر) .
(1/ 131) ح 85 ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر.
(2/135)
والنسائي1 في (سننهم) ، وابن الجارود في (المنتقى) 2 وابن حبان في (صحيحه) 3، والطبراني في (الكبير) 4، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق عن:
مُلاَزِم بن عمرو6، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن طلق ابن علي قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بَدَوِيٌّ فقال: يا نَبِيَّ الله، ما ترى في مَسَّ الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال: "هل هو إلا مُضْغَةٌ7 منه. أو قال: بَضْعَةٌ8 منه". هذا لفظ أبي داود، والباقون نحوه، إلا أن عند النسائي، وابن الجارود، والدارقطني قول الرجل: " ... ما ترى في رجل مَسَّ ذكره في الصلاة؟ ". وعند ابن حبان: "أَحَدُنَا يكون في الصلاة، فيحتك، فتصيب يَدُهُ ذَكَرَه؟ ". وهو عند الترمذي مختصر، ليس فيه إلا ذكر اللفظ المرفوع، دون ذكر كلام طلق، ولا سؤال الرجل.
وهذا إسناد لا ينزلُ عن درجة الحسن، وَكَأَنَّ البيهقي - رحمه الله - أراد أن يغمز هذا الإسناد، فنقل عقب روايته عن أحمد بن إسحاق
__________
(1/ 101) ك الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك.
(ح رقم 21) .
3 الإحسان: (2/ 223) ح 1116، 1117.
(8/ 398) ح 8243.
5 قط: (1/ 149) ح 17. هق: (1/ 134) .
6 ابن عبد الله بن بدر، أبو عمرو اليَّمامي، صدوق، من الثامنة / 4. (التقريب 555) .
7 الْمُضْغَةُ: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها: مُضَغٌ. (النهاية 4 / 339) .
8 البَضْعَةُ: القطعة من اللحم، وقد تكسر. (النهاية 1/133) .
(2/136)
الضبعي قوله: "ملازم فيه نَظَرٌ"!
قلت: قد وَثَّقَهُ الإمام أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني1. وقولهم - لا شكَّ - مُقَدَّمٌ على قول الضبعي؛ فهم أئمة هذا الشأن وفرسانه، كيف وقد انفرد الضبعي بهذه المقالة؟! ولذلك فقد صَحَّحَ الترمذي حديث ملازم هذا، وَقَدَّمَهُ على غيره من طرق حديث طلق، فقال: "وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة، ومحمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه ... وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر أصحُّ وأحسن"2. فَسَقَطَ بذلك الطعن في ملازم، وتبين أنه لا مجال لغمزه.
2- محمد بن جابر3: أخرجه أبو داود وابن ماجه في (سننيهما) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6،
__________
1 انظر أقوالهم على الترتيب في: بحر الدم: (رقم 1052) ، والتاريخ برواية الدوري (2/ 585 رقم 3249) ، والجرح والتعديل: (8/ 436) ، وتهذيب التهذيب: (10/384 - 385) .
2 جامع الترمذي: (1/ 132) .
3 ابن سَيَّار بن طارق الحنفي، اليمامي، أبو عبد الله، صدوقٌ، ذَهَبَتْ كُتبه فساء حفظه وَخَلَّطَ كثيراً، وعَمِيَ فصار يُلَقَّن، ورجحه أبو حاتم على ابن لهيعة، من السابعة، مات بعد السبعين/د ق. (التقريب 471) .
4 د: (1/128) ح 183. جه: (1/163) ح 483.
(4/23) .
(ح رقم 20) .
(2/137)
وعبد الرزاق في (المصنف) 1، والطبراني في (الكبير) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5، من طرق، عن:
محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وعندهم أن السائل هو طلق بن علي، إلا في رواية الإمام أحمد والدارقطني فعندهما: أن رجلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم.
ومحمد بن جابر ضعيف، ضعفه غير واحد من أئمة الشأن، فقال ابن معين: "ليس بشيء"6. وقال عمرو بن علي: " ... كثيرٌ الوهم، متروكُ الحديثِ"7. وقال أبو زرعة: "ساقط الحديث"8. وقال البخاري: "ليس بالقوي عندهم"9. وقال النسائي: "ضعيف"10.
ولذلك فقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من العلماء بمحمد بن جابر
__________
(1/117) ح 426.
(8/396) ح 8233، 8234.
(1/149) ح 15.
(ص42) باب ما جاء في مس الذكر.
(1/362) ح 597، 599.
6 تاريخ الدوري عن ابن معين: (2/507) .
7 تهذيب التهذيب: (9/89) .
8 الجرح والتعديل: (3/2/220) .
9 الضعفاء الصغير: (ص 204) .
10 الضعفاء والمتروكين: (ص93) .
(2/138)
هذا، فسأل ابنُ أبي حاتم أَبَاه وأبا زرعة عنه "فلم يثبتاه"1. وقال الترمذي: "وقد تَكَلَّمَ بعض أهل العلم في محمد بن جابر ... وحديث ملازم - يعني الطريق السابق - أصحُّ وأحسن". وضعفه به: ابن الجوزي2، والبيهقي3، والزيلعي4.
3- أيوب بن عتبة5: أخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 6، والحازمي في (الاعتبار) 7، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 8.
وهذا أَعَلَّهُ: الترمذيُّ، والبيهقيُّ، وابن الجوزي، والزيلعي، بأيوب بن عتبة9، فقد ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء10.
4- أيوب بن محمد العِجْلي: أخرجه الدارقطني في (سننه) 11، وابن
__________
1 علل ابن أبي حاتم: (1/48) ح 111.
2 العلل المتناهية: (1/363) .
3 السنن: (1/134-135) .
4 نصب الراية: (1/61) .
5 اليمامي، أبو يحيى القاضي، ضعيف، من السادسة، مات سنة160هـ/ق. (التقريب118) .
6 حم: (4/22) . طس (ح1096) .
(ص42-43) .
(1/362) ح 596.
9 انظر كلامهم على الطريق الذي قبله.
10 انظر أقوال الأئمة في أيوب هذا في (تهذيب التهذيب) : (1/408-409) .
11 (1/149) ح18.
(2/139)
الجوزي في (علله) 1 من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن أيوب بن محمد، عن قيس بن طلق، عن أبيه به.
قال الدارقطني عقب إخراجه: "أيوب مجهول".
قلت: هو أيوب بن محمد، أبو سهل العجلي، اليمامي. ضَعَّفَهُ ابن معين2. وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"3.
وعبد الحميد بن جعفر - الراوي عنه - كان سفيان الثوري يُضَعِّفُه، وَوَثَّقَه غيره4. وقد أشار ابن الجوزي5، والزيلعي6 إلى ضعف هذا الإسناد بهذين الرجلين.
5- عكرمة بن عمار7: أخرجه من طريقه ابن حبان في (صحيحه) 8 فقال: "ذكر الخبر الْمُدْحِض قول من زعم أن هذا ما رواه ثقة عن قيس بن طلق خلا ملازم بن عمرو". ثم ساقه بإسناده إلى عكرمة،
__________
(1/362) ح598.
2 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص179) رقم 645.
3 الجرح والتعديل: (1/1/257) .
4 الجرح والتعديل: (3/1/10) ، والميزان: (2/539) .
5 العلل المتناهية: (1/363) .
6 نصب الراية: (1/61) .
7 العِجْلي، أبو عمار اليمامي، صدوقٌ يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، من الخامسة، مات قبيل الستين / خت م 4. (التقريب 396) .
8 الإحسان: (2/223) ح1118.
(2/140)
عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً.
وأشار البيهقي - رحمه الله - إلى رواية عكرمة هذه، ثم قال:
"وعكرمة بن عمار أمثلُ مَنْ رواه عن قيس، وعكرمة بن عمار قد اختلفوا في تعديله: غمزه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وضعفه البخاري جداً"1.
قلت: لكن وَثَّقَهُ ابن معين، وابن المديني، والعجلي، وأبو داود، والدارقطني، ويعقوب بن شيبة، وابن شاهين، وابن حبان وغيرهم2. وإنما ضعفوه في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فإن فيها اضطراباً. قال ابن التركماني في (الجوهر النقي) 3 - متعقباً البيهقي -: "احتجَّ به مسلم، واستشهد به البخاري، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك ... ". فالرجل بهذه المثابة حسن الحديث إن شاء الله.
وبعد، فهذه هي طرق هذا الحديث، وهؤلاء هم رواته عن قيس بن طلق، وأمثلُ هذه الطرق: هو طريق "ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر" كما تقدم، وكذا طريق عكرمة بن عمار عن قيس، فإنه لا غبار عليه،
__________
1 سنن البيهقي: (1/135) .
2 انظر أقوالهم على الترتيب في: تاريخ الدوري عن ابن معين (2/414) ، وسؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (رقم 169) ، وثقات العجلي: (ص339 رقم 1159) ، وسؤالات الآجري لأبي داود: (رقم 707) ، وسؤالات البرقاني للدارقطني (رقم 403) ، وثقات ابن شاهين: (رقم 1074) ، وثقات ابن حبان: (5/233) ، وتهذيب التهذيب: (7/262) .
(1/134) .
(2/141)
فهو يلي طريق عبد الله بن بدر في الرتبة، وتكون الطرق الثلاثة الأخرى متابعات لهذين الطريقين ومؤيدة لهما، ومجموع هذه الطرق يجعل هذا الحديث يصل إلى درجة الصحيح لغيره، أو يكون حسناً على أقل تقدير.
وقد صَحَّحَهُ جمع من الأئمة، منهم: الترمذي، فقال: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب"، وذهب - رحمه الله - إلى أن طريق ملازم بن عمرو هو أصح طرق هذا الحديث وأحسنها. وصححه كذلك الطحاوي، فقال: "هذا حديث مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا متنه"1. ثم ذكر بسنده إلى عليِّ بن المديني أنه قَدَّمَهُ على حديث بسرة من طريق ملازم بن عمرو. وَصَحَّحَه كذلك الطبراني2، وعبد الحق في (أحكامه) ، قال الزيلعي: "وذكر عبد الحق في أحكامه حديث طلق هذا، وسكت عنه، فهو صحيح عنده على عادته في مثل ذلك"3. وصححه كذلك: عمرو بن علي الفلاس، وقال: "هو عندنا أثبت من حديث بسرة"4. وقال ابن حزم: "هذا خبر صحيح"5. وظاهرُ صنيع ابن حبان تصحيحه إياه، حيث أخرجه في (صحيحه) وذكر له متابعة ما رأيت أحداً أخرجها سواه، تلك التي من طريق: عكرمة بن عمار، عن قيس بن طلق به، وتَقَدَّمَ كلامه في ذلك. وقال الزيلعي - عند كلامه على
__________
1 شرح معاني الآثار: (1/ 76) .
2 المعجم الكبير: (8/ 402) .
3 نصب الراية: (1/ 62) .
4 التلخيص الحبير: (1/ 125) .
5 المحلى: (1/ 123) .
(2/142)
أحاديث عدم النقض -: " ... حديث طلق بن علي، وهو أمثلها"1. وذهب ابن القطان إلى حُسْنِهِ، مُتَعَقِّبَاً بذلك عبد الحق في سكوته عليه، فقال: "والحديث مختلف فيه، فينبغي أن يقال فيه: حسن، ولا يحكم بصحته"2. وصححه - أيضاً - الشيخ أحمد شاكر3 رحمه الله.
فهذه أقوال المصححين لهذا الحديث، وقد ذهبت طائفة أخرى إلى القول بضعفه، وتنحصر العلل التي أعلوا بها هذا الحديث فيما يلي:
أولاً: ضعفُ قيس بن طلق، فقد قال الشافعي - فيما روى عنه الزعفراني -: "سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا4 قبول خبره"5. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "قيس بن طلق ليس ممن تقوم به الحجة"6 وَوَهَّمَاه. وروى البيهقي بسنده إلى ابن معين أنه قال: "قد أكثر الناس في قيس بن طلق، ولا يحتج بحديثه"7.
ثانياً: ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة وغيرهما من الذين رووه عن قيس بن طلق.
والجواب عن ذلك:
__________
1 نصب الراية: (1/ 60) .
2 نصب الراية: (1/ 62) .
3 التعليق على جامع الترمذي: (1/ 132) .
4 يعني: بما يُسَوِّغ لنا.
5 سنن البيهقي: (1/ 135) .
6 علل ابن أبي حاتم: (1/ 48) ح 111.
7 سنن البيهقي: (1/ 135) .
(2/143)
أولاً: أما قيس بن طلق، فإنه وإن لم يعرفه الشافعيُّ فقد عرفه غيره، وَوَثَّقَهُ جماعة من أهل الشأن: ابن معين1، والعِجلي2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3، هذا مع رواية جماعة كثيرين عنه4، ومثله لا يكون مجهولاً، فعدم معرفة الشافعي به لا يوجب تركه ما دام غيره قد عرفه ووثقه.
وأما ما رواه البيهقي عن ابن معين من عدم الاحتجاج به، فقد رَدَّهُ ابن التركماني، فقال: "ذكر البيهقي ذلك بسند فيه محمد بن الحسن النَّقَّاشِ المفسر، وهو من المتهمين بالكذب، وقال البرقاني: كل حديثه مناكير ... "5. وقد تَقَدَّمَ من رواية الدارمي عن يحيى أنه وَثَّقَهُ، ولا شكَّ أن ذلك مُقَدَّم.
ثانياً: وأما ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة: فقد قَدَّمْنَا أن الاعتماد في ذلك على رواية عبد الله بن بدر عن قيس، فإنها أصحُّ هذه الطرق وأحسنها كما قال غير واحد. ثم إن رواية "عكرمة بن عمار" عن قيس متابعة قوية أيضاً، فعكرمة أمثل من رواه عن قيس كما قال غير واحد، وإذا كان الأمر كذلك، فإن روايتي محمد بن جابر وأيوب بن عتبة تكون كالمتابعات لرواية عبد الله بن بدر دون اعتماد عليهما.
فإذا ثَبَتَ لدينا أن حديثَ طلق هذا ليس بضعيف، وأنه بمجموع
__________
1 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص 144) رقم 486.
(الثقات) بترتيب الهيثمي: (ص 393) .
(5/ 313) .
4 انظر: تهذيب التهذيب: (8/ 398) .
5 الجوهر النقي: (1/134-135) .
(2/144)
طرقه حسن على أقل أحواله - مع تصحيح جماعة له - وأن ما أُعِلَّ به لا يرد عليه، إذا تَقَرَّرَ ذلك: فإن حديث طلق هذا في عدم الانتقاض بالمسِّ يكون مخالفاً في ظاهره لحديث بُسرة وغيرها من الصحابة الذين رووا الانتقاض، ولقد سلك العلماء إزاء هذا التعارض1 مسالك، أبرزها:
أولاً: الجمع بين الحديثين، وذلك من وجوه:
1- أنَّ خبر طلق يُحْمَلُ على الْمَسِّ بحائل، واستدلوا ببعض ألفاظه التي جاء فيها أنه سُئِلَ عن مَسِّهِ في الصلاة، قالوا: فالْمُصَلي لا يمسُّ فرجه من غير حائل في الصلاة. حكاه الخطابي2. وقَرَّرَ ابن حبان -رحمه الله- ذلك، فقال في (صحيحه) 3: "ذكر البيان بأن الأخبار التي ذكرناها مجملة بأن الوضوء إنما يجب من مَسِّ الذكر إذا كان ذلك بالإفضاء دون سائر المسِّ، أو كان بينهما حائل". ثم ساق حديث المقبري عن أبي هريرة، ولفظه: "إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بيده إلى فرجه، وليس بينهما سِتر ولا حجاب فليتوضأ".
2- أن المسَّ الذي لا ينقضُ هو ما لم يكن مُتَعَمَّدَاً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال - وقد سئل عن ذلك -: "إن لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه"4.
وقيل بغير ذلك من وجوه الجمع.
__________
1 وقد قَرَّرَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة هذا التعارض، انظر: القواعد النورانية: (ص 33) .
2 معالم السنن: (1/ 133) .
3 الإحسان: (2/ 222) ح 1115.
4 مجموع الفتاوى: (21/ 231) .
(2/145)
ثانياً: النسخ. فقد ذهب جماعة إلى أن حديثَ طلق منسوخ، منهم:
ابن حبان، والطبراني، والحازمي، وغيرهم. وأوضحَ ابن حبان ذلك، فَرَوى بإسناده إلى قيس بن طلق، عن أبيه في قصة بنائه مسجد المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ؛ لأن طلقَ ابن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنةٍ من سِنيِّ الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد روى أبو هريرة إيجاب الوضوء من مَسِّ الذكر على حسب ما ذكرناه قبل، وأبو هريرة أسلمَ سنة سبع من الهجرة، فدلَّ ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين"1.
ثم روى ابن حبان بإسناده - أيضاً - إلى طلق حديث قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعته إياه، ثم رجوعه إلى بلده، ثم قال: "في هذا الخبر بيانٌ واضحٌ أنَّ طلقَ بن عليٍّ رجع إلى بلده بعد القَدْمَةِ التي ذكرنا وقتها، ثم لا يُعْلَمُ له رجوعٌ إلى المدينة بعد ذلك. فمن ادَّعَى رجوعه بعد ذلك، فعليه أن يأتي بِسُنَّةٍ مُصَرِّحَةٍ، ولا سبيل له إلى ذلك"2.
وقد ذكر الحازمي مثل ذلك، ثم قال: "ثم نظرنا: هل نجد أمراً يؤكد ما صرنا إليه، فوجدنا طلقاً روى حديثاً في المنع، فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّةِ النقل في إثبات النسخ، وأن طلقاً قد شاهد الحالتين، وروى الناسخ والمنسوخ"3.
__________
1 الإحسان: (2/ 224) .
2 الإحسان: (2/ 224 - 225) .
3 الاعتبار: (ص47) .
(2/146)
قلت: وحديث طلق في المنع هو الذي أخرجه الطبراني في (الكبير) 1 من طريق: حماد بن محمد، ثنا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ثم قال الطبراني - عنه وعن حديث عدم النقض -: "وهما عندي صحيحان، ويشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا فوافق حديث بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني وغيرهم ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فسمع المنسوخ والناسخ". ولكن "أيوب بن عتبة" ضعيف كما تقدم.
وذهب ابن حزم - أيضاً - إلى نسخه مستدلاً على ذلك بأمور:
أولها: أن خبر طلق موافق لما كان عليه الناس قبل ورود الأمر بخلافه، وإذا كان كذلك فإنه منسوخ يقيناً بورود الأمر بالوضوء من مس الذكر.
الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هل هو إلا بَضْعَةٌ منك" دليل بَيِّنٌ على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه، لأنه لو كان بعده لم يَقُلْ صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، فقوله هذا يدل على أنه لم يكن سَلَفَ فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء2.
ثالثاً: الترجيح. وهذا هو المسلك الذي سَلَكَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، وذكر في ذلك عدة مُرَجِّحَات:
__________
(8/401) ح 2852.
2 انظر: المْحُلَّى: (1/323) بتصرف.
(2/147)
- منها: قوله بضعف حديث طلق، وقد بَيَّنَّا أن الأمر على خلاف ذلك، وأنه حسن بمجموع طرقه، لكن الذي لا شك فيه أن حديث بسرة أقوى، وبخاصة إذا راعينا مشاركة جملة من الصحابة لها في رواية النقض.
- ومنها: الاختلاف على طلق، فقد روى عنه النقض أيضاً، كما سبق بيان ذلك.
- ومنها: أن حديث طلق مُبْقٍ على الأصل - وهو عدم النقض - وحديث بُسرة ناقل عن الأصل، والناقل مقدم؛ لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه. وهذا من أدلة النسخ كما تَقَدَّمَ في كلام ابن حزم، لكن جعله ابن القَيِّم من جملة المرجحات لحديث بسرة.
- ومنها: أنه قد روى النقض: بسرة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأم حبيبة، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، ولا شكَّ أن العدد الكثير من الصحابة مقدم على رواية الواحد.
- ومنها: قولُ أكثر الصحابة بالنقض، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله ابنه، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة، وعن كلٍّ من سعد بن أبي وقاص وابن عباس روايتان1.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث طلق في عدم نقض الوضوء بمس الذكر
__________
1 انظر: تهذيب السنن: (1/134-135) .
(2/148)
ما بين: مُؤَوَّل، ومرجوح، ومنسوخ، ولقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضعف حديث طلق - على ما في ذلك من نظر - وأنه مرجوح بمرجحات أخرى غير ضعفه، وقال بأنه على تقدير صحته منسوخ.
ولعلَّ القول بالجمع بين الخبرين - إعمالاً لجميع الأدلة - أولى، والله أعلم.
(2/149)
7 ـ باب الوضوء من لحم الإبل
...
7- باب الوضوء من لحوم الإبل
9- (9) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغَنَم؟ قال: "إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلا تَتَوَضَّأْ" قَالَ: أَتَوَضَّأُ من لحومِ الإبِلِ؟ قال: "نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِن لُحُومِ الإبِلِ". قال أُصَلِّي في مَرَابِضَ الغَنَمِ؟ قال: "نعم". قِال أُصَلِّي في مباركِ الإبل؟ قال: "لا".
ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (تهذيب السنن) 1، وذكر أن عليَّ ابن المديني أعله بجهالة "جعفر بن أبي ثور" راويه عن جابر، ثم قال: "وهذا تعليل ضعيف". ثم نقل أقوال العلماء في جعفر.
قلت: هذا الحديث يرويه عن جابر بن سمرة: جعفر بن أبي ثور2. ورواه عن جعفر ثلاثةُ نَفَرٍ:
أولهم: عثمان بن عبد الله بن موهب. أخرجه مسلم في (صحيحه) 3، وأحمد في (مسنده) 4، وابن خزيمة وابن حبان في
__________
(1/ 136 - 137) .
2 واسم أبيه: عكرمة، وقيل غير ذلك، يكنى: أبا ثور، مقبولٌ، من الثالثة / م ق. (التقريب 140) .
(1/ 275) ح 97 (360) ك الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل.
(5/ 98، 106) .
(2/150)
(صحيحيهما) 1، والبيهقي في (سننه) 2 كلهم من طريق:أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله3، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة به. واللفظ المسوق أول الباب لفظ مسلم، ولفظ الباقين بنحوه.ثانيهم: سِمَاك بن حرب4. أخرجه أحمد في (مسنده) 5 من طريق زائدة. وابن الجارود في (المنتقى) 6 من طريق سفيان الثوري، كلاهما عن: سِماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بنحو لفظ مسلم المتقدم.وأخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 7، وابن حبان في (صحيحه) 8، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 9 من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي ثور بن عكرمة، عن جابر به. كذا__________1 خز: (1/ 21) ح 31. حب: الإحسان: (2/ 225) ح 1121.(1/ 158) .3 ابن موهب التيمي مولاهم، المدني، الأعرج، وقد ينسب إلى جده، ثقة، من الرابعة، مات سنة 160 هـ/ خ م ت س ق. (التقريب 385) .4 الكوفي، أبو المغيرة، صدوقٌ وروايته عن عِكْرِمة خاصة مضطربةٌ، وقد تَغَيَّرَ بِأخرة فكان رُبَّمَا تَلَقَّنَ، من الرابعة، مات سنة 123 هـ/ خت م 4. (التقريب 255) .(5/ 108) .(ح 25) .7 حم: (5/ 93، 100) . طس: (ح 766) .8 الإحسان: (2/ 225) ح 1123.(2/ 16) .
(2/151) عند أحمد وابن حبان، وعند الطيالسي: سمعت أبا ثور يُحَدِّثُ عن جابر ابن سمرة، ومن طريق أبي داود ساقه الخطيب.وقد خَطَّأوا شُعبة في روايته تلك، فقال الترمذي في (علله) 1: "أخطأ شعبة في حديث سماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة ... فقال: عن سماك، عن أبي ثور". وقال الحاكم أبو أحمد: " ... وليس ذكر عكرمة في نسبه بمحفوظ"2.ونقل ابن القَيِّم إعلال الترمذي لهذه الرواية، وأنه قال: "حديث سفيان أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ ... "3. ونسب ذلك إلى (العلل) ، والذي فيه ما نقلته بدون تقديم حديث سفيان.قلت: ولا أدري ما وجه تخطئة الترمذي شعبة في هذا الحديث، فإنه قد ذكره بكنيته، وقد نَصَّ على كنيته غير واحد، منهم ابن حبان، فقال: "فجعفر بن أبي ثور هو أبو ثور بن عكرمة"4. ونص على ذلك الخطيب5 أيضاً، فالرجل كنيته توافق كنية أبيه، فما أخطأ من ذكره بكنيته.وثالث الرواة له عن جعفر بن أبي ثور: أشعث بن أبي الشعثاء6.__________(1/ 154) .2 تهذيب التهذيب: (2/ 87) .3 تهذيب السنن: (1/ 136 - 137) .4 الإحسان: (2/ 226) .5 موضح أوهام الجمع والتفريق: (2/ 16) .6 المحاربي، الكوفي، ثقة، من السادسة، مات سنة 125 هـ / ع. (التقريب 113) .
(2/152) أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، وابن حبان في (صحيحه) 2 عن أشعث، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَتَوَضَّأَ من لحومِ الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم".فهؤلاء هم رواة هذا الحديث عن جعفر بن أبي ثور، قال ابن خزيمة عقب إخراجه هذا الحديث: "فهؤلاء ثلاثة من أَجِلَّةِ رواة الحديث، قد رووا عن جعفر ابن أبي ثور هذا الخبر".وأما حكمُ عليِّ بن المديني عليه بالجهالة: فقد روى ذلك البيهقي في (سننه) 3 بسنده إلى محمد بن أحمد بن البراء عن علي. ولكن هذا غير مقبول منه رحمه الله؛ فإن جعفراً هذا وإن لم يوثقه غير ابن حبان، فإنه مشهورٌ شهرةً تغني عن البحث عن حاله، مع رواية هؤلاء الأجلة - المتقدم ذكرهم - عنه، قال الإمام الترمذي: "جعفر بن أبي ثور رجل مشهور"4. وقال أبو أحمد الحاكم: "هو من مشايخ الكوفيين الذين اشتهرت روايتهم عن جابر ... "5. وقال ابن حبان: "أبو ثور بن عكرمة ابن جابر بن سمرة اسمه: جعفر، وكنية أبيه: أبو ثور ... فمن لم يُحْكِمْ صناعة الحديث تَوَهَّمَ أنهما رجلان مجهولان، فتفهموا رحمكم الله كيلا تغلطوا فيه"6. وقال البيهقي: "وجعفر بن أبي ثور هو رجل مشهور،__________(1/ 166) ح 495 ك الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل.2 الإحسان: (2/ 225) ح 1122، و (2/ 226) ح 1124.(1/ 158) .4 العلل: (1/ 154) .5 تهذيب التهذيب: (2/ 87) .6 الإحسان: (2/ 226) .
(2/153) من ولد جابر بن سمرة" ثم ذكر الرواة عنه وقال: "ومن روى عنه مثل هؤلاء خَرَجَ من أن يكون مجهولاً، ولهذا أَوْدَعَهُ مسلم بن الحجاج في كتابه الصحيح"1.وهذا الحديث صَحَّحَهُ: أحمد بن حنبل2، وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: "صَحَّ في هذا الباب حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة"3. وقال ابن خزيمة: "لَمْ نر خِلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيحٌ من جهة النقل". وصححه ابن حبان بإخراجه في (صحيحه) ، وَمَالَ البيهقيُّ إلى تصحيحه، وقد مضى كلامه. وكفى بإخراج مسلم له في (صحيحه) .فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ما أَعَلَّهُ به ابن المديني من تجهيل راويه لم يتحقق التعليل به، وقد رَدَّ ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، واستشهد على صحة الحديث بكلام الأئمة الأعلام، فأصاب رحمه الله.وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم - رحمه الله - صِحَّة هذا الخبر، فقال: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أَكْلِهِ في حديثين صحيحين، لا معارضَ لهما، ولا يَصُحُّ تأويلهما بغسل اليد؛ لأنه خلافُ المعهودِ من الوضوءِ في كلامه صلى الله عليه وسلم"4.__________1 سنن البيهقي: (1/ 159) .2 مختصر سنن أبي داود للمنذري: (1/ 137) .3 علل الترمذي: (1/ 153 - 154) .4 زاد المعاد: (4/ 376) .
(2/154) 8 - باب التوقيت في المسح على الخفين10- (10) عَنْ خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَسْحُ على الخُفَّيْنِ: لِلمسافرِ ثَلاثةُ أَيَّامٍ، وللمقيم يومٌ وليلةٌ".وفي لفظ لأبي داود: "ولو استزدناه لزادنا".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد أَعَلَّ أبو محمد بن حزم حديث خزيمة هذا، بأن قال: رواه عنه أبو عبد الله الجَدَلِي صاحبُ رايةِ الكافر المختار، لا يُعْتَمَدُ على روايته1.وهذا تعليلٌ في غاية الفَسَادِ؛ فإن أبا عبد الله الجَدَلِي قد وَثَّقَهُ الأئمة: أحمد، ويحيى، وَصَحَّحَ الترمذي حديثه، ولا يُعلم أحدٌ من أئمةِ الحديث طَعَنَ فيه.وأما كونه صاحب راية المختار: فإنَّ المختار بن أبي عبيد الثَّقَفي إِنَّمَا أَظْهَرَ الخروج لأخذِهِ بثأر الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما، والانتصار له من قَتَلَتِهِ، وقد طَعَنَ أبو محمد بن حزم في أبي الطفيل، وَرَدَّ روايته بكونه كان صاحبَ راية المختار أيضاً، مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة، ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفس المختار وما يسره، فَرَدُّ روايةِ الصاحب والتابع الثقة بهذا باطل"2.قلت: هذا ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - مما أُعِلَّ به هذا__________1 انظر كلام ابن حزم في المحلى: (2/122) .2 تهذيب السنن: (1/117) .
(2/155) الحديث، وله علتان غير ما ذكر، وهما: انقطاعه، والاختلاف في إسناده، فيكون مجموع ما أُعِلَّ به: ثلاث علل، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل.أما الاختلاف في إسناده: فإن هذا الحديث مداره على ثلاثة: إبراهيم بن يزيد1 التيمي، وإبراهيم بن يزيد2 النخعي، والشعبي.أما رواية إبراهيم التيمي: فإنه يُروى عنه، عن عمرو بن ميمون الأَوْدِي، عن أبي عبد الله الجدلي3، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.ويرويه عن التيمي جماعة، أشهرهم: سعيد بن مسروق4، ومنصور ابن المعتمر، والحسن بن عبيد الله5.أما رواية سعيد بن مسروق، فقد أخرجها: الترمذي في (جامعه) 6، والطبراني في (الكبير) 7، وابن حبان في (صحيحه) 8، والبيهقي في__________1 ابن شريك، يكنى أبا أسماء، الكوفي، العابد، ثِقَةٌ إلا أنه يُرْسل ويُدَلِّس، من الخامسة مات سنة 92هـ /ع. (التقريب 95) .2 ابن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه، ثِقَةٌ إلا أَنَّه يُرْسِلُ كثيراً، من الخامسة، مات سنة 96 هـ /ع. (التقريب 95) .3 اسمه عبد، أو عبد الرحمن بن عبد، ثِقَةٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، من كبار الثالثة /د ت س. (التقريب 654) .4 والد سفيان الثوري.5 النخعي، أبو عروة الكوفي.(1/158) ح 95 ك الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم.(4/108) ح 3752.8 الإحسان: (2/312) ح 1330.
(2/156) (سننه) 1، من طرق عن: أبي عوانة وَضَّاح اليَشْكُريّ، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي، بالإسناد المذكور إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْمَسْحُ على الْخُفَّين للمقيم ... " الحديث. هذا لفظ الطبراني، والبيهقي. وعند الترمذي: "أنه سُئِلَ عن المسح على الخفين، فقال: ... " وعند ابن حبان: "أن أعرابياً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المسح ... ".قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن صحيح".وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) 2 من طريق زائدة بن قدامة، عن سعيد بن مسروق، بالإسناد الماضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.ورواه شريك، وسفيان الثوري، كلاهما: عن سعيد بن مسروق، وزادوا في آخره: "وَأَيْمُ الله لو مضى السَّائل في مسألته لجعلها خمساً" لفظ الثوري، ولفظ شريك: "ولو استزدناه لجعلها خمساً"، أخرج رواية شريك: الطبراني في (معجمه الكبير) 3. وأخرج رواية الثوري: ابن ماجه في (سننه) 4، وعبد الرزاق في (مصنفه) 5 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 6 -، والطبراني في (معجمه الكبير) 7.هذا ما يتعلق برواية سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي.__________(1/276) .(4/108) ح 3753.(4/107) ح 3751.(1/184) ح553 ك الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر.(1/203) ح 790.(1/277) .(4/107) ح 3749.
(2/157) وأما رواية منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي به، فأخرجها: أحمد في (مسنده) 1، والطبراني في (معجمه) 2، من طريق سفيان الثوري، عن منصور به. قال عبد الله بن الإمام أحمد: "قال أبي: سمعته من سفيان مرتين يذكر للمقيم، ولو أطنب السائل في مسألته لزادهم". وعند الطبراني: "ولو استزدناه لزادنا".وأخرجه الطبراني أيضاً في (معجمه) 3 من طريق: عبد العزيز بن عبد الصمد العَمِّي، ثم من طريق: جرير، كلاهما عن منصور بن المعتمر به، وفيهما الزيادة المذكورة.وخالف أبو الأحوص سائرَ الرواة عن منصور، فرواه عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة به مرفوعاً، أخرجه الطبراني في (معجمه) 4 وفيه الزيادة المذكورة. قال أبو القاسم الطبراني: "أسقط أبو الأحوص من الإسناد عمرو بن ميمون".وأما رواية الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون به: فقد أخرجها الطبراني في (معجمه) 5، والبيهقي في (سننه) 6، وعند الطبراني: أن أعرابياً سأله ... فقال: "ثلاثٌ للمسافر ويوم__________(5/213) .(4/108) ح 3754.(4/109) ح3755، 3757.(4/109) ح 3756.(4/109) ح 3758.(1/277) .
(2/158) للحاضر"، وليس عند البيهقي ذكر المقيم، بل قال لما سأله الأعرابيُّ: "ثلاثَةُ أيامٍ ولياليهن"، وعندهما ذكر الزيادة وهي قوله: "ولو استزاده الأعرابي لزاده".ورواه سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، والطبراني في (معجمه) 2 والبيهقي في (سننه) 3، وليس فيه حكم المقيم، بل قال: "يمسحُ المسافرُ ثلاثة أيامٍ". قال شعبة - راويه عن سلمة بن كهيل -: "أحسبه قال: ولياليهن".ففي هذه الرواية مخالفات:أولها: أنه أسقطَ من الإسناد "أبا عبد الله الجدلي" بين عمرو بن ميمون وخزيمة.ثانيها: أنه زاد في الإسناد "الحارث بن سويد" بين إبراهيم التيمي وعمرو بن ميمون.هذا ما يَتَعَلَّقُ برواية إبراهيم التيمي بطرقها، وقد وقع اختلاف في إسنادها وفي متنها، كما يَتَّضحُ ذلك من العرض السابق.وقد رَجَّحَ الأئمة رواية الأكثرين له: عن إبراهيم، عن عمرو بن__________(1/184) ح554.2 الكبير: (4/110) ح 3759، 3760.(1/278) .
(2/159) ميمون، عن الجَدَلِي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالزيادة المذكورة، فقال أبو زرعة: "الصحيح من حديث إبراهيم التيمي: عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وقال ابن دقيق العيد: "فالروايات متضافرةٌ برواية التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة، وأما إسقاط أبي الأحوص لعمرو بن ميمون من الإسناد، فالحكمُ لمن زاد؛ فإنه زيادة عدل، لاسيما وقد انضم إليه الكثرة من الرواة، واتفاقهم على هذا دون أبي الأحوص"2. فَظَهَرَ بذلك رجحان رواية الأكثرين بذكر "عمرو بن ميمون" وعدم إسقاطه.وأما رواية إبراهيم النخعي: فقد رويت عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت مرفوعاً، وليس فيها ذكر الزيادة التي جاءت في رواية التيمي. وقد رواها عن إبراهيم جماعة:فأخرجها الإمام أحمد في (مسنده) 3، والطبراني في (معجمه) 4من طريق: هشام الدستوائي. والطبراني - أيضاً - من طريق: الثوري5، ثم من طريق: حماد بن سلمة6، ثم من طريق: أبي حنيفة7، جميعهم عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي به.__________1 علل ابن أبي حاتم: (1/22) ح 31.2 نصب الراية: (1/176) .(5/213) .(4/111) ح 3764.5 ح رقم 3762.6 ح رقم 3765.7 ح رقم 3767، 3768.
(2/160) وأخرجه الطبراني1 من طريق الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم به.وأخرجه أبو داود في (سننه) 2، والطيالسي في (مسنده) 3، وأحمد - كذلك - في (مسنده) 4، والطبراني في (الكبير) 5، عن: الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان كليهما، عن إبراهيم النخعي، عن الجدلي به.وقد أُعِلَّتْ هذه الرواية بالانقطاع؛ فقد نَقَلَ الترمذي عن البخاري قوله: "كان شعبةُ يقول: لم يسمع إبراهيم النخعي من أبي عبد الله الجدلي حديث المسح"6. وروى ذلك ابن أبي حاتم في (المراسيل) 7 بإسناده إلى شعبة.قلت: فرجعتْ بذلك روايةُ إبراهيم النخعي إلى رواية إبراهيم التيمي الْمُتَّصِلة، كما يَدُلُّ عليه كلام هؤلاء الأئمة، وقد سَلَكَ هذا الطريق ابن دقيق العيد رحمه الله فقال: "ولكن الطريق فيه: أن تُعَلَّلَ طريق إبراهيم بالانقطاع ... وَيُرْجَعُ إلى طريق إبراهيم التيمي، فالروايات متضافرةٌ برواية__________(4/117) ح 3790، 3791.(1/109) ح 157 ك الطهارة، باب التوقيت في المسح.3 ح 1219.(5/ 213، 214) .(4/110) ح 3763.6 علل الترمذي: (1/174) .(ص 8) .
(2/161) التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة"1.وأما رواية الشعبي: فقد أخرجها: الطبراني في (معجمه) 2، وعلقها البيهقي في (سننه) 3، والترمذي في (علله) 4، كلهم من طريق: ذَوَّاد بن عُلْبَة5، عن مُطَرِّف، عن الشَّعبي، عن الجدلي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المسح على الخفين: "ثلاثةُ أيامٍ ولياليهن للمسافر، ويوم للمقيم" هذا لفظ الترمذي والطبراني، أما عند البيهقي ففيه ذكر المسافر فقط، وفيه قوله: "ولو استزدناه لزادنا".ولكن هذه الطريق ضعيفةٌ، ضَعَّفَهَا البيهقي6 بذواد بن علبة هذا، وأشارَ إلى ضعفها ابن دقيق العيد7، وسألَ التِّرْمذيُّ البخاري عنها فقال: " ... ولا أدري هذا الحديث محفوظاً". قال الترمذي: "ولم يعرفه - يعني البخاري - إلا من هذا الوجه"8. فلا اعتبار إذن لرواية الشعبيِّ هذه، ويرجعُ الأمر إلى رواية إبراهيم التيمي كما قَدَّمْنَا.هذا ما يَتَعَلَّق بالعِلَّة الأولى، وهي الاختلاف في إسناده، وقد__________1 نصب الراية: (1/176) .(4/110) ح 3761.(1/278) .(1/174) .5 الحارثي، أبو المنذر، الكوفي، ضعيفٌ عابد، من الثامنة /ت ق. (التقريب 203) .6 السنن (1/278) .7 نصب الراية: (1/176) .8 علل الترمذي: (1/175) .
(2/162) أجيبَ عنها بحمد الله، وتبين أن هذه الطرق المختلفة مرجعها إلى طريق واحد.وأما انقطاع إسناده - وهي العلة الثانية -: فقد قال البخاري - فيما نقله عنه الترمذي في (علله) 1 -: "لا يَصُحُّ عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح؛ لأنه لا يُعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة بن ثابت".ولم أر من شارك البخاري في هذا القول، حتى إنَّ الترمذي الذي نقل كلام البخاريّ هذا قد صَحَّحَ الحديث كما مضى، ولعلَّ ذلك من البخاري - رحمه الله - بناء على مذهبه في اشتراطِ ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه، وأنه لا يكتفي في ذلك بإمكان اللقاء.قال ابن دقيق العيد - في معرض رده هذه العلة -: "وقد أطنبَ مسلمٌ في الردِّ لهذه المقالة، واكتفى بإمكان اللقاء، وذكر له شواهد"2.قلت: ولقاؤه لخزيمة بن ثابت غير بعيد، فقد روى الدولابي في (الكنى) 3 بسنده إلى محمد بن عمر أنه قال: "أبو عبد الله الجدلي أدرك أبا بكر ... ". وقد تأخرتْ وفاة الجدلي إلى فتنة ابن الزبير، فيكون قد أدرك خزيمة من باب أولى؛ إذ إن وفاة خزيمة كانت سنة 37هـ.فإذا تَقَرَّرَ إمكان لقائه له، وعلمنا أن الجدلي غير معروف بالتدليس،__________(1/173) .2 نصب الراية (1/177) .(2/57) .
(2/163) فإنَّ عنعنته هنا تحمل على الاتصال على مذهب من اكتفى بإمكان اللقاء1.وأما العلة الثالثة، وهي الطَّعْنُ في أبي عبد الله الجدلي: فقد تَقَدَّمَ جواب ابن القَيِّم عنها بأن أحمد وابن معين وَثَّقَاهُ، وصَحَّحَ الترمذي حديثه.وقد وَثَّقَهُ كذلك العجلي، فقال: "تابعي ثقة"2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3. وقال ابن دقيق العيد: " ... فلم يقدح فيه أحد من المتقدمين، ولا قال فيه ما قال ابن حزم، وَوَثَّقَهُ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين4، وهما هما"5.وغاية ما تَعَلَّقَ به ابن حزم في طعنه عليه: هو أنه كان في جيش المختار، وقد رد ذلك ابن القَيِّم رحمه الله بقوله: "فَرَدُّ رواية الصاحب والتابع الثقة بهذا باطل"6. وقال ابن حجر: " ... فَمِنْ هنا أخذوا على أبي عبد الله الجدلي وعلى أبي الطفيل أيضاً؛ لأنه كان في ذلك الجيش، ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"7.__________1 وانظر تدريب الراوي: (1/214) .2 تهذيب التهذيب: (12/148) .(5/102) .4 انظر توثيق أحمد ويحيى له في تهذيب التهذيب: (12/148) .5 نصب الراية: (1/177) .6 تهذيب السنن: (1/117) .7 تهذيب التهذيب: (12/149) .
(2/164) فَتَبَيَّنَ من ذلك أن هذه العلة - أيضاً – مدفوعةٌ.وقد صحح الحديث - مع ذلك - جماعة:قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال ابن معين: "صحيح"1. وَصَحَّحَ أبو زرعة رواية إبراهيم التيمي الْمُتَّصِلَة كما تقدم. وَصَحَّحَه ابن حبان أيضاً، فقد أخرجه في (صحيحه) . وصححه ابن دقيق العيد في بحث له نافع، ونقله عنه صاحب (نصب الراية) 2. وقال الشيخ الألباني: "صحيح"3.وأما الزيادة الواردة في هذا الحديث فهي ثابتة - أيضاً - كما مضى، وصححها ابن دقيق العيد4. وكأن الخطابي - رحمه الله - مال إلى عدم ثبوتها فقال: " ... فإنَّ الحَكَمَ وَحَمَّادَاً قد روياه عن إبراهيم فلم يذكروا فيه هذا الكلام5 ولو ثَبَتَ لم يكن فيه حُجَّةٌ؛ لأنه ظَنٌّ منه وحسبان، والحجة إنما تقوم بقول صاحب الشريعة لا بِظَنِّ الراوي"6.فالحاصلُ: أن هذا الحديث أُعِلَّ بثلاث عِلَلٍ، وهي: الاختلاف في سنده، وانقطاعه، والطعن في أبي عبد الله الجدلي.__________1 رواية الدقاق عن ابن معين في الرجال: (ص74) .(1/175- 177) .3 صحيح ابن ماجه: (ح 448، 449) .4 نصب الراية: (1/175) .5 وقد تَقَدَّمَ أن رواية الحكم وحماد، عن إبراهيم النخعي معلولة بالانقطاع، وأن رواية التيمي- التي جاء فيها ذكر هذه الزيادة - أصحُّ منها.6 معالم السنن: (1/110) .
(2/165) ولم يتعرض ابن القَيِّم إلا لردِّ الطعن في الجدلي، فَبَيَّنَ أن ما طَعَنَ به ابن حزم فيه ليس بقادح، وَأَنَّ الأئمة على توثيقه.وأما بقية العلل فقد تَبَيَّنَ من هذه الدراسة أنها مردودة أيضاً، وأن الحديث صحيح ثابت ولله الحمد.
(2/166) 9- باب من قال بعدم التوقيت في المسح على الخفين11- (11) حَديث أُبَيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يَا رَسُول الله، أمسحُ على الخُفَّين؟ قال: "نَعَمْ". قَال: يوماً؟ قال: "يوماً". قال: ويومين؟ قال: "ويومين". قال: وثلاثة؟ قال: "نَعَمْ، وما شِئْتَ".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً. وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَنَ: مجهولون كُلُّهم.وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح ويحيى بن معين، كلاهما: عن عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا محمد بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نسي الحديث. قال الحاكم: هذا إسنادٌ مصريٌّ، لم ينسب واحد منهم إلى جَرْح، وهذا مذهبُ مالك، ولم يخرجاه".قال: "والعجبُ من الحاكم، كيف يكونُ هذا مُسْتَدْرَكَاً على الصحيحين ورواته لا يُعْرَفُون بجَرح ولا تعديلٍ؟!! "1.فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - أَنَّ هذا الحديث معلول من وجهين:أحدهما: الاضطرابُ في إسناده.__________1 تهذيب السنن: (1/118) .
(2/167) والثاني: جَهَالةُ بعض رواته.والأمر كما قال رحمه الله، وبهذا أَعَلَّه أكثرُ الأئمة، كما سيأتي بيان ذلك من أقوالهم رحمهم الله تعالى، فأقول:هذا الحديث مداره على يحيى بن أيوب1، واختلف عليه على أربعة أوجه:الأول: ما أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى بن معين، عن عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين3، عن محمد بن يزيد4، عن أيوب بن قَطَن5، عن أُبَيِّ بن عمارة6 - قال يحيى: وكان قد صَلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين - أنه قال ... فذكره، ولفظه هو الذي سقناه أول الباب.__________1 الغافقي، أبو العباس المصري، صدوقٌ رُبَّمَا أخطأَ، من السابعة، مات سنة 168هـ/ع. (التقريب 588) .(1/109) ح 158 ك الطهارة، باب التوقيت في المسح.3 ويقال: ابن يزيد، والأول هو الصواب، الغافقي، المصري، صدوقٌ، من الرابعة/ بخ د ق. (التقريب 340) .4 ابن أبي زياد الثقفي، نزيل مصر، مجهول الحال، من السادسة / د ت ق. (التقريب513) .5 الكندي، الفلسطيني، فيه لين، من الخامسة /د ق. (التقريب 118) .6 بكسر العين على الأصح، مدني سكن مصر، له صحبة، وفي إسناد حديثه اضطراب/ د ق. (التقريب 96) .قلت: يعني حديثه هذا في المسح على الخفين، وليس له إلا هذا الحديث.
(2/168) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في (سننه) 1.الثاني: ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق: عبد الله بن وهب المصري. والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: سعيد بن كثير بن عفير. كلاهما عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي بن عمارة به، وفي آخره: حتى بلغ سبعاً قال له: "وما بَدَا لك". وليس عند البيهقي: "حتى بلغ سبعاً".فزيد في إسناده "عبادة بن نسي" بين أيوب بن قطن، وأُبَيّ بن عمارة.الثالث: ما أخرجه البيهقي في (سننه) 4 من طريق سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين، عن محمد بن يزيد، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي بن عمارة. فأسقط من إسناده "أيوب بن قَطَن" ولفظه كلفظ ابن ماجه والدارقطني، وفيه زيادة قوله: "حتى عَدَّ سبعاً".وقد عَلَّقَهُ أبو داود في (سننه) 5 فقال: "رواه ابن أبي مريم المصري، عن يحيى بن أيوب ... " فذكره.__________(1/279) .(1/185) ح557، ك الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت.3 قط: (1/198) ح 19. هق: (1/278) .(1/279) .(1/110) .
(2/169) وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 1 من هذا الوجه - يعني بجعل "عبادة بن نسيّ" مكان "أيوب بن قَطَن" - لكنه من طريق أبي داود المتقدم وبلفظه، فالظاهرُ أنها رواية أبي داود نفسها ووقع فيها خطأ في المستدرك، وإلا فيكون قد روي عن عمرو بن الربيع على وجهين، فيزداد بذلك الحديث اضطراباً.الوجه الرابع: ما ذكره ابن القطان في (الوهم والإيهام) - ونقله عنه صاحب (نصب الراية) 2 - وهو أنه روي عن يحيى بن أيوب بالإسناد السابق، مرسلاً بدون ذكر أبيّ بن عمارة.فهذا ما يتعلق بوجوه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وقد أشار إلى ذلك غير واحد من أئمة هذا الشأن، فقال أبو داود عقب روايته: "وقد اخْتُلِفَ في إسناده، وليس هو بالقويّ ... ". وقال الدارقطني - عقب روايته إياه -: " ... وقد اختُلِفَ فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً". وذكر ابن القطان - أيضاً - وجوه الاختلاف على يحيى3. وأشار ابن عبد البر إلى اضطراب حديث أبي بن عمارة هذا عندما ترجمه في (الاستيعاب) 4.وأما جَهَالة رواته: فقد حَكَم بذلك الدارقطني، فقال في (السنن) : "وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَن: مجهولون كُلُّهم".__________(1/170) .(1/178) .3 بيان الوهم والإيهام: (3/324-325) ح 1070.(1/52) .
(2/170) والأمر على ما قال رحمه الله؛ أما أيوب بن قطن: فقال فيه أبو زرعة: "لا يُعرف"1. وقال الأزدي: "مجهول"2. وأما محمد بن يزيد: فقال فيه أبو حاتم: "مجهول"3. وَتَقَدَّمَ قول ابن حجر فيه: "مجهول الحال". وأما عبد الرحمن بن رَزِين: فإنه لم يُوَثِّقهُ غير ابن حبان4، فالظاهر أن أمره على ما حكم الدارقطني.وإلى جهالة إسناده أشارَ الإمام أحمد بقوله: "حديث أبي بن عمارة ليس بمعروف الإسناد" كما نَقَل ذلك عنه أبو زرعة الدمشقي5. وقال الحافظ الذهبي - مُتَعَقِّبَاً الحاكم في قوله: هذا إسناد مصري لم ينسب واحد منهم إلى جرح -: "بل مجهول"6. وأشار ابن حجر -رحمه الله- إلى العِلَّتَين معاً فقال: "في إسناده جهالةٌ واضطرابٌ"7.ولأجل هاتين العلتين ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء؛ فقال ابن معين: "إسناده مظلم"8. وقال أبو داود عقب إخراجه: "وليس هو بالقوي". وقال أبو الفتح الأزدي: "حديث ليس بالقائم"9. وقال ابن حبان في__________1 تهذيب التهذيب: (1/410) .2 المصدر السابق.3 الجرح والتعديل: (4/1/126) .4 الثقات: (5/82) .5 انظر: نصب الراية: (1/178) ، والتلخيص الحبير: (1/162) .6 تلخيص المستدرك: (1/171) .7 تهذيب التهذيب: (1/410) .8 المصدر السابق: (1/410) وأشار إلى أن قول ابن معين هذا جاء في بعض نسخ (أبي داود) .9 التلخيص الحبير: (1/162) .
(2/171) (الثقات) 1 - في ترجمة أبيّ بن عمارة -: " ... لست أعتمد على إسناد خبره". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "هذا الإسناد لا يثبت". وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ"2. وقال النوويّ: "ضعيف بالاتفاق"3. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"4.وَثَمَّة شيء آخر في إسناده أشار إليه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 5، فقال: "وهو عندي خطأ، إنما هو أبو أبيّ، واسمه عبد الله بن عمرو بن أم حرام، كذا رواه إبراهيم بن أبي عبلة، وذكر أنه رآه وسمع منه، سمعت أبي يقول ذلك". وذكر مثل ذلك ابن عبد البر في (الاستيعاب) 6.فالحاصلُ: أن هذا الحديث ضعيفٌ؛ لاضطرابِ إسنادِهِ، وَجَهَالَةِ رواتهِ، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله تعالى، وتَعَقَّبَ الحاكمَ لاستدراكه إيَّاه على (الصحيحين) ، وقد وافق حُكْمُ ابن القَيِّم حكمَ الأئمة على هذا الحديث كما نقلناه عنهم آنفاً.فإذا ثبت عندنا ضعف هذا الحديث، فإنَّه لا حُجَّةَ فيه للقائلين بعدم التوقيت في المسح على الخفين، والله أعلم.__________(3/6) .2 العلل المتناهية: (1/360) .3 المجموع: (1/509) .4 ضعيف ابن ماجه: (ح122) .(1/1/290) .(1/52) .
(2/172) 10- باب ما جاء في مسح أعلى الخف وأسفله12- (12) عَن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "وَضَّأْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوك، فَمَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وَأَسْفَلَهُ".ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وبين أنه قد أُعِلَّ بأربع علل وهي:1- أن ثورَ بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة، بل قال: حُدِّثْتُ عن رجاء.2- أنه مرسلٌ.3- أن الوليدَ بن مسلم عَنْعَنَهُ، وهو مُدَلِّسٌ.4- أن كاتبَ المغيرة لم يُسَم فيه، فهو مجهول.ثم ذَكَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذه العلل يُمْكِنُ الجواب عنها، وَأَخَذَ في سرد هذه الأجوبة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أثناء البحث.ثم عَادَ ابن القَيِّم - رحمه الله - فَرَجَّحَ أن هذا الحديث معلولٌ، وأن الأئمة الكبارَ قد ضَعَّفُوهُ، وأن الأحاديثَ الصحيحةَ على خلافه، وأنَّ هذه العلل وإنْ كان بَعْضُهَا غير مُؤَثِّرٍ، فإن بَعْضَهَا الآخر مؤثرٌ مانع من تصحيح الحديث1.__________1 تهذيب السنن: (1/124-126) .
(2/173) قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وفي (العلل) 3 له، وابن ماجه في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والخطيب في (تاريخ بغداد) 8 من طرق، عن:الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب9 المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.واللفظُ الذي ذكرته هو لفظ أبي داود، والدارقطني، والبيهقي. وعند الترمذي، وابن ماجه، وابن الجارود: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وأسفله".وأما العلل التي أُعِلَّ بها الحديث، فَبَيَانُهَا كالتالي:__________(1/116) ح 165 ك الطهارة، باب كيف المسح؟(1/162) ح 97، باب ما جاء في المسح على الخفين: أعلاه وأسفله.(1/179) .(1/183) ح 550 باب في مسح أعلى الخف وأسفله.(1/251) .(ح 84) .7 قط: (1/195) ح 6، 7. هق: (1/290) .(2/135) .9 هو: وَرَّاد، الثَّقفي، أبو سعيد أو أبو الورد، الكوفي، كاتب المغيرة ومولاه، ثقة، من الثالثة /ع. (التقريب 580) .
(2/174) أولاً: أن ثورَ بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة، قال أبو داود - عقب إخراجه -: "وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء". وكذا قال موسى بن هارون1. وإنما قال ثور بن يزيد: "حُدِّثْتُ عن رجاء بن حيوة". فَأَعَلَّه بذلك الأئمة: أحمد2، والبخاري3، والترمذي4، وغيرهم.وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذه العلة: بأن الدارقطني رواه وفيه تصريح ثور بن يزيد بتحديث رجاء له.ولكنه جوابٌ فيه نَظَرٌ؛ قال ابن حجر رحمه الله: "ووقع في سنن الدارقطني ما يوهم رفع العِلَّة وهي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، ثنا رجاء بن حيوة فذكره. فهذا ظاهره أن ثوراً سَمِعَهُ من رجاء فتزول العلة. ولكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في (مسنده) ، عن أحمد بن يحيى الحلواني، عن داود بن رشيد فقال: عن رجاء، ولم يقل: حدثنا رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع من القول بِصِحَّة وصله، مع ما تَقَدَّمَ في كلام الأئمة"5. فَتَبَيَّنَ من ذلك أن هذه العِلَّةَ ثابتة لا تندفع.ثانياً: أنه يُروى مرسلاً. وقد أشار إلى هذه الرواية الإمام أحمد،__________1 التلخيص الحبير: (1/159) .2 المصدر السابق.3 علل الترمذي: (1/180) .4 في جامعه: (1/163) .5 التلخيص الحبير: (1/160) .
(2/175) والدارقطني وغيرهما، قال الإمام أحمد: "ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال: عن ابن المبارك، عن ثور: حُدِّثْتُ عن رجاء، عن كاتب المغيرة، ولم يذكر المغيرة. قال أحمد: وقد كان نعيم بن حَمَّاد حدثني به عن ابن المبارك كما حدثني الوليد بن مسلم عن ثور، فقلت له: إنما يقول هذا الوليد، فأما ابن المبارك فيقول: حدثت عن رجاء، ولا يذكر المغيرة. فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أُسْأَلُ عنه، فأخرجَ إليَّ كتابه القديم بخط عتيق، فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم: "عن المغيرة"، فأوقفته عليه، وأخبرته أن هذه الزيادة في الإسناد لا أصل لها، فجعلَ يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث"1.وقال البخاريُّ لما سأله عنه الترمذي: "لا يصح هذا، روي عن ابن المبارك، عن ثور ... عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً"2. وقال الدارقطني: " ... لا يثبتُ؛ لأن ابنَ المبارك رواه عن ثور بن يزيد مرسلاً"3.وقال ابن القَيِّم رحمه الله - وهو يُرَجِّحُ القولَ بضعفه مؤكداً إعلاله بالإرسال -:"وقد تَفَرَّدَ الوليد بن مسلم بإسناده ووصله، وخَالَفَهُ من هو أحفظُ منه وأجلُّ، وهو الإمام الثبت عبد الله بن المبارك، فرواه عن ثور، عن رجاء وإذا اختلفَ عبد الله بن المبارك والوليد بن المسلم،__________1 التلخيص الحبير: (1/159) .2 علل الترمذي: (1/180) .3 علل الدارقطني: جـ 2 (ق 100) .
(2/176) فالقول ما قال عبد الله"1.فَتَبَيَّنَ من ذلك أن الصَّوابَ في هذا الحديث: أنه مُرسل، وأنَّ من وصله قد أخطأ.ثالثاً: تدليس الوليد بن مسلم: وقد أجاب ابن القَيِّم عن هذه العلة بأن رواية أبي داود من طريق: "محمود بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، أخبرنا ثور بن يزيد". فقد أُمْنَ بذلك تدليسُ الوليد.قلت: وكذلك في رواية الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا ثور. وعند ابن ماجه من طريق هشام بن عمار: عن الوليد، حدثنا ثور.رابعاً: جهالة كاتب المغيرة: وهذه العلَّة لم يقل بها أحدٌ سوى ابن حزم2 رحمه الله، وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم أنه في رواية ابن ماجه التصريح باسمه، وأنه "وَرَّاد"، وقد خُرِّجَ له في (الصحيحين) ، وإنما تُرِكَ ذكر اسمه في هذه الرواية لشهرته وعدم التباسه بغيره. قال ابن القَيِّم: "ومن له خِبْرَةٌ بالحديثِ ورواته لا يَتَمَارَى في أنه وَرَّاد كاتبه"3.فظهرَ أنَّ العِلَّتين الثالثة والرابعة لا أثرَ لهما، وإنما التأثيرُ للعلتين الأولى والثانية، وهما: أن الصواب إرساله، وأنه منقطع بين ثور بن يزيد ورجاء بن حيوة، وهاتان العلتان هما اللتان ذكرهما الحفاظ وأعلوا بهما الحديث.__________1 تهذيب السن: (1/126) .2 المحلى: (2/156) .3 تهذيب السنن: (1/125) .
(2/177) فقد ضَعَّفَهُ الأئمة: أحمد، وأبو داود، والترمذي، والبخاري، وموسى بن هارون، والدارقطني، وقد مضىكلامهم. وَضَعَّفَهُ أيضاً: أبو زرعة1، وقال أبو حاتم: "ليس بمحفوظ، وسائر الأحاديث عن المغيرة أصحُّ"2 وَضَعَّفَهُ ابن حزم3وابن الجوزي4 مستشهداً بكلام الأئمة السابقين، وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"5.فَتَلَخَّصَ: أن ابن القَيِّم قد أصاب حينما اختار ضَعْفَ هذا الحديث، واستندَ في ذلك إلى ما يلي:1- مخالفةُ الأحاديث الصحيحة الكثيرة له.2- أنَّ العِلَلَ التي أُعِلَّ بها منها ما هو مانعٌ من صحته؛ كالقول بانقطاعه وإرساله6.ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضعف هذا الحديث في مناسبة أخرى فيقول: "وكان يمسح ظاهرَ الْخُفَّين، ولم يصح عنه مَسْح أسفلهما إلا في حديث منقطع، والأحاديث الصحيحة على خلافه"7.__________1 علل الترمذي: (1/180) .2 علل ابن أبي حاتم: (1/54) ح 135.3 المحلى: (2/155-156) .4 العلل المتناهية: (1/360) ح 594.5 ضعيف ابن ماجه: (ح 120) .6 تهذيب السنن: (1/125-126) .7 زاد المعاد: (1/199) .
(2/178)

========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
2- من كتاب الحيض
1- باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة
13- (1) عَنْ فَاطِمَة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَت تُسْتَحَاضُ1، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ، فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فإذا كان ذلك فَأَمْسِكي عن الصَّلاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي؛ فَإِنَّمَا هو عِرْقٌ". هذا اللفظ لأبي داود.
تناول ابن القيم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 2، وناقش ابن القطان في إعلاله إياه، وسيأتي كلامهما مفصلاً.
قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود، والنسائي، والدارقطني في (سننهم) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والبيهقي في (السنن) 5، وابن عبد البر في (التمهيد) 6. كلهم من طريق:
__________
1 الاسْتِحَاضَةُ: أن يستمرَّ بالمرأة خروج الدَّمِ بعد أيام حَيضِهَا المعتادة. يُقَال: اسْتُحِيضَت فهي مُسْتَحَاضَة، وهو استفعال من الحيض. (النهاية1/469) .
(1/ 181 - 183) .
3 د: (1/ 197) ح 286 ك الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. س: (1/ 123) ك الطهارة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة. قط: (1/206، 207) ح (3- 6) .
(1/ 174) .
(1/ 325) .
(16/ 64) .
(2/181)
محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ1، عن محمد بن عمرو2، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش3 به.
قال أبو داود عقبه: "قال ابن المثنى4 - راويه عن ابن أبي عديّ -: وحدثنا به ابن أبي عدي حفظاً، فقال: عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة".
فالرواية الماضية حَدَّثَ بها ابن أبي عديّ من كتابه، وقد وَرَدَ ذلك في إسناد النسائي عن محمد بن المثنى أنه قال: "حدثنا ابن أبي عديّ هذا من كتابه". وكذا هو في إسناد الدارقطني، حيث قال: "هكذا حدثناه ابن أبي عديّ من أصل كتابه".
وأما الرواية التي أشارَ إليها أبو داود - التي حَدَّثَ بها ابن أبي عديّ من حفظه - فأخرجها: النسائي5، والدارقطني6 من طريق ابن المثنى - أيضاً - قال: أخبرنا ابن أبي عديّ من حفظه، حدثنا محمد بن عمرو، عن
__________
1 وقد ينسب لجده، أبو عمرو البصري، ثقة، من التاسعة، مات سنة 194هـ على الصحيح/ع. (التقريب 465) .
2 ابن علقمة بن وقاص الليثي، المدني، صدوقٌ له أَوْهام، من السادسة، مات سنة145هـ على الصحيح/ع. (التقريب 499) .
3 هي: فاطمة بنت قيس بن الطلب، الأسدية، صحابية /د س. (التقريب 751) .
4 محمد بن المثنى بن عبيد العنزي، أبو موسى البصري، المعروف بـ "الزَّمِن"، ثقةٌ ثَبْت، من العاشرة / ع. (التقريب 505) .
(1/ 123) .
(1/ 207) ح 4، 5.
(2/182)
ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة ... فذكره. وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 1 من الطريق نفسه بدون قول ابن المثنى: "من حفظه".
ولفظ الحاكم ورواية للدارقطني كلفظ أبي داود الماضي أول البحث، وعند النسائي وابن حبان، والبيهقي، ورواية لأبي داود2: "فَتَوَضِّئِي وَصَلِّي" فقط. وفي لفظ للنسائي: "فَتَوَضِّئِي، فَإِنَّمَا هو عِرق". ولم يذكر: "وَصَلِّي".
وقد أُعِلَّ حديث الزهري هذا: بالانقطاع، والنكارة، والاضطراب.
- أما الانقطاع: فقد أَعَلَّهُ بذلك ابن القطان، وناقشه في ذلك ابن القيم رحمه الله، ولم يوافقه على ذلك. فقد قال ابن القطان - ونقل خلاصته ابن القيم -: " ... وهو فيما أرى منقطع؛ وذلك أنه حديث انفرد بلفظه محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة. فرواه عن محمد بن عمرو: محمدُ بن أبي عديٍّ مرتين، إحداهما من كتابه فجعله: عن محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن فاطمة: أَنَّهَا كانت تُسْتَحَاضُ، فهو على هذا منقطعٌ؛ لأنه قد حَدَّثَ به مرة أخرى من حفظه، فزادهم فيه: "عن عائشة" فيما بين عروة وفاطمة، فاتَّصَل. فلو كان بعكس هذا كان أبعد من الريبة - أعني: أن يُحَدِّث به من حفظه مرسلاً، ومن كتابه متصلاً - فأما هكذا فهو موضعُ نظر ... "3.
__________
1 الإحسان: (2/ 318) ح 1345.
(1/ 213) ح 304.
3 بيان الوهم والإيهام: (2/456-457) ح 457.
(2/183)
وقد رَدَّ ابن القيم ذلك فقال: "أما قوله: إنه منقطع. فليس كذلك، فإن محمد بن أبي عديّ مكانه من الحفظ والإتقان معروف لا يجهل، وقد حفظه وَحَدَّثَ به مرة: عن عروة، عن فاطمة. ومرة: عن عائشة1، عن فاطمة، وقد أدرك كلتيهما وسمع منهما بلا ريب، ففاطمة بنت عمته، وعائشة خالته. فالانقطاع الذي رُمِيَ به الحديث مقطوعٌ دَابره"2.
قلت: وعند الترجيح تُقَدَّمُ الرواية التي من كتابه؛ لأن الغالب على من يُحَدِّثُ من كتابه أن يكونَ أكثر ضَبْطاً، بخلاف من يُحَدِّثُ من حفظه، فإن الحفظَ خَوَّان، فلعله حَدَّثَ به على الصواب من كتابه، ثم حَدَّثَ به من حفظه فَوَهِمَ.
والدليل على صِحَّة الرواية التي من كتابه، وأنها هي الْمُقَدَّمة: أن ابن أبي عديّ قد رجع عن الرواية الأخرى وتركها، فقد روى البيهقي في (سننه) 3 هذا الحديث من طريق الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - بدون ذكر عائشة، ثم قال: "قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان ابن أبي عديّ حَدَّثَنَا به عن عائشة ثم تركه". وهذا ظاهرٌ في أن الرجل ضابط للرواية التي من كتابه، ولذلك فقد رجع عن الأخرى.
- وَأَمَّا القول بنكارة هذا الحديث وغرابته: فذلك أنه جاء فيه قوله:
__________
1 يعني: بزيادة "عائشة" بين عروة وفاطمة، كما تقدم في كلام ابن القطان.
2 تهذيب السنن: (1/182-183) .
(1/325) .
(2/184)
"إِنَّ دَمَ الحيض دم أسود ... "، فإن هذه اللفظة مما عَدَّها بعضُ الأئمة من منكرات محمد بن عمرو وغرائبه، فقد سُئِلَ عنه أبو حاتم؟ فقال: "لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر"1. وقال النسائي عقب إخراجه: "قد رَوى هذا الحديث غيرُ واحد، لم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن أبي عديّ". وقال الدارقطني: "وَرَوى محمد بن عمرو بن علقمة هذا الحديث ... وأتى فيه بلفظٍ أَغْرَبَ به، وهو قوله: إن دمَ الحيض دمٌ أسود يعرف"2. وقال الطحاوي: "لم يروه إلا ابن عمرو، وقد أنكروه عليه"3.
وقد تَوَقَّفَ ابن القيم - أيضاً - في هذه اللَّفظة عند مناقشة ابن القَطَّان في ذلك، حيث قال ابن القطان: " ... والمعروف في قصة فاطمة: الإحالة على الدم والقروء"4. فقال ابن القيم: " فإنَّ المعروف الذي في الصحيح إحالتها على الأيام التي كانت تَحْتَسِبُهَا حيضها، وهي القروء بعينها، فأحدهما يُصَدِّقُ الآخر. وأما إحالتها على الدم، فهو الذي يُنْظر فيه، ولم يروه أصحاب الصحيح وَسَأَلَ عنه ابن أبي حاتم أباه فَضَعَّفَه، وقال: هذا منكر"5.
__________
1 علل ابن أبي حاتم: (1/ 49 - 50) ح 117.
2 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 23 / أ) .
3 نقل ذلك صاحب (البدر المنير) (1/ 418) ح 19 ك الحيض (رسالة ماجستير، بتحقيق/ إقبال أحمد محمد إسحاق) مطبوعة على الآلة الكاتبة.
4 بيان الوهم والإيهام: (2/ 459) .
5 تهذيب السنن: (1/183) .
(2/185)
- وأما القول باضطرابه: فقد أَعَلَّهُ بذلك ابن عبد البر رحمه الله، فقال في (التمهيد) 1: "اخْتُلِف عن الزهري في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، فمرة يرويه: عن عمرة، عن عائشة. ومرة: عن عروة، عن عائشة. ومرة: عن عروة وعمرة، عن عائشة. ومرة: عن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش ... وقال فيه سهيل بن أبي صالح: عن الزهري، عن عروة، حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش: أنها أمرت أسماء أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحيض. وأكثر أصحابِ ابنِ شهاب يقولون فيه: عن عروة وعمرة، عن عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش - ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تحت عبد الرحمن بن عوف - اسْتُحِيضت. هكذا يقولون عن ابن شهاب في هذا الحديث: أم حبيبة، لا يذكرون فاطمة بنت أبي حبيش. وحديث ابن شهاب في هذا الباب مضطرب".
وذكر الدارقطني الخلافَ على الزهري في (علله) 2، ثم نقل عن إبراهيم الحربي قوله: "الصحيح منه قول من قال: أم حبيب، بلاهاء، واسمها حبيبة بنت جحش3 ... وأن من قال فيه: أم حبيبة بنت جحش، أو زينب فقد وَهِمَ. والحديث يصحُّ من حديث الزهري، عن عروة وعمرة جميعاً، عن عائشة: أن أم حبيبة". وهذا يوافقُ ما سَبَقَ أن رَجَّحَهُ ابن عبد البر عن أكثر أصحاب الزهري4. قال الدارقطني عقب ذلك:
__________
(16/65) .
2 جـ 5 (ق 23-24) .
3 وانظر ترجمتها في "الإصابة ": (4/269، 440) .
4 وهذه الرواية التي رَجَّحُوهَا أخرجها: البخاري في الحيض، باب عرق الاستحاضة، ح 327 (فتح الباري 1/426) ، ومسلم في الحيض (1/263) ، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، ح334.
(2/186)
"وقول إبراهيم ... صحيحٌ، وكان من أعلمُ النَّاسِ بهذا الشأن".
فالذي يَتَلَخَّص من ذلك: أن ما أُعِلَّ به هذا الحديثُ يمكنُ الجواب عن بعضه، لكن تبقى له عِلَّةٌ مؤثرةٌ، وهي النكارةُ الواقعةُ في سياقه، وذلك بإحالة الْمُسْتَحَاضة على الدم، وقد حكم الأئمة - كما قَدَّمْنَا - بنكارة هذا اللفظ وغرابته.
وهذا ما قَرَّرَه ابن القيم - رحمه الله - في بحثه، فبينما رَدَّ على ابن القطان قوله بانقطاع الحديث، نجده يعتبر هذه اللفظة في الحديث تحتاج إلى نظر، وأنها تخالفُ ما في الصحيح، وأنَّ أبا حاتم قد حَكَمَ عليها بالنكارة، كما مضى نقل كلامه في ذلك.
أما أبو عبد الله الحاكم: فقد صَحَّحَ الحديث فقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي، وكذا صَحَّحَه ابن حزم1. وقال ابن الصلاح: "حديث مُحْتَجٌّ به"2. وقال ابن دقيق العيد: "رجاله رجال مسلم"3.
والصواب ما قَدَّمْنَاه من إعلاله، والله أعلم.
__________
1 المحلى: (2/227) .
2 البدر المنير: ك الحيض، ح 19، (1/456) رسالة ماجستير، تحقيق /إقبال أحمد محمد إسحاق.
3 الإلمام: (ص 58) ح 124.
(2/187)
2- باب في المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد
14- (2) عَنْ حَمْنَة بنت جحش - رضي الله عنها - قَالَتْ: "كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ وَأخبره، فَوَجَدْتُهُ في بيت أُخْتِي زينب بنت جحش، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً، فَمَا تَرَى فِيها، قَد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: "أَنْعَتُ لكِ الكُرْسُف1؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدم". قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ. قال: "فَاتَّخِذِي ثَوبَاً". فقالت: هو أكثرُ من ذلك، إِنَّمَا أَثُجُّ2 ثَجَّاً. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَآمركِ بأمرين، أَيُّهُمَا فَعلتِ أجزأَ عنكِ من الآخر، وإنْ قَوِيتِ عليهما فأنت أعلم". قال لها: "إِنَّمَا هذه رَكْضَةٌ من رَكَضَاتِ الشيطان3، فَتَحَيَّضِي4 سِتَّةَ أَيَّامٍ أو سبعة أيامٍ في علم الله، ثم اغتسلي، حَتَّى إِذَا رَأّيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ
__________
1 الكُرْسُف: القطن. (النهاية: 4/163) .
2 قال أبو عبيد: "هو من الماء الثَجَّاج، وهو السائل. ومنه الحديث المرفوع: أنه سُئِل عن بِرِّ الحج؟ فقال: "هو العَجُّ والثَّجُّ" ... والثجَُّّ: سيلانُ دماء الهَدْي". (غريب الحديث1/279) .
3 قال ابن الأثير: "أصل الرَّكْضِ: الضربُ بالرِّجْلِ والإصابة بها، كما تركض الدابة وتصاب بالرجل ... المعنى: أن الشيطان قد وَجَدَ بذلك طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها حتى أَنْسَاهَا ذلك عادتها، وصَارَ في التقدير كأنه ركضة بآلة من ركضاته". (النهاية 2/259) .
4 قال ابن الأثير: "تَحَيَّضَتْ المرأة: إذا قَعَدَتْ أيامَ حيضها تنتظر انقطاعه، أراد: عُدِّي نفسكِ حائضاً، وافعلي ما تفعل الحائض". (النهاية 1/469) .
(2/188)
فَصَلِّي ثلاثاً وعشرين ليلةً أو أربعاً وعشرين ليلةً وَأَيَّامهَا، وَصُومِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يجزيكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شهرٍ كما تَحِيضُ النِّسَاء وَكَمَا يَطْهُرْن، ميقاتُ حيضهن وطهرهن، وإن قِويتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي العَصْرَ، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وَتُؤَخِّرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافْعَلِي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي، إنْ قدرتِ على ذلك". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَهَذَا أَعْجَبُ الأمْرَين إِلَيّ".
أَورَدَ ابن القيم - رحمه الله - أَقْوَالَ الْمُعَلِّلِينَ لِهَذا الحديث، وَرَدَّ عليها، وَأَجَاب عنها، وَاخْتَارَ صحَّة الحديث، وَنَقَل أقوال الأئمة الْمُصَحِّحِين له1.
قلت: هذا الحديث مداره علىعبد الله بن محمد بن عقيل2، ورواه عنه جماعة:
فأخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في
__________
1 انظر: تهذيب السنن: (1/183-187) .
2 ابن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد المدني، أمه زينب بنت علي، صدوقٌ في حديثه لينٌ، وَيُقَال: تَغَيَّرَ بآخرة، من الرابعة، مات بعد الأربعين / بخ د ت ق. (التقريب 321) .
(1/199) ح 287 ك الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة.
(1/221) ح 128 ك الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد.
(2/189)
(مسنده) 1، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 2، وابن عبد البر في (التمهيد) 3، كلهم من طريق: زهير بن محمد4.
وأخرجه أحمد في (مسنده) 5، وابن ماجه في (سننه) 6من طريق: شريك بن عبد الله7.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 8، والبيهقي في (سننه) 9 من طريق: عبيد الله بن عمرو الرَّقي10.
وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 11 من طريق: ابن جريج.
__________
(6/439) .
2 قط: (1/214) ح 48. هق: (1/338) .
(16/62، 63) .
4 التميمي، أبو المنذر الخراساني، رواية أهل الشَّام عنه غيرُ مستقيمة فَضُعِّفَ بسببها ... من السابعة، مات سنة 162هـ/ع. (التقريب 217) .
(6/439-440) .
(1/205) ح627، ك الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتدأت مستحاضة، أو كان لها أيام حيض فنسيتها.
7 النخعي الكوفي، القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوقٌ يخطئ كثيراً، تَغَيَّرَ حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع، توفي سنة 177أو 178 هـ / خت م 4. (التقريب ص266) .
(1/172-173) .
(1/338-339) .
10 أبو وهب الأسدي، ثِقَةٌ فَقَيه رُبَّمَا وَهِمَ، من الثامنة، مات سنة 180هـ/ع. (التقريب 373) .
11 (1/203) ح622، باب المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم.
(2/190)
كُلُّهم: عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة1 عن عمه: عمران بن طلحة2، عن أمه حَمْنَة بنت جحش3 به. وقد جاء في رواية ابن جريج: "عمر بن طلحة" بدل "عمران" وسيأتي الكلام عليها.
واللفظ المتقدم هو لفظ أبي داود، ومثله لفظ البيهقي، والباقون ألفاظهم بنحوه، إلا أن الترمذي والدارقطني عندهما زيادة قوله: "فَتَلَجَّمِي" بعد قوله: "أنعت لك الكرسف". وعند أحمد هذه اللفظة أيضاً، لكن ليس عنده قوله: "فَاتخذي ثوباً". وجاء في رواية شريك عند أحمد وابن ماجه: "إني استحضت حيضةً منكرةً شديدةً" وعندهما: "احتشي كرسفاً". أما الحاكم فعنده: "أنعت لك الكرسف" فقط.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعدة علل:
أولها: الطَّعْنُ في "عبد الله بن محمد بن عقيل".
قال ابن منده: "لا يصحُّ بوجه من الوجوه؛ لأنهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل"4. وقال الخطابي: "وقد تَرَكَ بعض العلماء القول بهذا
__________
1 التيمي، أبو إسحاق المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة110هـ/م4. (التقريب93) .
2 ابن عبيد الله التيمي، المدني، له رؤية، ذكره العجليُّ في ثقات التابعين/ بخ د ت ق. (التقريب 429) .
3 الأسدية، أخت زينب، كانت تحت مصعب بن عمير، ثم طلحة ... ولها صُحْبَة، وهي أم وَلَدَي طلحة: عمران ومحمد /بخ د ت ق. (التقريب 745) .
4 البدر المنير: (1/356) . رسالة ماجستير، تحقيق /إقبال أحمد محمد إسحاق.
(2/191)
الخبر؛ لأن ابن عقيل راويه ليس بذاك"1. وقال البيهقي: "تَفَرَّدَ به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به"2.
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن ذلك بقوله: " عبد الله ابن محمد بن عقيل ثقة صدوق، لم يُتَكَلَّم فيه بجرح أصلاً. وكان الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وإسحاق بن راهويه يَحْتَجُّونَ بحديثه، والترمذي يصحح له، وإنما يُخْشَى من حفظه إذا انفرد عن الثقات أو خالفهم، أَمَّا إذا لم يخالف الثقات، ولم ينفردْ بما يُنْكَر عليه: فهو حجة"3. قال: "ودعوى ابن منده الإجماع على تركِ حديثه غلط ظاهر منه"4.
وعبد الله بن محمد هذا اختلفت فيه أقوال الأئمة، فَمَشَّاُه جماعة واحْتَجُّوا به، وَضَعَّفَهُ آخرون، والكلام إنما هو في حفظه؛ فإنَّ أكثرَ الذين تركوا الاحتجاج به إنما فعلوا ذلك لسوء حفظه5. وقد جعله ابن رجب الحنبلي مثالاً للرواة الذين اختُلِفَ فيهم: هل هم ممن غلب على حديثهم الوهم والغلط أم لا؟ 6. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "حَدِيثُهُ في مرتبة الحسن"7.
__________
1 معالم السنن: (1/185) .
2 المعرفة: (2/159-160) .
3 تهذيب السنن: (1/183) .
4 المصدر السابق: (1/184) .
5 انظر: تهذيب التهذيب: (6/14-15) .
6 شرح علل الترمذي: (ص249) .
7 الميزان: (2/485) .
(2/192)
ولعلَّ هذا ما تطمئنُ إليه النفس في أمره؛ لأن جماعةً من الأئمة احتجوا به، ومنهم من صَحَّحَ حديثه، وحَسَّنَهُ آخرون، وإنما الخشية من انفراده بما لا يُتَابعُ عليه، أو مخالفته الثقات كما مضى في كلام ابن القيم رحمه الله.
وأما ما قاله ابن القيم من أنه "لَم يُتَكَلَّم فيه بِجرحٍ أصلاً" ففيه نظر؛ فقد ضَعَّفَهُ جماعة كثيرون1. وكذلك قول ابن عبد البر رحمه الله: "هو أوثق من كل من تَكَلَّم فيه". لا يخلو من نظر، ولذلك رَدَّهُ ابن حجر بقوله: "وهذا إفراط"2.
وقد رَدَّ الأئمة على ابن منده في دَعْوَاهُ الإجماعُ على تركه، فقال ابن دقيق العيد: "ليسَ الأمر على ما ذَكَرَهُ، وإن كان بَحْرَاً من بُحُورِ هذه الصناعة"3. وقال ابن الملقن: " ... قولة عجيبةٌ منه"4. وقال الحافظ ابن حجر: "ظَهَرَ لي أن مراد ابن منده بذلك: مَنْ خَرَّجَ الصحيح. وهو كذلك"5. وقد مضى كلام ابن القيم في تعقب ابن منده.
العلة الثانية: أنه منقطع بين ابن جريج وابن عقيل.
__________
1 انظر أقوالهم في تهذيب التهذيب: (6/14- 15) .
2 تهذيب التهذيب: (6/15) .
3 البدر المنير: (1/360) . رسالة ماجستير، تحقيق /إقبال أحمد.
4 المصدر السابق.
5 التلخيص الحبير: (1/163) ، أي أنَّ الكتب التي اشترطت الصِّحَّة أجمع مؤلفوها على تركه، بمعنى عدم الاحتجاج به.
(2/193)
قالوا: إنَّ ابنَ جريج لم يسمعه من ابن عقيل، بينهما فيه "النعمان بن راشد"1، والنعمان هذا ضعيف، وقد أَعَلَّه بذلك ابن حزم2 رحمه الله.
وَأَجَابَ عن ذلك ابن القيم رحمه الله، فقال: "النعمان بن راشد ثقة، أَخْرَجَ له مسلم في (صحيحه) ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واستشهد به البخاري. وقال: في حديثه وهمٌ كثيرٌ، وهو صدوقٌ، وقال ابن أبي حاتم: أَدْخَلَهُ البخاريُّ في الضعفاء، فسمعتُ أبي يقول: يُحَوَّل اسمه منه"3.
وقال ابن الملقن رحمه الله: "وأما رَدُّ ابنِ حزم بالانقطاع ... فجوابه: أن الترمذي، وأبا داود، وابن ماجه، والحاكم رووه من غير طريق ابن جريج، فليتصل طريق ابن جريج أو لينقطع، ولتكن الواسطة بينه وبين ابن عقيل ضعيفاً إن شاء أو قوياً. وعلى تقدير الواسطة وهو "النعمان بن راشد"، فقد أخرج له مسلم، واستشهد به البخاري ... "4.
العلة الثالثة: ضعف شريك، وزهير بن محمد. وهما من رواته عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد أعله بذلك ابن حزم أيضاً5.
__________
1 الجزري، أبو إسحاق الرقي، مولى بني أمية، صدوقٌ سَيِّئُ الحِفْظ، من السادسة/ خت م 4. (التقريب 564) .
2 المحلى: (2/263) .
3 تهذيب السنن: (1/184) .
4 البدر المنير: (1/361، 362) . رسالة الأخ/ إقبال.
5 المحلى: (2/263) .
(2/194)
وقد أَجَابَ عنه ابن القيم بأن شريكاً قد وَثقَهُ الأئمة1، قال: "وأما زهير بن محمد: فاحتجَّ به الشَّيخان وباقي الستة، وعن الإمام أحمد فيه أربع روايات2: إحداها: أنه "ثقة". والثانية: "مستقيم الحديث". والثالثة: "مقارب الحديث". والرابعة: "ليس به بأس". وعن يحيى بن معين فيه ثلاث روايات: إحداها: "صالح لا بأس به"3. والثانية: "ثقة"4. والثالثة: "ضعيف"5. وقال عثمان الدرامي: "ثقة صدوق". وقال أبو حاتم: "محله الصدق"6. وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق صالح الحديث". وقال البخاري: "ما رواه عنه أهل الشام فإنه منكر، وما رواه عنه أهل البصرة فإنه صحيح". وهذا الحدث قد رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي عامر العقدي - عبد الملك بن عمرو - عنه، وهو بصريٌّ فيكون على قول البخاريّ صحيحاً"7.
وقال ابن الملقن في الجواب عن ابن حزم: "وأما تضعيفه لشريكٍ
__________
1 لكن تَكَلَّمَ كثير منهم فيه من جهة سوء حفظه وكثرة خطئه وتخليطه. انظر: تهذيب الكمال (12/467 - 472) .
2 انظر هذه الروايات الأربع في تهذيب التهذيب: (3/349) .
3 المصدر السابق.
4 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص114) رقم 345.
5 تهذيب التهذيب: (3/349) .
6 الجرح والتعديل: (1/2/590) وتمام كلامه: " ... وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه".
7 تهذيب السنن: (1/186) .
(2/195)
فليس بجيد منه؛ لأنه مخرج له في الصحيح1، وقد انفرد بهذا الطريق ابن ماجه فأخرجها في سننه ... ". ثم ذكر في رَدِّ التهمة عن زهير بن محمد قريباً من كلام ابن القيم2.
العلة الرابعة: أَعَلَّهُ بها ابن حزم - أيضاً - فقال: "وعمر بن طلحة غير مخلوقٍ، ولا يُعرف لطلحة ابنٌ اسمه عمر"3.
وجواب ذلك: أن رواية "عمر بن طلحة" انفرد بها ابن جريج، وخَطَّأوه فيها، فقال الترمذي عقب إخراجه: "ورواه عبيد الله بن عمرو الرقي، وابن جريج، وشريك: عن عبد الله بن محمد بن عقيل ... إلا أن ابن جريج يقول: عمر بن طلحة. والصحيح: عمران بن طلحة"4.
ونَقَلَ ابن القيم كلام الترمذي في الجواب على هذه العلة، ثم زاد: "وقد تَقَدَّمَ من كلام الدارقطني5 أن ابن جريج قال فيه: عمران ابن طلحة، وهو الصواب"6.
قلت: فإنْ صحَّ ما نقله الدارقطني عن ابن جريج فتكون هذه رواية أخرى عن ابن جريج توافق رواية الجماعة.
__________
1 إنما أخرج له الإمام مسلم في (صحيحه) متابعة، واستشهد به الإمام البخاري في الصحيح: (انظر: تهذيب الكمال 12/475) .
2 البدر المنير: (1/362) . رسالة الأخ/ إقبال الماضي ذكرها.
3 المحلى: (2/264) .
4 جامع الترمذي: (1/225 – 226) .
5 كلام الدارقطني هذا في علله: ج5 (ق211/أ) .
6 تهذيب السنن: (1/185) .
(2/196)
العلة الخامسة: أَعَلَّهُ ابن حزم - أيضاً - بأنه قد رُوي من طريق الحارث بن أبي أسامة، قال: "والحارث بن أبي أسامة قد تُرك حديثه، فسقط الخبر جملة"1.
قال ابن القيم: "وهذا تَعَلُّقٌ باطلٌ فإنما اعتمدَ في ذلك على كلام أبي الفتح الأزدي فيه، ولم يُلتفت إلى ذلك2، وقد قال إبراهيم الحربي: هو ثقة. وقال البرقانيُّ: أمرني الدارقطني أن أُخْرِجَ عنه في الصحيح. وصَحَّحَ له الحاكم، وهو أحد الأئمة الحُفَّاظ"3.
وَثَمَّة علل أخرى أُعِلَّ بها الحديث لم يَعْرِضْ لها ابن القيم رحمه الله، منها:
العلة السادسة: أن بعضهم جَعَلَ قوله صلى الله عليه وسلم: "وهذا أعجب الأمرين إليَّ " من كلام حَمْنَة موقوفاً عليها، ذَكَر ذلك أبو داود عقب إخراجه. وأجاب عنه ابن الملقن رحمه الله4.
العلة السابعة: قال البخاري رحمه الله: "إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا؟ "5.
__________
1 المحلى: (2/264) .
2 قال الذهبي في الميزان: (1/442) : "وكان حافظاً عارفاً بالحديث عالي الإسناد بالمرة، تُكُلِّمَ فيه بلا حجة".
3 تهذيب السنن: (1/187) .
4 البدر المنير: (1/359) . رسالة الماجستير المتقدم ذكرها.
5 علل الترمذي: (1/188) .
(2/197)
وأجاب عن ذلك ابن الملقن أيضاً1.
فظهر من هذه الدراسة: أن ما أُعِلَّ به هذا الحديث غير قائم، ومع ذلك فقد صَحَّحَه عدد من أئمة هذا الشأن وحَسَّنَهُ آخرون، فقال الإمام أحمد: "حديث حسن صحيح"2. وقال البخاري: "حديث حسن" كذا نقله عنه الترمذي في (علله) 3، وفي بعض نسخ (جامعه) 4 عنه أنه قال: "حسن صحيح". وقال الترمذي: "حسن صحيح". وكأن الدارقطني - رحمه الله - قد مالَ إلى تصحيحه حيث ذَكَرَ اختلافاً فيه علي عبد الله بن محمد بن عقيل، ثم صَوَّبَ رواية الجماعة المتقدمين: عن ابن عقيل، عن إبراهيم، عن عمران بن طلحة، عن حَمْنَة، فقال: "وهو الصحيح"5. وكذا يَظْهَرُ من صنيع الحاكم الميل إلى تصحيحه؛ حيث أشار إلى شواهد له عقب إخراجه6. وصححه النووي في (الخلاصة) 7 (وشرح المهذب) 8.
وضعفه - إلى جانب من تقدمت أقوالهم -: أبو حاتم الرازي،
__________
1 البدر المنير: (1/359 – 360) الرسالة المتقدم ذكرها.
2 جامع الترمذي: (1/226) .
(1/187) باب المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد.
(1/226) .
5 علل الدارقطني: ج5 (ق 211/أ) .
6 المستدرك: (1/173) .
(ق 22) .
8 المجموع: (2/356) .
(2/198)
حيث سأله عنه ابنه؟ فَوَهَّنَهُ، ولم يقوّ إسناده1.
وقد ردَّ ابن القيم كلام أبي حاتم: بأنه لم يُبَيِّنْ سَبَبَهُ حتى يُمْكُنَ البحث معه فيه. ولعله أراد بعض ما تقدم، وقد أجيب عنه2.
ونقل أبو داود عن الإمام أحمد قوله: "حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء"3. وَرَدَّهُ ابن الملقن: بأنه معارض بما نقله عنه الترمذي من أنه صححه4.
وبعد: فإن هذا الحديث تميل النفس إلى تحسينه، كما حكم بذلك البخاري وغيره، وهذا أقل ما يُقال فيه من أجل ابن عقيل؛ فإنه قد تُكُلِّمَ في حفظه كما تقدم، وقد حسن الذهبي حديثه لأجل هذا، فقال: "حديثه في مرتبة الحسن"5. مع أن جماعة قد حكموا بصحته كما مضى.
وقد دَفَعَ ابن القيم - رحمه الله - العلل التي رُمي بها هذا الحديث - أو أكثرها - عِلَّةً عِلَّةً، وأجاب عنها بما يُفهمُ منه ميله إلى تصحيح الحديث، والله أعلم.
__________
1 علل ابن أبي حاتم: (1/51) ح 123.
2 البدر المنير: (1/361) .
3 السنن: (1/202) .
4 البدر المنير: (1/365) .
5 الميزان: (2/485) .
(2/199)
3- بابُ كفارة من أتى حائضا
15- (3) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امْرَأَتَهُ وهي حائضٌ، قال: " يَتَصَدَّق بدينار، أو نصف دينار".
تَعَرَّض ابن القيم - رحمه الله - لهذا الحديث في كلامه على سنن أبي داود1، وأشار إلى تصحيح أبي داود، والحاكم، وابن القطان له.
ثم قال: "وأما أبو محمد ابن حزم: فإنه أعلَّ الحديث بمقسم وَضَعَّفَهُ، وهو تعليل فاسدٌ، وإنما عِلَّتُهُ الْمُؤَثِّرَة وَقْفُهُ".
قلت: وهذا الحديث عند أبي داود2 من طريق: شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن3، عن مِقْسَم4، عن ابن عباس به.
ومن هذا الطريق أخرجه: النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 5،
__________
(1/173 – 174) .
2 السنن: (1/181) ح 264، باب في إتيان الحائض.
3 ابن زيد بن الخطاب العدوي، أبو عمر المدني، ثقة، من الرابعة، توفي بِحَرَّان في خلافة هشام/ ع. (التقريب 334) .
4 ابن بجرة، ويقال: نجدة. أبو القاسم، مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له، صدوقٌ وكان يُرْسِل، من الرابعة، مات سنة 101هـ/ خ 4. (التقريب 545) .
5 س: (1/153) باب ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها ... جه: (1/210) ح 640 باب في كفارة من أتى حائضاً.
(2/200)
وأحمد في (مسنده) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2، والطبراني في (الكبير) 3، والحاكم في (مستدركه) 4، والبيهقي في (سننه) 5.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 6 من طريق مطر الوراق، عن الحكم ابن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً. لم يذكر فيه "عبد الحميد بن عبد الرحمن". قال البيهقي: "هكذا رواه جماعة عن الحكم، عن مقسم، وفي رواية شعبة، عن الحكم دلالةٌ على أن الحكم لم يسمعه من مقسم، إنما سمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ... ". وقال أبو حاتم رحمه الله: "لم يسمع الحكم من مقسم هذا الحديث"7.
قلت: لكن أثبت الإمام أحمد، ويحيى القَطَّان سماع الحكم هذا الحديث من مقسم، فقال أحمد: "لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتاب، إلا خمسة أحاديث" وعَدَّهَا يحيى القطان: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض8. فلا مانع حينئذٍ أن يكون الحكم سمع الحديث من مقسم، وسمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، فرواه عنه مرةً بواسطة ومرةً بدون واسطة.
__________
(1/229 – 230) .
(ح 108 – 110) .
(11/382) ح 12066.
(1/171 – 172) .
(1/314) .
(1/315) .
7 علل ابن أبي حاتم: (1/51) .
8 انظر: تهذيب التهذيب (2/434) .
(2/201)
وقد رُوِيَ حديث مقسم هذا موقوفاً على ابن عباس، حتى أن شعبة نفسه قد تردد فيه، فرواه مرةً بالرفع ومرةً بالوقف، وأشار إلى ذلك أبو داود عقب إخراجه، فقال: "وَرُبَّمَا لم يرفعه شعبة".
فممن رواه موقوفاً غير شعبة: الأعمش، أخرجَ ذلك الدارمي في (مسنده) 1 من طريق: الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً.
ومنهم: ابن أبي ليلى، أخرجه الدارمي2 - أيضاً - عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن ابن أبي ليلى، عن مقسم، عن ابن عباس3.
أما شعبة: فقد أخرج الدارمي عن أبي الوليد4، وعن سعيد بن عامر5، كلاهما: عن شعبة، عن الحكم بالإسناد السابق، لكنه موقوف على ابن عباس، وقال شعبة عقبه: "أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلانٌ فقالا: غير مرفوع". قال بعض القوم: حَدِّثْنَا بحفظك، ودع ما قال فلانٌ وفلانٌ، فقال: "والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوحٍ، وأني حَدَّثْتُ بهذا أو سَكَتُّ عن هذا".
__________
(1/204) ح 1117.
(1/204) ح 1118، 1123.
3 مسند الدارمي: (1/204) ح 1120.
4 مسند الدارمي: ح 1111.
5 المصدر السابق: ح 1112.
(2/202)
وقد مضت معنا روايات ابن الجارود من طريق شعبة مرفوعاً، وأحدها من طريق سعيد بن عامر عن شعبة، وذكر عقبه نحواً من قول شعبة الذي عند الدارمي، ثم روى ابن الجارود من طريق: بندار عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة موقوفاً، فقال رجل لشعبة: إنك كنت ترفعه؟! قال: "كنتُ مَجْنوناً فَصَحَّحْتُ"1. قال ابن القطان -رحمه الله- معلقاً على مقالة شعبة الأخيرة: "نَظُنُّ أنه رضي الله عنه لَمَّا أُكْثِرَ عليه في رفعه إياه تَوَقَّى رَفعه؛ لا لأنه موقوفٌ، لكن إبعاداً لِلظِنَّةِ عن نفسه. وأبعد من هذا الاحتمال: أن يكون شكَّ في رفعه في ثاني حالٍ فوقفه، فإن كان هذا فلا نُبالي بذلك أيضاً، بل لو نَسِيَ الحديث بعد أن حَدَّثَ به لم يضره.
فإن أبيت إلا أن يكون شعبةُ رجعَ عنه رفعه فاعلم أن غيره من أهل الثِّقَةِ والأمانة أيضاً قد رواه عن الحكم مرفوعاً – كما رواه شعبة فيما تقدم – وهو عمرو بن قيس الملائي، وهو ثقة ... "2.
وقد رُوي من طرقٍ أخرى عن مقسم مرفوعاً:
منها: ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، والدارمي وأحمد في (مسنديهما) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طرق،
__________
1 المنتقى: (ح110) .
2 بيان الوهم والإيهام: (5/279) .
(1/183) ح 266.
(1/244) ح 136.
5 مي: (1/202) ح 1110. حم: (1/272) .
(1/316) .
(2/203)
عن: شريك، عن خُصَيف1، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً، ولفظه: "يَتَصَدَّقُ بِنِصفِ دينار".
وأخرجه الدارمي في (مسنده) 2 من طريق: سفيان الثوري، عن خُصيف، عن ابن عباس مرفوعاً بمثله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 3 من هذا الطريق، لكن جعله عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ثم قال: "وقال شريك: عن ابن عباس".
قلت: ورواية الدارمي له عن الثوري متصلاً توافق رواية شريك المتقدمة، فَتُقَدَّم على الرواية المرسلة.
ونقل ابن القيم عن ابن حزم أنه أَعَلَّ هذه الرواية بشريك وخُصيف، وقال: "كلاهما ضعيفٌ، فَسَقَطَ الاحتجاج به"، ثم نقل ابن القيم أقوال العلماء في الاحتجاج بشريك وخُصيف.
قلت: أما شريك: فقد تابعه الثوري عن خصيف كما تقدم، وأما خصيف: فإنه وإن تُكُلِّمَ فيه، فإن روايته تصلح للاعتبار، وليس الاعتماد عليها وحدها.
__________
1 ابن عبد الرحمن، أبو عون، صدوق سيئ الحفظ، خَلَّطَ بآخرة، وَرُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة 137هـ/4. (التقريب 193) .
(1/203) ح 1114.
(1/325) .
(2/204)
ومنها: ما أخرجه الترمذي في (جامعه) 1 من طريق: عبد الكريم2، عن مقسم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا كَانَ الدَّمُ أحمر فَدِينار، وإذا كان دَماً أصفر فنصف دينار". ومن هذا الطريق أخرجه كذلك: ابن ماجه في (سننه) 3، والدارمي في (مسنده) 4، وابن الجارود في (المنتقى) 5، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 6. ولفظ الدارمي والدارقطني والبيهقي: " ... فإن كان الدَّم عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان صُفْرَةً فليتصدق بنصف دينار". وعند ابن ماجه: " أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بنصف دينار". ولفظ ابن الجارود كلفظ حديث الحكم عن مقسم المتقدم.
وَرُوِي من طرق أخرى غير هذه عن مقسم، فهذه الروايات وغيرها تؤكد صحة رواية شعبة المرفوعة، على أنه لا مانع من كون ابن عباس رضي الله عنهما كان يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرةً - وعلى هذا تحمل رواية الرفع - ومرةً كان يُفتي به من قوله، وعليه تُحمل رواية الوقف. وَقَدَّمَ ابن سيد الناس رواية الرفع فقال: "من رَفَعَهُ عن شعبة أَجَلُّ وأكثر وأحفظ ممن وقفه"7.
__________
(1/245) ح 137.
2 ابن مالك الجزري، أبو سعيد مولى بني أمية، ثقة متقن، من السادسة، مات سنة 127هـ/ ع. (التقريب 361) .
وقيل فيه: عبد الكريم بن أبي المُخارق، وذكر ابن الملقن الخلاف في ذلك، ثم قال: "فلعل الحديث عنهما، والله أعلم بالصواب". (البدر المنير 1/397 – 400) .
(1/213) ح 650.
(1/203) ح 1116.
(ح 111) .
6 قط: (1/287) ح 158. هق: (1/317) .
7 نيل الأوطار: (1/351) .
(2/205)
وأما الاختلاف الذي وقع في متنه من قوله مرة: " دينار أو نصف دينار"، ومرةً " نصف دينار " ومرة التفرقة بين لون الدم وصفته: فإن أبا داود رَجَّحَ رواية الحكم ومن تابعه، والتي فيها: " دينار أو نصف دينار" فقال: "هكذا الرواية الصحيحة قال: دينار أو نصف دينار". وكأنَّ الإمام أحمد - رحمه الله - أخذ بهذه الرواية، فقال: "هو مُخَيَّرٌ بين الدينار والنصف دينار"1. وقال ابن القطان عن هذه الألفاظ المختلفة: "وهذا عند التدين والتحقيق لا يضره"2.
وبعد: فإن هذا الحديث قد صَحَّحَهُ جماعة من الأئمة منهم: أبو داود – كما يفهم من كلامه السابق -، ومال الإمام أحمد إلى تصحيح رواية الحكم بن عبد الحميد المتقدمة، فقال – فيما روى الخلال -: "ما أحسن حديث عبد الحميد" فقيل له: تذهب إليه؟ قال: "نعم"3. ونقل ابن حجر عن الخطابي قوله: "الأصحُّ: أنه متصلٌ مرفوع"4. وقال الحاكم: "صحيح" ووافقه الذهبي، وصححه ابن القَطَّان، فقال – متعقباً عبد الحق-: "ضَعَّفَهُ، وليس بضعيف، بل إما صحيح وإما حسن، وله طريق حسن"5. وَصَحَّحَهُ ابن دقيق العيد، وَأَقَرَّ ابن القطان على تصحيحه6. وَصَوَّبَ ابن حجر تصحيحه - بعد أن نقل كلام ابن
__________
1 معالم السنن: (1/173) .
2 نيل الأوطار: (1/351) .
3 التلخيص الحبير: (1/165) .
4 التلخيص الحبير: (1/166) .
5 بيان الوهم والإيهام: (5/669) .
6 التلخيص الحبير: (1/166) .
(2/206)
القطان وابن دقيق العيد-1. ثم قال: "فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث "بئر بضاعة"،"وحديث القلتين"ونحوهما. وفي ذلك ما يَرَدُّ على النووي في دعواه في (شرح المهذب) ، (والتنقيح) ، (والخلاصة) : أن الأئمة كُلَّهُم خالفوا الحاكم في تصحيحه ... ". وصَحَّحَهُ كذلك العلامة أحمد شاكر وتوسع في الكلام عليه واستيفاء طرقه2. وكذا العلامة الألباني3 رحمه الله.
فَثَبَتَ بذلك صحَّة الحديث، وأنه لا مجال لإعلالِهِ بروايةِ الوقف، وإن كان ابن القيم - رحمه الله - قد قال بأنَّ ذلك هو علته المؤثرة، إلا أن ظاهر صنيعه يدلُّ على اختيار تصحيحه، فقد نقل أقوال بعض العلماء في تصحيحه، ونقل بعضاً من طرقه، وردَّ قول ابن حزم في إعلاله، كما تقدم نقل كلامه في ذلك.
__________
1 التلخيص الحبير: (1/166) .
2 التعليق على (جامع الترمذي) : (1/246 – 254) .
3 إرواء الغليل: (1/217) ح 197.
(2/207)

=======


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
تابع للباب الثاني / من كتاب الصلاة
1- باب ما جاء في رفع اليدين عند افتتاح الصلاة
16- (1) عَنِ البَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افْتَتَح الصلاة رفَعَ يديه إلى قريب من أُذُنَيْه، ثم لا يعود".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم يصح عنه حديث البراء:"ثم لا يعود"، بل هي من زيادة يزيد بن أبي زياد"1.
وَبَيَّنَ - رحمه الله - في موضع آخر أن الأئمة طعنوا في هذه الزيادة: ابن عيينة، وأحمد، وابن معين، والحميدي، والدارمي، وغيرهم، وذكر أن يزيداً قد اضطرب فيه، ثم قال: "فلو قُدِّرَ أنه من الحفاظ الأثبات - وقد اخْتَلَفَ حديثه - لَوَجَبَ تركه والرجوع إلى الأحاديث الثابتة التي لم تختلف، مثل حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه ونحوها. فمعارضتها بمثل هذا الحديث الواهي المضطرب المختلف في غاية البطلان"2.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: شريك. وعبد الرزاق في (مصنفه) 4 - ومن طريقه الخطيب في (الفصل للوصل المدرج في النقل) 5 - من طريق: ابن عيينة. والدارقطني في
__________
1 زاد المعاد (1/219) .
2 تهذيب السنن: (1/369) .
(1/478) ح 749 ك الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع.
(2/71) ح 2531.
(1/394) ح 37 - 1.
(2/211)
(سننه) 1 من طريق: إسماعيل بن زكريا2 - ومن طريقه - الخطيب3 أيضاً - كلهم عن:
يزيد بن أبي زياد4، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى5، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به. واللفظ الماضي هو لفظ أبي داود. ولفظ الدارقطني، عن البراء: " أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه، ثم لم يَعُدْ إلى شيء من ذلك حتى فرغ من صلاته". أما لفظ عبد الرزاق فقال البراء: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَبَّرَ رَفَعَ يديه حتى يُرى إبهامه قريباً من أذنيه، مرة واحدة، ثم لا تَعُدْ لرفعها في تلك الصلاة".
وقد حَكَمَ الأئمة - رحمهم الله - ببطلان هذه الزيادة، وهي قوله: " ثم لم يَعُدْ ... ". ورأوا أن هذه اللفظة من قول يزيد بن أبي زياد، وقد اسْتُدِلَّ على ذلك بأمور:
- منها: أن الأئمة الحفاظ الذين رووا عنه هذا الحديث أولاً لم يأتوا عنه بهذه الزيادة؛ قال أبو داود عقب الحديث: "وروى هذا
__________
(1/293) ح 21، 22.
2 ابن مرة الخلقاني، أبو زياد الكوفي، لقبه: شقوصاً، صدوق يخطئ قليلاً، من الثامنة، مات سنة 194هـ، وقيل قبلها/ ع. (التقريب 107) .
3 الفصل: (1/394) ح 37 - 2.
4 الهاشمي مولاهم، الكوفي، ضعيف، كَبِرَ فَتَغَيَّرَ وصار يَتَلَقَّن، وكان شيعياً، من الخامسة، مات سنة 136هـ / خت م4. (التقريب 601) .
5 الأنصاري، المدني ثم الكوفي، ثقة، من الثانية، اخْتُلِفَ في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة 83هـ قيل: غرق / ع. (التقريب 349) .
(2/212)
الحديث: هشيم، وخالد، وابن إدريس، عن يزيد، لم يذكروا: ثم لا يعود". وقال البخاري: "وكذلك روى الحفاظ، من سمع يزيد بن أبي زياد قديماً، منهم: الثوري، وشعبة، وزهير، ليس فيه: ثم لم يعد"1. وقال ابن عبد البر: " ... فرواه عنه الثقات الحفاظ، منهم: شعبة، والثوري، وابن عيينة، وهشيم، وخالد بن عبد الله الواسطي، لم يذكر واحد منهم عنه فيه قوله: "ثم لا يعود ". وإنما قاله فيه عنه من لا يحتج به على هؤلاء"2. ونصَّ على ذلك أيضاً الخطيب البغدادي3.
أما رواية شعبة: فأخرجها الدارقطني في (سننه) 4، وأحمد في (العلل) 5، من طريق: شعبة، عن يزيد به، ولفظ أحمد: عن ابن أبي ليلى، أنه قال: "سمعت البراء يحدث قوماً فيهم كعب بن عجرة، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه ". ومثله لفظ الدارقطني، ولكنه زاد: " في أول تكبيرة ".
وأما رواية سفيان الثوري: فأخرجها البخاري في (رفع اليدين) 6، وعبد الرزاق في (مصنفه) 7، والدارقطني في (سننه) 8، من طرق، عن:
__________
1 جزء القراءة خلف الإمام: (ص119) .
2 التمهيد: (9/220) .
3 الفصل: (1/395) .
(1/293) ح 19.
(1/142- 143) .
(ص 122) ح 35.
(2/70) ح 2530.
(1/293) ح 18.
(2/213)
الثوري، عن يزيد به. ولفظ البخاري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفعُ يديه إذا كَبَّرَ حذاء أذنيه". وأما لفظ عبد الرزاق، والدارقطني: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر رفع يديه حتى نرى إبهامه قريباً من أذنيه".
وأما حديث هشيم: فأخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 1، من طريق: هشيم عن يزيد، ولفظه عن البراء: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه".
وأخرج الدارقطني في (سننه) 2 رواية خالد بن عبد الله3، عن يزيد ابن أبي زياد به، وفيه عن البراء: "أَنَّه رَأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَام إلى الصَّلاة كبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْه ".
ويرويه كذلك مثل هؤلاء: أسباط بن محمد4، أخرجه من طريقة: أحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، وفيه: " ... حتى يكون إِبْهَاماهُ حذاء أذنيه ".
فهؤلاء الخمسة من الحفاظ الثبات، وغيرهم: رووه عن يزيد بن أبي
__________
(4/282) .
(1/294) ح 23.
3 ابن عبد الرحمن بن يزيد الطحَّان الواسطي، المزني مولاهم، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة 182هـ / ع. (التقريب 189) .
4 ابن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القرشي مولاهم، أبو محمد، ثقة ضُعِّفَ في الثوري، من التاسعة، مات سنة 200 هـ / ع. (التقريب 98) .
(4/301 - 302) .
(2/25 - 26) .
(2/214)
زياد بدون هذه الزيادة، وكانوا سمعوه منه قديماً.
وقد نصَّ الأئمة على أن يزيد قد لُقِّنَ هذه الزيادة بعدُ، فقد أخرجه الحميدي في (مسنده) 1 من طريق ابن عيينة بدون هذه الزيادة، قال سفيان: "وقدم الكوفة، فسمعه يُحَدِّثُ به، فزاد فيه: ثم لا يعود. فظننت أنهم لَقَّنُوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيته بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغيَّرَ حفظه، أو ساء حفظه". قال الإمام الشافعي: "وذهب سفيان إلى أن يُغَلِّطَ يزيد في هذا الحديث، ويقول: كأنه لُقِّنَ هذا الحرف الآخر فتلقنه، ولم يكن سفيان يرى يزيد بالحافظ"2. وأَعَلَّهُ الإمام أحمد بقول سفيان هذا3 وكذا ابن حبان4. وقال الدارقطني: "وإنما لُقِّنَ يزيد في آخر عمره: (ثم لم يعد) . وكان قد اختلط"5.
ولما كان جمع من الأئمة الأثبات - الذين تقدم ذكرهم - قد رووه عن يزيد بدون هذه الزيادة، دل ذلك على صحة ما قاله ابن عيينة رحمه الله، وغيره من الأئمة.
- وَمِمَّا يَدُلُّ على ضَعْفِ حديث البراء بهذه الزيادة أيضاً: أنه قد اضطُربَ في متنه وإسناده؛ فقد رُوِيَ عنه ما ينقض روايته الأولى،
__________
(2/316) ح 724.
2 اختلاف الحديث: (ص128) .
3 علل أحمد: (1/143) .
4 المجروحين: (3/100) .
5 سنن الدارقطني: (1/294) .
(2/215)
فأخرج البيهقي في (سننه) 1، من طريق:
إبراهيم بن بشار2، عن ابن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد بمكة، عن ابن أبي ليلى ... به، وفيه: " رَأَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا افْتَتَحَ الصَّلاة رَفَعَ يَدَيْهِ، وإذا أَرَادَ أَنْ يركع، وإذا رَفَعَ رَأْسَه من الركوع ". وذكر سفيان أنه لما قدم الكوفة وجده قد زاد فيه هذه الزيادة.
فيكون حديث يزيد قد رُويَ بذلك على ثلاثة أوجه، ولاشك أن هذه اضطراب في حديثه، يدل على عدم ضبطه له، وعدم إتقانه إياه. وقد نصَّ الحازمي على اضطرابه، فقال: " ... هذا الحديث يُعْرَفُ بيزيد ابن أبي زياد، وقد اضطرب فيه"3.
أما اضطراب سنده: فقد أشار إليه البيهقي رحمه الله، فقال: "قد روى هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء ... وقيل: عن محمد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى. وقيل: عنه، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى ... "4.
__________
(2/77) .
2 الرمادي، أبو إسحاق البصري، حافظ له أوهام، من العاشرة، مات في حدود سنة 230هـ /د ت. (التقريب 88) .
3 الاعتبار: (ص16) في المقدمة.
4 سنن البيهقي: (2/77) .
(2/216)
قلت: وقد أخرج رواية عيسى بن أبي ليلى: أبو داود في (سننه) 1، وعَلَّقَه البخاري في (رفع اليدين) 2 كلاهما: عن وكيع، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى3، عن أخيه عيسى4، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - كذا قال أبو داود، وعند البخاري: عن عيسى والحكم، عن ابن أبي ليلى - عن البراء قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين افتتح الصلاة ثم لم يرفعها حتى انصرف ". سياق أبي داود. قال أبو داود عقبة: "هذه الحديث لا يصح". وقال البيهقي - حينما أشار إلى هذه الرواية -: "ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لا يحتج بحديثه، وهو أسوأ حالاً عند أهل المعرفة بالحديث من يزيد بن أبي زياد"5.
- ومن الأدلة - أيضاً - على غَلَطِ يزيد فيه، وعدم ضبطه، وأنه أُدْخِلَ عليه فيه: أنه صَرَّحَ مرة بعدم حفظه لهذه الزيادة، ورجوعه عنها؛ فأخرجه الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: علي بن عاصم، عن محمد بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء ... فذكره وفيه الزيادة، قال علي: فلما قَدِمْتُ الكوفة، قيل لي: إن
__________
(1/479) ح 752.
(ص122) ح 36.
3 الأنصاري، الكوفي، القاضي، أبو عبد الرحمن، صدوقٌ سَيِّئ الحفظ جِداً، من السابعة، مات سنة 148هـ /4. (التقريب 493) .
4 ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثقة، من السادسة /4. (التقريب 439) .
5 سنن البيهقي: (2/77 - 78) .
(1/294) ح 24.
(2/217)
يزيد حيٌّ، فأتيته، فَحَدَّثَنِي بهذا الحديث - فساقه بإسناده بدون الزيادة - قال علي بن عاصم: فقلت له: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: (ثم لم يعد) . قال: لا أحفظ هذا. فعاودته، فقال: ما أحفظه.
وهذا الإسناد وإن كان فيه ابن أبي ليلى، فإن سياقه بهذه القصة يدل على أنه إنما ضبطه وحفظه.
والمقصود: أن الأئمة قد أجمعوا على ضَعْفِ حديث البراء بهذه الزيادة، وقد تَقَدَّمَ معنا قول ابن عيينة، والشافعي، والبخاري، وأبي داود. وقال الحميدي: "إنما روى هذه الزيادة يزيد، ويزيد يزيد"1. وقال عثمان الدارمي: "سألت أحمد بن حنبل رحمه الله؟ فقال: لا يصح عنه هذا الحديث"2. وساق الدارمي الحديث بدون الزيادة ثم قال: "فهذا الذي يسبق القلب إلى صحته عن يزيد"3.
وقال ابن حبان: "هذا خبر عَوَّلَ عليه أهل العراق في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وليس في الخبر: (ثم لم يَعُد) . وهذه الزيادة لَقَّنَها أهل الكوفة يزيد بن أبي زياد في آخر عمره، فَتَلَقَّنَ ... ومن لم يكن العلم صناعته لا يُذكر له الاحتجاج بما يشبه هذا من الأخبار الواهية"4. وقال الدارقطني - بعد أن أخرجه بدون الزيادة-:
__________
1 التلخيص الحبير: (1/221) .
2 علوم الحديث للحاكم: (ص81) .
3 المصدر السابق.
4 المجروحين: (3/100) .
(2/218)
"وهذا هو الصواب"1. وضعَّفَهُ الحازمي باضطراب يزيد كما سبق نقل كلامه. وقال ابن عبد البر: "المحفوظ في حديث يزيد ... : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة، رفع يديه في أول مرة ... " وأما قول من قال فيه: ثم لا يعود. فخطأ عند أهل الحديث"2. وقال المنذري: "في إسناده: يزيد بن أبي زياد ... ولا يحتجُّ بحديثه"3. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: "ذِكْرُ ترك العَوْدِ إلى الرفع ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم"4. وقد أدخله - رحمه الله - في كتابه المصنف في المدرج، وحَكَمَ على هذه اللفظة بالإدراج. وقال ابن الملقن: "حديث ضعيف باتفاق الحفاظ: كسفيان بن عيينة، والشافعي، وعبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والدارمي، والبخاري، وغيرهم"5.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي- بعد أن ذَكَرَ ضَعف هذا الحديث-: "ولو صحَّ عن البراء أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه إلا أول مرة ". وقال غيره: إنه عاد لرفعهما، كان أولى الحديثين أو يُؤْخذ به حديث صاحب الرؤية؛ لأنه لم يَقْدِرْ على الحكاية إلا بالرؤية الصحيحة والحفظ، والذي قال: لم أر، يمكن أنه عاد ولم يره"6.
__________
1 السنن: (1/294) .
2 التمهيد: (9/220) .
3 مختصر السنن: (1/369) .
4 الفصل: (1/394) .
5 البدر المنير: ج2 (ق205/أ) [نسخة المحمودية] .
6 علوم الحديث للحاكم: (ص81) .
(2/219)
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من عدم صِحَّةِ هذا الحديث بهذه الزيادة: هو الصحيح، وهو اختيار جمهور الأئمة ممن قَدَّمْنَا ذكرهم، ولذلك لا تُعَارض الأحاديث الصحيحة في إثبات الرفع بمثل هذا الحديث المعلول، والله أعلم.
(2/220)
2- باب ما يقال من الدعاء في افتتاح الصلاة
17- (2) "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، ولا إِلَهَ غَيْرُكَ".
ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث مُصَدِّراً إيَّاه بصيغة التمريض "رُوِيَ"، ثم قال: "ذكر ذلك أهل السنن من حديث: علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد.
على أنه رُبَّمَا أُرْسِلَ. وقد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، والأحاديث التي قبله أثبت منه1، ولكن صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به، ويُعَلِّمُهُ الناس"2.
وقال مرةً: "اختار أحمد حديث عمر في الاستفتاح، وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح؛ لأن رواية علي بن علي الرفاعي3، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد، وقد قال الإمام أحمد: وعلي بن علي لا يُعْبَأُ به ... "4.
__________
1 يشير - رحمه الله - إلى الأحاديث التي ذكرها قبل هذا في استفتاح الصلاة. انظر: (زاد المعاد 1/202 - 204) .
2 زاد المعاد: (1/204 - 205) .
3 بدائع الفوائد: (4/91) .
4 كذا وقعت العبارة في (البدائع) وأراها غير سليمة؛ ولعل صوابها - والله أعلم -: "وقد روى أبو سعيد مثله ... وليس بصحيح؛ لأنه من رواية علي ... ".
(2/221)
قلت: حديث أبي سعيد هذا أخرجه: أصحاب السنن الأربعة1 وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 2، وعبد الرزاق في (مصنفه) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، والطبراني في (الدعاء) 6، كلهم من طريق:
جعفر بن سليمان7، عن علي بن علي8 الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي9، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام
__________
1 د: (1/490) ح 775، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، ت: (2/9) ح 242، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، س: (2/132) في الذكر بين الافتتاح وبين القراءة، جه: (1/264) ح 804، باب افتتاح الصلاة. وهو عند أبي داود والترمذي في ك الصلاة، وعند النسائي في ك الافتتاح، أما ابن ماجه ففي ك إقامة الصلاة.
2 حم: (3/50) ، مي: (1/226) ح 1242، ك الصلاة، باب ما يُقال بعد افتتاح الصلاة.
(2/75) ح 2254.
(2/238) ح 467.
(1/298) ح 4.
(2/1032) ح 501.
7 الضّبعي، أبو سليمان البصري، صَدُوق زَاهِد لكنه كان يَتَشَيَّع، من الثامنة، مات سنة 178هـ/ بخ م 4. (التقريب 140) .
8 ابن نجاد، اليشكري، أبو إسماعيل البصري، لا بأس به، رُمِيَ بالقدر وكان عابداً، من السابعة/ بخ 4. (التقريب 404) .
9 علي بن داود - ويقال: داؤد - البصري، مشهور بكنيته، ثقة، من الثامنة، مات سنة 108هـ وقيل قبل ذلك/ ع. (التقريب 401) .
(2/222)
من الليل كَبَّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّكَ، ولا إله غيرك " ثم يقول: " لا إله إلا الله" ثلاثاً، ثم يقول: " الله أكبر كبيراً" ثلاثاً، "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزِه وَنَفْخِهِ ونَفْثِهِ" ثم يقرأ.
هذا سياق أبي داود، وهو كذلك عند أحمد، وابن خزيمة، وعبد الرزاق، إلا أن عند بعضهم اختلافاً يسيراً. ولفظ الترمذي، والدارمي مثلهم، ما عدا قوله: "ثم يقول: لا إله إلا الله" ثلاثاً. أما النسائي، وابن ماجه، والطبراني: فهو عندهم مختصر، ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك".
وحاصل ما ذكره ابن القَيِّم في إعلال هذا الحديث ما يلي:
أولاً: أنه رُبَّما رُوِيَ مرسلاً. وقد سبقه إلى ذلك أبو داود -رحمه الله- فقال عقب إخراجه: "وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن علي، عن الحسن مرسلاً الوهم من جعفر".
ثانياً: أنه من رواية علي بن علي الرفاعي، وهو مُتَكَلَّمٌ فيه، قال الترمذي: "وقد تُكُلِّمَ في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يَصِحُّ هذا الحديث".
(2/223)
والجواب عن ذلك:
- أما القول بأنه يُروى مرسلاً: فلم أجد من ذكر هذه العلة إلا أبا داود، ومع ذلك فإنه لم يجزم بها، بل قال: "يقولون ... "، وكذا ابن القَيِّم، فإنه قال: "على أنه ربما أُرْسِلَ".
- وأما كون "علي بن علي الرفاعي" متكلماً فيه: فقد قال الشيخ الألباني1:"وعليٌّ هذا وإن تَكَلَّمَ فيه يحيى بن سعيد، فقد وَثَّقَه يحيى بن معين، ووكيع، وأبو زرعة، وقال شعبة: اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. وقال أحمد: لم يكن به بأس إلا أنه رَفَعَ أحاديث"2. قال الشيخ الألباني - معقباً على مقالة الإمام أحمد -: "وهذا لا يوجب إهدار حديثه، بل يُحتجُّ به حتى يظهر خطؤه، وهنا ما روى شيئاً منكراً، بل تُوبِع عليه كما سبق"3. يشير الشيخ إلى حديث عائشة، وسيأتي.
قلت: فَتَبَيَّنَ من ذلك أن ما أُعِلَّ به هذا الحديث ليس بشيء، وأن الحديث بهذا الإسناد لا يقل عن رتبة الحسن؛ ولذلك جعله الإمام البغوي في قسم الحسن من (مصابيحه) 4 وبهذا حَكَمَ عليه الحافظ
__________
1 إرواء الغليل: (2/51 - 52) .
2 انظر: أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهريب: 7/366) .
3 إرواء الغليل: (2/52) .
4 كما في مشكاة المصابيح: (1/258) ح رقم 816.
(2/224)
ابن حجر1رحمه الله. وكذا حسَّنَهُ الشيخ الألباني رحمه الله، فقال - عقب نقل الترمذي تضعيف على الرفاعي، وأن أحمد لم يصحح الحديث -: "ولعلَّ هذا لا ينفي أن يكون حسناً؛ فإن رجاله كلهم ثقات"2. وصححه الشيخ أحمد شاكر3.
ولما ضَعَّفَ ابن خزيمة الأحاديث الواردة في ذلك قال: "وأحسن إسناد نعلمه رُوِيَ في هذا: خبر أبي المتوكل، عن أبي سعيد"4.
قلت: ففيه أن هذا الحديث وإن تُكُلِّمَ فيه، فإن أمره مُحْتَمَلٌ، وأنه قابلٌ للتَّقَوِّي بغيره، وسيأتي له شواهد، منها ما أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - بقوله: "وقد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها"5.
وقد رُوِيَ حديث عائشة هذا من طرق لا تخلو جميعها من ضعف، لكن بانضمامها تصل إلى درجة الحسن كما حكم بذلك الشيخ الألباني.
__________
1 نتائج الأفكار: (1/402) .
2 الإرواء: (2/51) .
3 حاشية جامع الترمذي: (2/11) .
4 صحيح ابن خزيمة: (1/238) .
5 زاد المعاد: (1/204) .
(2/225)
فإذا انضمَّ حديث عائشة هذا بطرقه إلى حديث أبي سعيد الْمُتَقَدِّم، ازداد الحديث قوةً وتماسك، وقد يصل بذلك إلى رتبة الصحيح، كما قال الشيخ الألباني رحمه الله1.
فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - ذهب إلى تضعيف حديث أبي سعيد، فَصَدَّره بصيغة التمريض: "رُوِيَ"، ثم أَعَلَّهُ بأنه يُروى مرسلاً، ثم صَرَّح بضعفه فقال "ليس بصحيح؛ لأنه من رواية علي بن علي الرفاعي".
ثم أشار - رحمه الله - إلى أنه قد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، وكأنه يضعفه أيضاً؛ حيث صَدَّرَه بقوله: "وقد رُوي مثله ... " كذا بصيغة التمريض.
وقد ظهر لي من هذه الدراسة: أن الحديث يصل بمجموع طرقه إلى درجة الحسن على أقل تقدير، وأنَّ من ضَعَّفَه لم يُقِمْ على ذلك دليلاً ظاهراً، ولا بينة قوية.
غير أنني أعود فأقول: كأن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يريد أن الحديث ضعيف مطلقاً، وإنما هو أدنى رتبة من الأحاديث الأخرى
__________
1 انظر الكلام حول هذا الحديث في: التلخيص الحبير (1/229) ، وإرواء الغليل: (2/51) .
(2/226)
الواردة في افتتاح الصلاة. يظهر ذلك من قوله: "والأحاديث التي قبله أثبت منه، ولكن صَحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به، ويعمله الناس"1، والله تعالى أعلم.
__________
1 زاد المعاد: (1/204، 205) .
قلت: أخرج مسلم في (صحيحه) - (1/299) ح 52 ك الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة - حديث عمر هذا، عن عبدة: "أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك".
(2/227)
3- باب من قال: لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه إلا بفاتحة الكتاب
18- (3) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كُنَّا خَلْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: " لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ "قلنا: نعم، هذّاً1 يا رسول الله، قال: " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأُعِلَّ هذا الحديث بأن ابن إسحاق رواه عن مكحول وهو مدلس، ولم يُصَرِّحْ بسماعه من مكحول، وإنما عَنْعَنَه، والمدلس إذا عَنعن لم يحتج بحديثه، وكذلك رواه أبو داود. قال البيهقي: وقد رواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، فذكر سماعه فيه من مكحول، فصار الحديث بذلك موصولاً صحيحاً2. وقد رواه البخاري في كتاب (القراءة خلف الإمام) وقال: هو صحيح، ووثق ابن إسحاق وأثني عليه واحتج بحديثه فيه، ثم رواه من غير حديث ابن إسحاق أيضاً، وقال: هو صحيح"3.
__________
1 قال في المصباح المنير: (2/636) : "الْهَذُّ: سرعة القطع، وهذَّّ قراءته هذَّاً - من باب قتل-: أسرع فيها" وقال الخطابي: "الهذُّ: سرد القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال، وقيل: أراد بالهذِّ الجهر القراءة". (معالم السنن 1/390) .
2 انظر كلام البيهقي في المعرفة: (3/81) رقم 3778.
3 تهذيب السنن: (1/390) .
(2/228)
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والبخاري في (جزء القراءة) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، من طرق عن:
محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه به، واللفظ المذكور لفظ أبي داود، وألفاظ الباقين بنحوه.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث كما مضى في كلام ابن القَيِّم، وحاصل ما أُعِلَّ به:
1- عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس.
2- الاضطراب في إسناده.
وذكر ابن القَيِّم من ذلك: العلة الأولى فقط وأجاب عنها، وسأبين ذلك بعون الله وتوفيقه.
أما العلة الأولى؛ وهي عنعنة ابن إسحاق: فقد أجاب عنها
__________
(1/515) ح 823 ك الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب.
(2/116) ح 311 ك الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام.
(5/316، 322) .
(ح 32، 169) .
5 الإحسان: (3/137) ح 1782، (3/141) ح 1789.
6 قط: (1/318) ح 5 - 8. هق: (2/164) .
(1/238) .
(2/229)
الحافظ البيهقي - ونقله ابن القَيِّم - بأن إبراهيم بن سعد1 رواه عن ابن إسحاق فذكر فيه سماع ابن إسحاق من مكحول، فانتفت بذلك شبهة التدليس عن ابن إسحاق.
وقد أخرج رواية إبراهيم بن سعد هذه: الدارقطني في (سننه) 2 من طريق: عبيد الله بن سعد، عن عمه، عن أبيه، عن ابن إسحاق، قال: حدثني مكحول ... فذكره، وفيه: " إِنِّي لأَرَاكُمْ تَقْرَأُون خَلْفَ إِمَامِكُم إِذَا جَهَرَ؟ ".
وأخرجه البيهقي3 من طريق الدارقطني، ثم قال عقبه: "قال علي ابن عمر - يعني الدارقطني -: هذا إسناد حسن". ولم أجد هذه العبارة في (سنن الدارقطني) عقب هذا الحديث، وإنما قالها الدارقطني عقب الحديث الماضي الذي فيه عنعنة ابن إسحاق4، وقد تَعَقَّبَ ابن التركماني البيهقي بذلك5.
ولكن هذا الإسناد إلى ابن إسحاق ثقات لا مطعن فيهم؛ فإن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، أبا الفضل البغدادي قاضي أصبهان: "ثقة"6. وعمه: هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو يوسف المدني:
__________
1 ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّمَ فيه بلا قادح، من الثامنة، مات 185هـ / ع. (التقريب 89) .
(1/319) ح 8.
3 السنن: (2/164) ، والقراءة خلف الإمام: (ح 114) .
4 سنن الدارقطني: (1/318) ح 5.
5 انظر: الجوهر النقي: (2/164) .
6 التقريب: (ص371) .
(2/230)
"ثقة فاضل"1، وإبراهيم بن سعد: "ثقة حجة" كما مضى معنا. فهو إسناد قوي ينجبر به الطريق الآخر الذي فيه عنعنة ابن إسحاق.
وأما العلة الثانية؛ وهي القول بالاضطراب: فقد أعله بذلك ابن عبد البر فقال: "أما حديث ابن إسحاق: فرواه الأوزاعي، عن مكحول، عن رجاء بن حيوة، عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال لنا: " تقرأون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قلنا: نعم. قال: " فلا تفعلوا إلا بأم القرآن". ورواه زيد بن خالد2، عن مكحول، عن نافع بن محمود، عن عبادة ... ومثل هذا الاضطراب لا يثبت فيه عند أهل العلم بالحديث شيء"3. وحكى صاحب (الجوهر النقي) 4 شيئاً من هذا الاضطراب مستشهداً بكلام ابن عبد البر.
والجواب عن ذلك:
__________
1- أن رواية زيد بن واقد5 - وليس بن خالد كما في (التمهيد) - عن مكحول، عن نافع بن محمود بن الربيع6، عن عبادة، قد أخرجها: أبو داود، والدارقطني والبيهقي في (سننهم) 7، ثلاثتهم بهذا
1 التقريب: (ص607) .
2 كذا في التمهيد والصواب أنه "زيد بن واقد" كما سيأتي بيانه.
3 التمهيد: (11/46) .
(2/164) .
5 القرشي، الدمشقي، ثقة، من السادسة/ خ د س ق. (التقريب 225) .
6 الأنصاري، المدني، نزيل بيت المقدس، مستور، من الثالثة/ ر د س. (التقريب558) .
7 د: (1/515) ح 824، قط: (1/319) ح9، هق: (2/164) .
(2/231)
الإسناد، قال نافع بن محمود: أبطأً عبادة عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم الْمُؤَذِّن الصلاة، فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم ... فذكره، وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن".
وقد أعلَّ ابن عبد البر هذه الرواية بجهالة نافع بن محمود، مع عَدِّه ذلك من الاضطراب في الحديث1.
وأقول: إن نافعاً روى عنه اثنان: مكحول الشامي - أحد أئمة أهل الشام - وحرام بن حكيم الأنصاري الدمشقي2، وَوَثقَه ابن حبان3، ولم يُعْرَفْ فيه جرحٌ لأحد، ولم يُطَّلَعْ فيه على ما يُترك حديثه لأجله، ومثله إذا لم يأت بما يُنكر عليه فإنه يُقْبل حديثه، وقد قال الدارقطني - عقب إخراجه -: "كلهم ثقات".
ولم ينفرد زيد بن واقد - مع ذلك - برواية هذا الحديث عن مكحول، عن نافع بن محمود، بل تابعه عليه: يزيد بن يزيد بن جابر4، عن مكحول، عن نافع، عن عبادة به، أخرج ذلك البيهقي في (القراءة خلف الإمام) 5.
__________
1 التمهيد: (11/46) .
2 وهو حرام بن معاوية، وَوَهِمَ من جعلهما اثنين، ثقة، من الثالثة/ ر 4. (التقريب155) .
3 الثقات: (5/470) .
4 الأزدي، الدمشقي، ثقة فقيه، من السادسة، مات سنة 134هـ / م د ت ق. (التقريب606) .
(ح123) ، باب ذكر أخبار خاصة دالة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ...
(2/232)
وتُوبِعَ مكحول - أيضاً - على هذه الرواية، فقد تابعه حرام بن حكيم، عن نافع بن محمود، عن عبادة به، أخرجه: البخاري في (جزء القراءة) 1، والدارقطني في (سننه) 2، والبيهقي في (السنن) 3، وفي (القراءة خلف الإمام) 4، كلهم من طريق: زيد بن واقد، عن مكحول وحرام بن حكيم، كلاهما: عن نافع بن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت به.
قال الدارقطني: "هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم". وقال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، ورواته ثقات". قاله في كتاب (القراءة خلف الإمام) .
ثم وجدت متابعة أخرى لمكحول، فقد تابعه عثمان بن أبي سودة5، أخرج ذلك الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: صدقة بن خالد، عن زيد بن واقد، عن عثمان بن أبي سودة، عن نافع بن محمود، عن عبادة به. وراويه عن صدقة هو: يحيى بن عبد الله بن الضحَّاك البابلتي، وهو "ضعيف"7، لكنه إذا انضم إلى الطريقين السابقين حصل بمجموع ذلك للحديث قوة.
فَتَبَيَّنَ من ذلك ثبوت الحديث بهذا الإسناد، وأنه يَقْوَى بمتابعة:
__________
(ح33) .
(1/320) ح 12.
(2/165) .
4 ح (121 - 122) .
5 المقدسي، ثقة، من الثالثة/ بخ د ت ق. (التقريب 384) .
(1/320) ح 13.
7 كما في التقريب: (ص 593) .
(2/233)
يزيد بن جابر لزيد بن واقد، ثم بمتابعة: حرام بن حكيم وعثمان بن أبي سودة لمكحول.
فإذا تقرر ذلك فيمكن القول بأنه: ليس في رواية "نافع بن محمود" هذه مخالفة لرواية "محمود بن الربيع" المتقدمة، وأن الاضطراب لا وجود له، بل الأمر على ما قال البيهقي رحمه الله: "مكحول سمع هذا الحديث من محمود بن الربيع ومن ابنه1 نافع بن محمود بن الربيع، ونافع ابن محمود وأبوه محمود بن الربيع سمعاه من عبادة بن الصامت رضي الله عنه"2. وقال ابن حزم رحمه الله: "وأما رواية مكحول هذا الخبر مرة عن محمود ابن الربيع ومرة عن نافع: فهذا قوة للخبر لا وهنٌ؛ لأن كليهما ثقة"3.
وحينئذٍ نقول: إن رواية زيد بن واقد هذه بطرقها، وبمتابعة يزيد بن جابر له فيها تعدُّ متابعة قويةً لرواية محمد بن إسحاق المتقدمة، هذا مع تصحيح جماعة من الأئمة لحديث ابن إسحاق، قال الترمذي: "حديث حسن". وقال الدارقطني: "هذا إسناد حسن". وقال الخطابي: "إسناده جيد، لا مطعن فيه"4. وقال الحاكم عنه وعن غيره من الروايات: "أسانيدها مستقيمة". وقال البيهقي: "صحيح وله شواهد"5. وقال ابن حجر:
__________
1 هكذا اعتبر البيهقي أن نافعاً ابنٌ لمحمود بن الربيع، ولم أجد في المصادر التي ترجمت لهما ما يشير إلى ذلك، فالله أعلم؟؟
2 القراءة خلف الإمام: (ص65 - 66) .
3 المحلى: (3/241 - 242) .
4 معالم السنن: (1/390) .
5 السنن: (2/166) .
(2/234)
"أخرجه أبو داود بإسناد رجاله ثقات"1. وقال الشيخ أحمد شاكر: "حديث صحيح لا عِلَّة له"2. حتى إن أبا عمر بن عبد البر - رحمه الله - الذي أَعَلَّه في (تمهيده) بأنه مضطرب، وبأن نافع بن محمود مجهول، قال في (الاستذكار) 3: "وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات"! فلم يبق بذلك قدح في هذا الحديث بالاضطراب ولله الحمد.
2- وأما الرواية التي ذكرها ابن عبد البر مُسْتَدِلاً بها على اضطراب الحديث، وهي: رواية الأوزاعي، عن مكحول، عن رجاء بن حيوة، عن عبد الله بن عمرو، فأقول:
المشهور عن الأوزاعي في ذلك ما أخرجه البيهقي في (القراءة خلف الإمام) 4 من طريق الأوزاعي، حدثني عمرو بن سعد5، حدثني رجاء بن حيوة، وعن الأوزاعي، عن عمرو بن سعد، عن عمرو بن شعيب، كلاهما: عن عبادة بن الصامت مرفوعاً. قال البيهقي: "والروايتان صحيحتان، فقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عمرو بن سعد عنهما". ثم ساقه بإسناده إلى الوليد. ثم رواه البيهقي - رحمه الله - بالإسناد نفسه إلى عمرو بن شعيب متصلاً، فقال: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عبادة. ثم أشار البيهقي بعد ذلك إلى الرواية التي ذكرها ابن عبد البر، فقال: "وقيل: عن الأوزاعي، عن مكحول، عن
__________
1 الدراية: (1/164) .
2 حاشية الترمذي: (2/117) .
(2/190) .
4 الأحاديث: (129 - 132) .
5 الفَدَكِي أو اليمامي، ثقةٌ، من السادسة / ر س ق (التقريب 421) .
(2/235)
رجاء، عن عبد الله بن عمرو. والمحفوظ ما ذكرنا إسناده"1.
فَعُلِمَ بذلك أن المحفوظ في هذا عن الأوزاعي ما تقدم: عنه، عن عمرو ابن سعد، عن رجاء، وهو إسناد لا غبار عليه، لاسيما إذا انضم إليه طريق عمرو بن شعيب، وحينئذ تكون هذه الطريق متابعة أخرى لمحمود بن الربيع، عن عبادة؛ مما يزيد في قوته، ولا يكون ذلك من قبيل الاضطراب أبداً.
ثُمَّ إن حديث عبادة هذا أصله في صحيحي (البخاري) 2 (ومسلم) 3 مختصراً، وذلك من طريق: الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكِتَاب".
قال الإمام البخاري: "والذي زاد مكحول، وحرام بن حكيم، ورجاء بن حيوة عن ابن الربيع، عن عبادة، فهو تبع لما روى الزهري قال: حدثني محمود بن الربيع، أن عبادة أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ... "4.
وقال البيهقي: "ورواية الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة ابن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وإن كانت مختصرة، فهي لرواية ابن إسحاق شاهدة"5.
__________
1 القراءة خلف القراءة: (ص69) .
2 مع فتح الباري: (2/236) ح 756 ك الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت.
(1/295) ح 394. باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ...
4 القراءة خلف الإمام للبيهقي: (ص70) .
5 المعرفة: (3/81) .
(2/236)
وقال الحافظ ابن حجر: "والظاهر أن حديث الباب - يعني حديث الزهري - مختصر من هذا - يعني من حديث ابن إسحاق الذي معنا - وكان هذا سببه والله أعلم"1.
قلت: وسواء أكان مختصراً منه أم كان مغايراً له، فإنه يشهد له ويُقَوِّيه، ويثبتُ أن له أصلاً؛ فالحديثان اشتركا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ولكن أحدهما جاء مُطَوَّلاً فَذُكِرَ فيه قصة كانت سبب هذا القول منه صلى الله عليه وسلم، ورواية الصحابي الحديث مرة مطولاً ومرة مختصراً مشهور.
ولهذا الحديث شاهد أشار إليه ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2 من رواية البيهقي من طريق: سفيان الثوري، عن خالد الْحَذَّاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة3، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقرأون والإمام يقرأ؟ ". قالوا: إنا لنفعل. قال: "فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب".
ثم نقل ابن القَيِّم عن البيهقي قوله: "وهذا إسناد صحيح، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ثقة، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يَضُرُّ إذا لم يعارضه ما هو أصح منه، ولكن لهذا الحديث علة، وهي: أن أيوب خالف فيه خالداً ورواه عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ... "4.
__________
1 فتح الباري: (2/242) .
(1/393) .
3 قيل: اسم أبيه عبد الرحمن، حجازي، ليس به بأس، من الرابعة / ر م د س ق. (التقريب 486) .
4 انظر: كلام البيهقي هذا في المعرفة: (3/84) رقم 3792. والكلام إلى قوله: " ... ما هو أصحُّ منه" منقول بنصه، وباقي الكلام منقول بالمعنى.
(2/237)
وقد ذكر الدارقطني في (علله) 1 روايات هذا الحديث، ووجوه الاختلاف فيه على خالد الحذاء، ثم قال: "والمرسل أصح". يعني: عن ابن أبي عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا المرسل يشهد لحديث عبادة بن الصامت المتقدم ويشد من أزره، وقد جعله البيهقي2، ثم ابن حجر3 من شواهده.
فتَحَصَّل من ذلك: أن حديث عبادة بن الصامت صحيح بطرقه وشاهده، مع تصحيح من صححه من الأئمة الذين نقلتُ أقوالهم.
وابن القَيِّم - رحمه الله - يميل إلى صحة الحديث، فقد ذكر كلام البيهقي في الرد على من زعم أن الحديث معلول بعنعنة ابن إسحاق. ولكنه لم يتعرض لكلام من أعله بالاضطراب، وقد بينت ذلك ولله الحمد. ثم ساق له ابن القَيِّم هذا الشاهد المرسل من حديث ابن أبي عائشة.
وأما ما نقله ابن القَيِّم عن البيهقي من تصحيح البخاري هذا الحديث في (جزء القراءة) فلم أقف عليه فيه، وقد روى الحديث في مواضع منه - كما مضى - ولم يعقبه بشيء، نعم أثنى على ابن إسحاق هناك وعَدَّلَه ونقل كلام الأئمة في الثناء عليه.
__________
1 ج 4 (ق 36) .
2 السنن: (2/166) .
3 التلخيص الحبير: (1/231)
(2/238)
4- باب ترك القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه
19- (4) عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ من صلاة جَهَرَ فيها بالقراءة، فقال: " هَلْ قَرَأ مَعِي أَحَدٌ مِنكم آنفاً؟ فقال رجل: نَعَم يا رسول الله، قال: " إِِّني أَقُولُ: مَا لِي أَنَازَعُ1 القرآن؟ ". قَالَ: فانتهى الناس عن القراءة مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سَمِعوا ذَلِكَ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد أَعَلَّ البيهقي2 هذا الحديث بابن أُكَيْمَةَ، وقال: تَفَرَّدَ به وهو مجهول، ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أن رآه يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب. واختلفوا في اسمه، فقيل: عمارة. وقيل: عمار، قاله البخاري.
وقوله: "فانتهى الناس عن القراءة" من قول الزهري، قاله محمد ابن يحيى الذُّهْليّ - صاحب (الزهريات) - والبخاري، وأبو داود. واستدلوا على ذلك برواية الأوزاعي، حين مَيَّزَه من الحديث، وجعله من قول الزهري. قال: وكيف يكون ذلك من قول أبي هريرة، وهو يأمر بالقراءة خلف القراءة فيما جهر فيه وما خَافَتَ؟ "3.
ثم أخذ ابن القَيِّم رحمه الله في الجواب على ما ذكره
__________
1 بفتح الزاي، وأصل النزع: الْجَذْبُ والقَلْعُ،، ومعنى: ما لي أُنَازَعُ القرآن: أي أُجَاذَبُ في قراءته. (النهاية 5/41) .
2 انظر: كلام البيهقي هذا في (السنن) : (2/159) .
3 تهذيب السنن: (1/391 - 393) .
(2/239)
البيهقي - رحمه الله - من عللٍ لهذا الحديث، وسيأتي بيان ذلك مفصلاً.
قلت: هذا الحديث أخرجه: مالك في (الموطأ) 1 عن الزهري، عن ابن أكيمة2، عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ الذي ذكرته.
ومن طريق مالك أخرجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي في (سننهم) 3، وأحمد في (مسنده) 4، والبخاري في (جزء القراءة) 5، والبيهقي في (السنن) 6، وألفاظهم جميعاً كلفظ مالك، إلا البخاري، فإنه عنده مختصر، ليس فيه قوله: "فانتهى الناس ... ".
وقد روى هذا الحديث الأوزاعيُّ قال: حدثني الزهري، عن سعيد ابن المسيب، أنه سمع أبا هريرة يقول ... فذكره. فجعل الأوزاعي سعيد ابن المسيب مكان ابن أكيمة، أخرجه كذلك البيهقي في (السنن) 7، وأشار إليه أبو داود8.
__________
(1/86) ح44 ك الصلاة، باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه.
2 عمارة بن أكيمة، الليثي، أبو الوليد المدني. وقيل: اسمه عمار، أو عمرو، أو عامر، ويأتي غير مسمى، ثقة، من الثالثة، مات سنة 101هـ / ر4. (التقريب 408) .
3 د: (1/516) ح 826، ك الصلاة، باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام. ت: (2/118) ح 312 ك الصلاة، باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر ... س: (2/140) ك الافتتاح، باب ترك القراءة ...
(2/301) .
5 ح رقم (61) .
(2/157) .
(2/158) .
8 في سننه: (1/518) .
(2/240)
وقد نصَّ أبو حاتم الرازي على خطأ هذه الرواية1، ونَبَّهَ الخطيب البغدادي على وهم الأوزاعي في ذلك في كتابه (الفصل للوصل المدرج في النقل) 2 فقال: "خالف أصحاب الزهري فيه وَوَهِمَ؛ لإجماعهم على خلافه ... وإنما دَخَل الوهم فيه على الأوزاعي لأنه سمع الزهري يقول: سمعت ابن أكيمة يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب. فسبق إلى حفظه ذكر سعيد ابن المسيب، واستقرت روايته على ذلك والصحيح: أنه عن الزهري، عن ابن أكيمة الليثي". وقال أبو عمر بن عبد البر في (التمهيد) 3: "ولا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث لابن شهاب، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة. وأن ذِكْرَ سعيد بن المسيب في إسناد هذا الحديث خطأ لا شكَّ عندهم فيه، وإنما ذلك عندهم لأنه كان في مجلس سعيد بن المسيب، فهذا وجهُ ذكر سعيد بن المسيب، لا أنه في الإسناد".
وهذه الرواية التي أشار إليها الخطيب، والتي أوقعت الأوزاعي في هذا الوهم: أخرجها البخاري في (جزء القراءة) 4 من طريق يونس5، عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب يقول: سمعت أبا هريرة. فذكره بمثل لفظ مالك المتقدم.
وقد أخرجها أبو داود في (سننه) 6، والإمام أحمد في (مسنده)
__________
1 علل ابن أبي حاتم: (1/172 - 173) .
(1/184) .
(11/24) .
4 ح (62) .
5 هو: ابن يزيد الأيلي.
(1/517) ح 827.
(2/240) .
(2/241)
من طريق: ابن عيينة، عن الزهري، أنه سمع ابن أكيمة يحدث عن سعيد ابن المسيب، يقول: سمعت أبا هريرة يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة يُظن أنها الصبح ...
وظاهر هذه الرواية: أن الزهري سمعه من ابن أكيمة عن سعيد بن المسيب، ولكن الصواب ما جاء في رواية البخاريّ: أنَّ الزهري سمعه من ابن أكيمة، عن أبي هريرة. وحَدَّثَ به ابن أكيمة ابن المسيب في حضرة الزهري. ورواية أحمد هذه خطأ كما نبَّه على ذلك العلامة أحمد شاكر، وبَيَّنَ أن نسخة عتيقة من (مسند أحمد) جاء الإسناد فيها بدون "عن"1. وصوَّب البيهقي - رحمه الله - الرواية التي بدون "عن" فقال: "الصواب ما رواه ابن عيينة، عن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، وكذلك قاله يونس بن يزيد الأيلي"2.
أَمَّا مَا ذُكِرَ من علل لهذا الحديث ففيما يلي مناقشتها، وذكر الأجوبة عنها:
أولاً: قول البيهقي: إن ابن أكيمة مجهول، وقد تَفَرَّدَ به. ليس كذلك، بل إنه - كما قال ابن القَيِّم - "لا يُعْلَم أحدٌ قدح فيه، ولا جَرَحَهُ بما يوجب ترك حديثه". وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) 3، وقال أبو حاتم: "صحيح الحديث، حديثه مقبول"4. وقال يحيى بن
__________
1 مسند الإمام أحمد تحقيق/ أحمد شاكر: (12/260) ح 7268.
2 سنن البيهقي: (2/158) . وانظر: علل ابن أبي حاتم: (1/173) .
(5/169) .
4 الجرح والتعديل: (3/1/362) .
(2/242)
سعيد: "ثقة"1. وقال ابن معين: "كفاك قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب"2. وقال ابن عبد البر: "إصغاء سعيد بن المسيب إلى حديثه دليل على جلالته عندهم"3.
هذه أقوال الأئمة في ابن أكيمة، وهو وإن لم يرو عنه غير الزهري، فإن وصف الجهالة يزول عنه بتوثيق هؤلاء الأئمة له، وثنائهم عليه.
وأما دعوى تفرده به: فليس كذلك أيضاً؛ فإنه حَدَّثَ به في حضرة ابن المسيب فأقره عليه ولم ينكره، فكان بذلك كالمتابع له، ولذلك قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد حَدَّثَ بهذا الحديث ولم ينكره عليه أعلم الناس بأبي هريرة، وهو: سعيد بن المسيب"4.
ثانياً: القول بأن قوله: "فانتهى الناس عن القراءة" من قول الزهري مدرجٌ في الحديث، وليس من كلام أبي هريرة: قد صرَّحَ بذلك غير واحد من الأئمة، منهم: محمد بن يحيى الذهلي - كما نقل ذلك أبو داود عنه5 - والبخاري حيث قال: "وقوله: فانتهى الناس. من كلام الزهري، وقد بَيَّنَه لي الحسن بن صباح، قال: حدثنا مبشر، عن الأوزاعي،
__________
1 تهذيب التهذيب: (7/411) .
2 المصدر السابق.
3 المصدر السابق.
4 تهذيب السنن: (1/392) .
5 السنن: (1/518) .
(2/243)
قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك فلم يكونوا يقرأون فيما جهر"1. والخطابي في (معالم السنن) 2، وبَيَّنَه - كذلك - الخطيب البغدادي في كتابه: (الفصل للوصل المدرج في النقل) 3 فقال: "والصحيح: أنه كلام ابن شهاب الزهري". وكذا قال السيوطي في كتابه (المدرج) 4.
قلت: ورواية الأوزاعي التي نسب فيها هذا الكلام للزهري: أخرجها البيهقي في (سننه) 5، وقال: "حفظ الأوزاعي كون هذا الكلام من قول الزهري، ففصله عن الحديث".
وممن صرَّحَ بنسبة هذه الجملة للزهري أيضاً: سفيان بن عيينة، وذلك فيما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن محمد6 الزهري، أنه قال: "قال سفيان: وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها. فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس ... "7.
فهذا غاية ما يمكن أن يتعلق به القائلون بالإدراج، وبأن هذا كلام الزهري، والحق أنه ليس ثمة دليل ظاهر يُسْتَنَد إليه في كون هذه اللفظة من كلام الزهري؛ فإن الروايات لم تتفق كلها على نسبة هذا القول للزهري.
__________
1 جزء القراءة: (ح 62) .
(1/391) .
(1/184) ح 24.
4 ص 21 (ح6) .
(2/158) .
6 ابن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مخرمة الزهري، البصري، صدوق، من صغار العاشرة، مات سنة 256هـ / م 4. (التقريب 321) .
7 سنن أبي داود: (1/518) .
(2/244)
فقد جاء في رواية ابن السَّرْح1 عند أبي داود2:"قال معمر عن الزهري: قال أبو هريرة: فانتهى الناس ... ".
وجاء عند أبي داود - أيضاً - أن مُسَدَّدَاً قال في روايته: "قال معمر: فانتهى الناس عن القراءة ... ".
فهو مرويٌّ - كما نرى - من قول أبي هريرة، ومن قول معمر أيضاً.
قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وأيُّ تنافٍ بين الأمرين، بل كلاهما صوابٌ، قاله أبو هريرة كما قال معمر، وقاله الزهري كما قال هؤلاء، وقاله معمر - أيضاً - كما قال أبو داود. فلو كان قول الزهري له عِلّةً في قول أبي هريرة، لكان قول معمر له علة في قول الزهري، وأن نجعل ذلك كلام معمر"3.
قلت: وهذا كلام نفيس منه رحمه الله؛ فإن هذه الروايات تتفق ولا تتناقض، فقد جاءت هذه الجملة متصلة بالحديث من كلام أبي هريرةرضي الله عنه. وقد ثبت ذلك من رواية معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة كما مضى. ورواها كذلك مالك رحمه الله - وكفى به - عن الزهري فلم يفصلها، وقد تلقى عنه هذه الرواية أصحاب الدواوين المشهورة
__________
1 أحمد بن عمرو بن عبد الله عمرو السرح، أبو الطاهر المصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة 250هـ / م د س ق. (التقريب 83) .
2 السنن: (1/518) .
3 تهذيب السنن: (1/392) .
(2/245)
فرواها من طريقه: أصحاب السنن الأربعة إلا ابن ماجه، وأحمد، والبخاري، والبيهقي رحمهم الله، وقد مضى ذكر ذلك.
وقد رواها معمر نفسه عن الزهري متصلة، كما أخرج ذلك أحمد في (المسند) 1 من طريق: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
فقد جاءت هذه العبارة - كما نرى - عن الزهري، وجاءت عنه عن أبي هريرة، وجاءت عن معمر من قوله، فلماذا تجعل من كلام الزهري حسب؟.
أما رواية الأوزاعي، وقوله فيها: "قال الزهري: فاتَّعَظَ المسلمون بذلك ... ": فإن الأوزاعي أخطأ في إسنادها كما مضى، وقد قال البيهقي بأنه وإن أخطأ في الإسناد إلا أنه حفظ المتن وضبطه فَمَيَّزَ كلام الزهري من كلام غيره. ولكن ألا يمكن أن يكون أخطأ في متنها كذلك؟؟ وهذا ما رَجَّحَهُ الشيخ أحمد شاكر، ثم قال: "ولكن البيهقي - سامحه الله - لم ير بأساً أن يجعلها خطأً في الإسناد، وصواباً فيما يريد أن يحتجَّ له من الإدراج! "2.
وأما رواية ابن عيينة وقوله: "وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها. فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس ... ": فليس صريحاً في أن هذه اللفظة منفصلة من كلام الزهري، ولكن ابن عيينة سمع أول الحديث من شيخه الزهري ولم يسمع آخره أو لم يستوضحه، مع حضوره كلام
__________
(2/284) .
2 حاشية المسند: (12/265) .
(2/246)
الزهري كله، فأخبره معمر بما غاب عنه، والزهري قالها متصلة بالحديث كما سمعها معمر منه، فلماذا لا تحمل هنا على الاتصال كما جاء في الروايات المتقدمة؟!.
ثم لو قُدِّرَ التعارض بين هذه الروايات، فإن معمراً أثبت الناس في الزهري - بعد مالك - وقد خالفه ابن عيينة والأوزاعي وهما دونه في الزهري، فَتُرَجَّحُ رواية معمر المتصلة إلى أبي هريرة، وعليها تحمل الروايات المتصلة الأخرى عند مالك وغيره، والتي لم يذكر فيها أن الكلام للزهري.
وهناك مسلك آخر، وهو: أن هذه الكلمة لو كانت من قول الزهري، فإن إسنادها يكون مرسلاً - مع روايته أول الحديث متصلاً - ثم رويت عنه من وجه آخر بإسناد متصل إلى أبي هريرة، فتعارض الوصلُ والإرسال، فلو قلنا: الوصلُ زيادة من ثقة فتقبل، لقبلنا الرواية المتصلة، ولو قلنا بالترجيح بين الروايات لترجحت رواية معمركما تقدم، مع مؤازرة رواية مالك لها. وهذا المسلك اختاره الشيخ أحمد شاكر رحمه الله1.
ولعلَّ الذين ذهبوا إلى أن هذا من قول الزهري لم يقفوا على رواية معمر المتصلة إلى أبي هريرة.
والحديث قد حَسَّنَه - مع ذلك - الترمذي رحمه الله، وذهب الشيخ أحمد شاكر إلى دفع القول بالإدراج في بحثٍ له نافع أطال فيه النفس2،
__________
1 حاشية المسند: (12/265) .
2 انظره في حاشية المسند: (12/259 - 266) ح 7268.
(2/247)
وكذا ردَّ هذا القول العلامة الألباني1.
ثالثاً: قول البيهقي: "وكيف يكون ذلك من قول أبي هريرة، وهو يأمر بالقراءة خلف القراءة فيما جَهَرَ فيه وفيما خافت؟ ".
وقد أجاب عنه ابن القَيِّم رحمه الله، فقال: " ... فالمحفوظ عن أبي هريرة أنه قال: اقرأ بها في نفسك، وهذا مطلق ليس فيه بيان أن يقرأ بها حال الجهر، ولعله قال له يقرأ بها في السرِّ والسكتاتِ، ولو كان عاماً فهذا رأي له، خَالَفَهُ فيه غيره من الصحابة، والأخذ بروايته أولى2"3.
فابن القَيِّم - رحمه الله - لا يرى تعارضاً بين قول أبي هريرة - لمن سأله عن القراءة خلف الإمام -: "اقرأ بها في نفسك". وبين قوله في حديثنا هذا: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه ... "؛ فإن قوله: اقرأ بها في نفسك. محمول على القراءة في السِّريَّة، وفي سكتات الإمام في الجهرية. وقوله في هذا الحديث: فانتهى الناس ... أي: عن القراءة أثناء قراءة الإمام، إذ تحصل مع ذلك المنازعة والمخالجة للإمام. فحديث ابن أكيمة الذي معنا ليس فيه أن الناس تركوا القراءة بالكلية فيحتج به على القائلين بقراءة الفاتحة فيما جهر فيه الإمام، والحديث الآخر "اقرأ بها في نفسك" ليس فيه الأمر بالقراءة على كل حال حتى في أثناء قراءة الإمام. وبهذا تتفق الأدلة ولا يضرب بعضها بعضاً.
__________
1 التعليق على المشكاة: (1/270) ح 855.
2 يعني: دون رأيه.
3 تهذيب السنن: (1/392 - 393) .
(2/248)
وإلى مثل هذا أشار الإمام ابن حزم - رحمه الله - فقال عقب حديث ابن أكيمة هذا: " ... لو صحَّ لما كانت لهم فيه حجة - يعني القائلين بعدم القراءة في الجهرية -؛ لأن الأخبار واجبٌ أن يُضَمَّ بعضها إلى بعض، وحرامٌ أن يُضْربَ بعضها ببعض ... فالواجب أن يؤخذ كلامه - عليه السلام - كله بظاهره كما هو، كما قاله عليه السلام، لا يزاد فيه شيء، ولا يُنقص منه شيء: فلا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن، ولا يُنازع القرآن"1.
فالحاصل: أن حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة هذا قد أُعل بثلاث علل:
1- أن ابن أكيمة مجهول، وقد تفرد به.
2- أن فيه إدراجاً من الزهري.
3- وبأنه يتعارض مع حديث أبي هريرة الآخر في الأمر بالقراءة على كل حال.
وقد قام ابن القَيِّم بالجواب عن هذه العلل فوفق إلى حد كبير.
__________
1 الْمُحَلَّى: (3/239 - 240) .
(2/249)
5- باب من قال: لا يقرأُ المأمومُ خلف الإمام مطلقاً
20- (5) عَنْ جَابِر بن عبد الله، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإمام لَهُ قِرَاءَةٌ".
ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث ثم قال: "له عِلَّتَان:
إحداهما: أن شعبة، والثوري، وابن عيينة، وأبا عوانة، وجماعة من الحفاظ رووه عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلاً.
والعلة الثانية: أنه لا يصحُّ رَفْعُهُ، وإنما المعروف وَقْفُهُ. قال الحاكم: سمعت سلمة بن محمد يقول: سألت أبا موسى الرازي الحافظ عن الحديث المرويِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان له إمامٌ ... "؟ فقال: لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، إنما اعتمد مشايخنا فيه على الرويات عن عليّ، وابن مسعود، والصحابة ... وقد رفعه جابر الجعفي، وليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر. وتَابَعَهُمَا مَنْ هُوَ أَضْعَف منهما أو مثلهما"1.
قلت: هذا الحديث يروى عن غير جابر بألفاظ أخرى، لكنه بهذا اللفظ مشهور عن جابر رضي الله عنه.
والحديث له عن جابر طرق عِدَّة، أشهرها طريقان، وهما اللذان أشار إليهما ابن القَيِّم هنا:
__________
1 تهذيب السنن: (1/393) . وضَعَّفَ ابن القَيِّم الحديث - أيضاً - في (إعلام الموقعين) : (2/327) .
(2/250)
الطريق الأول: عن أبي الزبير1، عن جابر رضي الله عنه، ومدار هذا الطريق على: الحسن بن صالح2، وروي عنه على أوجه مختلفة:
فأخرجه ابن ماجه، والدارقطني في (سننيهما) 3 من طرق عنه، عن جابر4 الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر به.
وأخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 5 عنه، عن جابر الجعفي وليث بن أبي سليم6، عن أبي الزبير، عن جابر به.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) 7 عنه، عن أبي الزبير مباشرة، عن جابر به.
وروي عن الحسن بن صالح على غير تلك الأوجه8.
__________
1 محمد بن مسلم بن تَدْرُس، الأسدي مولاهم، المكيِّ، صدوق إلا أنه يُدَلِّسُ، من الرابعة، مات سنة 126هـ / ع. (التقريب 506) .
2 ابن حَيّ - وهو حَيَّان - بن شُفَيِّ، الهمداني، الثوري، ثقة فقيه عابد، رُمِيَ بالتشيع، من السابعة، مات سنة 169هـ / بخ م 4. (التقريب 161) .
3 جه: (1/277) ح 850، ك إقامة الصلاة، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا. قط: (1/331) ح 21، باب ذكر قوله: "من كان له إمام ... ".
4 ابن يزيد بن الحارث، أبو عبد الله الكوفي، ضعيف رافضي، من الخامسة، مات سنة 127هـ/ د ت ق. (التقريب 137) .
5 قط: (1/331) ح 20. هق: (2/160) .
6 ابن زُنَيْم، صدوق اختلطَ جدَّاً ولم يَتَمَيَّزْ حديثه فَتُرِكَ، من السادسة، مات سنة 148 هـ / خت م 4. (التقريب 464) .
(3/339) .
8 للوقوف على ذلك: ينظر إرواء الغليل: (2/270 - 271) .
(2/251)
وهذا الطريق فيه عدة علل:
الأولى: في إسناده جماعة مُتَكَلَّمٌ فيهم:
فجابر الجُعْفي في الوجه الأول، وضعفه مشهور، وفي الوجه الثاني: ليثُ بن أبي سليم، وهو وإن كان أحسن حالاً من الجعفي، إلا أن الأكثرين على تضعيفه وترك الاحتجاج به، لاسيما وقد اختلط ولم يتميز حديثه1.
وبهذين الرجلين ضَعَّفَ العلماء هذا الطريق، فقال الدارقطني:"جابر وليث ضعيفان". وقال البيهقي: "جابر الجعفي، وليث بن أبي سليم لا يُحْتَجُّ بهما، وكل من تابعهما على ذلك أضعف منهما ... ".
وقال ابن عبد البر: "وجابر الجعفي لا حُجَّة فيما ينفرد به عند جماعة أهل العلم لسوء مذهبه ... "2. وقال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف؛ جابر: هو ابن يزيد الجعفي، مُتَّهَمٌ"3.
العلة الثانية: اضطراب إسناده:
فقد جاء - كما رأينا - عن الحسن بن صالح على أوجه مختلفة، ولا شكَّ أن هذا الاضطراب يضعف الحديث؛ لأنه يدل على عدم ضبط الرواة له، وإتقانهم إياه.
__________
1 انظر أقوال العلماء فيه في تهذيب التهذيب: (8/465 - 468) .
2 الاستذكار: (2/191) .
3 مصباح الزجاجة: (1/106) .
(2/252)
العلة الثالثة: أن رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأٌ، وأن الصواب وقفه على جابر رضي الله عنه:
وقد بَيَّنَ البيهقي - رحمه الله - ذلك في (سننه) 1 فقال: "والمحفوظ عن جابر في هذا الباب ما أخبرنا أبو أحمد المهرجاني ... فساقه بإسناده إلى مالك، عن وهب بن كيسان، أنه سمه جابراً يقول: " من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأن القرآن فلم يصل، إلا وراء الإمام"". قال البيهقي: "هذا هو الصحيح عن جابر من قوله غير مرفوع، وقد رفعه يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك، وذاك مما لا يَحِلُّ روايته على طريق الاحتجاج به". وقال ابن عبد البر - بعد أن ساقه بنحو لفظ البيهقي -: "وهو حديث لا يصحُّ إلا موقوفاً على جابر"2.
العلة الرابعة: أن أبا الزبير قد عنعنه، فلم يُصَرِّحْ بالسماع في أيٍّ من هذه الوجوه المذكورة، وهو مُدَلِّسٌ، فلا يُقبل منه إلا ما صرح فيه بالسماع:
وقد قبل الإمام ابن حزم ما عنعنه عن جابر فيما رواه عنه الليث بن سعد خاصة3، ولكن ليس هذا الحديث من رواية الليث عنه.
هذا حاصل ما أُعِلَّ به هذا الطريق، وقد ذكر ابن القَيِّم -رحمه الله- من ذلك: عدم صحته مرفوعاً، وأشار إلى ضعف جابر وليث بن أبي سليم.
__________
(2/160) .
2 الاستذكار: (2/192) .
3 انظر: ميزان الاعتدال: (4/37) .
(2/253)
الطريق الثاني: عن موسى بن أبي عائشة1، عن عبد الله بن شَدَّاد2، وعن جابر رضي الله عنه مرفوعاً.
أخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 3 من طرق: عن أبي حنيفة4، عن موسى بن أبي عائشة به.
ورواه الدارقطني5 عن أبي حنيفة بالإسناد نفسه، وفيه قول جابر ابن عبد الله: صَلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه رجلٌ يقرأ، فنهاه رجلٌ من أصحاب رسول الله، فلما انصرف تنازعا، فقال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعا حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من صَلَّى خلف إمام فإن قراءته له قراءة".
__________
1 الْهَمَدَاني، مولاهم، أبو الحسن الكوفي، ثقة عابد، من الخامسة، وكان يُرْسل/ ع. (التقريب 552) .
2 ابن الهاد الليثي، أبو الوليد المدني، وُلِدَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكره العجلي من كبار التابعين الثقات، وكان معدوداً في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولاً سنة 81هـ، وقيل بعدها/ ع. (التقريب 307) .
3 قط: (1/323) ح 1. هق: (2/159) .
4 النعمان بن ثابت الكوفي الإمام، يقال: أصلهم من فارس، ويقال: مولى بني تميم، فقيه مشهور، من السادسة، مات سنة 150هـ على الصحيح/ ع. (التقريب563) .
وقال الحافظ الذهبي: "ضَعَّفَهُ النسائي من قِبَلِ حفظه، وابن عدي، وآخرون". (الميزان: 4/265) .
(1/324) ح 2.
(2/254)
وأخرجه الدارقطني1 من طريق: أبي حنيفة والحسن بن عمارة2، عن موسى بن أبي عائشة به.
وقد أَعَلَّ الأئمة هذا الطريق بأنَّ الصواب فيه الإرسال، ليس فيه ذِكْرُ جابر بن عبد الله.
قال أبو حاتم: "ولا يختلف أهل العلم أن من قال: موسى بن أبي عائشة، عن جابر. أنه قد أخطأ. قال ابن أبي حاتم: قلت: الذي قال عن موسى بن أبي عائشة عن جابر فأخطأ هو النعمان بن ثابت؟ قال: نعم"3. وقال الدارقطني: "لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غيرُ أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان"4. وقال مرةً عن رواية أبي حنيفة: "ولم يذكر في هذا الإسناد جابراً غير أبي حنيفة"5. وقال مرةً: " ... وروى هذا الحديث: سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل بن يونس، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير ابن عبد الحميد وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب"6. وفي (الكامل) 7 لابن عَدِيّ
__________
(1/325) ح 5.
2 البَجَلِي مولاهم، أبو محمد الكوفي، قاضي بغداد، مَتْرُوكٌ، من السابعة، مات سنة 153هـ/ ت ق. (التقريب 162) .
3 علل ابن أبي حاتم: (1/104) ح 282.
4 سنن الدارقطني: (1/323) .
5 المصدر السابق: (1/325) .
6 المصدر السابق: (1/325) .
(2/706) .
(2/255)
قريب من كلام الدارقطني هذا. وذكر البيهقي - رحمه الله - نحواً من ذلك1.
وقد ذهب محقق كتاب (نصب الراية) 2 إلى أن أبا حنيفة تُوبِعَ على هذه الرواية المسندة، تابعه على ذلك سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله القاضي فيما رواه أحمد بن منيع في (مسنده) : أخبرنا إسحاق الأزرق، حَدَّثَنَا سفيان وشريك، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن جابر مرفوعاً به.
قلت: ولعل هذه الرواية هي التي أشار إليها البُوصيري بقوله: " ... لكن رواه أحمد بن منيع، وعبد بن حميد بسندٍ صحيح بَيَّنْتُهُ في زوائد المسانيد العشرة"3.
قال الشيخ الألباني: "وهذا سند ظاهره الصحة ... وهو عندي معلول؛ فقد ذَكَرَ ابن عدي، وكذا الدارقطني والبيهقي أن سفيان الثوري وشريكاً روياه مرسلاً دون ذكر جابر، فذكر جابر في إسناد ابن منيع وَهْمٌ، وأظنه من إسحاق الأزرق، فإنه وإن كان ثقة فقد قال فيه ابن سعد: "ربما غلط" ... وهذا هو الذي تسكن إليه النفس وينشرح له القلب: أن الصواب فيه أنه مُرْسَلٌ، ولكنه مرسلٌ صحيح الإسناد"4.
__________
1 السنن: (2/160) .
(2/7) حاشية رقم 5.
3 مصباح الزجاجة: (1/106) .
4 إرواء الغليل: (2/272) .
(2/256)
قلت: وقد رُوِيَ عن أبي حنيفة مرسلاً كرواية الأكثرين؛ فقد قال البيهقي رحمه الله - بعد أن أخرج الرواية المتصلة -: "هكذا رواه جماعة عن أبي حنيفة موصلاً، ورواه عبد الله بن المبارك عنه مرسلاً دون ذكر جابر، وهو المحفوظ". ثم أخرج بإسناده إلى عبد الله بن المبارك قال: أنبأنا سفيان وشعبة وأبو حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً1.
فيكون قد اخْتُلِفَ على أبي حنيفة - رحمه الله - في إسناده، فيُخْتَار من روايتيه ما وافق رواية الجمهور، وما صَحَّحَه الأئمة أهل هذا الشأن، وهي رواية الإرسال، ويُحْكَمُ على الرواية المتصلة بالخطأ لتفرده بها دون سائر الرواة، ومتابعة الحسن بن عمارة - المتروك - له لا تنفعه.
فالحاصل: أن حديث جابر هذا معلول بطريقيه المذكورين، وقد رُوي من طرق أخرى غير التي ذكرنا، وهي ضعيفة أيضاً.
وقد رُوي هذا الحديث عن غير جابر، فَرُوِيَ عن ابن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأنس، وعلي، ولا تخلو من ضعف، قال الحافظ ابن حجر: "وله طرق عن جماعة من الصحابة، وكلها معلولة"2. وقد تقدم قول أبي موسى الرازي: "لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيءٌ، وقد استوفى الكلام على طرقه: الزيلعي في (نصب
__________
1 سنن البيهقي: (2/159 - 160) .
2 التلخيص الحبير: (1/232) .
(2/257)
الراية) 1. والألباني في (إرواء الغليل) 2.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث جابر هذا لا يصحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما بين موقوف عليه أو مرسل، أرسله عبد الله بن شَدَّاد، وما رُوِيَ فيه عن غير جابر رضي الله عنه معلولٌ أيضاً لا يثبت فيه شيء. وقد أَعَلَّهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - بالوقف والإرسال كما تقدم كلامه في ذلك.
__________
(2/7 - 12) .
(2/268 - 277) .
(2/258)
6- باب في التأمين بعد الفاتحة، والجهر بها
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس،
21- (6) عن وائل بن حُجْرٍ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته"وفي لفظ: " وطَوَّلَ بها ".
ثم قال رحمه الله: "رواه الترمذي وغيره، وإسناده صحيح، وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال: "وخَفَضَ صوته" وحَكَم أئمة الحديث وحُفَّاظُهُ في هذا لسفيان ... "1.
قلت: ورواية سفيان هذه أخرجها أبو داود في (سننه) 2، والترمذي في (جامعه) 3، وأحمد في (مسنده) 4، ومسلم في (التمييز) 5، والدارقطني في (سننه) 6 من طرق، عن: سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل7، عن حجر بن عنبس8، عن وائل به.
__________
1 إعلام الموقعين: (2/396) .
(1/574) ح 932. ك الصلاة، باب التأمين وراء الإمام.
(2/27) ح 248. ك الصلاة، باب ما جاء في التأمين.
(4/315 - 316) .
(ص 180) ح 37.
(1/333 - 334) ح 1 - 3.
7 الْحَضْرَمي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، من الرابعة/ ع. (التقريب 248) .
8 الحضرمي، الكوفي، صدوق مخضرم، من الثانية/ ر د ت. (التقريب 154) .
(2/259)
قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن". وقال الدارقطني: "صحيح". وقال الحافظ ابن حجر: "وسنده صحيح"1.
وأما رواية شعبة: فأخرجها: أحمد في (مسنده) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4 وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بأربعة أمور ذكرها ابن القطان5، ولخصها ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 6 وهي:
- الأول: مخالفة شعبة سفيان حيث قال: "وخَفَضَ بها صَوْتَهُ".
- الثاني: اختلافهما كذلك في اسم "حجر" فسفيان يقول: "حجر ابن عَنْبَس" وشعبة يقول: "حجر أبو العَنْبَس". وقال البخاري: "الصواب: أبو السَّكَن".
- الثالث: زاد شعبة في إسناده "علقمة بن وائل" بين حجر بن عنبس، ووائل بن حجر.
- الرابع: جهالة حال حجر بن عنبس.
__________
1 التلخيص الحبير: (1/236) .
(4/316) .
(1/334) ح4.
(2/232) .
5 بيان الوهم والإيهام: (3/374 - 375) .
(1/ 438 - 439) .
(2/260)
وقد سبق ابن القطان إلى القول بذلك: البخاري1، والدارقطني2، حيث حكما بخطأ شعبة في هذه الأمور، وترجيح رواية سفيان، وقال الإمام مسلم: "أخطأ شعبة في هذه الرواية حين قال: وأخفى صوته"3. وقال الأثرم: "اضطرب فيه شعبة في إسناده ومتنه، ورواه سفيان فَضَبَطَهُ، ولم يضطرب في إسناده ولا في متنه"4. وقال أبو زرعة: "حديث سفيان أصح من حديث شعبة"5.
وأما العلة الرابعة، وهي جهالة حجر بن عَنْبس، فهي مما تَفَرَّدَ به ابن القطان، ولم يشاركه في ذلك أحدٌ فيما أعلم.
وقد سَلَكَ ابن القَيِّم - رحمه الله - طريق الترجيح، فاختار ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة من تقديم رواية سفيان الثوري، والحكم على رواية شعبة بالخطأ6.
وقد ذكر - رحمه الله - وجوهاً لترجيح رواية سفيان7 تتَلَخَّصُ فيما يلي:
1 - أن سفيان أحفظ من شعبة فوجب تقديم روايته. ونقل عن
__________
1 كما في علل الترمذي: (1/217 - 218) .
2 في سننه: (1/334) .
3 التمييز: (ص180) .
4 التلخيص الحبير: (1/237) .
5 علل الترمذي: (1/218) .
6 إعلام الموقعين: (2/396) .
7 إعلام الموقعين: (2/396 - 397) .
(2/261)
البيهقي قوله: "لا أعلم اختلافاً بين أهل العلم بالحديث: أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان ... وقال شعبة: سفيان أحفظ مني".
2 - أن العلاء بن صالح1، ومحمد بن سلمة بن كهيل2 تابعا سفيان على روايته عن سلمة. وهذا الوجه ذكره الدارقطني في (سننه) 3.
قلت: أما رواية العلاء - ويقال عليّ - بن صالح: فأخرجها أبو داود في (سننه) 4، والترمذي في (جامعه) 5. وهذا الإسناد لا يَقِلُّ عن درجة الحسن إن لم يكن صحيحاً.
وأما رواية محمد بن سلمة: فقد أشار إليها الدارقطني في (سننه) 6، ومحمد بن سلمة ضعيف جداً.
3 - أنه قد رُوِي عن شعبة كرواية سفيان تماماً. رواه عن شعبة: أبو الوليد الطيالسي، قال ابن القَيِّم: "وحسبك به".
__________
1 التيمي، أو الأسدي، الكوفي، صدوق له أوهام، من السابعة / د ت س. (التقريب 435) .
2 قال الجوزجاني: "ذاهب الحديث". (أحوال الرجال ص62) ، وانظر الميزان: (3/568) .
(1/334) .
(1/574) ح 933.
(2/29) ح 249.
(1/334) .
(2/262)
وهذه الرواية أخرجها البيهقي في (سننه) 1.
قال ابن القَيِّم: "قال البيهقي: فيحتمل أن يكون تَنَبَّهَ لذلك فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر علقمة في إسناده".
قلت: أما في المتن فيحتمل، وأما في السند فقد روي من طريق شعبة - أيضاً - وفيه تصريح حجر أبي العنبس بسماعه من علقمة، ومن أبيه وائل، وذلك فيما أخرجه أبو داود الطيالسي في (مسنده) 2: حدثنا شعبة، قال: أخبرني سلمة بن كهيل، قال: سمعت حجراً أبا العنبس، قال: سمعت علقمة بن وائل - وقد سمعت من وائل - أنه صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وأفاد ابن حجر3 أنه رواه كذلك أبو مسلم الكجي في (سننه) .
4 - أن الحاكم روى من حديث أبي هريرة بإسنادٍ صحيح أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فَرَغَ من قراءة أُمِّ القرآن رَفَعَ صوته بآمين".
قلت: والحديث في (المستدرك) 4 من طريق: الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة به. قال أبو عبد الله: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
وهذا شاهد قويٌّ لحديث وائل بن حجر في أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بآمين، لا كما قال شعبة.
__________
(2/58) .
2 ح رقم (1024) .
3 التلخيص الحبير: (1/237) .
(1/223) .
(2/263)
قال الإمام مسلم: "قد تواترت الروايات كلها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بآمين. وقد رُوي عن وائل ما يدل على ذلك"1. يشير - رحمه الله - إلى رواية وائل المتقدمة التي فيها: "ورَفَعَ بها صوته".
هذا حاصل ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - من مُرَجِّحَاتٍ لرواية سفيان.
وأما الحافظ ابن حجر - رحمه الله - فقد لجأ إلى التوفيق بين هذه الروايات، ولم ير وقوع التعارض إلا في (رَفَع) و (خَفَضَ) فقط:
ففيما يتعلق بقول شعبة: (أبو العنبس) وتخطئة البخاري له، وأن الصواب في كنيته (أبو السكن) : فقد أفاد ابن حجر أن ابن حبان ذكر في (الثقات) أن كنيته (أبو العبنس) كاسم أبيه، ثم قال: "ولا مَانِعَ أن يكونَ له كنيتان".
وفيما يتعلق بإدخال شعبة "علقمة بن وائل" بين حجر ووائل: فقد ذكر رواية الطيالسي، وأبي مسلم الكَجِّي، وفيهما تصريح حُجْر بسماعه منهما، قال ابن حجر: "فبهذا تنتفي وجوه الاضطراب عن هذا الحديث، وما بقي إلا التعارض الواقع بين شعبة وسفيان في (الرفع) ، (والخفض) ، وقد رُجِّحَتْ رواية سفيان بمتابعة اثنين له، بخلاف شعبة، فلذلك جَزَم النُّقَّادُ بأن روايته أصحُّ"2.
هذا ما يتعلق بالاختلاف الواقع في سنده ومتنه.
__________
1 التمييز: (ص181) .
2 التلخيص الحبير: (1/237) .
(2/264)
وأما ما ذكره ابن القطان من جهالة حجر: فلم يتعرض له ابن القَيِّم بشيء، ولكن أجاب عنه ابن حجر، فقال: "وأَعَلَّهُ ابن القطان بحجر بن عنبس، وأنه لا يُعرف، وأخطأ في ذلك، بل هو ثقة معروف، قيل: له صحبة، ووثقه يحيى بن معين وغيره"1.
فَتَلَخَّصَ: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وُفِّقَ في حُكمه بصحة إسناد هذا الحديث، وترجيحه رواية سفيان على رواية شعبة، والله أعلم.
__________
1 التلخيص الحبير: (1/236 - 237) .
(2/265)
7- باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع
قال ابن القَيِّم - رحمه الله - عند كلامه على صِفَةِ رَفْعِهِ صلى الله عليه وسلم من الركوع، وما يقوله عند ذلك: " ... وربما قال: اللهم رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. صَحَّ ذلك عنه، وأما الجمع بين " اللهم "و" الواو ": فلم يصح"1.
كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولكنَّ الأمر على خلاف ذلك؛ إذ ثبت الجمع بين "اللهم" و "الواو" في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في (صحيحه) 2، من طريق: ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري. وعبد الرزاق في (مصنفه) 3- ومن طريقه: النسائي في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5 - من طريق: الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، كلاهما عن:
22- (7) أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا ولك الحمد". لفظ عبد الرزاق، وعند البخاري زيادة، وهي قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه
__________
1 زاد المعاد: (1/220) .
2 ك الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع. ح 795. (فتح الباري 2/282) .
(2/165) ح 2912.
(2/195) ك الافتتاح، باب ما يقول الإمام إذا رفع رأسه من الركوع.
(2/270) .
(2/266)
يُكَبِّرُ، وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر".
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "فقد أخرجه الدارمي في (مسنده) 1 من طريق: مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن:
23- (8) ابن عمر رضي الله عنهما، في ذكر مواضع رفع اليدين في الصلاة، وفيه: " ... وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد".
وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم أئمة أثبات.
فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الحديث - بالجمع بين (اللهم) و (الواو) صحيح ثابت في دواوين السنة المشهورة، ولذلك فإن نَفَي ابن القَيِّم - رحمه الله - لصحة ذلك فيه نظر، ولعله - رحمه الله - لم يَقِفْ على هذه الروايات الصحيحة، فالله أعلم.
ولأجل مقالته هذه، فقد تَعَقَّبَه ابن حجر رحمه الله، فقال - عقب حديث البخاري السالف -: "وفيه ردٌّ على ابن القَيِّم، حيث جَزَمَ بأنه لم يَرِدْ الجمع بن (اللهم) و (الواو) في ذلك"2.
ونبَّه على ذلك أيضاً: الشيخ الألباني رحمه الله، فقال: "وقد سَهَا ابن القَيِّم - رحمه الله - فأنكر في الزاد صحة هذه الرواية الجامعة بين (اللهم) و (الواو) ، مع أنها في صحيح البخاري ... "3.
__________
(1/242) ح 1314 ك الصلاة، باب القول بعد رفع الرأس من الركوع.
2 فتح الباري: (2/283) .
3 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: (ص80) حاشية 7.
(2/267)
8- باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض عند السجود
قال ابن القَيِّم رحمه الله - عند كلامه على صفة سجوده صلى الله عليه وسلم -: "وكان صلى الله عليه وسلم يضعُ ركبتيه قبل يديه، ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه، هذا هو الصحيح ... " ثم ذكر ما يؤيد ذلك، ويدل عليه، وهو حديث:
24- (9) وائل بن حجر رضي الله عنه، أنه قال: "رأيتُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيهِ قَبْل يديه، وإذا نَهَضَ رفع يديه قبل رُكْبَتَيْهِ".
ثم قال رحمه الله: "ولم يُرو في فعله ما يخالف ذلك"1.
وقال في موضع آخر: "وقد صححه ابن خزيمة، وأبو حاتم بن حبان، والحاكم"2.
قلت: هذا الحديث أخرجه أصحاب (السنن الأربعة) 3، والدارمي في (مسنده) 4، وابن خزيمة، وابن حبان في (صحيحهما) 5، والدارقطني،
__________
1 زاد المعاد: (1/223) .
2 تهذيب السنن: (1/397) .
3 د: (1/524) ح 838، ك الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟. ت: (2/56) ك الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود. س: (2/206) ك الافتتاح، باب أول ما يصلُ إلى الأرض من الإنسان في سجوده، و (2/234) باب رفع اليدين عن الأرض قبل الركبتين. جه: (1/286) ح 882 ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب السجود.
(1/245) ح 1326 ك الصلاة، باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض ...
5 خز: (1/318) ح626، و (1/319) ح629. حب: الإحسان: (3/190) ح1909.
(2/268)
والبيهقي في (سننيهما) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والحازمي في (الاعتبار) 3 كلهم من طريق:
يزيد بن هارون، عن شريك، عن عاصم بن كليب4، عن أبيه5، عن وائل بن حجر رضي الله عنه به.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف لأجل شريك بن عبد الله؛ فإنه سيئ الحفظ، كثير الخطأ، يغلط في حديثه، كما شهد عليه بذلك غير واحد من أئمة النقد: كيحيى القطان، وابن معين، وأبي حاتم، والجوزجاني، وغيرهم6. ولذلك قال يحيى بن معين: "إذا خالف فغيره أحبُّ إلينا منه"7. وسيأتي من كلام الدارقطني مثل ذلك، وقد خُولف شريك في هذا الحديث، فرواه غيره على غير هذا الوجه كما سيأتي بيانه.
وقد أشار الأئمة إلى تفرد شريك به، فقال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرف أحداً رواه مثل هذا عن شريك". وفي بعض نسخ
__________
1 قط: (1/345) ح 6. هق: (2/98) .
(1/226) .
(ص 80) باب ما ذكر في وضع اليدين قبل الركبتين.
4 ابن شهاب بن المجنون الجَرْمي، الكوفي، صدوقٌ رُمِيَ بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ومائة/ خت م 4. (التقريب 286) .
5 كليب بن شهاب الجرمي، صدوق، من الثانية، ووهم من ذكره من الصحابة/ي 4. (التقريب462) .
6 انظر: الميزان: (2/270 - 271) ، وتهذيب التهذيب: (4/333 - 337) .
7 الميزان: (2/270) .
(2/269)
الترمذي: " ... غير شريك". وهو الأنسب. وقال في (العلل) 1: "قال يزيد - يعني ابن هارون -: لم يرو شريك، عن عاصم بن كليب إلا هذا الحديث الواحد". قال الترمذي عقبه: " ... وشريك بن عبد الله كثير الغلط والوهم". وقال النسائي: "لم يقل هذا عن شريك غيرُ يزيد بن هارون"2. وقال الدارقطني: "تفرد به يزيد عن شريك، ولم يحدث به عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به"3.
وقال البيهقي: "هذا حديث يُعَدُّ في أفراد شريك القاضي"4. وقد حَكَمَ بتفرد شريك به أيضاً: البخاري، وابن أبي داود، كما في (التلخيص الحبير) 5.
وقد خُولف شريك - مع ذلك - في إسناد حديثه هذا، فأخرجه أبو داود في (سننه) 6، والبيهقي7 كذلك، من طريق: هَمَّام، عن شقيق8، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ليس فيه ذكر "وائل بن حجر".
وأشار الترمذي - رحمه الله - إلى هذا المرسل، فقال: "وَرُوِيَ
__________
(1/220 - 221) .
2 السنن: (2/234 - 235) .
3 السنن: (2/345) .
4 السنن: (2/99) .
(1/254) .
(1/524 - 525) ح 839.
(2/99) .
8 أبو ليث، مجهول، من السادسة /د. (التقريب 268) .
(2/270)
هَمَّام بن يحيى، عن شقيق ... " ثم قال: "وشريك بن عبد الله كثير الغلط والوهم"1. فكأنه يشير إلى تقديم المرسل. وقال البيهقي: " ... وإنما تابعه همام من هذا الوجه مرسلاً، هكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين"2. وقال الحازمي - بعد أن حَسَّنَ حديث وائل المتصل-: "قال هَمَّام: وحدثنا شقيق ... مرسلاً، وهو المحفوظ"3.
وحديث هَمَّامٍ هذا مع إرساله، فإن في إسناده رجلاً مجهولاً، وهو شقيق أبو ليث.
وقد رُوِي الموصول من وجه آخر عن وائل بن حجر رضي الله عنه، فأخرجه أبو داود في (سننه) 4، وكذا البيهقي5 من طريق: همام، عن محمد بن جُحادة6، عن عبد الجبار بن وائل7، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: " ... فلما أراد أن يسجد، وقعت ركبتاه على الأرض قبل أن تقع كَفَّاه".
ولكنَّ هذه الطريق معلولة؛ فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه، أعَلَّهُ
__________
1 علل الترمذي: (1/221) .
2 سنن البيهقي: (2/99) .
3 الاعتبار: (ص80) .
(1/524) ح 839.
(2/98) .
6 ثقة، من الخامسة، مات سنة 131 هـ / ع. (التقريب 471) .
7 ابن حُجْر، ثقة لكنه أرسل عن أبيه، من الثالثة، مات سنة 112 هـ / م 4. (التقريب 332) .
(2/271)
بذلك ابن حجر1. وقد نصَّ الأئمة على عدم سماعه من أبيه، فقال ابن معين: "لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما كان يُحَدِّثُ عن أهل بيته عن أبيه"2. وقال البخاري: "لم يسمع من أبيه، وُلِدَ بعد موت أبيه"3. وقال ابن حبان: "ومن زعم أنه سمع أباه فقد وَهِمَ؛ لأن وائل بن حجر مات وأمه حامل به، ووضعته بعد موت وائل بستة أشهر"4. وقال بذلك غير هؤلاء5.
وأخرجه البيهقي6 أيضاً: عن محمد بن حجر، عن سعيد بن عبد الجبار7، عن عبد الجبار بن وائل، عن أمه، عن وائل بن حجر رضي الله عنه، أنه قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سَجَدَ وكان أولُ ما وصلَ إلى الأرض ركبتاه". فهل يصير الإسناد بذلك متصلاً؟
قال ابن حجر في (تهذيبه) 8 - عند ذكره شيوخ عبد الجبار بن وائل-: " ... وعن أمه أم يحيى، وقيل: لم يسمع من أبويه". ولقائل أن يقول: لم يَجْزِمْ ابن حجر هنا بعدم سماع عبد الجبار من أمه، وإنما نقل
__________
1 التلخيص الحبير: (1/254) .
2 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/340) .
3 علل الترمذي: (2/619) .
4 الثقات: (7/135) .
5 انظر: تهذيب التهذيب: (6/105) .
6 السنن: (2/99) .
7 ابن وائل بن حجر، الحضرمي، الكوفي، ضعيف، من السابعة، مات سنة 158هـ / تمييز. (التقريب 238) .
(6/105) .
(2/272)
ذلك بصيغة تمريض، مما يجعل احتمال الضعف يتطرق إلى هذا القول؟
ويجاب عن ذلك: بأنه لو سُلِّمَ القول بالاتصال، فإنه يبقى الإسناد ضعيفاً من جهة أخرى؛ ذلك أن محمد بن حجر - ابن أخي سعيد بن عبد الجبار - ضعيف، قال أبو حاتم: "شيخ"1 وقال البخاري: "فيه نظر"2. وقال ابن حبان: "يروي3 عن عمه سعيد بن عبد الجبار، عن أبيه عبد الجبار، عن أبيه وائل بن حجر بنسخة منكرة ... لا يجوز الاحتجاج به"4. وقال الذهبي: "له مناكير"5.
وعمه سعيد بن عبد الجبار - شيخه في هذا الإسناد - ضعيف أيضاً، قال النسائي: "ليس بالقويِّ"6.
فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الإسناد دائر بين الانقطاع والضعف، لا ينفك عنه واحدٌ منهما.
فالحاصل: أن حديث وائل بن حُجْر هذا ضعيف؛ لِتَفَرّدِ شريك به، ومخالفة غيره له، ولا حُجَّةَ فيما ينفرد به، وما وُجِدَ من طرق أخرى لحديثه: فهي تدور بين الضعف والانقطاع.
__________
1 الجرح والتعديل: (3/2/239) .
2 التاريخ الكبير: (1/1/69) .
3 بمعنى: "يُحَدِّث"، ولذلك قال: "بنسخة" فعدَّاها بالباء.
4 المجروحين: (2/273) .
5 الميزان: (3/511) .
6 الضعفاء والمتروكين: (ص52) .
(2/273)
وأما اعتماد ابن القَيِّم في ذلك على تصحيح الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان: فإنه مُعَارضٌ بتضعيف من ضَعَّفَهُ من الأئمة المتقدم كلامهم، ولم يقل أحدٌ: إن كلَّ ما أخرجوه في كتبهم صحيح، بل وُجِدَت عندهم أحاديث ضعيفة، على تفاوت بينهم، ومع ذلك: فإن قول الحاكم عقب هذا الحديث: "قد احتج مسلم بشريك ... " غير مُسَلَّمٍ؛ لأن مسلماً لم يُخرج له إلا متابعة1. وسيأتي أن الحاكم - رحمه الله - لم يأخذ بحديث شريك هذا، مع تصحيحه إياه.
وقد ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً لحديث وائل بن حجر، وهو حديث:
25- (10) أنس رضي الله عنه، أنه قال: " رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم انْحَطَّ بالتكبير، حَتَّى سَبَقَت رُكْبَتَاه يَدَيه".
عزا ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث للحاكم، ونقل عنه قوله: "على شرطهما، ولا أعلم له عِلَّة". ثم نقل عن أبي حاتم أنه أنكره، ثم قال: "وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطَّار، عن حفص بن غياث، والعلاء هذا مجهول، لا ذكر له في الكتب السِّتة"2.
__________
1 انظر: الميزان: (2/274) .
2 زاد المعاد: (1/228 - 229) .
(2/274)
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (السنن) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4 - من طريق الدارقطني - كلهم من طريق: العباس بن محمد الدوري، عن العلاء بن إسماعيل العطار، عن حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس رضي الله عنه، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم ركع حتى اسْتَقَرَّ كل مفصل منه في موضعه، ورفع رأسه حتى استقرَّ كل مفصل منه في موضعه، ثم انحطَّ بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه". هذا لفظ الدارقطني، والبيهقي. ولفظ الحاكم مثلهم إلا أنه ليس عنده قوله " ورفع رأسه ... ". ولفظ الحازمي مختصر، وهو الذي أورده ابن القَيِّم رحمه الله.
قال أبو عبد الله الحاكم: "إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له عِلَّةً، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، كذا قالا رحمهما الله، وسكت عنه الحازمي مُؤَيِّدَاً!
ولكن الأمر على خلاف ذلك؛ فقد سُئِلَ عنه أبو حاتم؟ فقال: "هذا حديث منكر"5. وقال الدارقطني: "تفرد به العلاء بن إسماعيل، عن حفص بهذا الإسناد". وكذا قال البيهقي، زاد ابن حجر: "وهو مجهول"6.
__________
(1/345) ح 7.
(1/226) .
(2/99) .
(ص 80) .
5 علل ابن أبي حاتم: (1/188) ح 539.
6 التلخيص الحبير: (1/254) .
(2/275)
والعلاء بن إسماعيل هذا لم أجد له ترجمةً فيما بين يديَّ من كتب الرجال، ولكن ذكره ابن حجر في (لسان الميزان) 1 فلم يزد على أن ذكر فيه قول ابن القَيِّم: "مجهول"، وكلمة أبي حاتم في نكارة هذا الحديث، ثم قال: "وخالفه عمر بن حفص بن غياث - وهو من أثبت الناس في أبيه - فرواه عن أبيه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وغيره، عن عمر موقوفاً عليه، وهذا هو المحفوظ".
فَلَتَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث منكر بإسناد فيه رجلٌ مجهول، وقد تَفَرَّدَ به، فأنى له أن يكون على شرط الشيخين؟!
وإذا كان كذلك، فإنه لا قَيِّمة لهذا الشاهد في تقوية حديث وائل ابن حجر، بل إنه باقٍ على ضعفه.
ثم انتقل ابن القَيِّم بعد ذلك إلى الأحاديث التي تعارض حديث وائل بن حجر المتقدم، فذكر منها:
26 - (11) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا سَجَدَ أَحَدُكُم، فَلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فالحديث - والله أعلم - قد وَقَعَ فيه وَهْمٌ من بضع الرواة؛ فإن أَوَّلَهُ يُخالف آخره، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه، فقد بَرَكَ كما يبرك البعير، فإن البعير إنما يضع يديه أولاً"2.
__________
(4/182 - 183) .
2 زاد المعاد: (1/223 - 224) .
(2/276)
ثم أخذ في الرد على من يقولون: إن رُكْبَتَي البعير في يديه، وأنه إذا بَرَك وضع ركبتيه أولاً، ولهذا نُهِيَ عن التشبه به. وأخذ - رحمه الله - في بيان فساد هذا القول، وأن ذلك غير معروف في اللغة، ثم ذكر بعد ذلك: أن البخاري، والترمذي، والدارقطني ضَعَّفُوا حديث أبي هريرة هذا1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 2، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 3، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 4، والبخاري في (التاريخ الكبير) 5، والحازمي في (الاعتبار) 6، كلهم من طريق:
عبد العزيز بن محمد الدَّراوردي7، عن محمد بن عبد الله بن حسن8، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وعند الدارمي زيادة وهي: قيل لعبد الله - لعله الدارمي -: ما تقول؟ قال: "كله
__________
1 زاد المعاد: (1/228) .
2 د: (1/525) ح 840. س: (2/207) .
3 حم: (2/381) . مي: (1/245) ؛ 1327.
4 قط: (1/344 - 345) ح 3، 4. هق: (2/99) .
(1/1/139) .
(ص 79) .
7 أبو محمد الجهني مولاهم، المدني، صدوق كان يُحَدِّثُ من كتب غيره فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العُمَري منكر، من الثامنة، مات سنة 186، أو 187 هـ / ع. (التقريب 358) .
8 ابن حسن بن علي الهاشمي، المدني، يلقب بـ "النفس الزكية"، ثقة، من السابعة، قتل سنة 145هـ، وكان خرج على المنصور، وغلب على المدينة، وتسمى بالخلافة، فقتل/ د ت س. (التقريب 487) .
(2/277)
طَيِّب"1. وقال: "أهل الكوفة يختارون الأول".
وأخرجه أبو داود - ومن طريقه البيهقي2 - والترمذي، والنسائي في (سننهم) 3 من طريق: عبد الله بن نافع4، عن محمد بن عبد الله بن حسن، بالإسناد السابق إلى أبي هريرة رضي الله عنه، لكن بلفظ: "يعمد أَحَدَكُم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل؟! " هكذا بدون ذكر تقديم اليدين.
وقد أَعَلَّ قومٌ حديث أبي هريرة هذا: فقال البخاري في ترجمة محمد بن عبد الله بن حسن: "ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟ "5. وقال الترمذي عقبه: "حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه". وقال الدارقطني: "تَفَرَّد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن حسن ... "6. وقال الحازمي مثل قول الترمذي، وزاد: "وهو على شرط أبي داود، والترمذي، والنسائي، أخرجوه في كتبهم"7. وقدَّمَ عليه الخطابي حديث
__________
1 لعل الدارمي - رحمه الله - يُنَبِّهُ بذلك إلى أن فِعْل ما هو خلاف الراجح لا ينبغي أن يكون موضع إنكار.
2 في سننه: (2/100) .
3 د: (1/525) ح 841. ت: (2/57) ح 269. س: (2/207) .
4 الصائغ المخزومي مولاهم، أبو محمد، المدني، ثقةٌ صحيح الكتاب، في حفظه لِيْنٌ، من كبار العاشرة، مات سنة 206هـ وقيل بعدها/ بخ م 4. (التقريب 326) .
5 التاريخ الكبير: (1/1/139) .
6 مختصر السنن للمنذري: (1/399) .
7 الاعتبار: (ص79) .
(2/278)
وائل بن حجر، فقال: "حديث وائل بن حجر أثبت من هذا"1.
والجواب عن ذلك:
- أما تفرد محمد بن عبد الله بن حسن به: فإن ذلك لا يَضُرُّه شيئاً؛ لأن محمداً ثقة، وثَّقَهُ النسائي2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3. صحيح أنه ليس في الدرجة العليا من التوثيق - فإنني لم أر أحداً وثقه غير النسائي، مع كلام البخاري في سماعه من أبي الزناد، وذكر ابن أبي حاتم له في (الجرح والتعديل) 4 ساكتاً عنه، وإدخال الذهبي له في كتابه (المغني في الضعفاء) 5 - لكنه مع ذلك أحسن حالاً من شريك، راوي حديث وائل بن حجر المتقدم، وقد اختار الحافظ ابن حجر - رحمه الله - توثيقه، فقال: "ثقة". وقال ابن التركماني: "وقول البخاري: "لا يُتابع على حديثه". ليس بصريح في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي"6.
- وأما القول بعدم سماع محمد بن عبد الله هذا من أبي الزناد: فإن البخاري - رحمه الله - لم يجزم به كما مضى كلامه، وعلى فرض جزم البخاري بذلك، فإنما هو على مذهبه في اشتراط ثبوت اللقاء، قال
__________
1 معالم السنن: (1/398) .
2 تهذيب التهذيب: (9/252) .
(9/40) .
(3 / 2 / 295) .
(2/596) .
6 الجوهر النقي: (2/100) .
(2/279)
الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) 1: "وليس ذلك بشرط عند جمهور المحدثين، بل يكفي عندهم مجرد إمكان اللقاء، مع أمن التدليس ... وهذا متوفر هنا، فإن محمد بن عبد الله لم يُعرف بتدليس، ثم هو قد عاصر أبا الزناد وأدركه زماناً طويلاً، فإنه مات سنة (145هـ) وله من العمر: (53) ، وشيخه أبو الزناد مات سنة (130) ، فالحديث صحيحٌ لا ريب فيه". كذا قال الشيخ الألباني، وقد تقدم رُجْحان مذهب البخاري في ذلك. وأما قول الدارقطني بتفرد الدراوردي به عن محمد بن عبد الله بن حسن: فليس كذلك، قال الحافظ المنذري: "وفيما قاله الدارقطني نظرٌ؛ فقد روى نحوه عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن حسن، وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديثه"2.
قلت: وقد مضى قبل قليل تخريج هذا الطريق، وهو وإن كان أخصر من لفظ الدراوردي، إلا أنه يشهد له في الجملة، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: "يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل". يفسره حديث الدراوردي، وأن عدم التشبه بالبعير يقتضي تقديم اليدين في السجود.
ومما يؤكد عدم ثبوت العلل التي رُمي بها إسناد هذا الحديث: أنه قد صححه جماعة من الأئمة: فصححه عبد الحق، وقال: "إنه أحسن إسناداً من حديث وائل بن حجر"3. وقال النووي: "إسناده جَيِّد"4. وكذا قال
__________
(2/79) .
2 مختصر السنن: (1/399) .
3 إرواء الغليل: (2/78) .
4 المجموع: (3/362) .
(2/280)
الزرقاني1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهو أقوى من حديث وائل بن حُجْر"2. ورمز له السيوطي بالصحة3. وقال العلامة أحمد شاكر: "والظاهر من أقوال العلماء في تعليل الحديثين: أن حديث أبي هريرة هذا حديث صحيح، وهو أصحُّ من حديث وائل، وهو حديث قَوْلِيٌّ يرجح على الحديث الفِعْلِي ... "4. وصححه كذلك الشيخ الألباني5.
وأما ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من القول بوقوع قلبٍ في حديث أبي هريرة هذا، وأنه وَقَعَ فيه وهمٌ من بعض الرواة، ولعله: "وليضعْ ركبتيه قبل يديه": فقد استدلَّ على ذلك بأمور، منها:
أولاً: أن أول الحديث يخالف آخره؛ وقد تقدم نقل كلامه في ذلك أول البحث.
ثانياً: أنه قد رُوي عن أبي هريرة - كما قال ابن القَيِّم -رحمه الله- بلفظ: " إذا سجد أحدكم، فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفَحْل". فيتأ يَّدُ بذلك ما ذهب إليه ابن القَيِّم من حدوث القلب في متنه6.
ثالثاً: أنه قد رُوي عن أبي هريرة - أيضاً - من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما
__________
1 شرح المواهب: (7/320) .
2 بلوغ المرام مع سبل السلام: (1/316) ح 292.
3 الجامع الصغير مع فيض القدير: (1/373) ح 673.
4 التعليق على الترمذي: (2/58) .
5 الإرواء: (2/78) ، وتمام المنة (ص 193 - 196) .
6 زاد المعاد: (1/223 - 225) .
(2/281)
يوافق ذلك، وهو قوله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه". فهذا يوافق حديث وائل بن حجر المتقدم في حكاية فعله صلى الله عليه وسلم1.
رابعاً: أن حديث وائل بن حجر لم يُخْتَلفْ فيه، بينما حديث أبي هريرة قد اختلف فيه كما تقدم، فروي عنه ما يوافق حديث وائل بن حجر2.
فهذا أبرز ما استدل به ابن القَيِّم - رحمه الله - على تأكيد دعوى القلب في هذا الحديث، ورجحان البداءة بالركبتين.
والجواب عن ذلك من وجوه:
- أما قوله: إن أهل اللغة لا يعرفون أن ركبتي البعير في يديه: فغير صحيح، فقد قال ابن منظور: "وركبة البعير في يده ... وركبتا يدي البعير: المفصلان اللذان يليان البطن إذا برك، وأما المفصلان الناتئان من خلف: فهما العرقوبان. وكل ذي أربع ركبتاه في يديه، وعرقوباه في رجليه"3. فإذا ثبت ذلك لغةً، فإن أول الحديث يوافق آخره ولا يخالفه، فيكون الساجد مأموراً بالنزول على يديه، مخالفاً بذلك فعل البعير الذي ينزل على ركبتيه، وحينئذٍ لا يكون لابن القَيِّم - رحمه الله - متعلق في ذلك من ناحية اللغة.
- وأما الحديث الذي ساقه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " إذا
__________
1 زاد المعاد: (1/223 - 225) .
2 تهذيب السنن: (1/400) .
3 لسان العرب: (ص 1714 - 1715) مادة: ركب.
(2/282)
سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه ... ": فحديث ضعيف لا تقوم بمثله حجة، أخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 1 - كما عزاه ابن القَيِّم، وعزاه أيضاً: إلى الأثرم في (سننه) - والبيهقي في (سننه) 2، من طريق:محمد بن فضيل، عن عبد الله بن سعيد3، عن جَدِّهِ، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. قال البيهقي عقبه: "إلا أن عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف". وقال الحافظ ابن حجر: "ولكن إسناده ضعيف"4.قلت: بل إنَّ هذا الإسناد شديد الضَّعْفِ؛ فإن عبد الله المقبري قال فيه أحمد، والفلاس، والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه يحيى بن سعيد، وقال الفلاَّس أيضاً: "منكر الحديث". وقال البخاري: "تركوه"5. فلا أدري كيف أورده ابن القَيِّم - رحمه الله - مورد الاحتجاج، مع معارضة الحديث الصحيح له؟ 6.وقد قلبَ الشيخ الألباني هذه الدعوى - دعوى القلب - على ابن القَيِّم رحمه الله؛ فقال في حديث المقبري هذا: "وأحسنُ الظنِّ بهذا الْمُتَّهَم أنه أراد أن يقول: فليبدأ بيديه قبل ركبتيه - كما في الحديث__________(1/263) .(2/100) .3 ابن أبي سعيد المقبري، أبو عبَّاد الليثي، مولاهم، المدني، متروكٌ، من السابعة/ت ق. (التقريب 306) .4 فتح الباري: (2/291) .5 تنظر أقوالهم هذه في (الميزان) : (2/429) .6 مع أن ابن القَيِّم نفسه لم يرض بقول البيهقي في هذا الرجل: "ضعيف". فَتَعَقَّبَهُ قائلاً: "قلت: قال أحمد والبخاري: متروك"! (تهذيب السنن: 1/400) .
(2/283) الصحيح - فانقلب عليه، فقال: بركبتيه قبل يديه"1.- وأما ما استدل به ابن القَيِّم من رواية أبي هريرة أيضاً: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه": فيقال فيه ما قيل في الذي قبله، فقد ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - من رواية: ابن أبي داود، عن يوسف بن عدي، عن ابن فضيل ... بالإسناد السابق بعينه: ففيه هذا المتروك "عبد الله بن سعيد الْمَقْبُرِيّ". فكيف تُعارَضُ الأحاديث الصحيحة بمثله؟!فإذا ظهر ذلك، فإن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكون قد سَلِمَ من الإعلال سنداً ومتناً، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يكن مصيباً في إعلاله إياه.- وأما قوله بأن حديث أبي هريرة قد وقع فيه اختلاف واضطراب: فَيُجَاب عنه بأن ذلك ليس اضطراباً مؤثراً، وذلك لعدم تساوي وجوهه في القوة، فقد تقدم أن حديث أبي هريرة الذي يعارض حديث الباب ضعيف - بل شديد الضعف، لضعف عبد الله بن سعيد - فَيَتَرَجَّحُ عليه حديث أبي هريرة الذي فيه وضعُ اليدين قبل الركبتين، وإذا أمكن الترجيح زالت دعوى الاضطراب.ثم إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه له شاهد من رواية:__________1 إرواء الغليل: (2/79) .
(2/284) 27- (12) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أَنَّه كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قبل ركبتيه، ويقول: كَانَ النَّبِيُّ يَفْعَل ذلك".ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل فيه تصحيح الحاكم ولم يتعقبه بشيء1، ولكنه قال مرة: "وأما حديث ابن عمر: فالمرفوع منه ضعيف ... "2.وقال مرة أخرى: "حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر"3.قلت: هذا الحديث أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5 من طريق: أصبغ بن الفرج6. وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 7 - ومن طريقة البيهقي8 - من طريق: محرز بن سلمة9.__________1 زاد المعاد: (1/228) .2 تهذيب السنن: (1/400) .3 الصلاة: (ص205) .(1/318) ح 627.(1/344) ح 2.6 ابن سعيد الأموي مولاهم، الفقيه المصري، أبو عبد الله، ثقة، مات مستتراً أيام المحنة سنة 225هـ، من العاشرة/ خ د ت س. (التقريب 113) .(1/226) .8 السنن: (2/100) .9 العدني، ثم المكي، صدوق، من العاشرة، مات سنة 234 هـ/ق. (التقريب521) .
(2/285) والحازمي في (الاعتبار) 1 من طريق: ابن وهب، كلهم عن:عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - به.قال الحاكم أبو عبد الله: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال المنذري: "أخرجه الدارقطني في سننه بإسناد حسن"2. وقال ابن حجر: "صَحَّحَهُ ابن خزيمة"3. وقد جَعَلَهُ ابن حجر شاهداً لحديث أبي هريرة الماضي، فقال: "وهو - يعني حديث أبي هريرة - أقوى من حديث وائل بن حجر ... ؛ فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر ... "4.ومع ذلك، فقد قال الدارقطني رحمه الله عن حديث ابن عمر هذا: "وهذا تَفَرَّدَ به الدراوردي، عن عبيد الله". وقال مرة: "تفرد به أصبغ بن الفرج، عن عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله". نقل ذلك عن الدارقطني المنذري - ولم أقف عليه - ثم قال: "وأصبغ بن الفرج حَدَّثَ عنه البخاري في صحيحه محتجاً به ... وعبد العزيز الدراوردي احتجَّ مسلم بحديثه في صحيحه، وأخرج البخاري حديثه في صحيحه مقروناً بعبد العزيز بن أبي حازم"5.__________(ص79) .2 مختصر السنن: (1/399) .3 بلوغ المرام مع سبل السلام: (1/317) .4 المصدر السابق.5 مختصر السنن: (1/399) .
(2/286) قلتُ: أما تَفَرُّد أصبغ بن الفرج به، فقد تقدم أنه تابعه عليه: محرز بن سلمة، وابن وهب، كلاهما عن الدراوردي به، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: "ولم يتفرد به أصبغ كما ترى"1.ونظير قول الدارقطني هذا، ما قاله الحازمي رحمه الله، إذ قال: "هذا الحديث يُعَدُّ في مفاريد عبد العزيز، عن عبيد الله"2. قال الحافظ ابن حجر عقب قول الحازمي هذا: "وهذا أشبه بالصواب"3. يعني من قول الدارقطني: "تفرد به أصبغ بن الفرج".وهذا من ابن حجر - رحمه الله - موافقة على القول بتفرد الدراوردي بهذا الحديث عن عبيد الله بن عمر، وقد تُكُلِّم في رواية الدراوردي عن عبيد الله4.ولكن، لما كان للحديث شاهدٌ من رواية أبي هريرة كما تقدم، فإن تفرد الدراوردي عن عبيد الله هنا لا يضرُّ؛ لأن أصل الحديث ثابتٌ من وجه آخر.وقد أعله البيهقي بعلة أخرى، فقال: "ولا أراه إلا وَهْماً - يعني رفعه - ... والمشهور عن عبد الله بن عمر في هذا: ما أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري ... " فساقه بإسناده إلى حماد بن زيد، عن أيوب،__________1 تغليق التعليق: (2/328) .2 الاعتبار: (ص79) .3 تغليق التعليق: (2/328) .4 تهذيب التهذيب: (6/354) .
(2/287) عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: " إذا سجد أحدكم فليضع يديه، فإذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه"1.ورَدَّهُ ابن التركماني، فقال: "وما عَلَّلَه به البيهقي ... فيه نظر؛ لأن كلاًّ منهما معناه منفصل عن الآخر"2. وقال الحافظ ابن حجر: "ولقائلٍ أن يقول: هذا الموقوف غير المرفوع؛ فإن الأول في تقديم وضع اليدين على الركبتين، والثاني في إثبات وضع اليدين في الجملة"3.فثبت بذلك أن حديث ابن عمر هذا: وإن أُعِلَّ بتفرد الدراوردي به، إلا أنه بانضمام حديث أبي هريرة إليه يتقوَّى، ولا يقلُّ بذلك عن درجة الحسن إن شاء الله.فالحاصل: أن الراجح في ذلك هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النزول باليدين في السجود، أمراً منه صلى الله عليه وسلم وفعلاً، وأن ما جاء على خلاف ذلك فإنه لا يقوى على معارضته، حتى إن أبا عبد الله الحاكم مع كلامه في تقوية حديث وائل بن حجر في تقديم الركبتين، إلا أنه قال: "فأما القَلْبُ في هذا فإنه إلى حديث ابن عمر أَمْيَل، لرواياتٍ في ذلك كثيرة عن الصحابة والتابعين"4.__________1 سنن البيهقي: (2/100 - 101) .2 الجوهر النقي: (2/100) .3 فتح الباري: (2/291) .4 المستدرك: (1/226) .
(2/288) 9- باب ما جاء في التشهد في الصلاة28- (13) عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بيده فَعَلَّمَه التَّشَهُّدَ: "التَّحِيَّات لله والصَّلَوات والطَّيِّبَات، السَّلام عليك أيُّهَا النَّبيُّ ورحمةُ الله وبركاته، السَّلام علينَا وعلى عباد الله الصَّالِحِين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". فإذا قلتَ ذلك فقد تَمَّتْ صَلاتُكَ، فإن شئتَ فَقُمْ، وإن شئتَ فَاقْعُدْ".ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: "قال الدارقطني، والخطيب، والبيهقي، وأكثر الحفاظ: الصحيح أن قوله: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك". من كلام ابن مسعود، فَصَلَه شبابة عن زهير، وجَعَلَه من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أَدْرَجَهُ، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود رضي الله عنه على حذفه"1.قلت: هذا الحديث يرويه: الحسن بن الحُرِّ2، عن القاسم بن مخيمرة3، عن علقمة، عن ابن مسعود.ويرويه عن الحسن بن الحرِّ جماعة، منهم: محمد بن عجلان4،__________1 تهذيب السنن: (1/51) . وانظر: جلاء الأفهام: (ص 186 - 187) .2 ابن الحكم الجُعْفِي أو النخعي، الكوفي، أبو محمد، نزيل دمشق، ثقة فاضل، من الخامسة، مات سنة 163هـ / د س. (التقريب 159) .3 أبو عروة الهَمْدَاني، الكوفي، نزيل الشام، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة 100هـ/ خت م 4. (التقريب 452) .4 المدني: صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من الخامسة، مات سنة 148هـ / خت م 4. (التقريب 496) .
(2/289) والحسين بن علي1، وزهير بن معاوية2، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان3.فأما محمد بن عجلان، والحسين بن علي: فقد روياه عن الحسن بن الحر بدون ذكر هذه الزيادة.أخرج رواية ابن عجلان: الطبراني في (الكبير) 4 والدارقطني في (سننه) 5، والخطيب في (الفصل) 6 من طرق عن: محمد بن عجلان، عن الحسين بن الحر ... به، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " ... وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".وأخرج هؤلاء الثلاثة7 - ومعهم أحمد في (مسنده) 8 - حديث: الحسين بن علي، عن الحسن بن الحر بمثل حديث ابن عجلان.__________1 ابن الوليد الجعفي، الكوفي المقرئ، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة 203 أو 204هـ / ع. (التقريب 167) .2 ابن حديج، أبو خيثمة الجعفي الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخرة، من السابعة، مات سنة 172هـ أو 173هـ أو 174هـ / ع. (التقريب 218) .3 العنسي، الدمشقي، الزاهد، صدوق يخطئ، وَرُمِيَ بالقدر، وتَغَيَّرَ بآخرة، من السابعة، مات سنة 165هـ / بخ 4. (التقريب 337) .(10/61) ح 9923.(1/352 - 353) ح 11.(1/166) ح 1 - 18.7 طب: (10/63) ح 9926. قط: (1/352) ح 10. خط: (1/164 - 165) ح 1 - 13، 14، 15.(1/450) .
(2/290) فهكذا رواه: محمد بن عجلان، والحسين بن علي - وتابعهما محمد ابن أبان، كما أشار الدارقطني1 - رووه عن: الحسن بن الحر، فلم يذكروا هذه الزيادة.وأما زهير بن معاوية - فكما قال الدارقطني رحمه الله -: " ... زاد عليهما في آخره كلاماً أدرجه بعض الرواة عن زهير في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: إذا قضيت هذا ... "2.وقد أخرج حديثَ زهير بهذه الزيادة: أبو داود في (سننه) 3 من طريق: عبد الله بن محمد4 النفيلي، وأحمد في (مسنده) 5 من طريق: يحيى ابن آدم6، والطيالسي في (مسنده) 7، والدارمي فيه8 من طريق: أبي نعيم9، والدارقطني في (سننه) 10 من طريق: موسى بن داود11،__________1 السنن: (1/352) .2 علل الدارقطني: (5/128) .(1/593) ح 970 ك الصلاة، باب التشهد.4 ابن علي بن نفيل، أبو جعفر، النُّفَيْلي الحراني، ثقة حافظٌ، من كبار العاشرة، مات سنة 234هـ / خ 4. (التقريب 321) .(1/422) .6 ابن سليمان الكوفي، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة حافظٌ فاضلٌ، من كبار التاسعة، مات سنة 203هـ / ع. (التقريب 587) .(ح 275) .(1/251) ح 1347.9 هو: الفضل بن دكين.10 (1/353) ح 13.11 الضَّبِّي، أبو عبد الله الطرسوسي، الخُلْقَاني، صدوق فقيه زاهد له أوهام، من صغار التاسعة، مات سنة 217هـ / م د س ق. (التقريب 550) .
(2/291) والحاكم في (علوم الحديث) 1 من طريق: عاصم بن علي2، كلهم عن:زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي، فَحَدَّثَنِي أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله فَعَلَّمَه التشهد ... الحديث، وفي آخره: "فإذا قلتَ ذلك فقد تَمَّتْ صلاتك، فإن شئتَ فقم، وإن شئتَ فاقْعُدْ". هذا سياق الطيالسي، وسياق الباقين نحو.وقد حَكَمَ الأئمة على هذه الزيادة في رواية زهير بأنها مُدْرَجَةٌ في الحديث وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الدارقطني: "ورواه زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، فزاد في آخره كلاماً ... فأدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم"3. وقال الحاكم: "وقوله: "إذا قلت هذا". مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود؛ فإن سَنَدَهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقضي بانقضاء التشهد"4. وقال البيهقي: "هذا حديث قد رواه جماعة عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، وأدرجوا آخر الحديث في أوله"5. وكذا قال الخطيب البغدادي6، وقال النووي:__________(ص39) في "النوع الثالث عشر: معرفة المدرج".2 ابن عاصم بن صهيب الواسطي، أبو الحسن التيمي مولاهم، صدوق رُبَما وَهِمَ، من التاسعة، مات سنة 221هـ / خ ت ق. (التقريب 286) .3 سنن الدارقطني: (1/353) .4 علوم الحديث: (ص39) .5 سنن البيهقي: (2/174) .(الفصل: (1/154 - 155) .
(2/292) "اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ على أنها مدرجة"1. ونقل اتفاق الحفاظ على ذلك أيضاً: الحافظ العراقي2.وقد استدلَّ الأئمة على وقوع الإدراج في هذه اللفظة بأمور:أولها: أن شَبَابَةَ بن سَوَّار3 رواه عن زهير بن معاوية ففصل قول ابن مسعود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.أخرج رواية شبابة هذه: الدارقطني في (سننه) 4 - ومن طريقه: البيهقي5، والخطيب6 - من طريق: شبابة، عن زهير بن معاوية به، وفي آخره: "قال عبد الله: فإذا قلتَ ذلك....قال الدارقطني عقبه: "شبابة ثقة، وقد فصل آخر الحديث، جعله من قول ابن مسعود، وهو أصح من رواية من أدرج آخره في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.الثاني: أن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان - رابع الرواة عن الحسن بن الحرُّ ممن تقدم ذكرهم - قد رواه عن الحسن بن الحر، كما__________1 خلاصة الأحكام: (ق 60/أ) .2 شرح الألفية: (1/248) .3 المدائني، أصله من خراسان، مولى بني فزارة، ثقة حافظ رُمِيَ بالإرجاء، مات سنة 204 هـ وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 263) .(1/353) ح 12.5 في السنن: (2/174) .6 الفصل: (1/161) ح 1 - 8.
(2/293) جاء في رواية شبابة عن زهير، رواه عنه: غسان بن الربيع1، فَتَابَعَ بذلك شبابة في شيخ شيخه.أخرجه: ابن حبان في (صحيحه) 2، والطبراني في (الأوسط) 3 والدارقطني في (السنن) 4، والحاكم في (علوم الحديث) 5، والخطيب في (الفصل) 6، من طرق، عن:غسان بن الربيع، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن الحسن بن الحُرّ به، وفي آخره: "ثم قال ابن مسعود: إذا فَرَغْتَ من هذا، فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف". هذا لفظه عندهم، ووقع عند الحاكم من بينهم: "فإن شئت فاقعد، وإن شئت فقم".وغسان بن الربيع ضَعَّفَهُ الدارقطني7، لكنه قال فيه مرة: "صالح"8 وَوَثَّقُهُ ابن حبان9. ومع ذلك فقد تابعه بقية بن الوليد، كما أخرجه__________1 ابن منصور، أبو محمد الغَسَّاني الأزدي، الموصلي، كان صالحاً ورعاً، ضَعَّفَهُ الدارقطني، وَوَثَّقَهُ ابن حبان، توفي - رحمه الله - سنة 226هـ.له ترجمة في: تاريخ بغداد: (12/329) ، والميزان: (3/334) .2 الإحسان: (3/209) ح 1959.3 انظر: مجمع البحرين: ج 1 (ق44) .(1/354) ح 14.(ص40) .(1/162 - 163) ح 1 - 11.7 كما في سننه: (1/330) .8 تاريخ بغداد: (12/330) .9 الثقات: (9/2) .
(2/294) الخطيب بإسناده إلى بقية، قال: حدثنا ابن ثوبان1 فذكره. وقد صَرَّحَ بقية بالتحديث، فزالت تهمة تدليسه.وقد ترجم أبو حاتم بن حبان على هذا الخبر بقوله: "ذكر البيان بأن قوله: فإذا قلت هذا ... إنما هو قول ابن مسعود، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أَدْرَجَهُ زهير في الخبر". وقال أبو عبد الله الحاكم بعد إخراجه: "فقد ظَهَرَ لمن رُزِقَ الفهم: أن الذي مَيَّزَ كلام عبد الله بن مسعود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى بالزيادة الظاهرة، والزيادةُ من الثقة مقبولة". وقال الدارقطني: "وكذلك رواه ابن ثوبان، عن الحسن بن الحُرِّ، وبَيَّنَه، وفصل كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام ابن مسعود، وهو الصواب"2.الثالث: من الأدلة - أيضاً - على كون هذه اللفظة مدرجة: اتفاق كلِّ من روى التشهد عن علقمة، وعن غيره، عن عبد الله بن مسعود على ذلك، يعني عدم ذكر هذه الزيادة. قاله الدارقطني3 رحمه الله. وقال أبو محمد بن حزم: "وقد روى هذا الحديث عن علقمة: إبراهيم النخعي - وهو أضبط من القاسم - فلم يذكر هذه الزيادة"4.قلت: وحديث إبراهيم النخعي أخرجه النسائي في (سننه) 5 من طريق: حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن__________1 الفصل: (1/163) ح 1 - 12.2 علل الدارقطني: (5/128) .3 السنن: (1/353) .4 المحلى: (3/362) ط حسن زيدان.(2/239 - 240) .
(2/295) مسعود رضي الله عنه به، وفيه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له التشهد إلى قوله: " ... وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".وأخرجه البخاري في (صحيحه) 1 من طريق: أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، بمثله. ورواه غير هؤلاء كذلك بدون هذه الزيادة2.فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون قوله: " فإذا قضيت ذلك ... ". فإن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أدرجها زهير - أو من دونه - في هذا الحديث. وقد بين الأئمة: الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والخطيب، والنووي، والعراقي وغيرهم ذلك، ونَبَّهُوا عليه، بل جعله الخطيب - رحمه الله - أول حديث في كتابه الذي صنفه في المدرج3.وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة، فأصابَ.__________1 ك الأذان، باب التشهد في الآخرة. ح 831.2 واستقصى النسائي - رحمه الله - هذه الروايات في (سننه) : (2/237 - 241) فلتراجع فيه.3 راجع: الفصل للوصل المدرج في النقل: (1/154) ، باب: ذكر الأحاديث التي وُصلت ألفاظُ رواتها بمتونها وأدرجت فيها.
(2/296) 10- باب في ذكر نوع آخر من التشهد29 - (14) عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التشهد كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورة من القرآن: "بِسْم الله، وبالله، التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم تجئ التسمية في أول التشهد إلا في هذا الحديث، وله عِلَّةٌ غير عنعنة أبي الزبير"1.قلت: هذا الحديث أخرجه: النسائي، وابن ماجه في (سننيهما) 2، والترمذي في (العلل) 3، والطيالسي في (مسنده) 4 - ومن طريقه: البيهقي5 - ومسلم في كتاب (التمييز) 6، والدارقطني في (العلل) 7،__________1 زاد المعاد: (1/244) .2 س: (2/243) ك الافتتاح، باب: نوع آخر من التشهد، و (3/43) ك السهو، باب: نوع آخر من التشهد. جه: (1/292) ح 902 ك إقامة الصلاة ... ، باب ما جاء في التشهد.(1/227) باب ما جاء في التشهد.(ح 1741) .5 السنن: (2/141، 142) .(ص 188) ح 58.7 ج4 (ق 80/أ) .
(2/297) والحاكم في (المستدرك) 1، كلهم من طريق:أيمن بن نابل2، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به.وقد أُعِلَّ هذا الحديث كما أشار ابن القَيِّم رحمه الله، وعلته: أن أيمن بن نابل قد وَهِمَ في إسناده ومتنه، وخالفه من هو أوثق منه، وأكثر اختصاصاً بأبي الزبير، وهو: الليث بن سعد، فرواه عن: أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعاً، ولم يذكروا فيه تلك الزيادة، وهي قوله: "بسم الله وبالله". وتابع الليثَ على ذلك جماعةٌ.وأيمن بن نابل: صدوق، وثقة الأكثرون3، ولكن أخذ عليه بعضهم أنه يخطئ ويُخالِف، فقال ابن حبان: "كان يخطئ وينفرد بما لا يُتَابع عليه ... والذي عندي: تَنَكُّبُ حديثه عند الاحتجاج - إلا ما وافق الثقات - أولى من الاحتجاج به"4. وقال الدارقطني: "ليس بالقويِّ، خالف الناس"5. وتقدم قول ابن حجر: "صدوق يهم".وقد كشف الأئمة - رحمهم الله - عن وجه إعلال هذا الحديث، وموضع الخطأ والوهم فيه، فقال الإمام الترمذي: " ... سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: هو غير محفوظ، هكذا يقول أيمن بن نابل: عن__________(1/266) .2 أبو عمران، ويقال: أبو عمرو، الحبشي، المكي، نزيل عسقلان، صَدُوقٌ يَهِم، من الخامسة/ خ ت س ق. (التقريب 117) .3 انظر تفصيل ذلك في: تهذيب التهذيب: (1/393 - 394) .4 المجروحين: (1/183) .5 سؤالات الحاكم للدارقطني: (ص187) رقم 286.
(2/298) أبي الزبير، عن جابر. وهو خطأ، والصحيح: ما رواه الليث بن سعد: عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس. وهكذا رواه عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي، عن أبي الزبير، مثل رواية الليث بن سعد"1.وقال الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 2: "هذه الرواية من التشهد، والتشهد (كذا) غير ثابت الإسناد والمتن جميعاً، والثابت: ما رواه الليث، وعبد الرحمن بن حميد ... " فساقه بإسناده من طريقهما، ثم قال: "فقد اتفق الليث، وعبد الرحمن بن حميد الرؤاسي: عن أبي الزبير، عن طاوس. وروى الليث، فقال: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وكلُّ واحدٍ من هذين عند أهل الحديث أثبت في الرواية من أيمن، ولم يذكر الليث في روايته حين وصف التشهد: "بسم الله وبالله". فلما بانَ الوهمُ في حفظ أيمن لإسناد الحديث، بخلاف الليث وعبد الرحمن إياه، دَخَلَ الوهم - أيضاً - في زيادته في المتن، فلا يثبت ما زاد فيه. وقد رُوي التشهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه عدة صحاح فلم يذكر في شيء منه بما روى أيمن في روايته قوله: "بسم الله وبالله". ولا ما زاد في آخره من قوله: " أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار"، والزيادة في الأخبار لا يلزم إلا عن الحفاظ الذين لم يُعثر عليهم الوهم في حفظهم".وقال الترمذي: "وهو غير محفوظ"3. قال ذلك عقب إخراجه لحديث الليث بن سعد الماضي ذكره.__________1 علل الترمذي: (1/228) .(ص 188 - 189) ح 58.3 جامع الترمذي: (2/83) ح 290.
(2/299) وقال النسائي: "لا نعلم أحداً تابع أيمنَ بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، والحديث خطأ، وبالله التوفيق"1.وقال الدارقطني - بعد أن ذَكَرَ الخلاف فيه -: "وحديث ابن عباس أشبه بالصواب من حديث جابر"2. وقال مرةً - وقد سئل عن أيمن بن نابل-: "خالف الناس، ولو لم يكن إلا حديث التشهد، خالفه الليث، وعمرو بن الحارث، وزكريا بن خالد: عن أبي الزبير"3.وقال حمزة الكناني: "قوله: عن جابر. خطأ، ولا أعلم أحداً قال في التشهد: " بسم الله وبالله". إلا أيمن"4.وقال البيهقي: "تفرد به أيمن بن نابل، عن أبي الزبير، عن جابر"5.وقال الحافظ ابن حجر: "ورجاله ثقات، إلا أن أيمن بن نابل - راويه عن أبي الزبير - أخطأ في إسناده، وخالفه الليث - وهو من أوثق الناس في أبي الزبير - فقال: عن أبي الزبير، عن طاوس وسعيد بن جبير، عن ابن عباس"6.فهذا كلام هؤلاء الأئمة الأعلام في بيان علة هذا الحديث، ووجه__________1 السنن: (3/43) .2 العلل: ج4 (ق 80/أ) .3 سؤالات الحاكم للدارقطني: (ص 187 - 188) .4 التلخيص الحبير: (1/266) .5 السنن: (2/142) .6 التلخيص الحبير: (1/265 - 266) .
(2/300) الخطأ فيه، وأما رواية الليث بن سعد ومن وافقه، التي صوبها الأئمة، فأشير إليها على سبيل الاختصار.فحديث الليث بن سعد: أخرجه الإمام مسلم في (صحيحه) 1، وفي (التمييز) 2 له، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، كلهم من طريق:الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات لله، السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". هذا لفظ مسلم، ولفظ الباقين مثله، لكنهم قالوا: "كما يعلمنا القرآن". إلا ابن ماجه، فإنه وافق مسلماً، على أن لفظ الجماعة هو إحدى الروايات عند مسلم.قال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح". وقال الدارقطني: "هذا إسناد صحيح".__________(1/302) ح 403 (60) ك الصلاة، باب التشهد في الصلاة.(ص 189) ح 59.3 ت: (2/83) ح 290 ك الصلاة، باب ما جاء في التشهد. س: (2/242) . جه: (1/291) ح 900 ك إقامة الصلاة، باب ما جاء في التشهد.(1/349) ح 705.(1/350) ح 2.
(2/301) وتابع الليث على هذه الرواية: عبد الرحمن بن حميد1، أخرجه من هذا الطريق: مسلم في (صحيحه) 2، وفي (التمييز) 3 أيضاً، وعَلَّقَهُ الترمذي في (جامعه) 4 كلهم من طريق:عبد الرحمن بن حميد، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن".وتابعهما: عمرو بن الحارث، أخرجه الدارقطني في (سننه) 5 من طريقه، عن:أبي الزبير، عن عطاء وطاوس وسعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما به بنحو ما تقدم من رواية الليث.وثَمَّةَ متابعة رابعة لهؤلاء، أشار إليها الدارقطني في (علله) 6 من طريق: زكريا بن خالد7 - قال الدارقطني: "شيخ لأهل الكوفة، يَروي عنه قيس بن الربيع وغيره" - عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس.__________1 ابن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، الكوفي، ثقة، من السابعة / م د س. (التقريب 339) .(1/303) ح 403 (61) .(ص 189) ح 59.(2/83) .(1/350) ح 3.6 ج 4 (ق 80/أ) .7 مقبول، من السابعة/ خت. (التقريب 216) .
(2/302) فهذه رواية الليث بن سعد ومن تابعه، وهي الرواية التي حكم الأئمة بتقديمها على رواية جابر الماضية.ومع تُظَاهُرِ الأئمة واتفاقهم على الحكم على حديث جابر بالخطأ، فقد صَحَّحَهُ الحاكم رحمه الله، فقال: "فأما الزيادة في أول التشهد: "باسم الله وبالله" فإنه صحيح من شرط البخاري ... أيمن بن نابل ثقة، فقد احتجَّ به البخاري"1.ومما سبق يتبين لنا أن الأمر على خلاف ما ذهب إليه الحاكم رحمه الله، ولذلك تَعَقَّبَهُ النووي - رحمه الله - فقال: "وذكر الحاكم أبو عبد الله في المستدرك: أن حديث جابر صحيح، ولا يُقبل ذلك منه؛ فإن الذين ضَعَّفُوهُ أجلُّ من الحاكم وأتقن"2.فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث بالزيادة المذكورة معلول؛ إذ خُولف أيمن بن نابل في إسناده ومتنه، وقد صحَّ التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ليس فيها هذه الزيادة، وإعلال هذا الحديث هو اختيار ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.وأما ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - من عنعنة أبي الزبير: فإنه قد صرَّح بالتحديث في رواية الترمذي في (العلل) .__________1 المستدرك: (1/266 - 267) .2 المجموع: (3/401) .
(2/303) 11- باب التسليم في الصلاة وما جاء في التسليمة الواحدةذكر ابن القَيِّم رحمه الله: أن هديه صلى الله عليه وسلم كان التسليم عن يمينه وعن يساره، وأن ذلك مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة عشر صحابياً، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في التسليمة الواحدة، فقال: "رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم:30- (15) " أنه كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً تلقاءَ وجهه".ثم قال: "ولكنْ لم يثبت عنه ذلك من وجهٍ صحيح"1وتعرَّض - رحمه الله - لهذه القضية في (إعلام الموقعين) 2 فَذَكَر ضَعْفَ أحاديث التسليمة الواحدة، ومنها هذا الحديث ثم قال: "أما حديث عائشة: فمعلولٌ باتفاق أهل العلم بالحديث". ثم بَيَّنَ أقوال العلماء فيه.ثم قال ابن القَيِّم: "وأجود ما فيه:31- (16) حديث عائشة رضي الله عنها: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً: السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يُوقِظَنَا".قال: "وهو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل ... "3.__________1 زاد المعاد: (1/258 - 259) .(2/377 - 380) .3 زاد المعاد: (1/259) .
(2/304) قلت: أما الحديث الأول: فإنه يُروى عن زهير بن محمد1، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. ورواه عن زهير: عمرو بن أبي سلمة2، وتابعه عبد الملك بن محمد3.أما رواية عمرو بن أبي سلمة: فأخرجها الترمذي في (جامعه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، والبيهقي في (السنن) 8، والعقيلي في (الضعفاء) 9. كلهم بالإسناد المذكور، إلى عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ في الصلاة تسليمة واحدةً تلقاء وجهه، يميل إلى الشقِّ الأيمن شيئاً". هذا لفظ الترمذي. وهو لفظ ابن خزيمة،__________1 التميمي، أبو المنذر الخراساني، سكن الشام ثم الحجاز، رواية أهل الشام عنه غيرُ مستقيمة فَضُعِّفَ بسببها، قال البخاري عن أحمد: "كأنَّ زهيراً الذي يروي عنه الشاميون آخر". وقال أبو حاتم: "حَدَّثَ بالشام من حفظه فكثر غلطه" من السابعة، مات سنة 162هـ / ع. (التقريب 217) .2 التِّنِّيسي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، صدوق له أوهام، من كبار العاشرة، مات سنة 213هـ أو بعدها / ع. (التقريب 422) .3 الحميري البرسمي، من أهل صنعاء دمشق، لَيِّنُ الحديث، من التاسعة / د س ق. (التقريب 365) .4 ت: (2/90) ح 296 ك الصلاة، باب ما جاء في التسليم في الصلاة.(1/357) ح 7.6 خز: (1/360) ح 729، حب: (الإحسان) : (3/224) ح 1992.(1/230) .(2/179) .(3/272) .
(2/305) والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، إلا أن عند الحاكم: "قليلاً شيئًا"بدل "شيئاً"، وعند الدارقطني: "قليلاً"وعند البيهقي "شيئاً أو قليلاً".أما لفظ ابن حبان فهو: " ... يميل بها وجهه إلى القبلة". وجاء عند العقيلي مختصراً، فقال: " كان يُسَلِّم تَسليمةً واحدةً".وأما رواية عبد الملك بن محمد، عن زهير: فأخرجها ابن ماجه في (سننه) 1، ولفظه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تسليمة واحدةً تلقاء وجهه".كذا رواه عبد الملك، وعمرو بن أبي سلمة مرفوعاً، وخالفهما الوليد ابن مسلم2 فرواه عن زهير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة موقوفاً: "أنها كانت تسلم تسليمة واحدة". أخرجه كذلك العقيلي في كتابه (الضعفاء) 3.وقد حَكَمَ الأئمة بصحةِ الرواية الموقوفة، وأنَّ رَفْعَهُ لا يصحُّ؛ فقال أبو عيسى الترمذي: "حديث عائشة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد: أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصحُّ". وقال أبو حاتم - حينما سئل عن الرواية المرفوعة -: "هذا حديث منكرٌ، وهو عن عائشة__________(1/297) ح 919، ك إقامة الصلاة، باب من يسلم تسليمة واحدة.2 القرشي مولاهم، أبو العابس الدمشقي، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية. من الثامنة، مات سنة 194 هـ / ع. (التقريب 584) .(3/273) .
(2/306) موقوف"1. وَرَجَّحَ الوقف أيضاً: البزار، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر2. وقال العقيلي: "ورواية الوليد أولى" يعني الموقوفة. وقال الدارقطني - بعد أن ذكر أوجه الاختلاف فيه على زهير -: "وهو الصحيح - يعني الموقوف - ومن رَفَعَهُ فقد وَهِم"3. وقال ابن عبد البر: "وأما حديث عائشة ... فلم يرفعه أحدٌ إلا زهير بن محمد وحده، عن هشام بن عروة، عن أبيه ... وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتجُّ به"4.قلت: وفيما قال أبو عمر نظر؛ فإن زهير بن محمد وَثقَهُ جماعة، فقال أحمد: "ثقة". وقال قال مرة: "لا بأس به"، وقال ابن معين: "ثقة". وقال مرة: "لا بأس به". وقال عثمان الدارمي وصالح بن محمد: "ثقة صدوق". وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق صالح الحديث"5. والوهم في هذا الحديث على الرواة عنه: عمرو بن أبي سلمة التنيسي أو غيره، فقد قال الإمام أحمد: " ... وأما أحاديث أبي حفص ذاك التنيسي عنه: فتلك بواطيل موضوعة ... "6. وقال النسائي: "ليس به بأس، وعند__________1 علل ابن أبي حاتم: (1/148) ح 414.2 التلخيص الحبير: (1/270) .3 علل الدارقطني: ج4 (ق 40) .4 الاستذكار: (2/214) .5 انظر أقوالهم فيه على الترتيب في: بحر الدم (رقم 318) ، تاريخ الدوري عن ابن معين (2/176) رقم 4752، وسؤالات ابن الجنيد لابن معين (رقم 564) ، وتهذيب التهذيب: (3/349 - 350) .6 تهذيب التهذيب: (3/349) .
(2/307) عمرو بن أبي سلمة - يعني التنيسي - عنه مناكير"1.وقد نصَّ على مثل ذلك: الطحاوي - رحمه الله - فقال: "وزهير ابن محمد وإن كان رجلاً ثقة، فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تُضَعَّفُ جداً"2.وانفرد الحاكم أبو عبد الله بتصحيحه مرفوعاً، فقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ولكن تَعَقَّبَهُ النووي، فقال: "ضَعَّفَهُ الجمهور، ولا يقبل تصحيح الحاكم له ونحوه ... "3. وكذا ضَعَّفَهُ أبو محمد بن حزم4.أما الوليد بن مسلم: فقد جاء به عن زهير موقوفاً، وقال في آخره: "فقلت لزهير بن محمد: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة"5. قال ابن حجر عقب هذا الكلام: "فَتَبَيَّنَ أن الرواية المرفوعة وهمٌ"6.قلت: وصَرَّحَ الوليد فيه بالتحديث عن زهير، فانتفت بذلك شبهة التدليس الذي عُرِفَ به. وقد صَحَّحَ الأئمة روايته، وقَدَّمُوها على رواية من رفعه.__________1 تهذيب التهذيب: (3/349 - 350) .2 شرح معاني الآثار: (1/270) .3 خلاصة الأحكام: (ق60) .4 المحلى: (3/279) .5 ضعفاء العقيلي: (3/273) .6 التلخيص الحبير: (1/270) .
(2/308) فإذا تَبَيَّنَ ذلك علمنا أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب حين قال: "ولكن لم يثبت عنه ذلك - أي النبي صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح"1.ومما يؤيد صحة رواية الوقف: أنه قد رُوي عن عائشة - من غير وجه - عن عبيد الله بن عمر2، عن القاسم، عنها موقوفاً عليها:فأخرج ابن خزيمة في (صحيحه) 3 من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد4، ومن طريق وهيب بن خالد5، ومن طريق يحيى بن سعيد: ثلاثتهم عن:عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة: " أنها كانت تُسَلَّمُ تسليمة واحدة قُبالَةَ وجهها: السلام عليكم"هذا لفظ وهيب.وعَلَّقَهُ الحاكم عن وهيب6، وأخرجه البيهقي من طريق__________1 زاد المعاد: (1/259) .2 ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العُمَري، المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، قَدَّمَهُ أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقَدَّمَهُ ابن معين في القاسم عن عائشة، على الزهري عن عروة عنها، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين/ ع. (التقريب 373) .(1/360) ح 730 - 732.4 ابن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقةٌ تَغَيَّرَ قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة 194 هـ / ع. (التقريب 368) .5 ابن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت لكنه تَغَيَّرَ قليلاً بآخرة، من السابعة، مات سنة 165هـ / ع. (التقريب 586) .6 المستدرك: (1/231) .
(2/309) عبد الوهاب1. قال الحافظ ابن حجر عن طريق وهيب: "وهذا سند صحيح"2.هذا ما يتعلق بهذا الحديث في التسليمة الواحدة، أما الحديث الآخر الذي ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - عن عائشة أيضاً في صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وقوله فيه: "وهو حديث معلول".فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 3 من طريق: قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعد بن هشام4، عن عائشة رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يُسَلِّم، ثم يصلي التاسعة، ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة يسمعناه، ثم يصلي ركعتين وهو جالس". وهو عند أبي داود في رواية5.قال الحافظ ابن حجر: "إسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم، مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد عن هشام كما قدمناه"6. يعني الحديث الذي مضى معنا قبل قليل، والذي رَجَّحَ الحفاظ وقفه.__________1 في سننه: (2/179) .2 التلخيص الحبير: (1/270) .3 الإحسان: (4/72) . ح 2433.4 ابن عامر الأنصاري، المدني، ثقة، من الثالثة، استشهد بأرض الهند / ع. (التقريب232) .5 السنن: (2/89) ح 1345.6 التلخيص الحبير: (1/270) .
(2/310) وقد أخرجه أبو داود في (سننه) 1 من طريق: بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة رضي الله عنه بنحو حديث ابن حبان، وسياقه أطول، وفيه: "ويسلم تسليمة واحدةً شديدةً يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه ... "وهذه هي الرواية التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله.قال المنذري عقب رواية أبي داود هذه: "ورواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة هي المحفوظة، وعندي في سماع زرارة من عائشة نظرٌ، فإن أبا حاتم الرازي قال: سمع زرارة من عمران بن حصين، ومن أبي هريرة، ومن ابن عباس ... قال: هذا ما صحَّ له2. وظاهر هذا أنه لم يسمعه عنده من عائشة"3.قلت: ولعلَّ هذا الذي ذكره المنذري هو ما عَنَاهُ ابن القَيِّم بقوله: "حديث معلول". وقد تقدم: أن رواية ابن حبان سالمة من هذه العلة، فإن فيها: "زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة". وأنها هي الصواب.وقد ذهب ابن القَيِّم رحمه الله - كما تقدم - إلى أن هذا الحديث هو أجودُ ما رُوِيَ في التسليمة الواحدة، إلا أنه لا يُعارض حديث التسليمتين؛ لأن حديث عائشة هذا في قيام الليل خاصة، والآخر في الفرض والنفل.على أنه إن قُدِّرَ تعارضهما، فإن ابن القَيِّم يرى أنَّ حديث التسليمتين أرجح من الآخر لوجوه:__________(2/89 - 91) ح 1346 - 1348.2 انظر: علل ابن أبي حاتم: (ص 63) .3 مختصر سنن أبي داود: (2/101) .
(2/311) أولها: أن الذين رووا أحاديث التسليمتين أكثر عدداً، وأحاديثهم أصحَّ، فهي تدور ما بين الصحيح والحسن.ثانيها: أن عائشة - رضي الله عنها -لم تنف التسلمية الثانية، بل سَكَتَتْ عنها، فلا يُقَدَّمُ سكوتها على من ذكرها وضبطها وحفظها1.قلت: ولعلَّ سكوتها - رضي الله عنها عن التسلمية الثانية لأنها لم تسمعها فربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالأولى بقصد الإيقاظ، ويخفض صوته بالثانية، فَحَكَتْ عائشة - رضي الله عنها - ما سمعته وحكى غيرها ما رأى وسمع.وقد ذهب الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - إلى الجمع بين الروايتين فقال: " ... إن التسليمة الواحدة كانت منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان في صلاة الليل، والصحابة الذين رووا عنه التسليمتين إنما يحكون التسليم الذي رأوه في صلاته في المسجد وفي الجماعة، وبهذا نجمع بين الروايتين"2.فالحاصل: أنه لم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليمة الواحدة في الصلاة المكتوبة، وأن الحديث المرويَّ في ذلك: الصحيح أنه موقوف على عائشة من فعلها. وقد قَرَّرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - عدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح. وأن ما صحَّ عن النبي في ذلك: إنما وقع__________1 انظر: زاد المعاد: (1/259) .2 حاشية جامع الترمذي: (2/92) .
(2/312) في صلاة الليل فلا يعارض حديث التسليمتين، ولو قُدِّرَ التعارض فحديث التسليمتين أرجح من الآخر لأمور ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله.على أن قوماً ذهبوا إلى التسلمية الواحدة في المكتوبة، كما قال الترمذي1 رحمه الله. وقال الليث بن سعد: "أدركت الأئمة والناس يُسَلِّمُون تسليمة واحدة: السلام عليكم"2. وذهب ابن خزيمة - رحمه الله - إلى أن ذلك من اختلاف المباح، وأن المُصَلى في ذلك مُخَيَّرٌ كما هو مذهب الحجازيين3. وكذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار"4: "وكلُّ ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان، ولذلك لا يُرْوَى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين، بل ذلك عندهم معروف ... ".__________1 في جامعه: (2/93) .2 الاستذكار: (2/212) .3 صحيح ابن خزيمة: (1/360) .(2/214) .
(2/313) 12- باب في صلاة الرجل وحده خلف الصف32- (17) عن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصَلي خلف الصَّفِّ وَحْدَهُ، فأمره أن يُعِيدَ".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وحديث وابصة أخرجه أيضاً1: ابن حبان في (صحيحه) ، والإمام أحمد"2.ثم ذكر - رحمه الله - أن الحديث أُعِلَّ بعلتين:الأولى: أنه وقع اختلاف في إسناده واضطراب، وأن الشافعي أَعَلَّهُ بذلك، فقال: "قد سمعت من أهل العلم بالحديث من يذكر: أن بعض الْمُحَدِّثِينَ يُدخِلُ بين هلال بن يساف ووابصة رجلاً. ومنهم من يرويه عن هلال عن وابصة، سمعه منه. وسمعت بعض أهل العلم منهم كان يوهنه بما وصفت"3.العلة الثانية: أن هلال بن يساف تَفَرَّدَ به عن وابصة.ثم قال: "والعلتان جميعاً ضعيفتان". ثم أخذ في الجواب عنهما.قلت: هذا الحديث مداره على هلال بن يساف4 وقد رُوِيَ عنه على أوجه:__________1 يعني مع أبي داود.2 تهذيب السنن: (1/336 - 337) .3 يُنظر كلام الشافعي هذا في اختلاف الحديث: (ص 130) باب صلاة المنفرد.4 ويقال: ابن إساف، الأشجعي، مولاهم، الكوفي، ثقة، من الثالثة / خت م4. (التقريب 576) .
(2/314) أولها: ما رواه عمرو بن مرة1، قال: سمعت هلال بن يساف، قال: سمعت عمرو بن راشد2، عن وابصة بن معبد به.أخرجه كذلك: أبو داود3، والترمذي4، والطيالسي، وأحمد في (مسنديهما) 5، وابن حبان في (صحيحه) 6، والبيهقي في (سننه) 7.وهذا إسناد رجاله ثقات، ليس فيهم إلا عمرو بن راشد، روى عنه جماعة، ولم يوثقه غير ابن حبان8، وقال ابن حجر: "مقبول" يعني حيث يُتابع، وقد تُوبِعَ كما سيأتي.ثانيها: ما رواه حُصين بن عبد الرحمن9، عن هلال بن يساف قال:__________1 ابن عبد الله بن طارق الجملي، المرادي، أبو عبد الله الكوفي، الأعمى، ثقة عابدٌ، كان لا يُدَلِّسُ، ورُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة 118هـ / ع. (التقريب 426) .2 الأشجعي، أبو راشد الكوفي، مقبول، من الثالثة/ د ت. (التقريب 421) .3 في سننه: (1/439) ح 682، باب الرجل يصلي وحده خلف الصف.4 في جامعه: (1/448) ح 231، ك الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده.5 طس: (ح 1201) ، حم: (4/228) .6 الإحسان: (3/311) ح 2195، 2196.(3/104) .8 الثقات: (5/175) .9 السلمي، أبو الهذيل الكوفي، ثقة تَغَيَّر حفظه في الآخر، من الخامسة، مات سنة 136 هـ / ع. (التقريب 170) .
(2/315) أخَذ زياد بن أبي الجعد1 بيدي ونحن بالرَّقة، فقام بي على شيخ يَقال له: وابصة بن معبد، من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ: "أن رجلاً صلى خَلْفَ الصَّفَ وحده - والشيخ يسمع - فَأَمَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعيد الصلاة".أخرجه من هذا الوجه: الترمذي في (جامعه) 2، وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والبيهقي في (السنن) 6. واللفظ المذكور للترمذي.قال الترمذي: "حديث حسن". وقال الشيخ الألباني: "وهذا سَنَدٌ جَيِّد، رجاله كلهم ثقات، غير زياد بن أبي الجعد، فإن القول فيه كالقول في عمرو بن راشد، وأنه مجهول كما تقدم".قلت: وقال فيه الحافظ أيضاً: "مقبول". قال الشيخ الألباني: "لكن لم يتفرد به زياد، بل تابعه هلال بن يساف في المعنى7 ... فصارت__________1 واسم أبي الجعد: رافع، الكوفي، مقبول، من الرابعة/ ت. (التقريب 218) .(1/445) ح 230.(1/321) ح 1004، ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده.4 حم: (3/228) ، مي: (1/237) ح 1289.5 الإحسان: (3/311) ح 2197.(3/104 - 105) .7 يعني قوله: أخذ زياد بيدي.
(2/316) الرواية من قبيل القراءة على الشيخ وهلال يسمع"1.الوجه الثالث: ما رواه شمر بن عطية2 عن هلال بن يساف عن وابصة بن معبد، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ صلَّى خَلْفَ الصفوف وحده؟ فقال: "يعيد الصلاة".أخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 3. قال الشيخ الألباني في (الإرواء) 4: " ... فرواية شمر بن عطية عن هلال بن يساف عن وابصة له ليست منقطعة كما ظنَّ البعض، لما عرفت من تحديث زياد بالحديث أمام وابصة مُقِرًّا له، وهلال يسمع".قلت: فَتَبَيَّنَ مما سبق أن هلالاً يرويه على ثلاثة أوجه:أحدها: عن عمرو بن راشد عن وابصة.ثانيها: عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة.ثالها: عن وابصة مباشرة.ولذلك فقد أُعِلَّ الحديث - كما تقدم عن الشافعي - لروايته على هذه الأوجه المختلفة، وهي العلة الأولى من العلل التي تقدم ذكرها.وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذه العلة: بأن هلال بن يساف يرويه عن عمرو بن رشاد، عن وابصة. وعن زياد بن أبي الجعد__________1 إرواء الغليل: (2/324 - 325) .2 الأسدي الكاهلي، الكوفي، صدوق، من السادسة/ مد ت س. (التقريب 268) .(3/228) .(2/325) .
(2/317) عن وابصة، نقل ذلك عن ابن حبان، وأنه قال: "هما جميعاً طريقان محفوظان"1.قال ابن القَيِّم: "فإدخال زياد وعمرو بن راشد بين هلال ووابصة لا يُوهِنُ الحديث شيئاً"2.وقد سبق إلى ذلك ابن حزم، فقال: "ورواية هلال بن يساف حديث وابصة: مرة عن زياد بن أبي الجعد، ومرة عن عمرو بن راشد قوةٌ للخبر ... "3.وقال الشيخ الألباني: "ومما سبق يَتَبَيَّنَ َأن الحديث صحيح، وليس من قبيل المضطرب في شيء كما تَوَهَّمَ البعض ... فهو - يعني هلال بن يساف - قد سمعه من عمرو بن راشد عنه - أي وابصة -، ومن زياد عنه ووابصة يسمع، فجاز له أن يرويه عنه مباشرة كما في الرواية الثالثة، وبذلك تتفق الروايات الثلاث ولا تتعارض"4.وقد لجأ بعض العلماء إلى الترجيح بين هذه الروايات، فرجح أبوحاتم رواية: عمرو بن مرة، عن هلال، عن عمرو بن راشد5. ورجح الترمذي رواية: حصين بن عبد الرحمن، عن هلال، عن زياد بن أبي الجعد6.__________1 انظر كلام ابن حبان هذا في الإحسان: (3/312) .2 تهذيب السنن: (1/337) .3 المحلى: (4/74) . ط / حسن زيدان.4 الإرواء: (2/325) .5 علل ابن أبي حاتم: (1/100) ح 271.6 جامع الترمذي: (1/448) .
(2/318) قلت: والذي يترجح أن هذه الروايات يوافق بعضها بعضاً، وليس بينها اختلاف، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، وقال به غير واحد كما تَقَدَّمَ.وأما العلة الثانية: وهي دعوى تفرد هلال بن يساف بالخبر، فقد نقل ابن القَيِّم1 عن ابن حبان - أيضاً - أنه ردَّ هذه العلة فقال: "ذكر الخبر الْمُدْحِضِ قول من زعم أن هلال بن يساف تَفَرَّدَ بهذا الخبر" ثم ساقه من حديث يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عمه عبيد بن أبي الجعد، عن أبيه زياد بن أبي الجعد، عن وابصة به2.فَتَبَيَّنَ من ذلك أن الحديث صحيح لا مطعن فيه، وأن العلتين اللتين أُعِلَّ بهما ضعيفتان، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله.ومن الشواهد لهذا الحديث مما تَكَلَّمَ عليه ابن القَيِّم رحمه الله:33- (18) حديث على بن شيبان3رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصَلِّي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال له: "اسْتَقْبِلْ صَلاتَكَ، فَلا صَلاة لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ ".__________1 تهذيب السنن: (1/337) .2 انظر: الإحسان (3/312) ح 2198. وقد أخرجه من هذا الوجه أيضاً: أحمد في مسنده: (4/228) ، والدارمي (1/237) ح 1290، والبيهقي في سننه: (3/105) . وإسناده صحيح، كما قال الشيخ أحمد شاكر في حاشية الترمذي: (1/449) .3 ابن محرز اليمامي، الحنفي، صحابي مُقِلٌّ، تفرد عنه ابنه عبد الرحمن / بخ د ق. (التقريب 402) .
(2/319) تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، فقال: " ... كما في الْمُسْنِد بإسناد صحيح، وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة، عن علي بن شيبان ... " فذكره1.قلت: حديث على بن شيبان هذا أخرجه: أحمد في (مسنده) 2، وابن ماجه في (سننه) 3، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) 4، والبيهقي في (سننه) 5 كلهم من طريق:ملازم بن عمرو6، عن عبد الله بن بدر7، عن عبد الرحمن بن علي ابن شيبان8، عن أبيه - وكان من الوفد9 - قال: قَدِمْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصَلَّيْنَا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاةً أخرى، فقضى الصلاة فرأى رجلاً فَرْدَاً يُصلِّي خلف الصف ... الحديث. هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ الآخرين قريب.__________1 إعلام الموقعين: (2/ 358 - 359) .(4/23) .(1/320) ح 1003 ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده.4 خز: (3/30) ح 1569، حب: الإحسان (3/312) ح 2199.(3/105) .6 هو: أبو عمرو اليَّمَامِي.7 ابن عميرة الحنفي السُّحَيْمِي.8 الحنفي اليمامي، ثقة، من الثالثة/ بخ د ق. (التقريب 347) .9 في سنن البيهقي: "وكان أحد الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني سُحَيم".
(2/320) وعند أحمد والبيهقي زيادة ليست عند الباقين، فقد جاء لفظه عندهما هكذا: " ... فصلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فَلَمَحَ بمؤخر عينيه إلى رجلٍ لا يقَيِّم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المسلمين، إنه لا صلاة لمن لا يقَيِّم صُلْبَهُ في الركوع والسجود ... " ثم ذكر قصة المنفرد خلف الصف.وهذا الحديث إسناده صحيح، قال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات"1. وصَحَّحَهُ الشيخ الألباني في مواضع2، وقال في (الإرواء) 3: "وجملة القول: أن أمره صلى الله عليه وسلم الرجل بإعادة الصلاة، وأنه لا صلاة لمن يصلي خلف الصف وحده: صحيح ثابت عنه من طرق"4.وقد تقدم تصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - لإسناده، مع إشارته إلى تصحيح ابن خزيمة وابن حبان له، وبذلك يكون شاهداً قوياً لحديث وابصة الماضي قبله.__________1 مصباح الزجاجة: (1/122) .2 انظر: إرواء الغليل: (2/328 - 329) ، والتعليق على ابن خزيمة: (3/30) ، وصحيح ابن ماجه (ح822) .(2/329) .4 وتنظر هذه الطرق والكلام عليها في "الإرواء" له (2/323 - 329) ح 541.
(2/321) 13- باب ما جاء في صلاة الإمام جالساقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... عمل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في اقتدائهم به وهو جالس، وهذا كأنه رأى العين، سواء كانت صلاتهم خلفه قعوداً أو قياماً، فهذا عملٌ في غايةِ الظهورِ والصحةِ، فَمِنَ العجب أن يُقَدَّمَ عليه رواية:34- (19) جابر الجُعْفِي عن الشعبي - وهما كوفيان - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بعدي جالساً".قال: "وهذا من أسقط روايات أهل الكوفة"1.قلت: هذا الحديث أخرحه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 2، كلاهما من طريق: سفيان بن عيينة، عن جابر الجعفي، عن الشعبي به.قال الدارقطني عقب إخراجه: "لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسلٌ لا تقوم به حجة". وقال الإمام الشافعي: "وقد أَوْهَمَ بعض الناس فقال: لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعد النبي جالساً، واحتجَّ بحديث رواه منقطعٌ عن رجل مرغوب عن الرواية عنه، لا يثبت بمثله حجة على أحد ... "3. وقال البيهقي في (المعرفة) 4: "قد علم الذي احتج بهذا: أن ليست فيه حجة، وأنه لا يثبت؛ لأنه مرسل، ولأنه عن__________1 إعلام الموقعين: (2/384) .2 قط: (1/398) ح 6. هق: (3/80) .3 الرسالة: (ص 255 - 256) .(4/146) رقم 5711.
(2/322) رجل يَرْغَبُ الناس عن الرواية عنه".وقال ابن حبان: " ... وأعلى شيء احتجوا به: شيء رواه جابر الجعفي، عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً". وهذا لو صحَّ إسناده لكان مرسلاً، والْمَرْسَلُ من الخبر وما لم يُرو سِيَّانِ في الحكم ...والعجب ممن يحتج بمثل هذا المرسل وقد قَدَحَ في راويه زعيمهم"! ثمَّ روى بإسناده إلى أبي حنيفة أنه كَذَّبَ جابراً الجعفي، ثم قال: "فهذا أبو حنيفة يَجْرَحُ جابراً الجعفي ويكذبه، ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه"1.وقال عبد الحق في (أحكامه) - ونقله عنه الزيلعي2 -: "ورواه عن الجعفي مجالد، وهو أيضاً ضعيف".وقال الشيخ أحمد شاكر: "هذا الحديث غاية في الضَّعْفِ"3.فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث ضعيف جداً، لا تقوم بمثله حجة، كما اختار ابن القَيِّم رحمه الله.__________1 الإحسان: (3/273) .2 نصب الراية: (2/50) .3 حاشية "الرسالة" للشافعي: (ص256) .
(2/323) 14- باب من ترك القصر في السفر35- (20) عن عائشة رضي الله عنها قالت: خَرَجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُمْرَة رمضان، فَأَفْطَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت، وقَصرَ وأتممت، فقلت: يا رسول الله بأمي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: "أَحْسَنْتِ يا عائشة".أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 1 في موضعين منه، وقال في الموضع الأول منهما: "وأما ما رواه الدارقطني وغيره عن عائشة ... فَغَلَطٌ، إما عليها - وهو الأظهر - أو منها، وأَصَابَهَا فيه ما أَصَابَ ابن عمر في قوله: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب. فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط".وحَكَمَ في الموضع الثاني بغلطه كذلك، ثم قال: " ... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعْتَمِر في رمضان قَطُّ، وعُمَرُهُ مضبوطة العدد والزمان، ونحن نقول: يرحم الله أم المؤمنين، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قَطُّ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة".__________(2/55، 93) .
(2/324) قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 1، من طريق: محمد بن يوسف2 الفريابي، عن العلاء بن زهير3، عن عبد الرحمن بن الأسود4، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها به.وهذا الحديث حَسَّنَ الدارقطني إسناده، فقال: "متصل، وهو إسناد حسن"5. وصَحَّحَ البيهقي إسناده6.ولكنَّ هذا الحديث أُعِلَّ بعلتين:1- أنه اخْتُلِفَ على العلاء في إسناده، فرواه الفريابي متصلاً كما مضى، ورواه غَيْرُهُ: عن العلاء، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة مرسلاً، بدون ذكر "الأسود".2- أنَّ ذِكْرَ "رمضان" فيه منكر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر قطُّ في رمضان، وقد جاءت الرواية المرسلة بدون ذكر"رمضان".__________1 قط: (2/188) ح 39. هق: (3/142) باب ترك القصر في السفر غير رغبة عن السنة.2 ابن واقد بن عثمان الضَّبِّي مولاهم، نزيل قيسارية من ساحل الشام، ثقة فاضل، يقال: أخطأ في شيء من حديث سفيان، وهو مُقَدَّم فيه - مع ذلك - عندهم على عبد الرزاق، من التاسعة، مات سنة 212هـ / ع. (التقريب 515) .3 ابن عبد الله الأزدي، أبو زهير الكوفي، ثقة، من السادسة/ س. (التقريب 435) .4 ابن يزيد بن قيس النخعي، ثقة، من الثالثة، مات سنة 99هـ / ع. (التقريب 336) .5 السنن: (2/188) .6 السنن: (3/142) .
(2/325) أما العلة الأولى، وهي الاختلاف فيه: فقد أخرجه النسائي في (سننه) 1، وكذا البيهقي2 من طريق: أبي نعيم3. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4، من طريق: القاسم بن الحكم5. كلاهما عن:العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قَدِمَتْ مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قَصَرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ؟ قال: " أَحْسَنْتِ يا عائشة ". وما عاب عليَّ.هذا لفظ النسائي والبيهقي. وأما الدارقطني فلفظه: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فقصر وأتممت الصلاة، وأفطر وصمت، فلما دنوت إلى مكة قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت، فقال: " أَحْسَنْتِ يا عائشة " وما عابهُ عليَّ.قال الدارقطني عقب روايته: "وعبد الرحمن قد أَدْرَكَ عائشة، ودخل عليها وهو مراهق، وهو مع أبيه، وقد سمع منها". قال ابن حجر: "وهو كما قال، ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك ... وفي ابن أبي شيبة__________(3/122) ك تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة.2 السنن: (3/142) .3 هو الفضل بن دكين، التيمي مولاهم، الأحول، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، من التاسعة، مات سنة 218هـ وقيل 219هـ / ع. (التقريب 446) .(2/188) ح 40.5 ابن كثير، العرني، أبو أحمد الكوفي، قاضي همذان، صدوقٌ فيه لِين، من التاسعة، مات سنة 208هـ / بخ ت. (التقريب 449) .
(2/326) والطحاوي ثبوت سماعه منها"1.وقال أبو حاتم: "أُدْخِلَ على عائشة وهو صغير، ولم يسمع منها"2.وَتَعَقَّبَهُ العلائيُّ، فقال: "روى حماد بن زيد وغيره، عن الصعب بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود قال: كنت أدخل على عائشة بغير إذن، حتى إذا كان عام احتلمتُ سَلَّمْتُ واستأذنتُ، فَعَرَفَتْ صوتي ... الحديث. وهذا يقتضي خلاف ما قاله أبو حاتم"3. وعلى هذا يكون هذا الإسناد مُتَّصلاً لا انقطاع فيه.وقد حكم الأئمة لهذه الرواية التي ليس فيها ذكر "الأسود"، فقال أبو بكر النيسابوري: "من قال فيه: عن أبيه. فقد أخطأ"4. وذكر الدارقطني الخلاف فيه على العلاء بن زهير، ثم قال: "والمرسل أشبه بالصواب"5.وقد اعتبر الحافظ ابن حجر هذا من الدارقطني تناقضاً حيث قال: "واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في السنن: إسناده حسن. وقال في العلل: المرسل أشبه"6.__________1 التلخيص الحبير: (2/44) .2 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص129) .3 جامع التحصيل: (ص269) .4 سنن البيهقي: (3/142) .5 علل الدارقطني: ج5 (ق 60/أ) .6 التلخيص الحبير: (2/44) .
(2/327) قلت: ولعل الدارقطني - رحمه الله - قصد بتحسين إسناده: ثقة رواته دون أن يقصد نفي العلَّة عنه.وأما بالنسبة للعلة الثانية، وهي النَّكارة في متنه: فقد حكم غير واحد بأن لفظة "رمضان" منكرة، فقال النوويُّ: "وهذه اللفظة مُشْكِلَةٌ؛ فإن المعروف أنه - عليه السلام - لم يعتمر إلا أربع عمر، كلهن في ذي القعدة"1.وحَكَمَ الأئمة: ابن عبد الهادي2، وابن الملقن3، وابن حجر4 بنكارة الحديث - أيضاً - من أجل ذكر الاعتمار في رمضان فيه.وقد سبق أن رواية أبي نعيم ومن معه - التي ليس فيها ذكر "الأسود" - لم ترد فيها هذه اللفظة، وقد حَكَمَ الأئمة بأنها مُقَدَّمَةٌ على الأخرى: النيسابوري والدارقطني. فلعل راويها أخطأ في متنها كما أخطأ في إسنادها، فتكون رواية أبي نعيم هي الصواب إسناداً ومتناً.وقد لجأ البعض إلى محاولة دفع هذا التعارض، فقال الحافظ ابن حجر: "ويمكن حمله على أن قولها: في رمضان متعلق بقولها: خَرَجْتُ. ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة من الجعرانة، لكن في ذي القعدة"5.__________1 خلاصة الأحكام: (ق 96/أ) .2 تنقيح التحقيق: (ق149) .3 البدر المنير: ج 3 (ق 153/ب) نسخة أحمد الثالث.4 التلخيص الحبير: (2/44) .5 فتح الباري: (3/603) .
(2/328) وقد نقل ابن الملقن مثل هذا الجواب عن بعض شيوخه، ثم رَدَّهُ بقوله: "وتَمَحَّلَ بعض شيوخنا الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال ... "1.وقد أَعَلَّ بعضهم هذا الحديث بـ"العلاء بن زهير"، فقال ابن التركماني2:"قال فيه ابن حبان: يروى عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، فَبَطَلَ الاحتجاج به"3.ولكنَّ ذلك مردودٌ؛ فإن يحيى بن معين قال فيه: "ثقة"4. وقال عبد الحق: "ثقة مشهور"5. حتى إنَّ ابن حبان نفسه ذكره في (الثقات) 6 فتناقض بذلك. قال الذهبي رحمه الله: "قلت: العبرة بتوثيق يحيى"7.وأَعَلَّهُ ابن حزم بجهالة العلاء بن زهير هذا، فقال: "لم يروه غيره، وهو مجهول" وقال قبل ذلك عن هذا الحديث: "لا خير فيه"8. كذا قال ابن حزم!وردَّ عليه ابن الملقن رحمه الله، وأثبت معرفة عينه وحاله، ثم نقل ردَّ عبد الحق عليه، إذ قال: "وقول ابن حزم: لا خير فيه. جهل منه بالآثار". قال: "ودعواه جهالة العلاء غلطٌ، بل هو ثقة مشهور، روى عنه__________1 البدر المنير: ج 3 (ق 153/ب) .2 في الجوهر النقي: (3/142) .3 انظر: المجروحين: (2/183) .4 الجرح والتعديل: (3/1/355) .5 تهذيب التهذيب: (8/181) .(7/265) .7 الميزان: (3/101) .8 المحلى: (4/269) .
(2/329) الأعلام، ووثقه ابن معين"1.بَقَيَ أمرٌ آخر يمكن إيراده على هذا الحديث، وهو كيفَ تخالفُ عائشة رضي الله عنها ما شَاهَدَتْهُ من فِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وسائرِ أصحابهِ؟ وقد صَوَّرَ ابن الملقن - رحمه الله - هذه الشبهة، فقال: "وبلغني عن بعض الأكابر ممن عَاصَرْتُ أنه أَنْكَرَ هذا الحديث من وجهٍ آخر، وقال: كيف تُتِمُّ مع مشاهدتها الشَّارِعَ والصحابة، وهي تقول: فُرِضَتْ الصلاة ركعتين ... الحديث، وإنما صحَّ إتمامها بعده عليه السلام متأولة ما تأوله عثمان؟ ".قال: "وهذا إنكار عجيب ... ومعنى أُقِرَّتْ صلاة المسافر: في جواز الاقتصار عليها، بخلاف صلاة الحضر، فإن الزيادة فيها متحتمة"2.ويمكن أن يُقال: إن موافقته صلى الله عليه وسلم لها لبيان الجواز، ولذلك بوَّبَ عليه البيهقي بقوله: "باب من ترك القصر في السفر غير رغبة عن السُّنَّةِ".فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث صحيح من رواية أبي نعيم والقاسم بن الحكم، عن العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة، بدون ذِكْرِ "الأسود بن يزيد" في إسناده، ولا "رمضان" في متنه. وقد حكم بصحته من تقدم ذكرهم، وصححه كذلك ابن الملقن- رحمه الله - من هذه الطريق، وكذا عبد الحق3.وأما ابن القَيِّم: فقد أَعَلَّهُ بهذه اللفظة، ولم يتعرض للرواية الأخرى التي لم ترد فيها تلك اللفظة، فلعله لم يقف عليها؟ فالله أعلم.__________1 انظر: البدر المنير: ج 3 (ق 153/ب) .2 انظر: البدر المنير: ج 3 (ق 154/أ) .3 البدر المنير: ج 3: (ق153/أ) .
(2/330) 15- باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين في السفر36- (21) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيْغَ الشَّمسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعُهَا إلى العصرِ، فيصليهما جميعاً، وإِذَا ارْتَحَلَ بعدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظهرَ والعصرَ جَمِيعَاً ثم سَارَ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أَخَّرَ المغربَ حتَّى يصليها مع العشاءِ، وإذا ارتحلَ بعد المغرب عَجَّلَ العِشَاء، فصلاَّهَا مع المغرب".ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الصلاتين في السفر، ثم قال: "لكن اخْتُلِفَ في هذا الحديث، فمن مُصَحِّح له، ومن مُحَسِّنٍ، ومن قادح فيه وجعله موضوعاً: كالحاكم، وإسناده على شرط الصحيح، لكن رُمِيَ بعِلَّةٍ عجيبةٍ".ثم نقل عن الحاكم كلامه في إعلاله ووصفه بالوضع1، ونقل في موضع آخر تضعيف الترمذي، وأبي داود، وابن حزم له2، ثم قامَ - رحمه الله - بالجواب عن تلك العلل بما سيأتي نقله عنه خلال هذا البحث إن شاء الله.قلتُ: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في__________1 زاد المعاد: (1/477 - 480) .2 زاد المعاد: (3/544) .(2/18) ح 1220، ك الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين.
(2/331) (جامعه) 1، وأحمد في (مسنده) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 4 من طرق، عن:قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب5، عن أبي الطفيل6، عن معاذ بن جبل به.وقد أُعِلَّ حديث قتيبة هذا بعللٍ:أولها: أن قتيبة تَفَرَّدَ به، ولم يتابعه أحدٌ على ذكر جمع التقديم.ثانيها: أن غلِطَ في إسناده، وأن صوابه "أبو الزبير" بدل "يزيد بن أبي حبيب".ثالثها: أن يزيد بن أبي حبيب عنعنه، ولا تُعْرَفُ له رواية عن أبي الطفيل، قاله ابن حزم.وإلى مناقشة هذه العلل:أولاً: أمَّا تفرد قتيبة به: فقاله غير واحد: قال أبو داود عقب__________(2/438) ح 553، ك الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين.(5/241) .3 الإحسان: (3/61) ح 1591.4 قط: (1/392) ح 15. هق: (3/162) .5 المصري، أو رجاء، ثقة فقيه، وكان يرسل، من الخامسة، مات سنة 128هـ / ع. (التقريب 600) .6 عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي، ولد عام أحد، ورأى النبيصلى الله عليه وسلم، وعُمِّرَ إلى أن مات سنة110هـ على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة/ع. (التقريب 288) .
(2/332) إخراجه: "ولم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده" كذا في (السنن) ، ونقل عنه ابن القَيِّم في (الزاد) 1 قوله: "هذا حديث منكر، وليس في تقديم الوقت حديث قائم". وكذا نقله ابن حجر في (التلخيص) 2. وقال أبو عيسى الترمذي: "تَفَرَّدَ به قتيبة، لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره". وقال أبو سعيد بن يونس: "لم يُحَدِّثْ بهذا الحديث إلا قتيبة"3. وقال الحاكم أبو عبد الله: "هذا حديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذُّ الإسناد والمتن، لا نَعْرِفُ له علة نُعَلِّلُهُ بها ... فنظرنا فإذا الحديث موضوع"4. وقال الذهبي: "أتى بلفظ منكر جداً"5 يعني قتيبة.ويرى البخاري - رحمه الله - أنَّ هذا الحديث أُدْخِلَ على قتيبة، فروى الحاكم في (علوم الحديث) 6 بسنده إلى البخاري، أنه قال: "قلتُ لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالدٌ المدائني يُدخِلُ الحديث على الشيوخ".وقال الذهبي: "يَرَوْنَ أن خالداً المدائني أدخله على الليث، وسمعه قتيبة معه، فالله أعلم". ثم قال: "هذا التقرير يؤدي إلى أن الليث كان يقبل التلقين، ويروي مالم يسمع، وماكان كذلك. بل كان حُجَّةً متثبتاً،__________(3/544) .(2/49) .3 التلخيص الحبير: (2/49) .4 معرفة علوم الحديث: (ص120) في نوع الشاذ.5 سير أعلام النبلاء: (11/23) .(ص 120 - 121) .
(2/333) وإنما الغفلة وقعت فيه من قتيبة، وكان شيخ صدقٍ، قد روى نحواً من مائة ألف، فَيُغْتَفَرُ له الخطأ في حديث واحد"1.ولقد حاول ابن القَيِّم - رحمه الله - الجواب عن هذه العلة، فذكر أن أبا داود أخرجه من حديث: يزيد بن خالد2، عن المفضل بن فضالة3، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد4، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ به.قال ابن القَيِّم: "فهذا الْمُفَضَّلُ قد تَابَعَ قتيبة، وإن كان قتيبة أجلَّ من المفضل وأحفظ، لكن زال تفرد قتيبة به"5.كذا ساق ابن القَيِّم إسناده، والذي في (سنن أبي داود) 6: "المفضل ابن فضالة والليث بن سعد" لا "عن الليث بن سعد". وعلى هذا فيكون الذي تابع قتيبة: هو "يزيد بن خالد"، وليس "المفضل بن فضالة". مع ملاحظة اختلاف الإسنادين وعدم اتحادهما، فإن يزيد بن خالد جعله: "عن الليث ومفضل، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير" بخلاف إسناد__________1 سير أعلام النبلاء: (11/23 - 24) .2 ابن عبد الله بن موهب الرَّمْلي، أبو خالد، ثقة عابد، من العاشرة، مات سنة 232هـ أو بعدها/ د س ق. (التقريب 600) .3 ابن عبيد بن ثمامة القتباني، المصري، أبو معاوية القاضي، ثقة فاضل عابد، أخطأ ابن سعد في تضعيفه، من الثامنة، مات سنة 181 هـ/ع. (التقريب 544) .4 المدني، أبو عباد، أو أبو سعيد، صدوق له أوهام، ورمي بالتشيع، من كبار السابعة، مات سنة 160 هـ أو قبلها / خت م 4. (التقريب 572) .5 زاد المعاد: (1/478 - 479) .(2/12) ح 1208.
(2/334) قتيبة الذي هو: "عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب". وسيأتي الكلام على ذلك عند مناقشة العلة الثانية.ولكن، هل تصلحُ هذه المتابعة للوقوف إلى جانب رواية قتيبة، ودَفع شبهة التَّفَرُّدِ عنه؟؟ الجواب: لا.وذلك لأن الأئمة الحفاظ قد خالفوا هشام بن سعد في هذه الرواية، فرووه عن: أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، بدون ذكر جمع التقديم، منهم: الليث بن سعد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وقُرَّةُ بن خالد.وقد أشار بعض الأئمة إلى ذلك، فقال الترمذي - عقب روايته حديث قتيبة -: "والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ، من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء ". رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد عن أبي الزبير المكي"1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهشام لَيِّنُ الحديث، وقد خالف أوثق الناس في أبي الزبير، وهو الليث بن سعد"2. وقال مرةً: "وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير ... "3.قلت: أخرج رواية قرة بن خالد: مسلم في (صحيحه) 4. ورواية__________1 جامع الترمذي: (2/440) .2 التلخيص الحبير: (2/49) .3 فتح الباري: (2/583) .(1/490) ح 53 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2/335) مالك: في (الموطأ) 1 مطولة. ورواية سفيان: في (مسند أحمد) 2.فظهر من ذلك أن رواية هشام بن سعد لا تصلح لمتابعة رواية قتيبة؛ إذ هي الأخرى معلولة.ثانياً: وأما غَلَطُ قتيبة في إسناده: فقد مضى أن هشام بن سعد قال فيه: "عن أبي الزبير" بدل "يزيد بن أبي حبيب"، وَرَجَّحَ غير واحد رواية هشام، فقال أبو حاتم: "لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث. حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، عن هشام، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل ... "3 فذكره. وقال أبو سعيد بن يونس: "يقال: إنه غلط، وأنَّ موضع يزيد بن أبي حبيب: أبو الزبير"4.فرجعَ بذلك حديث قتيبة إلى حديث هشام، وتقدم أن حديث هشام معلول بمخالفة الثقات من أصحاب أبي الزبير، فيرجع الكل إلى رواية هؤلاء الثقات عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، بدون ذكر جمع التقديم فيه.ثالثاً: ما أَعَلَّهُ به ابن حزم - رحمه الله - من عنعنة يزيد بن أبي حبيب، وأنه لا تُعْرَفُ له رواية عن أبي الطفيل: فقد أجاب عن ذلك__________(1/143) ح 2، ك قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر.(5/230، 236) .3 علل ابن أبي حاتم: (1/91) ح 245.4 سير أعلام النبلاء: (11/23) .
(2/336) الشيخ الألباني، فقال: "يزيد بن أبي حبيب غير معروف بالتدليس، وقد أدرك أبا الطفيل حتماً؛ فإنه وُلِدَ سنة (53) ومات سنة (128) . وتوفي أبو الطفيل سنة (100) أو بعدها، وعمر يزيد حينئذ 47 سنة"1.قلت: لكن وافق ابن حزم في هذا القول: الحاكمُ أبو عبد الله، فقال: " ... ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية"2. وقال الْمِزِّيُّ رحمه الله - عندما ذكر أبا الطفيل في شيوخ يزيد -: "إن كان محفوظاً"3.وهذه العلة تؤكد ما تَقَدَّمَ من أن: ذكر يزيد بن أبي حبيب في إسناده خطأ، وأن الصواب: أبو الزبير.فَظَهَرَ بذلك أن ذكر جمع التقديم في حديث معاذٍ لا يصحُّ، وأن الصَّواب عدمُ ذكره كما أخرج ذلك مسلم، ومالك وغيرهما.لكن ابن القَيِّم - رحمه الله - متمسك بصحة ذلك عن معاذ، وقد دَافَعَ عنه بما تقدم ذكره من كلامه، وقال في (إعلام الموقعين) 4: "إسناده صحيح، وعلته واهية". ثم شرع في ذكر بعض الشواهد له فمن ذلك:37- (22) ما رواه إسحاق بن راهويه: حدثنا شبابة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا كان في سفر، فَزَالَتِ الشمسُ، صَلَّى الظهرَ والعصرَ ثم ارْتَحَلَ".__________1 إرواء الغليل: (3/30) .2 علوم الحديث: (ص120) .3 تهذيب الكمال: (32/104) .(2/422) .
(2/337) قال ابن القَيِّم: "وهذا إسناد كما ترى، وشبابة: هو شبابة بن سَوَّار، الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه، وقد روى له مسلم في صحيحه عن الليث بن سعد بهذا الإسناد، على شرط الشيخين، وأقلُّ درجاته: أن يكون مُقَوِّيَاً لحديث معاذ"1.قلت: هذا الحديث أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق ابن راهويه، ونقل الحافظ ابن حجر عن النوويِّ قوله: "إسناده صحيح"، ثم قال: "وفي ذهني أن أبا دود أنكره على إسحاق"3. وقال مرة: "أخرجه الإسماعيلي، وأُعِلَّ بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة، ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق، وليس ذلك بقادحٍ؛ فإنهما إمامان حافظان"4.قال: "ولكن له متابع رواه الحاكم في (الأربعين) له، عن أبي العباس محمد بن يعقوب، عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن حسان بن عبد الله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس ... " فذكره. قال: "وهو في الصحيحين من هذا الوجه بهذا السياق، وليس فيهما: "والعصر"، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتَعَجَّبَ من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك"5. ثم عاد فقال: "وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه__________1 زاد المعاد: (1/479) .(3/162) .3 التلخيص الحبير: (2/49) .4 فتح الباري: (2/583) .5 التلخيص الحبير: (2/49 - 50) .
(2/338) إن كانت ثابتة، لكن في ثبوتها نظر ... "1.ولحديث أنس هذا طريق أخرى أشار إليها الحافظ ابن حجر في (التلخيص) 2 فقال: "رواها الطبراني في (الأوسط) : حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني، ثنا هارون الحمال، ثنا يعقوب بن محمد الزهري، ثنا محمد بن سعدان، ثنا ابن عجلان، عن عبد الله بن الفضل، عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفرٍ فزاغتِ الشمسُ قبل أن يرتحل، صلَّى الظهر والعصر جميعاً ... " الحديث، قال الطبراني: تفرد به يعقوب بن محمد". وقال الهيثمي: "رجاله موثقون"3.قلت: يعقوب بن محمد: ضَعَّفَهُ بعضهم، ووثقه آخرون، وروايته عن الثقات مقبولة4. وشيخه محمد بن سعدان: قال فيه أبو حاتم: "شيخ"5.وهذه العبارة تشعر بنوع تعديل، ولا تدلُّ على مطلق الضعف، فيكون هذا الإسناد صالحاً للاستشهاد به، فإذا ضُمَّ إلى طريق ابن راهويه السابق أَخَذ حديث أنس قوةً، فإذا ضُمَّ حديث أنس هذا - بطريقيه - إلى حديث معاذ السابق، كان كما قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "أقلُّ درجاته أن يكون مُقَوِّيَاً لحديث معاذ"6.__________1 فتح الباري: (2/583) .(2/50) .3 مجمع الزوائد: (3/160) .4 انظر: تهذيب التهذيب: (11/396) .5 الجرح والتعديل: (3/2/282) .6 زاد المعاد: (1/479) .
(2/339) ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً آخر لحديث معاذ، وهو:38- (23) حديث هشام بن عروة، عن حسين بن عبد الله1، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " أَلا أُخْبِرُكُم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ كان إذا زالت الشمس وهو في مَنْزِلَهِ جَمَعَ بين الظهرِ والعصرِ في الزَّوال ... "فذكر نحو حديث معاذ وأنس المتقدمين.ثم نقل ابن القَيِّم عن البيهقي خلافاً وقع في إسناده2.وقد ذكر الدارقطني - رحمه الله - وجوه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ثم جمع بينها، فقال: "رَوَى هذا الحديث حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني حسين، عن كريب وحده، عن ابن عباس3. ورواه عثمان بن عمر، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه عبد المجيد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن حسين، عن كريب، عن ابن عباس. وكلهم ثقات، فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولاً من هشام عن حسين، كقول عبد المجيد عنه، ثم لقي ابن جريج حسيناً فسمعه منه: كقول عبد الرزاق4 وحجاج عن ابن جريج:__________1 ابن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، المدني، ضعيف، من الخامسة، مات سنة 140هـ أو بعدها بسنة / ت ق. (التقريب 167) .2 زاد المعاد: (1/ 479 - 480) .3 أخرجه من هذا الطريق البيهقي: (3/163) .4 ورواية عبد الرزاق: أخرجها الدارقطني: (1/388) ح 1، والبيهقي (3/163) من طريق: عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة وكريب كليهما، عن ابن عباس به.
(2/340) حدثني حسين. واحتمل أن يكون حسين سمعه من عكرمة، ومن كريب جميعاً، عن ابن عباس، وكان يُحَدِّثُ به مرة عنهما جميعاً: كرواية عبد الرزاق عنه. ومرة عن كريب وحده: كقول حجاج وابن أبي رواد. ومرة عن عكرمة وحده، عن ابن عباس: كقول عثمان بن عمر، وتصحُّ الأقاويل كُلَّهَا"1.وأشار ابن حجر - رحمه الله - في (التلخيص الحبير) 2 إلى كلام الدارقطني هذا، ثم قال: "إلا أنَّ عِلَّتَهُ ضعفُ حسين، ويقال: إن الترمذي حَسَّنَهُ، وكأنه باعتبار المتابعة، وغَفَلَ ابن العربي فصحح إسناده. لكن له طريق أخرى، أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في (مسنده) : عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وروى إسماعيل القاضي في (الأحكام) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب، عن ابن عباس نحوه".وقال في (فتح الباري) 3: "في إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف، لكن له شواهد من طريق: حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس - ولا أعلمه إلا مرفوعاً4 -: " أَنَّه كَانَ إِذَا نَزَل مَنْزلاً في السَّفر فأعجبه أقام فيه حتى يجمعَ بين الظهر والعصر، ثم يرتحلُ،__________1 سنن الدارقطني: (1/388) .(2/48) .(2/583) .4 هذا من كلام البيهقي، وتمامه: "وإلا فهو عن ابن عباس" (السنن 3/164) .
(2/341) فإذا لم يتهيأ له المنزل مَدَّ فِي السَّير، فسار حتى ينزل، فيجمع بين الظهر والعصر" أخرجه البيهقي1، ورجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف".وعلى كلِّ حالٍ فالحديث يَتَقَوَّى بهذه الطرق، وبما مضى من شواهد، وقد قال البيهقي رحمه الله: "هو بما تَقَدَّمَ من شواهده يقوى"2. وقال الشيخ الألباني: "فالحديث صحيح عن ابن عباس بهذه المتابعات والطرق"3.فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث وإن كان ضعيفاً من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه، فإنه يتقوى بهذه الشواهد التي أَوْرَدَهَا ابن القَيِّم - رحمه الله - من حديث أنس، وابن عباس رضي الله عنهما. أما أن يكون حديث معاذ صحيحاً بنفسه - كما ذهب إليه ابن القَيِّم - فلا، لما تقدم بيانه من أنه معلول.على أن تصرف ابن القَيِّم قد يَدَلُّ على أن حديث معاذ قاصر عن درجة الصحة عنده، فإنه قد صَدَّرَه بقوله: "وقد رُوِيَ عنه في غزوة تبوك ... ". وهذه الصيغة غالباً ما يستعملها فيما يذهب إلى ضعفه أو ما هو مترَدِّدٌ فيه، والله أعلم.__________1 سنن البيهقي: (3/164) .2 المصدر السابق.3 إرواء الغليل: (3/32) .
(2/342)

======================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...