الجمعة، 7 يناير 2022

21- تابع ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه وما بعده الي ص (1/571) بترقيم الشاملة داخل الصفحة


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه
الفصل الأول: آراء ابن القيم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث
المبحث الأول: أقسام الخبر
...
تمهيد
في ذكر إضاءات وقبسات من دُرَرِ كلام العلامة ابن القَيِّم رحمه الله، جعلتها توطئة وتقدمة بين يدي هذا الباب، وأجملها في النقاط التالية:
أ - بيان حفظ الله - سبحانه - لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لقد بعث الله - عزوجل - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهُدَى ودين الحق، وأنزل عليه كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأمره بتبليغه إلى الناس كافة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] .
وتَكَفَّلَ - سبحانه - بحفظ هذا الكتاب، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
وقد وَكَلَ إلي نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة البيان للقرآن، فقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .
وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .
فَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خير قيام: يُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، ويُقَيِّدُ مطلقه، ويشرح ألفاظه، ويُوَضِّحُ أَحْكامه ومعانيه، فكان هذا البيان منه صلى الله عليه وسلم هو سُنَّتَه التي بين أيدينا.
(1/325)
ولما كان هذا البيان منه صلى الله عليه وسلم بياناً لكتاب الله، فإنه كان مؤيداً في ذلك من الله عزوجل، وكانت سُنَّتُه وحياً من عند الله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .
وقال عزوجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيتُ الكِتَاَب ومثله معه" 1.
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: "والذِّكْرُ اسم واقعٌ على كل ما أَنزلَ الله على نَبِيِّهِ: من قرآنٍ، أو سُنَّةٍ وحيٍّ يبيِّنُ بها القرآن"2.
وفيما يلي نصوص فريدة عن العلامة ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الموضوع:
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى بالتوضيح والبيان، فقال مرة - بعد أن ذكر جملة من الآيات الدالة على أن السنة وحي من الله - قال: "فَعُلِمَ أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله.
__________
1 أخرجه أحمد في المسند (4/131) ، وأبو داود (5/10) ح 4604 ك السنة، باب في لزوم السنة، وابن حبان في صحيحه - الإحسان (1/107) ح 12. قال الشيخ الألباني: "صحيح". (صحيح الجامع ح 2643) .
2 الإحكام في أصول الأحكام: (1/36) .
(1/326)
وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] ، فالكتاب: القرآن، والحكمة: السنة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإني أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه"، فأخبَر أنه أُوتي السُّنَّة كما أُوتي الكتاب"1.
وقال - رحمه الله - في موضع آخر: "إن كلَّ ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله وهو ذكرٌ من الله أنزله على رسوله"2.
فإذا تبين أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذكر الذي أنزله الله عليه، فإنها بذلك تكون داخلة في الوعد الذي قطعه - سبحانه - على نفسه بحفظ هذا الذكر حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فتكون السنة محفوظة - بحفظ الله عزوجل لها - من طعنِ الطاعنين، وعبث العابثين، وكذب الكاذبين.
* وقد عبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذا الحفظ الإلهي للسنة النبوية، فقال: "وقد تكفل الله سبحانه بحفظه - يعني الذكر - فلو جاز على حُكْمِهِ - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الكذبُ والغلطُ والسّهوُ من الرواة، ولم يقم
__________
1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/371 - 372) . طبعة / دار الفكر.
2 المصدر السابق: (2/481) .
(1/327)
دليلٌ على غَلَطِهِ وسهوِ نَاقِلِه، لَسَقَطَ حُكْمُ ضَمَانِ الله وكفالَتِهِ لحفظه، وهذا من أعظم الباطل ... "1.
وقال رحمه الله: "والله تعالى قد ضَمِنَ حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه، ليقيم به حُجَّتَهُ على العباد إلى آخر الدهر ... فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذباً، لم تكن من عند الله، ولا كانت مما أنزل الله على رسوله وآتاه إياه، تفسيراً لكتابه وتبييناً له.
وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذباً في نفس الآمر؟ فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد، فهي التي تُعَرِّفُنا مراد الله من كتابه، فلو جاز أن تكون كذباً وغلطاً، لبطلت حجة الله على العباد ... "2.
وهذا ظاهر في أن الله - عزوجل - قد تكفل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ هي بيان لكتابه الكريم، ولو لم يكن هذا الْمُبَيِّن محفوظاً، بحيث لم يُدْرَ صَحِيحهُ من خطئه، ولا صِدْقُهُ من كذبه، لعدم الانتفاع به والاعتماد عليه في معرفة مراد الله من كتابه، وهذا من أبطل الباطل، بل هو محال.
وإن من مظاهر هذا الحفظ لسنته صلى الله عليه وسلم: ما قام به علماء الإسلام وجهابذته من جهد ظاهر، وعمل دؤوب مُضْنٍ، في سبيل جمع هذه السنة وتدوينها، ووضع القواعد التي تضبط روايتها، وتحدد قبولها من ردها، وتمحص أحوال نقلتها ورواتها.
__________
1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/481) .
2 مختصر الصواعق المرسلة: (2/372) .
(1/328)
ولأجل ذلك، لَمَّا سُئل عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عن هذه الأحاديث المصنوعة الموضوعة؟ أجاب قائلاً: "يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} "1.
فعدَّ - رحمه الله - جهود هؤلاء الجهابذة في تنقيتها وتمحيصها، من تمام حفظ الله - عز وجل - لدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد نوَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - بجهد هذه الطائفة المنصورة المؤيدة، واعتبر ذلك من تمام حفظ الله لهذا الدين، فقال: "والله - عزوجل - يؤيد من ينافح عن رسوله صلى الله عليه وسلم تأييداً خاصاً، ويفتح له في معرفة نقد الحق من الباطل فتحاً مبيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه، فإنه لا يزال من عباده طائفة قائمة بنصرته إلى أن يأتي أمر الله"2.
فَتَخَلَّصَ من ذلك: تأكيد ابن القيم رحمه الله أن هذه السنة النبوية المطهرة لما كانت من وحي الله - عزوجل - الْمُنَزَّلِ، فإنه - سبحانه - قد ضَمِنَ حفظها وصيانتها، وتأييد من يقوم بنصرتها.
ب - بيان وجوب اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمها:
لما كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنزلة التي قدمنا، وعلى الأهمية التي وصفنا، فقد وجب على كل من أراد معرفة الله - عزوجل -
__________
1 الجرح والتعديل: (1/18) ، وتدريب الراوي: (1/282) .
2 رسالة الموضوعات: (ق43/ب) .
(1/329)
وعبادته على بصيرة أن يتخذ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم طريقاً إلى تحقيق ذلك، وأن يعبده سبحانه على وفق ما جاء به صلى الله عليه وسلم عن ربه.
ولقد حَذَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَرْكِ سنته والإعراض عنها، بدعوى أنه لا نظير لها في القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا أُلْفِيَنَّ أحدكم مُتَّكِئَاً على أَرِيكَتِهِ، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 1.
ومن كان على هذه الشاكلة - والعياذ بالله - فهو على خطر عظيم، وشرٍّ جسيم، إذ يُفَرِّق بين كتاب الله عزوجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مع أن الكلَّ من عنده سبحانه.
هذا، مع مخالفة أمره - سبحانه - باتباع نبيه في كل ما جاء به، والأخذ عنه؛ إذ قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وقد وقفت على كلمات رائعة لابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الخصوص، فمنها:
قال رحمه الله - في بيان خطر هؤلاء الذين يتركون السنن إذا لم يكن لها نظير في القرآن، وذلك عند رَدِّهِ على من نازع في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيتها -:
__________
1 أخرجه: أبو داود في سننه: (5/12) ؛ 4605 ك السنة، باب في لزوم السنة، وابن ماجه في المقدمة: (1/6) ح13، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الشيخ الألباني كما في (تخريج المشكاة) : (ح 162) .
(1/330)
"بل غايتها - يعني هذه السنة - أن تكون بياناً لحكم سَكَتَ عنه الكتابُ، ومثل هذا لا تُردُّ به السنن، وهذا الذي حَذَّرَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه: أن تُتْرَك السنة إذا لم يكن لها نَظِيْرُ حُكْمِهَا في القرآنِ"1.
يشير - رحمه الله - بذلك إلى الحديث الماضي ذكره.
ويقول - رحمه الله - في مناسبة أخرى - مؤكداً وجوبَ التسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو خالفه من خالفه، وذلك عند رَدِّهِ على من عارض حديث الصيام عن الميت -: "ولا سبيل إلى مقابلته - يعني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، بل الخيرة كلُّ الخيرة في التسليم له والقولِ به، ولو خالفه مَنْ بين المشرقِ والمغرب"2.
وقال - رحمه الله - في خطبة (تهذيب السنن) 3 محذراً من ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لآراء الرجال: "فما ظَنُّ من اتَّخَذَ غير الرسول إمَامَه، ونَبَذَ سُنَّتَهُ وراء ظهرهِ وجعل خواطر الرجال وآراءها بين عينيه وأَمَامَهُ، فسيعلمُ يوم العرض: أي بضاعة أضاع، وعند الوزن: ماذا أحضر من الجواهر أو خُرْثِيِّ4 المتاع".
__________
1 زاد المعاد (5/692) .
2 الروح: (ص183) .
(1/7) .
4 الخُرْثِي: أردأ المتاع والغنائم، وهي سَقَطُ البيت من المتاع. (لسان العرب: ص1124 مادة: خرث) .
(1/331)
ونبَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضرورة العمل بما صحَّ من حديثه صلى الله عليه وسلم، وإن كثر المخالفون، فقال - في الرد على من قدم عمل أهل المدينة على السنن الثابتة -: "وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حُجَّةً على بعض، وإنما الْحُجَّةُ اتباع السُّنَّةِ، ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خِلافِهَا، أو عمل بها غيرهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها، لَتُرِكَتْ السنن وصارت تبعاً لغيرها.
والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عياراً على السنة، ولم تُضْمن لنا العصمة - قط - في عمل مصر من الأمصار دون سائرها ... فمن كانت السنة معه فَعَمَلُهُ هو العمل المعتبر حقاً، فكيف تترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟ "1.
وقال - رحمه الله - في مدح أهل السنة، وبيان صفتهم: "والسنة أجَلُّ في صدورهم من أن يقدموا عليها: رأيا فقهياً، أو بحثاً جدلياً، أو خيالاً صوفياً، أو تناقضاً كلامياً، أو قياساً فلسفياً، أو حكماً سياسياً".
ثم يقول: "فمن قَدَّم عليها شيئاً من ذلك: فبابُ الصواب عليه مسدود، وهو عن طريق الرشاد مصدودٌ"2.
__________
1 إعلام الموقعين: (2/380 - 381) .
2 حادي الأرواح: (ص30) .
(1/332)
فهكذا يؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضرورة التمسك بالسنة، وتقديمها على ما سواها، والتحاكم إليها عند التنازع لا إلى آراء الرجال. ويُحَذِّرُ كل التحذير من الإعراض عنها بدعوى عدم وجود حكمها في القرآن.
جـ - بَيَانُ فَضِيْلَةِ الإسنادِ، وأَهَمِّيَتِه فِي نَقْل الأحكامِ الشَّرعِيَّة وتوثيقها.
لقد اختص الله - سبحانه - أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الخصِّيصة الفاضلة- وهي الإسناد - ومَيَّزَهَا بذلك على سائر الأمم.
روى الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) 1 بسنده إلى محمد ابن حاتم بن المظفر، أنه قال: "إِنَّ اللهَ أَكْرَمَ هذه الأمة وشَرَّفَهَا وفَضَّلَهَا بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها - قديمهم وحديثهم - إسنادٌ، وإنما هي صحفٌ في أيديهم، وقد خَلَطُوا بكتبهم أَخْبَارَهُم ... ".
وقال أبو علي الجياني: "خصَّ اللهُ هذه الأمةَ بثلاثةِ أشياء لم يُعطها مَنْ قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب"2.
وما هذه الفضيلة الغالية إلا من تمام نعمته - سبحانه - على هذه الأمة: حفظاً للرسالة الخاتمة، وصوناً لها عن عبث العابثين، لتقوم بها حجة الله على خلقه إلى قيام الساعة.
__________
(ص40) .
2 قواعد التحديث: (ص201) .
(1/333)
إن الإسناد هو الطريق إلى تلقي الأحكام الشرعية عن سيد المرسلين، وقد أكد الأئمة - رحمهم الله - هذا المعنى، فكان مما نُقِلَ عنهم في ذلك:
ما رواه مسلم في مقدمة (صحيحه) 1، والترمذي في (العلل المفرد) 2، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) 3 بأسانيدهم إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله، أنه قال: "الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لَقَالَ من شاء ما شاء".
وروى مسلم بإسناده إلى ابن المبارك - أيضاً - أنه قال: "بيننا وبين القوم القوائمُ"4. يعني الإسناد.
وروى الخطيب بسنده إلى سفيان بن عيينة رحمه الله، أنه قال: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟ "5.
وقال الزهري - رحمه الله - لإسحاق بن أبي فروة - وقد حَدَّثَ عنده بأحاديث لم يسندها -: "قَاتَلَكَ الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأكَ على الله، لا تُسْنِدُ حديثك؟ تُحَدِّثُنا بأحاديث ليس لها خُطُمٌ ولا أَزِمَّةٌ"6.
والأقوال في هذا المعنى كثيرة مشهورة.
__________
(1/5) .
(5/740) من جامع الترمذي.
(ص41) .
4 مقدمة صحيح مسلم: (1/5) .
5 شرف أصحاب الحديث: (ص42) .
6 معرفة علوم الحديث: (ص6) .
(1/334)
وتظهر أهمية الإسناد، والحرصُ على طلبه والسؤال عنه: في أنه وسيلة تمييز الأخبار، وتمحيص الآثار، فعن طريق النظر في الإسناد يُعْرَف الصحيح من الضعيف، ويُنفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله الحاكم: "فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه: لَدَرَسَ1 منار الإسلام، ولَتَمَكَّنَ أهلُ الإلْحَادِ والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد؛ فإنَّ الأخبارَ إذا تَعَرَّت عن وجودِ الأسانيد فيها كانت بُتْراً"2.
وقد دلَّ صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - وأقواله في أكثر من مناسبة على الاهتمام بأمر الإسناد، والتوقف عن قبول ما ليس له إسناد، فمن الأمثلة على ذلك:
قوله - رحمه الله - في حديث مالك بن يَخامِر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: " اللهم صَلِّ على أبي بكر فإنه يحب الله ورسوله ... ": "لا عِلْمَ لنا بصحة هذا الحديث، ولم تذكروا إسنادَهُ لننظر فيه"3.
وقال مرة في حديثٍ: "لم يُذكر لهذا الحديث إسناد فيُنْظَرَ فيه، وحديث لا يُعْلَمُ حالُهُ لا يُحْتَجُّ به"4.
__________
1 دَرَسَ المنزل دُرُوساً: عَفَا وخفيت آثاره. (المصباح المنير: 1/192) .
2 معرفة علوم الحديث: (ص6) . والبُتْرُ: جمع أبتر، وهو المنقطع.
3 جلاء الأفهام: (ص269) .
4 عدة الصابرين: (ص148) .
(1/335)
وقال في حديث صفية في ولادته صلى الله عليه وسلم مختوناً: "ليس له إسناد يُعرف به"1.
وقال - أيضاً - متعقباً ابن عبد البر في حديث ذكره: "ولم يذكر له إسناداً فينظر في إسناده"2.
فهذه بعض أقوال ابن القَيِّم - رحمه الله - في تأكيد أهمية الإسناد، وعدمِ قبولِ الحديث ما لم يُذكر إسناده؛ إذ إن قبوله متوقف على النظر في حال رواته كما تقدم.
وأما ما جاء عنه - رحمه الله - من قوله في قصة إسلام غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإمساكٍ أربع منهن: "فشهرةُ القصةِ تُغني عن إسنادها"3.
وقوله في الآثار المرويَّة عن عمر، وعلي، وعثمان - رضي الله عنهم - في جلد الشارب ثمانين: "وشهرتها تغني عن إسنادها"4.
وقوله عن الشروط العُمَرِيَّة التي كتب بها إلى نصارى أهل الشام: "وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها: فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها"5: فإن
__________
1 تحفة المودود: (ص203) .
2 أحكام أهل الذمة: (2/640) .
3 المصدر السابق: (1/348) .
4 إعلام الموقعين: (1/211) .
5 أحكام أهل الذمة: (2/363 - 364) .
(1/336)
مراده - رحمه الله - بذلك: أن هذه الأحاديث والآثار وإن تكلم في أسانيدها، فإن شهرتها، وتلقى الأمة لها بالقبول، والعمل بمقتضاها يقتضي صحتها ولو كان إسنادها فيه ضعف.
وقد قرَّرَ ذلك كثير من أهل الشأن؛ فقال الحافظ ابن عبد البر - عند كلامه على حديث "البحر هو الطهور ماؤه" -: "وهذا الحديث لا يحتجُّ أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيحٌ؛ لأن العلماء تَلَقَّوهُ بالقبولِ له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء"1.
وقال أيضاً في حديث جابر مرفوعاً: "الدينار أربعة وعشرون قيراطاً": "وفي قول جماعة العلماء، وإجماع الناس على معناه غنىً عن الإسناد فيه"2.
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: "تُعرف صحة الحديث: إذا اشتهر عند أئمة الحديث، بغير نكير منهم"3.
وقال السيوطي: "قال بعضهم: يُحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح"4.
فهذا الذي عناه ابن القَيِّم - رحمه الله - بما قال، والله تعالى أعلم.
__________
1 التمهيد: (16/218 - 219) . وانظر: الاستذكار: (1/198) .
2 تدريب الراوي: (1/67) .
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
(1/337)
الفصل الأول: آراء ابن القَيِّم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث
لقد تتبعت من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - جملاً كثيرةً وحروفاً بارزة يظهر من مجموعها أنه معدود بحق من الأئمة المعنيين بهذا الشأن الْمُبَرِّزَين فيه.
وقد صنفت تلك النصوص بحيث تدخل تحت سبعة عشر باباً من أبواب علوم الحديث، وسأذكرها مرتبة ضمن مباحث هذا الفصل.
على أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاَّمة ابن القَيِّم رحمه الله في حديثه عن هذه الأنواع لم يكن بصدد وضع حدود وتعريفات في هذا الفن، إنما كانت الشواهد في ذلك والنصوص تأتي عرضاً:
إما ضمن مناقشة لخصم، أو ردٍّ على مخالف، أو تأييد اختيار له، فيأتي كلامه في ذلك حسبما يقتضيه الحال ويستدعيه المقام، ولا يعدم الناظر فيها أن يراها نُكَتاً نفيسةً وتعليقات طريفة، وإن كانت لم يُقصد بها الإحاطة بما يتصل بها ولا التقصي له.
وفيما يلي تعداد هذه الأنواع، كل نوع في مبحث، ثم كلامه - رحمه الله - في كل نوع منها، يتخلل ذلك تعليقات مختصرة، وبيان لآراء الأئمة وأقوالهم في كل نوع منها:
(1/341)
المبحث الأول: أقسام الخبر.
المبحث الثاني: الحديث الصحيح.
المبحث الثالث: الحديث الحسن.
المبحث الرابع: المرفوع والموقوف.
المبحث الخامس: المرسل.
المبحث السادس: تعارض الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع.
المبحث السابع: المنقطع
المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس.
المبحث التاسع: الشاذ.
المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد.
المبحث الحادي عشر: الموضوع.
المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته من تردُّ.
المبحث الثالث عشر: رواية المجهول.
المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله.
المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه.
المبحث السادس عشر: مختلف الحديث.
المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقات.
(1/342)
المبحث الأول: أقسام الخبر
الخبر: عند علماء هذا الفن مرادف للحديث.
وقيل: الحديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره.
وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس1.
وعلى هذا القول الأخير: فإن الخبر أعمُّ من الحديث، من جهة شمول الخبر للمرفوع والموقوف، واختصاص الحديث بالمرفوع فقط.
أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا:
ينقسم الخبر باعتبار وصوله ونقله إلينا إلى قسمين:
1- متواتر.
2- وآحاد.
فالمتواتر:
"هو ما نقله من يحصلُ العلمُ بصدقهم ضرورةً، عن مثلهم، من أوله إلى آخره". قاله النووي2 رحمه الله.
وله شروط أربعة، ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهي:
1- أن يرويه عدد كثير، ولا تنحصر هذه الكثرة في عدد معين على الصحيح، وإنما يُشترط أن تبلغ هذه الكثرة مبلغاً بحيث:
__________
1 نزهة النظر: (ص18 - 19) .
2 التقريب: (ص31) .
(1/343)
2- تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأن يقع ذلك منهم اتفاقاً من غير قصد.
3- وأن يستوي الأمر في هذه الكثرة من ابتدائه إلى انتهائه، فتكون الكثرة في جميع طبقات السند.
4- وأن يكون مستند إخبارهم الحسُّ: كمشاهدة أو سماع، لا ما يثبت بقضية العقل الصرف.
فمتى توافرت في الخبر هذه الشروط، وانضاف إلى ذلك: أن يصحبَ خبرهم إفادة العلم لسامعه، كان الخبر متواتراً1.
واتفقوا على إفادة المتواتر العلم اليقيني إذا اجتمعت فيه هذه الشروط، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في صفة المتواتر: " ... المفيد للعلم اليقيني بشروطه"2. وقال الشيخ أحمد شاكر: "أما الحديث المتواتر ... : فإنه قطعي الثبوت، لا خلاف في هذا بين أهل العلم"3.
رأي ابن القَيِّم وإفادته في هذه المسألة:
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة على النحو التالي:
أما الحديث المتواتر:
فقد ذكر أن المتواتر ينقسم إلى قسمين:
__________
1 نزهة النظر: (ص19 - 21) .
2 نخبة الفكر: (ص18) .
3 الباعث الحثيث: (ص35) .
(1/344)
1- متواتر لفظاً ومعنىً.
2- متواتر معنى، وإن لم يتواتر لفظه1.
وبيان ذلك: أن الأخبار إذا اتفقت على معنى كُلِّي مشترك بينها، دون اتفاق ألفاظها، سُمّيَ ذلك: تواتراً معنوياً، كوقائع عمر رضي الله عنه في عدله، وعلي في حروبه، وأبي ذر في زهده؛ فإنها اتفقت على معنى كُلِّي، وهو القدر المشترك بين تلك الوقائع، وهو: شجاعة علي، وعدل عمر، وزهد أبي ذر رضي الله عنهم.
فإن اتفقت - مع ذلك - ألفاظُ هذه الأخبار: كان متواتراً لفظاً ومعنىً2.
هذا فيما يتعلق بتقسيم الخبر المتواتر.
وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الشروط التي يحكم للخبر بمقتضاها بأنه متواتر، فقال:
"كالأخبار الواردة في عذاب القبر، والشفاعة، والحوض، ورؤية الرب تعالى، وتكليمه عباده يوم القيامة ... ونحو ذلك:
- مما يُعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها ... فإنه ما من باب من هذه الأبواب، إلا وقد تواتر فيها المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً معنوياً:
__________
1 مختصر الصواعق: (2/355، 356) . طبعة / دار الفكر.
2 انظر: نظم المتناثر: (ص9) .
(1/345)
-لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة، من وجوه متعددة.
- يمتنع في مثلها - في العادة - التواطؤ على الكذب عمداً أو سهواً"1.
فأشار بذلك - رحمه الله - إلى أنه:
1- يرويه جمع كثير (من وجوه متعددة) .
2- تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
3- ويحصل به - مع ذلك - العلم الضروري لسامعه.
وقد نصَّ في أثناء كلامه على أن هذا من قبيل التواتر المعنوي، وذلك منطبق على الأمثلة التي ساقها.
ثم انتقل - رحمه الله - إلى الكلام عن إفادة هذه الأخبار العلم اليقيني، فقال:
"وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها، تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب ... وتمنع العادة وقوع الغلط فيها: أفادت العلم اليقيني"2.
هذا فيما يتعلق بالمتواتر.
وأما خبر الآحاد:
لغة: ما يرويه شخص واحد.
__________
1 مختصر الصواعق: (2/356) .
2 مختصر الصواعق: (2/356) .
(1/346)
واصطلاحاً: ما لم يجمع شروط المتواتر1.
وينقسم الآحاد إلى: مشهور، وعزيز، وغريب.
- فالمشهور: هو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، وهو "المستفيض" على رأي.
- والعزيز: هو ما رواه اثنان عن اثنين في كل طبقة من طبقاته، وسمي بذلك: إما لقلة وجوده، وإما لقوته بمجيئه من طريق أخرى.
- والغريب: هو ما انفرد بروايته شخص واحد، في أي موضع وقع التفرد من السند2.
وخبر الآحاد يقع فيه المقبول والمردود، بخلاف المتواتر فإنه مقبول كله، لإفادة القطع بصدق مخبره3.
إفادة أخبار الآحاد العلم:
جمهور أهل الحديث، وجمهور أهل الظاهر، وغيرهم: على أن خبر الآحاد يفيد العلم.
وخالف في ذلك: أهل الكلام، وأكثر المتأخرين من الفقهاء، وجماعة من أهل الحديث، فقالوا: لا يوجب العلم.
وقد نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن جماعة كثيرين - منهم:
__________
1 نزهة النظر: (25– 26) .
2 نزهة النظر: (ص 23– 25) .
3 نزهة النظر: (ص 26) .
(1/347)
الشافعي، وابن حزم، وأبو المظفر السمعاني، وشيخ الإسلام بن تَيْمِيَّة - كلاماً طويلاً نافعاً في إثبات إفادة خبر الواحد للعلم1.
وانحصر كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الصدد على إفادة خبر الواحد العلم إذا:
- كان صحيحاً، ورواه الثقات العدول، دون المردود.
- وكان مما تلقته الأمة بالقبول.
قال رحمه الله - عند تناوله أقسام الخبر-: " ... أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن مثله، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال مرة: "وكلامنا في أخبار:
- تلقيت بالقبول،
- واشتهرت في الأمة،
- وصرَّح بها الواحد بحضرة الجمع ولم ينكره منهم واحد"3.
وقال رحمه الله - عقب نقله كلام ابن حزم في إفادة خبر الواحد العلم -: "وهذا الذي قاله أبو محمد حقٌّ في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول: عملاً واعتقاداً، دون الغريب الذي لم يُعرف تلقي الأمة له بالقبول"4.
__________
1 مختصر الصواعق: (2/360 - 412) .
2 المصدر السابق: (2/356) .
3 المصدر السابق: (2/365) .
4 المصدر السابق: (2/389) .
(1/348)
فابن القَيِّم - رحمه الله - يرى أن تلقي الأمة للخبر بالقبول: من أقوى القرائن التي تدل على إفادته العلم1.
ولقد سبق ابنُ الصلاح ابنَ القَيِّم إلى القول بذلك فيما تلقته الأمة بالقبول، لكنه خصَّ ذلك بأحاديث الصحيحين2.
ويُنَبِّه ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أنه: ليس كل خبر من أخبار الآحاد يفيد العلم، كما لا يجوز القطع بأن أخبار الآحاد كلها لا تفيد علماً، وإنما ذلك بحسب الدليل القائم بكل خبر:
- فإن قام دليل كذب الخبر، جُزِمَ بكذبه.
- وإن كان دليل كذبه ظَنِّيًّا، فإنه يُظَن كذبه.
- وإذا لم يقم دليل أحدهما، تُوقف في الخبر.
- وإن قام دليل صدقه جُزِم بصدقه.
- وقد يترجحُ صدقه دون جزم بذلك.
ويرتكز ابن القَيِّم - رحمه الله - في القول بوجوب إفادة خبر الآحاد العلم على حقيقة ثابتة، وهي: أنه إذا حَدَثَ وهمٌ أو خطأٌ أو كذب في الخبر، فلابد من قيام الدليل على ذلك، فيقول: "وسر المسألة: أن خبر العدول الثقات، الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به: هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذباً أو خطأً ولا يَنْصِبُ الله - تعالى - دليلاً على ذلك؟
__________
1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/394) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص 14– 15) .
(1/349)
فمن قال إنه يوجب العلم يقول: لا يجوز ذلك، بل متى وُجدت الشروط الموجبة للعمل به، وجب ثبوت صدق مخبره في نفس الأمر"1.
وقد تقدم بيان أن من تمام حفظ الله - سبحانه - لهذا الدين: أن يقَيِّم الدليل على الخطأ والكذب إذا وقعا في الخبر.
الأدلة على إفادة خبر الواحد العلم:
ثم عقد ابن القَيِّم - رحمه الله - فصلاً في سياق الأدلة على إفادة خبر الواحد العلم، فسرد من ذلك جملة كبيرة، فمن ذلك:
1- أن المسلمين لما أخبرهم مُخْبِرٌ - وهم بقباء في صلاة الصبح - أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة، قَبِلُوا خبره، وعملوا به، ولم يُنْكِر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به - وهو قبلتهم الأولى - لخبر لا يفيد العلم.
2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وفي قراءة: (فتثبتوا) . فهذه الآية دليل على الجزم بقبول خبر الواحد العدل، وأنه لا يحتاج إلى التثبت.
3- أن الله - سبحانه - قد أمر نبيه بالبلاغ، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم، لم يقع به التبليغ الذي تقوم به الحجة على
__________
1 مختصر الصواعق: (2/370) .
(1/350)
العباد؛ إذ إن إرسال عدد التواتر إلى الناس جميعاً متعذر، وكذلك مشافهة النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد.
فقد قامت حجة الله على العباد بما بلَّغَ الثقات من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم.
4- أن هؤلاء المُنْكرين لإفادة خبر الواحد العلم يشهدون شهادة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يَرْوِها عنهم عدد التواتر بحال، فكيف يحصل لهم العلم بأقوال أئمتهم بخبر الواحد، ولا يحصل لهم ذلك بما أخبر به الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع انتشاره في الأمة وتعدد طرقه؟
5- ما تقدمت الإشارة إليه: من أنَّ كلَّ ما حَكَمَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَهُ، فهو من الذكر الذي تَكَفَّلَ الله - سبحانه - بحفظه، فلو جاز على حُكمه الغلط والسهو والكذب من الرواة، ولم يقم دليل على ذلك، لسقطَ حكم ضمان الله وحفظه لهذا الذكر، وهذا من أعظم الباطل.
إلى غير ذلك من الأدلة القوية المفحمة التي ساقها - رحمه الله - في هذا المقام، والتي أوصلها إلى واحد وعشرين دليلاً1.
حُجِّية خبر الواحد في العقائد والأحكام:
إن الذين قالوا بأن أخبار الآحاد لا تفيد علماً، رَتَّبوا على ذلك أموراً، منها قولهم: إن هذا النوع من الأخبار يُحْتَجُّ به في الأحكام دون العقائد؛ إذ إنها لا تفيد عندهم إلا الظن.
__________
1 تنظر هذه الأدلة في "مختصر الصواعق": (2/394 - 405) .
(1/351)
قال ابن القَيِّم رحمه الله مخبراً عن هؤلاء: "وطائفة أخرى ردت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت في باب الصِّفَات، وقَبِلَتْهَا إذا كانت في باب الأحكام والزهد والرقائق ونحوها.
وهؤلاء طوائفُ من أهلِ الكلامِ الْمُبْتَدعِ المذموم ... "1.
ثم بَيَّنَ - رحمه الله - صواب اعتقاد أهل السنة في هذا الباب، وفساد مذهب من سواهم: فقال: "وأهلُ الحديثِ والسُّنَّة يَحْتَجُّون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقَدَرِ، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحدٍ منهم البتة أنه جوَّزَ الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلفُ الْمُفَرِّقِين بين البابين؟ نعم، سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ... فهم الذين يُعْرَفُ عنهم التفريق بين الأمرين، فإنهم قَسَّمُوا الدين إلى مسائل علمية، وعملية، وسموها: أصولاً، وفروعاً ... "2.
وقال مرة: "فإن الذين نقلوا هذه - يعني أحاديث الأحكام - هم الذين نقلوا أحاديث الصفات، فإن جازَ عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرناه، وحينئذ: لا وثوق لنا
__________
1 مختصر الصواعق: (2/444) .
2 المصدر السابق: (2/412- 413) .
(1/352)
بشيء نُقِلَ لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل"1.
فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أقام الأدلة الواضحةَ القوية على زيف قول من قال: إن أخبار الآحاد لا تفيد علماً، كما بين فساد قولهم بأن أخبار الآحاد لا يُحْتَجُّ بها في العقيدة؛ إذ لا فرق بين العقيدة وغيرها من أمور الدين في ذلك كما هي عقيدة أهل السنة في هذا الباب، والله أعلم.
__________
1 مختصر الصواعق: (2/433 - 434) .
(1/353)
المبحث الثاني: الحديث الصحيح
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعريف الحديث الصحيح، وضابطه، وشروطه:
الحديث الصحيح عند أهل الحديث: هو ما اتصل سنده، بنقل العدل الضابط عن مثله، إلى منتهاه، ولم يكن شاذاً ولا معللاً1.
فهذا هو الحديث المحكوم له بالصحة بلا خلاف عند أهل الحديث، وهو ما جمع شروطاً خمسة، وهي:
1- اتصال سنده: بأن يكون إسناده سالماً من سقوط فيه، بحيث يكون كل راوٍ من رواته سَمِعَهُ ممن فوقه.
2- عدالة رواته: والعدل: من له ملكةٌ تحمله على مُلازَمَةِ التقوى والمروءة.
3- ضبط رواته: والضبط نوعان:
أ- ضبط صدر: وهو أن يُثبت ما سمعه، بحيث يستحضره متى شاء.
ب- ضبط كتاب: وهو صيانته لكتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه. وقيَّد ابن حجر الضبط بـ "التام" إشارة إلى الرتبة العليا من ذلك.
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص7 - 8) ، وتدريب الراوي: (1/63) .
(1/355)
4- عدم الشذوذ: والشاذ هو ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.
5- عدم العلة: بأن لا يكون فيه علة خفية تقدح فيه1.
وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - أكثر شروط الحديث الصحيح في عدة مناسبات، وبين أن الحديث لا يصح إلا بتوافر هذه الأمور، فكان مما قال في ذلك:
"فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمورٍ، منها:
1- صحة سنده،
2- وانتفاء عِلَّتِهِ،
3- وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شَذَّ عنهم"2.
ومقصوده - رحمه الله - بصحة السند هنا: كون رواته عدولاً ضابطين؛ فإنه قال ذلك في معرض رَدِّه على الحاكم، إذ صحَّحَ حديثاً بالاستناد إلى ظاهر سنده، وأن رواته ثقات، فقال: "صحيح الإسناد". فرد عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - بأن صحة السند - وهي ثقة الرواة - شرطٌ من شروط صحة الحديث، وليست وحدها الموجبة لصحة الحديث، بل لا بد أن ينضم إليها شروط أخرى.
ثم بَيَّنَ هذه الشروط وَوَضَّحَهَا في موضع آخر، فقال:
__________
1 انظر تفصيل ذلك في: نزهة النظر مع النخبة: (ص29) .
2 الفروسية: (ص46) .
(1/356)
"ثقة الراوي: هي كونه صادقاً لا يتعمد الكذب، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل، وهذا أحدُ الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي".
فأشار - رحمه الله - بذلك إلى وصف العدالة، وبين المقصود بها. ثم قال: "لكن بقي وصفُ الضبط والتحفظ، بحيث لا يُعرف بالتغفيل، وكثرة الغلط".
وهذا بيان منه - رحمه الله - للمقصود بشرط الضبط وزيادة تفصيل فيه.
ثم قال: "ووصف آخر: وهو أن لا يشذَّ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يُتابعُ عليه، وليس ممن يُحْتَمَلُ ذلك منه"1. وهذا إشارة إلى اشتراط نفي الشذوذ.
وأشار مرة إلى شَرْطَي العدالة والضبط، مع بيان معناهما، فقال: "فلم يُشترط فيها - أي الرواية - عددٌ، ولا ذكوريةٌ، بل اشْتُرِطَ فيها: ما يكون مُغَلِّباً على الظنِّ صدقَ الْمُخْبرِ، وهو: العدالة المانعة من الكذب، واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.
__________
1 الفروسية: (ص53) .
2 بدائع الفوائد: (1/5) .
(1/357)
وقد أكَّد - رحمه الله - أهمية توافر الضبط والعدالة في الراوي، وأنهما أساس الراوية، فقال في ابن إسحاق: "وثَّقَهُ كبار الأئمة، وأثنوا عليه بالحفاظ والعدالة اللذَيْن هما ركنا الرواية"1.
ومن أحكام العدالة التي ذكرها ابن القَيِّم:
أنَّ وقوع الراوي في بعض الذنوب لا يُنافي العدالة، فقاله رحمه الله: "قد يُغلط في مسمى العدالة، فَيُظَن أن المراد بالعدل: من لا ذنب له. وليس كذلك، بل هو عدلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا ينافي العدالة، كما لا يُنافي الإيمان والولاية"2.
وهذا المعنى قد أكدَّه الأئمة - رحمهم الله - قبل ابن القَيِّم، فروى الخطيب في (الكفاية) 3 بسنده إلى سعيد بن المسيب - رحمه الله - أنه قال: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيبٌ لابدَّ، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه، وُهِبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ".
وروى بسنده أيضاً إلى الشافعي - رحمه الله - أنه قال كلاماً قريباً من ذلك4.
فهذه أبرز شروط الحديث الصحيح كما قررها ابن القَيِّم رحمه الله، وقد وافق بذلك ما ذهب إليه أئمة الشأن في كلامهم على الصحيح وشروطه وضوابطه.
__________
1 جلاء الأفهام: (ص6) .
2 مفتاح دار السعادة: (1/163) .
(ص: 137 - 138) .
4 الكفاية: (ص 138) .
(1/358)
المسألة الثانية: في الفرق بين قولهم: "حديث صحيح"، وقولهم: "إسناده صحيح".
تقدَّم في المسألة التي قبل هذه: بيانُ ابن القَيِّم - رحمه الله - لعدم التلازم بين ثقة الرواة وصحة الإسناد، وبين صحة الحديث نفسه.
فإذا تقرر ذلك، فإنه ينبغي التفريق بين قولهم لحديث: "حديث صحيح"، وقولهم: "إسناده صحيح".
وقد نَبَّه على هذه المسألة ابن الصلاح رحمه الله، فقال في "مقدمته"1: "قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد، دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حسن، لأنه قد يُقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً".
وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم هذا المعنى في أكثر من موضع من كتبه، وفي عدة مناسبات، فقال مرة: "ومن له خبرة بالحديث يُفَرِّقُ بين قول أحدهم: هذا حديث صحيح، وبين قوله: إسناده صحيح. فالأول: جَزْمٌ بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: شهادة بصحة سنده، وقد يكون فيه علةٌ أو شذوذ، فيكون سنده صحيحاً، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه"2.
ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مُطَبِّقَاً لهذا المبدأ في تعامله مع النصوص الحديثية وحكمه عليها، فمن ذلك:
قوله في حديث رواه عبد الرزق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حَلَفَ على يمين،
__________
(ص19) .
2 مختصر الصواعق: (2/478) .
(1/359)
فقال: إن شاء الله، لم يحنث" قال رحمه الله: "وهذا الإسناد متفق على الاحتجاج به، إلا أن الحديث معلول"1.
وقال في حديث وقوع الفأرة في السمن، وما جاء في رواية: معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة من التفرقة بين الجامد والمائع، قال: "ولَمَّا كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صحح الحديث جماعة، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحُكِيَ عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه، ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"2.
فهذه بعضُ أمثلة من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - تُوَضِّحَ تفرقته بين صحة السند وصحة المتن، وأن الحديث الذي يصح سنده ويكون فيه علة لا يقال له: حديث صحيح، وإن قيل له: صحيح الإسناد.
المسألة الثالثة: حول (الصحيحين) البخاري ومسلم:
وتحت هذه المسألة فروع:
الفرع الأول: في أن (صحيح البخاريِّ) أصحُّ الكتب الْمُصَنَّفَةِ في الصحيح.
قال الإمام النووي - رحمه الله - في معرض كلامه على
__________
1 تهذيب السنن: (4/360) .
2 تهذيب السنن: (5/340) .
(1/360)
(الصحيحين) : " ... وصحيح البخاري أَصَحُّهُما، وأكثرهما فوائد ... "1.
وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقديم البخاري في ذلك، فقال عنه: "أجَلُّ من صَنَّفَ في الحديث الصحيح"2.
وقد أفاد رحمه الله: أن تقديم البخاري وترجيح كتابه راجعٌ إلى دقة نظره، وشدة انتقائه، فقال في حديث أبي هريرة في الرجل الذي رأى رؤيا وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيها: "وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوتَ، ثم أخذ به رجلٌ آخر فعلا ... ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فعلا به ... "3. قال رحمه الله:
"فلفظة: (ثم وصل له) فلم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه: ... (ثم وصل) فقط، وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به ... وهذا مما يبينُ فضلَ صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة (له) ... وإنما انفرد بها مسلم"4.
الفرع الثاني: في أنهما - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما:
فإنه قد جاء عنهما التصريح بعدم استيعابه، قال ابن الصلاح: "روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صحَّ، وتركت من الصحاح لملال الطول"5.
__________
1 شرح مسلم: (1/14) .
2 زاد المعاد: (1/303) .
3 انظر: صحيح البخاري: ك التعبير، باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب ح 7046، ومسلم: (4/1777) ح 17 (2269) .
4 تهذيب السنن: (7/20) .
5 مقدمة ابن الصلاح: (ص10) .
(1/361)
وسئل الإمام مسلم - رحمه الله - عن حديث؟ فقال: "هو عندي صحيح". فقيل له: لِمَ لَمْ تَضَعْهُ ههنا؟ قال: "ليس كلُّ شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"1.
وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الأمر مراراً، وردَّ بذلك على من يُعِلُّ حديثاً بعدم إخراج البخاري ومسلم له، فكان مما قال في ذلك: "وتَرْكُ إخراج أصحاب الصحيح له - يعني حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين ... " - لا يدل على ضعفه، كغيره من الأحاديث الصحيحة التي تركا إخراجها"2.
وقال مرة رداً على من أعلَّ حديثاً بذلك: "وتَرْكُ رواية البخاري له لا يوهنه، وله حكمُ أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه؛ فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح"3.
وقال عن حديث: "من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال ... ": "فإن قيل: فَلِمَ لا أخْرَجَهُ البخاري؟ قيل: هذا لا يلزم؛ لأنه - رحمه الله - لم يستوعب الصحيح"4.
__________
1 صحيح مسلم: (1/304) ح 63.
2 الفروسية: (ص38) .
3 إغاثة اللهفان: (1/294) .
4 تهذيب السنن: (3/312) .
(1/362)
الفرع الثالث: في رواية البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن بعض من تُكُلِّمَ فيه.
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية، فبين أن من أخرجا له ممن تُكُلِّمَ في حفظه، فإنهما لم يخرجا له اعتماداً، وإنما أخرجا له ما عَلِمَا أنه قد تُوبعَ عليه.
قال - رحمه الله - في حديث أبي أيوب مرفوعاً: " من صام رمضان، ثم أتبعه بستِّ من شوال ... " - وقد أخرجه مسلم1 من حديث سعد بن سعيد الأنصاري، وقد تُكُلِّمَ فيه بسببه –:
"سَلَّمنا ضعفه، لكنَّ مسلماً إنما احتج بحديثه لأنه ظَهَرَ له أنه لم يخطئ فيه بقرائن ومتابعات، ولشواهد دَلَّتْهُ على ذلك، وإن كان قد عُرِفَ خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حُكْمُ كثير من الأحاديث التي خَرَّجَاها وفي إسنادها من تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعاً"2.
وقد تناول ابن حجر هذه القضية، وأكد أن من أخرجا له ممن وُصِفَ بالغلط وسوء الحفظ، فإن ذلك يكون في المتابعات لا الأصول3.
__________
1 صحيح مسلم: (2/822) ح 204، (1164) ك الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال....
2 تهذيب السنن: (3/312) .
3 هدي الساري: (ص384) .
(1/363)
المسألة الرابعة: في الصحيح الزائد على الصحيحين، ومن أين يُتَلَقَّى؟
تَقَدَّم أن أصحاب الصحيحين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك، ومن ثَمَّ فقد بقي خارج الصحيحين كثير من الأحاديث الصحيحة.
ومن الكتب التي هي مَظِنَّةُ وجود الصحيح غير الصحيحين، مما كان لابن القَيِّم كلام عليها:
أولاً: (المستدرك) للحاكم: وفيه بعض المسائل:
المسألة الأولى: مراد الحاكم بقوله: "على شرط الشيخين".
أبان الحاكم عن مراده بذلك حين قال في خطبة كتابه: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان - رضي الله عنهما - أو أحَدُهُمَا"1.
وهذا الكلام صريحٌ في أن مراده: أن يكونا قد احتجا بمثل هذا الإسناد، ولكن تصرفه - رحمه الله - يخالف هذا الذي صرَّح به، ويدل على أن مراده: أن يكون رواة هذا الحديث الذي يستدركه عليهما قد خُرِّجَ عنهم بأعيانهم في "الصحيحين".
فإنه - رحمه الله - إذا كان الحديث قد أَخَرَجَا أو أحدهما لرواته، قال: "صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما". وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: "صحيح الإسناد" حسب.
__________
1 المستدرك: (1/3) .
(1/364)
ويُؤَكِّد هذا المعنى ويوضحه: أنه - رحمه الله - حَكَمَ على حديث من طريق أبي عثمان بأنه صحيح الإسناد، ثم قال: "وأبو عثمان هو مولى المغيرة، وليس هو بالنهديّ، ولو كان النهدي لحكمتُ بصحته على شرطهما"1.
ولأجل ذلك، فقد ذهب ابن الصلاح، والنووي، وابن دقيق العيد، والذهبي إلى أن مراده بقوله: "على شرطهما": أن يكون رجال الإسناد المحكوم عليه بأعيانهم في كتابيهما2.
وخالف في ذلك العراقي3، فحمل كلامه على المعنى الأول الذي أشار إليه في خطبة كتابه، ولكن رده الحافظ ابن حجر مؤيداً ما ذهب إليه الجماعة المتقدمون بأمثلة وبيان4.
وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - في فهمه لكلام الحاكم إلى ما ذهب إليه الأكثرون، ومن ثَمَّ كان كثيراً ما يتعقبه عندما يخالف في أحكامه هذا الاصطلاح، ومن الأمثلة في هذا الصدد:
أن الحاكم قد صحح حديثاً على شرط مسلم، فتعقبه ابن القَيِّم بقوله:
"في إسناده حسين بن عبد الله، ولم يخرج له في الصحيحين"5.
__________
1 المستدرك: (4/249) . وانظر: نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (1/320) .
2 تنظر أقوالهم في: مقدمة ابن الصلاح: (ص11) ، وتدريب الراوي: (1/127) ، وفتح المغيث: (1/44) .
3 التقييد والإيضاح: (ص30) .
4 النكت على ابن الصلاح: (1/319 - 321) .
5 تهذيب السنن: (4/30) .
(1/365)
كما أن الحاكم - رحمه الله - في حكمه على الحديث بأنه على شرطهما: لم يراع حالهما وتصرفهما مع بعض الرواة، بل جعل ذلك أمراً مطلقاً في كل راوٍ رآه في كتابيهما.
فمن ذلك: أنهما قد يخرجا للشخص في المتابعات دون الأصول، فيطلق الحاكم القول في هذا الراوي: أنه على شرطهما.
ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أنه روى حديثاً من طريق: الزهري، عن ابن إسحاق، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - في فضل السواك، ثم قال: "صحيح على شرط مسلم" فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم يصنع الحاكم شيئاً؛ فإن مسلماً لم يروِ في كتابه بهذا الإسناد حديثاً واحداً، ولا احتج بابن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"1.
وقال في حديث من رواية ابن إسحاق صححه الحاكم على شرط مسلم: "وفي هذا نوع مساهلة منه؛ فإن مسلماً لم يحتجَّ بابن إسحاق في الأصول، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"2.
ومن ذلك أيضاً: أن البخاري ومسلماً قد يحتجان براوٍ وشيخه كل على انفراد، ولا يحتجان بهذين الراويين إذا اجتمعا وكانت رواية هذا
__________
1 المنار المنيف: (ص21) .
2 جلاء الأفهام: (ص5) .
(1/366)
التلميذ عن ذلك الشيخ؛ وذلك: لضعفه فيه، أو عدم سماعه منه أو غير ذلك من الأسباب. فيأتي الحاكم فيحكمُ على حديث من رواية هذا الراوي عن هذا الشيخ بأنه على شرطهما، وذلك لمجرد وجود هذين الراويين في كتابيهما.
ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أن الحاكم قال في حديث تضمين العارية من رواية الحسن عن سمرة: "على شرط البخاري"، فرد عليه ابن القَيِّم قائلاً:
"وفيما قاله نظر؛ فإن البخاري لم يخرج حديث العقيقة في كتابه من طريق الحسن عن سمرة ... "1.
يعني على القول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة.
ومن ذلك أيضاً: أن صاحب الصحيح قد يَطَّرِحُ من حديث الثقة ما يعلم أنه قد غلط فيه، فيأتي الحاكم فيستدرك عليه جميعَ حديث هذا الثقة، دون نظرٍ إلى طريقة صاحب الصحيح في استبعاد بعض حديثه.
وفي هذا المعنى يقول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فغلط في هذا المقام من استدرك عليه جميع حديث الثقة - يعني الحاكم - "2.
فهذه الأمثلة كلها من تصرف الحاكم تؤكد مراده بقوله على شرطهما، وأنه يقصد وجود هؤلاء الرواة أنفسهم في الصحيحين، وتعقبات ابن القَيِّم عليه - كما مضى - تؤكد حمله اصطلاحه على هذا المعنى.
__________
1 تهذيب السنن: (5/197-198) .
2 زاد المعاد: (1/364) .
(1/367)
المسألة الثانية: تساهل الحاكم:
قضى الأئمة على الحاكم بأنه متساهل في شرط الصحيح، فقال ابن الصلاح: "وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به"1. وَوَصَفَهُ بذلك النووي2 - أيضاً - وغيره.
وقد وَضَعَهُ ابن القَيِّم - أيضاً - في مرتبة المتساهلين في التصحيح: فقال مرة - وهو يتكلم على حديث: "من عشق فعفَّ ... " - "وأنكره أبو عبد الله الحاكم على تساهله"3.
وقال مرة: " ... مع فرط تساهله فيما استدركه عليهما"4.
ولذلك كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يتعقبه في تصحيحاته، فمن ذلك:
أن الحاكم صحَّحَ حديثاً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد من رواية: يحيى بن السباق، عن رجل من آل الحارث، عن ابن مسعود مرفوعاً، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وفي تصحيح الحاكم لهذا نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن يحيى بن السباق وشيخه غير معروفين بعدالة ولا جرح"5.
وصَحَّحَ الحاكم حديثاً في المسح على الخفين وفيه مجهولون، فقال
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .
2 انظر: تدريب الراوي: (1/105) .
3 الجواب الكافي: (ص366) .
4 الفروسية: (ص58) .
5 جلاء الأفهام: (ص20) .
(1/368)
ابن القَيِّم: "والعجب من الحاكم، كيف يكون هذا مُسْتَدركاً على الصحيحين، ورواته لا يُعْرَفون بجرح ولا تعديل؟! "1.
المسألة الثالثة: بيان مرتبة تصحيح الحاكم:
أما عن مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته، فقد قال ابن الصلاح- بعد أن حكى تساهل الحاكم-: "فالأولى أن نتوسط في أمره، فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة: إن لم يكن من قبيل الصحيح، فهو من قبيل الحسن، يُحْتَجُّ به ويُعمل به، إلا أن تظهر عِلَّةٌ توجب ضعفه"2. ووافق النوويُّ ابنَ الصلاح على ذلك، ولكنه حَصَرَهُ في الحسن فقط3.
وتعقبهما البدر ابن جماعة، فقال: "والصواب: أن يُتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف". نقله عنه العراقي وصَوَّبَهُ4.
وإذا كان ما ذهب إليه ابن الصلاح والنووي في ذلك يُعَدُّ نوعاً من التساهل - إذ من شأنه أن يؤدي إلى تصحيح الضعيف - فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد تّشَدَّدَ جداً في مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته:
فقال مرةً - وقد صحح الحاكم على شرط مسلم حديث
__________
1 تهذيب السنن: (1/118) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .
3 انظر: تدريب الراوي: (1/107) .
4 التقييد والإيضاح: (ص30) .
(1/369)
عائشة - رضي الله عنها - في تفضيل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك-: "لم يصنع الحاكم شيئاً ... وهذا وأمثاله هو الذي شان كتابه وَوَضَعَهُ، وجعل تصحيحه دون تحسين غيره"1.
وقال مرة - يرد على الحاكم تصحيحه إسناد حديث المُحَلِّل -: " ... ولا يَعْبَأُ الحُفَّاظ - أطباء الحديث - بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً ألبتة، بل لا يدل تصحيحه على حُسْنِ الحديث، بل يُصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث ... والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه"2.
وقال مرة في كلامه على الحديث نفسه: " ... وبالجملة: فتصحيح الحاكم لا يستفاد منه حسن الحديث ألبتة، فضلاً عن صحته"3.
وهذا منه - رحمه الله - مبالغة وتشدد، والأولى والأليق في ذلك ما سبق في كلام ابن جماعة رحمه الله: من تتبع ما حكم عليه، ووضع كل حديث منها - بعد دراسته - في المرتبة اللائقة به؛ ذلك أن (المستدرك) فيه "شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل ... وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث - نحو المائة - يشهد القلب ببطلانها" كما قال الذهبي4.
__________
1 المنار المنيف: (ص21) .
2 الفروسية: (ص46) .
3 الفروسية: (ص52) .
4 سير أعلام النبلاء: (17- 175) .
(1/370)
ومن مظان وجود الصحيح الزائد على الصحيحين أيضاً:
ثانياً: "جامع الترمذي":
قال ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة ... كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي"1.
وقد وَصَفَ ابن القَيِّم - رحمه الله - الترمذي بشيء من التساهل في التصحيح، فقال مرةً في حديث عليٍّ رضي الله عنه في ترخيص النبي في الجمع بين اسمه وكنيته بعد وفاته، وقول الترمذي عنه: "حسن صحيح":
"وحديث عليٍّ رضي الله عنه في صحته نظرٌ، والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح"2.
وقال مرةً: "مع أن الترمذيَّ يُصَحِّحُ أحاديثَ لم يُتَابعْهُ غيرهُ على تصحيحها، بل يصحح ما يُضَعِّفُهُ غيره أو يُنْكِرُهُ"3.
وقد حَكَمَ بتساهل الترمذي أيضاً: الحافظ الذهبي، ولكنه أسرف في ذلك وبالغ، فقال في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف:
"وأما الترمذي: فقد روى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين، وصححه؛ فلهذا لا يَعْتَمِدُ العلماء على تصحيح الترمذي"4.
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .
2 زاد المعاد: (2/348) .
3 الفروسية: (ص45) .
4 الميزان: (3/ 407) .
(1/371)
وقال مرة أخرى: " ... فلا يُغْتَرُّ بتحسين الترمذي، فعند الْمُحَاقَقَةِ: غَالِبُهَا ضِعَافٌ"1.
ولا شكَّ أن هذا غير مقبول من الذهبي رحمه الله، ولذلك فقد رَدَّهُ الحافظ العراقي بقوله: "وما نقله عن العلماء من أنهم لا يعتمدون تصحيح الترمذي: ليس بجيد، وما زال الناس يعتمدون تصحيحه"2.
ولذلك فإن ما قاله ابن القَيِّم أقرب إلى الواقع، وأليقُ بحال الترمذي ومكانة (جامعه) ؛ فإنه لم يجعل التساهل عاماً في أحكام الترمذي، شاملاً لكل كتابه، وإنما قال: "فيه نوع تساهل في التصحيح" وقال: "يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها". فهو يخالف في تصحيح بعض الأحاديث، وهذا - لا شك - أولى من إطلاق القول بتساهله، وعدم الاعتماد على أحكامه.
ومما يدل على تحفظ ابن القَيِّم نفسه في ذلك الحكم، وعدم إهداره أحكام الترمذي - كما قال غيره -: أنه يعتمد كثيراً أحكام الترمذي، وينقلها محتجاً بها ساكتاً عليها، يعرفُ ذلك كلُّ من طالع كتب ابن القَيِّم.
وعلى كل حال، فإن هذا الكلام لا يقلل من مكانة الإمام الترمذي وكتابه.
__________
1 الميزان: (4/416) .
2 الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: (ص241) نقلاً عن (شرح الترمذي) للعراقي.
(1/372)
ثالثاً: "صحيح ابن حبان":
وهو من الكتب التي يُعتمد عليها في معرفة الصحيح أيضاً؛ فقد التزم فيه مؤلفه الصحة، وهو وإن كان خيراً من المستدرك بكثير1، إلا أنه قد وقع له نوع تساهل أيضاً، وجعله ابن الصلاح مقارباً للحاكم في التساهل2.
وابن القَيِّم - رحمه الله - يعتمد تصحيح ابن حبان في الكثير الغالب، مما جعله يحتج أحياناً ببعض الضعيف من "صحيحه"3.
ومع ذلك، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انتقد ابن حبان من جهة أخرى؛ وذلك أنه قال في حقه: "وابن حبان كثيراً ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف"4.
وقد استشهد ابن القَيِّم على هذه الدعوى بمثالين، وتبين بعد الدراسة: أن أحدهما قد صحَّ مرفوعاً، رواه كذلك غير واحد ولم ينفرد برفعه ابن حبان5. والحديث الآخر: الصواب فيه الوقف، ولكن شارك ابن حبان في روايته مرفوعاً جماعة؛ منهم: أحمد، وأبو يعلى وغيرهما6، ولم ينفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً.
__________
1 اختصار علوم الحديث - ابن كثير: (ص27) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .
3 ينظر على سبيل المثال: زاد المعاد: (1/43 –44) ، (3/204-205) .
4 أحكام أهل الذمة: (2/622) .
5 انظر حديث رقم: (128) من قسم الأحاديث.
6 انظر حديث رقم: (123) من قسم الأحاديث.
(1/373)
وعلى كل حال، فإن هذا الحكم من ابن القَيِّم - رحمه الله - لم أر من أطلقه على ابن حبان غيره، ولو وقع في (صحيح ابن حبان) شيء من ذلك، فهل يكون بالكثرة التي وصف ابن القَيِّم؟؟ الأمر يحتاج إذن إلى دراسة وتتبع لما انفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً والناس يروونه موقوفاً، وحينئذٍ يمكن معرفة صحة دعوى ابن القَيِّم من عدمها.
المسألة الخامسة: في فوائد متفرقة تتعلق بالحديث الصحيح.
الفائدة الأولى: في قولهم لحديثين: "هذا أصح من هذا".
إذا قيل لحديث: إنه أصح من حديث، فهل يلزم من ذلك صحة هذا الحديث الْمُرَجَّحِ مطلقاً؟
نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على ذلك، وبين أن ذلك قد يكون من باب "التصحيح الْمُقَيَّدِ"، أو "التصحيح النسبي".
فقد قال أبو داود في حديث ركانة: أنه طَلَّقَ امرأته ألبتة، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة ... فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً ... "1. فاعترضه المنذري قائلاً: "وفيما قاله نظر"2. فرد ابن القَيِّم على المنذري بقوله: " ... فإن أبا دود لم يَحْكُمْ بصحته، وإنما قال بعد روايته: هذا أصحُّ من حديث ابن جريج ... وهذا لا يدل على أن الحديث عنده
__________
1 سنن أبي داود: (2/657) ك الطلاق، باب في البتة.
2 مختصر السنن: (3/134) .
(1/374)
صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وهذا صعيف أيضاً، فهو أصح الضعيفين عنده.
وكثيراً ما يُطلق أهل الحديث هذه العبارة على أرجح الحديثين الضعيفين، وهو كثير في كلام المتقدمين، ولو لم يكن اصطلاحاً لهم، لم تدل اللغة على إطلاق الصحة عليه؛ فإنك تقول لأحد المريضين: هذا أصح من هذا، ولا يدل على أنه صحيح مطلقاً، والله أعلم"1.
الفائدة الثانية: في معنى قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في معنى هذه العبارة: "إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك جَزْمٌ منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين: إن المراد بالصحة: صحة السند، لا صحة المتن. بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم: صحة الإضافة إليه، وأنه قاله"2.
ثم بَيَّن - رحمه الله - أن بين "صحة السند"، و" صحة الحديث" فرقاً، فلذلك لا يصح حمل قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" على صحة السند. وقد تقدم الكلام على الفرق بين صحة السند، وصحة الحديث3.
__________
1 تهذيب السنن: (3/134) .
2 مختصر الصواعق: (2/478) .
3 انظر ص: (359) .
(1/375)
الفائدة الثالثة: عدم جواز الجزم بنسبة ما لا يُعلم صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القَيِّم - رحمه الله - عند كلامه على عدم جواز إطلاق حكم الله على ما لا يعلم الشخص يقيناً أنه حكم الله: "وهكذا لا يَسُوغُ أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما لا يُعلَمُ صحته، ولا ثقة رواته، بل إذا رأى أي حديث كان، في أي كتاب، يقول: لقوله صلى الله عليه وسلم. أو: لنا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم، وهذا خطر عظيم، وشهادة على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يَعْلَم الشاهد"1.
قلت: وهذا من باب الاحتياط والتَّثَبُّتِ فيما يُنْسَبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من يَنْسُبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يَعْلَمُ صحته مُعَرَّضٌ للوقوع في الكذب عليهصلى الله عليه وسلم.
وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونبه عليه، فقال - فيما رواه عنه المغيرة بن شعبة وغيره -: "من حدَّثَ عني بحديث يُرَى أنه كَذِبٌ، فهو أحد الكاذبين" 2.
__________
1 أحكام أهل الذمة: (1/20) ، فهو - رحمه الله - يعيبُ من لا يعلم عن ثبوت الحديث شيئاً ومع هذا يورده للاحتجاج فيقول: "لقوله صلى الله عليه وسلم" يعني الحجة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم، أو: "لنا قوله" أي: دليلنا.
2 أخرجه مسلم في (صحيحه) في المقدمة (1/9) باب وجوب الرواية عن الثقات، وترك الكذابين. وابن ماجه في المقدمة أيضاً: (1/14) ح38 - 41. باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو يرى أنه كذب.
وأحمد في مسنده: (4/250) ، وابن عبد البر في التمهيد - المقدمة - (1/41) ، والبغوي في شرح السنة (1/266) ح 123. قال البغوي: "حديث صحيح".
ورمز له السيوطي بالصحة. (الجامع الصغير مع فيض القدير 6/116 ح 8631) ، وصححه الشيخ الألباني (صحيح الجامع ح 6199) .
(1/376)
وذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - في مناسبة أخرى ما كان عليه أهل العلم بالحديث من الجزم بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند تَأَكُّدِهِم من صحته، وتعبيرهم عن ذلك بصيغة التمريض عند عدم تأكدهم من صحته أو شكهم في ذلك، فقال:
"كما كانوا يجْزِمُون بقولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر، ونهى، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك، يقولون: يُذكرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى عنه، ونحو ذلك"1.
ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - ملتزماً هذا المبدأ في تعامله مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمه عليه، فمن ذلك:
أنه - رحمه الله - ذكر حديثين في فضل الفَاغِيَة2، ولم يكن متأكداً من صحتهما، ولا عارفاً بحالهما، فَصَدَّرَهُمَا بصيغة التمريض: (رُوِيَ) ، ثم قال: "والله أعلم بحال هذين الحديثين، فلا نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا نعلم صحته"3.
__________
1 مختصر الصواعق: (2/478) .
2 هي نَوْرُ الحناء. وقيل: نور الريحان ... وقيل: فَاغِيَةُ كلُّ نَبْتٍ: نوره. والنَّوْرُ: زهر الشجرة. (النهاية: 3/461، ومختار الصحاح: ن ور) .
3 زاد المعاد: (4/348) .
(1/377)
المبحث الثالث: الحديث الحسن
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعريف الحسن، وشروطه:
اختُلِفَ في تعريف الحديث الحسن على أوجه كثيرة، ومن أشهر تعريفاته:
- تعريف الإمام الخطابي رحمه الله، إذ عرفه بأنه: "ما عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله"، قال: "وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء"1.
- وقد اعترض على تعريف الخطابي هذا: بأنه أدخل الصحيح في حد الحسن؛ فإن الصحيح - أيضاً - قد عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله2.
- وعرَّفَه الإمام الترمذي بقوله: "كل حديث يُروى: لا يكون في إسناده مَنْ يُتَّهَم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غيره وجه نحو ذاك: فهو عندنا حديث حسن"3.
ولكن اعْتُرِضَ عليه أيضاً4.
__________
1 معالم السنن: (1/11) .
2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15) ، والاقتراح: (ص163 - 164) .
3 علل الترمذي المطبوعة في آخر "جامعه": (5/758) .
4 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15) ، وتدريب الراوي: (1/155) .
(1/379)
وتعريف الترمذي - على هذا - يدخل فيه: رواية المستور، والضعيف بسبب سوء الحفظ، والموصوفُ بالغلط والخطأ، وحديث المختلط بعد اختلاطه، والمدلس إذا عَنْعَنَ، وما في إسناده انقطاع خفيف، فكل ذلك عند الترمذي من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة الماضية في تعريفه. كما أفاد ذلك الحافظ ابن حجر، وذكر لكل نوع من هذه الأنواع مثالاً مما حَسَّنَه الترمذي في كتابه1.
وقد حَمَلَ ابن الصلاح تعريف الترمذي على أنه منصرف إلى الحسن لغيره، وهو ما اعتضد بمجيئه من غير وجه، وحَمَلَ تعريف الخطابي على الحسن لذاته، فكأن كل واحد منهما قد عَرَّفَ أحد نوعي الحسن2.
وقد عرَّفَه الحافظ ابن حجر رحمه الله: بأنه الحديث الذي جمع شروط الحديث الصحيح، إلا أنه خفَّ - أي قلَّ - ضبط راويه. وهو الحسن لذاته، لا الحسن لغيره الذي حُسْنُهُ بسبب اعتضاده بغيره3.
وقد تعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - في بعض المناسبات لحدِّ الحسن، وبيان بعض ضوابطه، وذلك أثناء دراسته لحديث ميراث الخال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... والخالُ وارث من لا وارث له". حيث حَكَمَ عليه بعضهم بالضعف، فقالوا: إن أحاديثه - يعني ميراث الخال - ضعاف.
فردَّ ابن القَيِّم ذلك بقوله:
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (1/387 - 399) .
2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15 - 16) .
3 النكت على نزهة النظر: (ص91 - 92) .
(1/380)
"وأما قولهم: إن أحاديثه ضعاف: فكلام فيه إجمال، فإن أُرِيدَ بها أنها ليست في درجة الصحاح التي لا علة لها: فصحيح، ولكن هذا لا يمنع الاحتجاج بها، ولا يوجب انحطاطها عن درجة الحسن، بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحِسَانُ؛ فإنها قد تَعَدَّدَت طُرُقُهَا، وَرُوِيَت من جوه مختلفة، وعُرِفَت مخارجها، ورواتها ليسوا بمجروحين ولا مُتَّهَمِين ... وليس في أحاديث الأصول ما يُعَارِضُها"1.
وبالنظر إلى كلام ابن القَيِّم هذا: نجد أنه قد ضَبَطَ الحديث الحسن وحدَّهُ بما حدَّه به الترمذي والخطابيُّ معاً، وكأنه أراد أن يقول: إن أحاديث توريث الخال ينطبق عليها وصفُ الحسن بقسميه، وأنها لا تخرجُ عمَّا ضُبِطَ به الحسن بحالٍ.
المسألة الثانية: مراتب الحديث الحسن.
تتفاوت مراتب الحديث الحسن في القوة كتفاوت الصحيح، وقد أشارَ إلى هذا التفاوت الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند كلامه عن الحسن لذاته، فقال: "وهذا القسم من الحسن مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به - وإن كان دونه - ومشابهٌ له في انقسامه إلى مراتب
__________
1 تهذيب السنن: (4/171) .
(1/381)
بعضها فوق بعض"1. وقال السيوطي: "الحسن - أيضاً - على مراتب كالصحيح"2.
وقد ألمح ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا التفاوت في مراتب الحديث الحسن، بل حدَّدَ - رحمه الله - هذه المراتب في ثلاث: عليا، ووسطى، ودنيا، ومن كلامه في ذلك:
أن حديث عامر بن ربيعة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قد رُويَ من طريقين، في أحدهما: عاصم بن عبيد الله العمري، وفي الآخر: عبد الله ابن عمر العمري، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وإن كان حديثهما فيه بعض الضعف، فرواية هذا الحديث من هذين الوجهين المختلفين يدل على أن له أصلاً، وهذا لا ينزل عن وسط درجات الحسن"3.
وأما المرتبة الثالثة للحديث الحسن عند ابن القيم - وهي أدنى مراتبه - فقد قال - رحمه الله - في حديث تميم الداري في الرجل يُسْلِمُ على يديه الرجل، وأنه أولى الناس بمحياه ومماته، قال:
"وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح، فلا ينحط عن أدنى درجات الحسن"4.
فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يرى أن الحديث
__________
1 نزهة النظر: (ص33) .
2 تدريب الراوي: (1/160) .
3 جلاء الأفهام: (ص29) .
4 تهذيب السنن: (4/186) .
(1/382)
الحسنَ على مراتب متفاوتة في القوة، وأنه ذكر من ذلك: أوسط درجات الحسن، وأدنى درجاته.
ويؤخذ من كلامه هذا - والله أعلم -: أن هناك درجة عليا للحسن، هي فوق الوسطى، ودون أدنى درجات الصحيح.
(1/383)
المبحث الرابع: المرفوع والموقوف
المرفوع:
هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً، لا يقع مطلقه على غيره، متصلاً كان أو منقطعاً1.
والموقوف:
قال النووي: "هو المروي عن الصحابة: قولاً لهم، أو فعلاً أو نحوه، متصلاً كان أو منقطعاً. ويستعمل في غيرهم مقيداً، فيقال: وَقَفَهُ فلانٌ على الزهري ونحوه"2.
ومن المسائل التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما يتعلق بالمرفوع والموقوف:
المسألة الأولى: إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو: يبلغ به.
إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو يَنْمِيهِ3، أو: يَبْلُغُ به، أو: روايةً ونحو ذلك: فإنه مرفوع عند أهل العلم4.
قال ابن الصلاح: "فكل ذلك وأمثاله: كناية عن رفع الصحابي
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص22) ، وتدريب الراوي: (1/183 - 184) .
2 التقريب: (ص6) .
3 نَمَى الحديث إلى فلان: أسنده له ورفعه. (مختار الصحاح: ص681) .
4 انظر: فتح المغيث: (1/122) .
(1/385)
الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمُ ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحاً"1.
وكذا إذا قال الراوي عن التابعي: يرفع الحديث، أو: يبلغ به، ونحو ذلك مما تقدم، فإنه مرفوعٌ أيضاً، قال ابن الصلاح: "ولكنه مرفوع مرسل"2.
وقد نَقَلَ السخاوي - رحمه الله - عن ابن القَيِّم كلاماً في مسألة: قول الراوي عن التابعي: يرفعه أو يبلغ به، فقال في ذلك: " ... مرسل مرفوع بلا خلاف، ولذا قال ابن القَيِّم: جزماً"3.
فالسخاوي - رحمه الله - يستند إلى ما قرره ابن القَيِّم في نفي الخلاف بين أهل العلم في تحديد اصطلاح "مرسل مرفوع"، وعزا ذلك كالإجماع إلى أهل العلم مستدلاً على ذلك بكلام ابن القَيِّم في المسألة.
المسألة الثانية: في قول الصحابي: أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو حَرَّمَ كذا، أو: أوجب كذا.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقول الصحابي: حرَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: أَمَرَ بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا: في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم، إلا خلافاً شاذّاً لا يُعْتدُّ به، ولا يُؤْبَهُ له".
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص24 - 25) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص25) .
3 فتح المغيث: (1/122) .
(1/386)
ثم بَيَّن - رحمه الله - الشبهة التي تعلق بها المخالف في ذلك، فقال: "وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمر ولا تحريم كذلك".
ثم رد ذلك بقوله: "وهذا فاسدٌ جداً؛ فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تَلَقَّوْها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُظَنُّ بأحد منهم أن يُقْدِمَ على قوله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: حرَّم، أو: فَرَضَ. إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه.
واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه1؛ فإن رُدَّ قوله: أمر، ونحوه بهذا الاحتمال، وَجَبَ ردُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر"2.
وهذا كلام بديع محكم من ابن القَيِّم في رد هذه الشبهة.
وهذه الشبهة نقلها ابن الأثير عن أهل الظاهر، وأجاب عنها بنحو جواب ابن القيم3.
__________
1 أي: أحطَُ منه منزلة، وأراد بذلك تعنيف صاحب الشبهة؛ لأن وصفه للصحابي بسوء الفهم أشد من وصفه له بالغلط والسهو.
2 تهذيب السنن: (5/101) .
3 مقدمة جامع الأصول: (1/92) .
وثَمَّة شبهة أخرى تعلق بها المانعون، وهي: احتمال كون الصحابي سمع ذلك من غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون رواية عن غيره عنه.
وقد رد الخطيب ذلك في (الكفاية) (ص 590 - 591) مرجحاً رأي الجمهور في ذلك، وأنه ينبغي حمله على أن الصحابي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/387)
فتلخص من ذلك: أن ما اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله - في إثبات حكم الرفع لما هذه صفته، هو الصواب الذي عليه الجمهور، وأن ما تَمَسَّك به المخالفون من شبه ضعيف لا يُقَاوِمُ رأي الجمهور، والله أعلم.
المسألة الثالثة: في حكم ما يقوله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد.
إذا قال الصحابي قولاً مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فهل يثبت لذلك حكم الرفع؟
قَرَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن ذلك له حكم الرفع؛ فإنه قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في امتحان أهل الفترة، والمعتوه ونحوهما1 - وقد رُوِيَ عنه مرفوعاً وموقوفاً - قال: "غاية ما يُقَدَّرُ فيه: أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يُقْدِمُ عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يُجْزَمُ بأن ذلك توقيف لا عن رأي"2.
وقرر ذلك أيضاً: الحافظ ابن حجر رحمه الله، وذهب إلى أنه من باب المرفوع حكماً لا تصريحاً، ولكن قَيَّدَهُ بمن لم يُعرف بالأخذ عن الإسرائيليات والكتب القديمة، فإذا قال الصحابي ما "لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وأخبار الأنبياء. أو الآتية: كالملاحم والفتن، وأحوال يوم
__________
1 انظر: أحكام أهل الذمة: (2/650 - 651) .
2 أحكام أهل الذمة: (2/654) .
(1/388)
القيامة، وكذا الإخبار عمَّا يحصل بفعله ثوابٌ مخصوص أو عقاب مخصوص"1. فإن ذلك له حكم الرفع.
وقد نَبَّهَ الشيخ أحمد شاكر على ضرورة الاحتياط في ذلك، وعدم إطلاق القول بالرفع في كل ما يَرِدُ من ذلك، وأشار إلى أن مما يجب مراعاته في ذلك: بعض فتاوى الصحابة واجتهاداتهم في بعض المسائل، التي بنوها على عمومات وأصول الشريعة، فقد يظَنُّ البعض أن هذا مما لا مجال فيه للرأي2.
فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم يذهب إلى إثبات حكم الرفع لما قاله الصحابي مما لا مجال للرأي فيه، ولكنه لم يقيد ذلك ببعض القيود الضرورية التي مرَّ ذكرها. وسبب عدم تقييد ابن القَيِّم كلامه: أنه جاء مرتبطاً بقضية معينة، وحديث بعينه، والله أعلم.
المسألة الرابعة: فيما يَنْسِبُ الصحابي فاعِلَهُ إلى العِصْيَان.
ما يَنْسِبُ الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان: هل يثبت له حكم الرفع، أم يكون موقوفاً على الصحابي؟
اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة القول: بأن ذلك موقوفٌ على الصحابي، فقال عند كلامه على حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام هذا اليوم - يعني يوم الشك - فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ": "وذكر جماعة أنه موقوف، ونظير هذا قول أبي هريرة: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".
__________
1 نزهة النظر: (ص53) .
2 الباعث الحثيث: (ص47) .
(1/389)
والحكم على الحديث بأنه مرفوع بمجرد هذا اللفظ لا يصح، وإنما هو لفظ الصحابي قطعاً.
ولعل الصحابي فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين": أن صيام يوم الشك تَقَدُّمٌ، فهو معصية، كما فهم أبو هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحَدَكم أخاه فليجبه ": أن ترك الإجابة معصية لله ورسوله. ولا يجوز أن يُقَوَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
والصحابي إنما يقول ذلك استناداً منه إلى دليل فَهِمَ منه أن مخالفة مقتضاه معصية، ولعله لو ذكر ذلك الدليل لكان له محمل غير ما ظنه، فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضاً في كثير من وجوه دلالة النصوص"1.
كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن جمعاً من الأئمة ذهبوا إلى إثبات حكم الرفع لذلك، فجزم به الحاكم في (علوم الحديث) 2، والفخر الرازي3، والزركشي4، وأيَّدَه الحافظ العراقي5.
وقال الحافظ ابن حجر: "فهذا ظاهره أن له حكم الرفع، ويحتمل أن يكون موقوفاً لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد.
__________
1 تهذيب السنن: (3/321 - 322) .
(ص 21 - 22) .
3 النكت على ابن الصلاح - لابن حجر: (2/530) .
4 تدريب الراوي: (1/191) .
5 شرح الألفية: (1/140) .
(1/390)
والأول أظهر، بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند"1.
وأما ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من أن الصحابي إنما يقول ذلك استناداً إلى دليل يفهم منه أن مخالفة مقتضاه تكون معصية: فإنه لا يخلو من نظر، ويُجاب عما رآه ابن القَيِّم في هذه المسألة بما أجاب به هو عن المسألة المتقدمة، وهي: قول الصحابي: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: أمر بكذا، فيقال: إن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، فلا يُظَنُّ بأحدهم أن يُقدِمَ على الحكم بالكفر أو المعصية على أحدٍ إلا وقد سمع ذلك، مع دلالة اللفظ عليه، فالصحابة هم أفهم الناس لدلالة النصوص على الكفر والمعصية من عدم دلالتها على ذلك.
فتخلص من ذلك: أن الراجح في هذه المسألة هو الحكم في ذلك بالرفع، وأن ما ذهب إليه ابن القَيِّم من الحكم لذلك بالوقف: هو خلاف الأظهر من قولي أهل العلم في المسألة، وخلاف الراجح، والله أعلم.
المسألة الخامسة: في حكم تفسير الصحابي للقرآن.
هل ما يُفَسِّرُه الصحابي من آي القرآن يُعَدُّ حديثاً مرفوعاً؟
اشتهر عن الحاكم القول بذلك، بل نسبه إلى البخاري ومسلم، فقد قال في (المستدرك) 2: "وقد اتفقا على أن تفسير الصحابيّ حديث مسند".
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (2/530) .
(1/542) .
(1/391)
وقد قيده ابن الصلاح1 - وتبعه عليه النووي2، والعراقي3- بما يتعلق من ذلك بسبب النزول، وسبق هؤلاء جميعاً إلى التقييد بذلك: الخطيب البغدادي، وأبو منصور البغدادي، كما أفاده الحافظ ابن حجر4.
على أنه قد جاء عن الحاكم التقييد بذلك أيضاً، فقال - بعد أن ذكر حديث جابر رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]-: "هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند"5.
وقد اعتمد ابن القَيِّم - رحمه الله - رأي الحاكم في "المستدرك"، ونقله عنه في كثير من المواضع، محتجاً به على إثبات حكم الرفع لما يقوله الصحابي من التفسير.
فقد نقل عنه كثيراً قوله: "تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع"6.
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص24) .
2 التقريب: (ص6) .
3 شرح الألفية: (1/132) .
4 النكت على ابن الصلاح: (2/530) .
5 معرفة علوم الحديث: (ص20) . وانظر: تدريب الراوي: (1/193) .
6 انظر: تهذيب السنن: (3/77) ، وتحفة المودود: (ص17) ، وإعلام الموقعين: (4/153) ، وحادي الأرواح: (ص366) .
(1/392)
ولكن: هل يَحْمِلُ ابن القَيِّم هذا الكلام من الحاكم على إطلاقه فَيُثْبِتُ لتفسير الصحابي حكم الرفع مطلقاً؟
والجواب عن ذلك يظهر من شرح ابن القَيِّم لمراد الحاكم بمقالته؛ إذ قال رحمه الله: "ومراده - أي الحاكم -: أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في آية قولاً، فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وله وجه آخر: وهو أن يكون في حكم المرفوع، بمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لهم معاني القرآن، وفسره لهم، كما وصفه تعالى بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} " [النحل: 44] .
فَبَيَّن لهم القرآن بياناً شافياً كافياً، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنىً، سأله عنه، فأوضحه له، كما سأله الصديق عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1 [النساء: 123] فبين له المراد، ... وكما سألته أم
__________
1 وحديث أبي بكر الصديق أخرجه أحمد في المسند (1/11) ، والحاكم في المستدرك (3/74 - 75) ، والبيهقي في السنن (3/373) ، وغيرهم، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملنا جزينا به! فقال صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا ما تجزون به". (وانظر: مرويات الإمام أحمد في التفسير رقم 878) .
(1/393)
سلمة عن قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} 1؟ [الانشقاق: 8] فبين لها أنه العرض ... وهذا كثير جداً.
فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن، فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها، وتارة بمعناها. وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم"2.
فابن القَيِّم - رحمه الله - ينفي أن يكون المراد بأن له حكم الرفع: نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قاله، ولكنه يؤكد كونه حجة كالمرفوع، كما مضى في كلامه، بل ويصرح بذلك في مناسبة أخرى، فيقول: "تفسير الصحابة حجة"3.
ويُقيِّدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - الاحتجاج بتفسير الصحابي
__________
1 وهذا الحديث الذي أشار إليه ابن القَيِّم أخرجه البخاري في صحيحه: ك العلم، ب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه، برقم 103، وفي غير ذلك من المواضع، من حديث عائشة رضي الله عنها "أنها لما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" قالت: أو ليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحاسب يهلك".
وكذا وقع عند ابن القَيِّم هنا في "إعلام الموقعين ": (أم سلمة) ! والمشهور عن عائشة رضي الله عنها، فلعله وهم من النساخ أو الطابعين؟! فقد أورده على الصواب في الصواعق (3/1053) .
2 إعلام الموقعين: (4/153 - 154) .
3 زاد المعاد: (5/243) .
(1/394)
بقيدين، وهما:
1- أن لا يعارضه نصٌّ في المسألة.
2- أن لا يعارضه قول غيره من الصحابة.
فإذا توافر لتفسيره هذان الشرطان عُلِمَ أن الصواب في قوله؛ إذ يمتنع أن يكون قول أحدهم في كتاب الله خطأ محضاً ويُمسكُ الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به؛ فإنه من المحال خلوّ عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بالخطأ فقط1.
فهذا حاصل كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في تفسير الصحابي، وبيان مراد الحاكم بقوله: إنه في حكم المرفوع، وأن تفسيره في الحجية كحجية المرفوع سواء، ولكن بشرطين مهمين.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا: أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ذَكَرَ ضابطاً آخر لما يفسره الصحابي، فقال: "والحق: أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه:
- إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولاً عن لسان العرب: فحكمه الرفع، وإلا: فلا، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وقصص الأنبياء. وعن الأمور الآتية: كالملاحم والفتن، والبعث، وصفة الجنة والنار، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب أو عقاب مخصوص. فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها، فيحكم لها بالرفع ...
__________
1 إعلام الموقعين: (4/155) .
(1/395)
- وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي، فيحتمل أن يكون ذلك مستفاداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن القواعد، فلا يُجْزَم برفعه. وكذا إذا فَسَّرَ مفرداً، فهذا نقل عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه.
وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة: كصاحبي الصحيح، والإمام الشافعي، وأبي جعفر الطبري، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند، والبيهقي، وابن عبد البر في آخرين"1.
وهذا القيد لم يتعرض له ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه قد تَقَدَّم عنه - في المسألة الثالثة - القول: بأن ما يقوله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد يثبت له حكم الرفع؛ وذلك بناءً على ما تقدم عنه من إطلاق كون تفسير الصحابي مسنداً مرفوعاً بشرط عدم معارضة نصٍّ له أو تفسير لصحابي آخر، فيكون من مختلف الحديث، فكأنه لم يقيده بكونه مما لا مجال للرأي فيه في خصوص التفسير وحده، والله أعلم.
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (2/531 - 532) .
(1/396)
المبحث الخامس: الْمُرْسَل
حدُّ الحديث المرسل وصورته.
اختلفت عبارات الأئمة في حدَّ الحديث المرسل على وجوه، أشهرها:
ما قاله الحافظ ابن حجر: "هو ما سقط من آخره من بعد التابعي". قال: "وصورته: أن يقول التابعيُّ - سواء كان كبيراً أو صغيراً-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فُعِلَ بحضرته كذا، أو نحو ذلك"1. قال: "وهذا الذي عليه جمهور الْمُحَدِّثِين"2.
ويمكن أن نتناول بعض المسائل المتعلقة بالمرسل، مما بحث فيها ابن القَيِّم رحمه الله، فمن ذلك:
المسألة الأولى: في حكم الحديث المرسل، والقول في قبوله أو رده.
فقد اختلفوا في الاحتجاج بالمرسل على أقوال:
- أحدها: قبول مراسيل الصحابة فقط، ورد ما عداها مطلقاً3. وهذا الذي عليه عمل أئمة الحديث4.
__________
1 نزهة النظر: (ص41) .
2 النكت على ابن الصلاح: (2/543) .
3 جامع التحصيل: (ص 47) .
4 نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/548) .
(1/397)
- الثاني: ردُّ المرسل مطلقاً، حتى مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني1.
- الثالث: القبول مطلقاً في جميع الأعصار والأمصار. قال العلائي: "وهو توسُّعٌ بعيدٌ جداً غير مرضي"2.
- الرابع: قبول مرسل الصحابة وكبار التابعين فقط، وهو مذهب الشافعي وجماعة من المتقدمين.
ولكن لقبوله شروط عند الشافعي رحمه الله، بعضها في الخبر الْمُرْسَل نفسه، وبعضها في نفس الراوي الْمُرْسِل.
فأما شروط الخبر المرسل، فهي أن يتوافر له أحد أربعة أشياء تعضده، وهي:
1- أن يُروى هذا المرسل من وجهٍ آخر مسنداً، فيدلُّ ذلك على صحة الحديث.
2- أو يروى مرسلاً، أرسله من أخذ العلم عن غير شيوخ المرسل الأول؛ فإنه يتقوى بذلك أيضاً، وإن كان أضعف في التقوية من الذي قبله.
3- أو يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة فيُسْتَدَلُّ بذلك على أن لهذا المرسل أصلاً صحيحاً؛ لأن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبيصلى الله عليه وسلم.
4- فإن لم يوجد من ذلك شيء، وَوُجِدَ أكثر أهل العلم يقولون به، فإن ذلك يدل على صحة هذا المرسل أيضاً، وأن له أصلاً، وأنهم قد استندوا في فتواهم إلى ذلك الأصل.
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (2/546) .
2 جامع التحصيل: (ص48) .
(1/398)
وأما شروط الْمُرْسِل نفسه، فهي:
1- أن يكون من كبار التابعين، فإنهم لا يروون في الغالب إلا عن صحابي أو تابعي كبير.
2- أن يكون الْمُرْسِل إذا سَمَّى من روى عنه سمى ثقة مقبولاً، ولم يسم ضعيفاً ولا مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه.
3- ألا يخالف الحفاظ إذا شارَكَهم فيما أسندوه، فإن كان ممن يخالف لم يقبل مرسله.
فهذه جملة الشروط التي ذكرها الشافعي - رحمه الله - لقبول المرسل1.
فإذا توافرت في حديث مرسل قُبِلَ، وقال الحافظ العلائي: "المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها يسوغ الاحتجاج به"2.
- الخامس: قبول مرسل من عُرِفَ من عادته أو صريح عبارته أنه لا يُرْسِلُ إلا عن ثقة، فإن كان كذلك قُبِلَ، وإلا فلا.
قال الحافظ العلائي: "فهذا القول أرجح الأقوال في هذه المسألة وأَعْدَلُهَا"3. وقال مرة عن هذا المذهب ومذهب الشافعي الذي قبله: "وهذا القول والذي قبله أعدلُ المذاهب، وبه يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة من الطرفين"4.
__________
1 الرسالة: (ص461 - 464) .
2 جامع التحصيل: (ص43) .
3 جامع التحصيل: (ص34) .
4 جامع التحصيل: (ص96) .
(1/399)
وأيَّدَهُ في ترجيح ذلك: الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ونقل أقوالاً عدة في تأييده، ثم قال:
"وبهذا المذهب يحصلُ الجمع بين الأدلة لطرفي القبول والرد"1.
وفي المسألة أقوالٌ أخرى غير ما ذكرنا.
فتحَصَّلَ من ذلك أن أقوال العلماء في الاحتجاج بالمرسل تدور على ثلاثة مذاهب، وهي:
1- القبول مطلقاً.
2- الرد مطلقاً.
3- التفصيل في المسألة، أو: قبوله بشروط.
وبالنظر إلى تَصَرُّف ابن القَيِّم - رحمه الله - في الاحتجاج بالمرسل، واختياره في ذلك: فقد ذهب - رحمه الله - إلى قبول المرسل إذا توافرت فيه تلك الشروط التي ذكرها الشافعي رحمه الله، وأضاف إلى ذلك مُعَضِّداً - لعله أخذه من الأصوليين- وهو: اعتضاد المرسل بالقياس، وسيأتي نقل ذلك عنه.
فمن أقواله التي يُقَرِّرُ فيها شروط الاحتجاج بالمرسل:
قوله في حديث أبي قتادة في عدم كراهية الصلاة يوم الجمعة وقت الزوال - وقد أُعِلَّ بالإرسال -:
__________
1 النكت على ابن الصلاح: (2/552 - 555) .
(1/400)
"الْمُرْسَلُ: إذا اتصَّل به عملٌ، وعضده قياسٌ، أو قول صحابي، أو كان مُرْسِلُه معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته: عُمِلَ به وأيضاً: فقد عضده شواهد أخر"1.
ثم أخذ في سياق بعض الشواهد المسندة لهذا الحديث.
وبالنظر إلى كلام ابن القَيِّم هذا، نجد أنه قد أعمل شروط المذهبين الراجحين السالف ذكرهما.
فكون المرسل: تعضده شواهد مسندة.
أو يَعْمَلُ به أكثر أهل العلم.
أو يوافقه قول صحابي.
فإن هذه من شروط قبول المرسل عند الإمام الشافعي رحمه الله.
وكون مُرْسِلهُ: ممن عرف بالرواية عن الثقات، وتجنب الضعفاء والمتروكين، فإن هذا مقتضى المذهب الذي تقدم ترجيحه آنفاً، وأضاف إلى ذلك كله: كونه مما يعضده القياس، وهذا مما زاده الأصوليون في
__________
1 زاد المعاد: (1/379) .
(1/401)
الاعتضاد، كما نصَّ عليه السيوطي1 رحمه الله.
وقال - رحمه الله - في حديث ميراث المرأة، وأنها "تحوز ميراث: عتيقها، ولقيطها، والذي لاعنت عليه" - وقد أورد عدة آثار مرسلة ومسندة في ميراثها ولد الملاعنة خاصة - قال: "وهذه الآثار يشد بعضها بعضاً، وقد قال الشافعي: إن المرسل إذا رُوِيَ من وجهين مختلفين، أو رُوِيَ مسنداً، أو اعتضد بعمل بعض الصحابة: فهو حجة".
قال: "وهذا قد رُوِيَ من وجوه متعددة، وعمل به من ذكرنا من الصحابة، والقياس معه ... "2.
وقد لاحظنا في هذا المثال ذكر شرط آخر من شروط الاعتضاد، وهو: أن يوافق هذا المرسل مرسل آخر يُروى من وجه آخر.
وأورد مرسل سعيد بن المسيب في القضاء بين رجلين بالقرعة، ثم ساق له شاهداً مرسلاً - أيضاً - من رواية سليمان بن يسار، ثم قال: "فهذا مرسل: قد روى من وجهين مختلفين،
__________
1 تدريب الراوي: (1/201) .
2 تهذيب السنن: (4/177 - 178) .
(1/402)
وهو من مراسيل ابن المسيب، وتشهد له الأصول التي ذكرناها في القرعة"1.وقوله هنا بأنه "من مراسيل سعيد بن المسيب" يعني: أنه عُرِفَ من حاله أنه لا يُرْسِل إلا عن ثقة، وتقدم بيان هذا الشرط، والكلام عليه.فقد قَبِلَ الشافعي - رحمه الله - مراسيل ابن المسيب خاصة، فإنه قال: " ... ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب"2. وقد ذهب آخرون إلى تقديم مراسيل ابن المسيب، والقول بأنها أصح المراسيل3. أما الشافعي رحمه الله: فقالوا إنه كَشَفَ عن مراسيل ابن المسيب، فوجده لا يَروِي إلا عن ثقة، وأن مراسيله مسندة متصلة من جهات أخرى4.وقد أخذ بذلك ابن القَيِّم رحمه الله - كما ستأتي الإشارة إليه - ومن ثم فإن قوله - رحمه الله - في هذا الحديث: إنه من رواية ابن المسيب. هو بمثابة قوله في غيره: أرسله من لا يُرْسِلُ إلا عن ثقة متقن.ومن هذا العرض يتبين لنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد اختار في قبول المُرْسَلِ أعدل المذاهب، وهو المذهب المتوسط بين طرفي القبول والرد، والذي يقبل المرسل بشروط وضوابط، إذا توافرت في المرسل دَلَّتْ في الغالب على صحته وثوبته.__________1 الطرق الحكمية: (ص325) .2 "المراسيل" لابن أبي حاتم: (ص6) ، و"آداب الشافعي" له: (ص232) .3 انظر "جامع التحصيل": (ص45 - 46) ، (ص99) .4 جامع التحصيل: (ص34) .
(1/403) ومع ذلك، فقد وَجَدتُ كلاماً لابن القَيِّم - رحمه الله - يؤخذ منه: أنه يذهب إلى قبول الْمُرْسَل مطلقاً بلا قيد ولا شرط، فقد قال - في مرسل مجاهد - رحمه الله - في اعتداد المتوفَّى عنها زوجها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للنسوة اللاتي سألنه: "تحدَّثْنَ عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها" - قال:"وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهر أن مجاهداً: إما أن يكون سمعه من تابعي ثقة، أو من صحابي.والتابعون لم يكن الكذب معروفاً فيهم، وهم ثاني القرون المفضلة، وقد شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العلم عنهم، وهم خير الأمة بعدهم، فلا يُظَنُّ بهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الرواية عن الكذابين، ولا سيما العَالِمُ منهم إذا جَزَمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرواية، وشهد له بالحديث، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر ونهى، فيبعد كلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كَذَّاباً أو مجهولاً.وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرون، ساءَ الظن بالمراسيل، ولم يُشْهَدْ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.وقد تضمن هذا الكلام من ابن القَيِّم - رحمه الله - أموراً تحتاج إلى مناقشة:- فأما القول بأن مجاهداً أخذه عن صحابي، أو تابعي ثقة: فكلُّ__________1 زاد المعاد: (5/692 - 693) .
(1/404) ما فيه هو تحسين الظن به، إلا أنهم لم يذكروا مجاهداً بأنه كان لا يأخذ إلا عن ثقة، كما قالوا في حق سعيد بن المسيب مثلاً.وقد بَيَّنَ الحافظ العلائي - رحمه الله - أن احتمال كونِ الساقط ضعيفاً أو مجهولاً، قد يرجح في بعض المواضع على احتمال كونه صحابياً أو تابعياً ثقة، قال: "ولا أقل من أن تتساوى الاحتمالات، وحينئذٍ فلا يصح الاحتجاج به"1.- وأما قوله: إن الكذب لم يكن معروفاً في هذا العصر: فقد أجاب عن ذلك الحافظ العلائي أيضاً، وقال بأن ذلك "ممنوع؛ بل إن الواقع خلافه"2. ثم أخذ - رحمه الله - في ذكر بعض الوقائع التي تثبت عكس ذلك، وأن جماعة قد أرسلوا عن ضعفاء ومجاهيل3.بل حكى ابن عبد البر: أن محمود بن لبيد حكى عن جماعة أنهم حدَّثُوه عن عبد الله بن جعفر بما أنكره ابن جعفر، قال: "وهذا في زمن فيه الصحابة، فما ظنك بمن بعدهم؟ "4.- وأما القول بأن الواحد منهم لا يجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذاب أو مجهول: يعني أن الراوي لا يرسل الحديث إلا بعد جزمه بعدالة من أرسل عنه، وهذه "دعوى لا دليل عليها" كما قال الحافظ العلائي.__________1 جامع التحصيل: (ص88) .2 جامع التحصيل: (ص82) .3 جامع التحصيل: (ص86) .4 التمهيد: (1/54) .
(1/405) والذي حملهم على هذا هو القول: بأنه لو لم يكن عدلاً عنده، لكان بجزمه بالرواية عنه فاسقاً؛ لإثباته الخبر وهو لا يغلب على ظنه ثبوته، مع تعديله من ليس عدلاً.وأجاب عن ذلك الحافظ العلائي - رحمه الله - فقال: "لا يلزم ذلك؛ لأنه لم يُكَلَّفْ إلا بما ظهر له، وقد يظهر لغيره خلاف ذلك، ويترجح على تعديل هذا، كما قد وقع للزهري - مع إمامته - في إرساله عن سليمان بن أرقم لظنه تعديله، وهو ضعيف متروك لا يُحْتَجُّ به، ومثل هذا كثير جداً، فلا تَلازُمَ بين الأمرين كما قالوا"1.ومن هذا يتبين لنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بإطلاقه القول بقبول مراسيل التابعين - بناء على قوله هذا - قد تساهل كثيراً، وتوسَّعَ توسعاً لا يتفق مع ما قدمنا عنه: من أن المرسل لا يُقْبَلُ إلا بالشروط المذكورة، وأنه قد قَرَّرَ ذلك في غير مناسبة.ولذلك، فإنه لا ينبغي أن يُفهمَ أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يرتضي هذا المذهب ويعتمده في مسألة الاحتجاج بالمرسل، ولعل ما نقلناه عنه في القول بقبول المرسل بشروطه قد بلغ من الكثرة بحيث لا يُعارضُ بهذا القول الواحد، ولعله كان يرى الإطلاق ثم استقرَّ رأيه على ما هو المذهب المعتمد في ذلك، ولا سيما أنه لم ينظر إلى مراسيل التابعين نظرةً واحدة، بل كان يرى التفاوت بينها قبولاً ورداً؛ كما سيأتي في المسألة الثالثة. فهذا - من جهة أخرى - يؤكد استقرار رأيه على قبوله بشروط، والله أعلم.__________1 جامع التحصيل: (ص 81) .
(1/406) المسألة الثانية: في حكم مراسيل الصحابة.إذا قال الصحابي الصغير: كابن عباس، وابن الزبير ونحوهما، وكذا الصحابي الكبير فيما ثَبَتَ أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة، إذا قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يُحْكَمُ لذلك بالاتصال؟الصحيح الذي عليه جمهور أهل الحديث وغيرهم: أن ذلك صحيح متصل محتج به.قال ابن الصلاح في ختام كلامه على المرسل: "ثم إنَّا لَمْ نَعُدَّ في أنواع المرسل ونحوه ما يُسَمَّى في أصول الفقه: مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة1، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول"2.وقَرَّرَ النووي: أن الحكم بصحة مرسل الصحابي هو المذهب الصحيح3.وحجة من ردَّ مرسل الصحابي: احتمال كون الصحابي سمعه من تابعي، وإذا كان كذلك، فيُحْتَمَلُ أن يكون هذا التابعي ضعيفاً.__________1 قال العراقي: "الصواب أن يقال: لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة؛ إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعض التابعين" (التقييد والإيضاح: ص75) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص26) .3 التقريب: (ص7) .
(1/407) وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "والانفصال عن ذلك أن يُقال: قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ظاهر في أنه سمعه منه أومن صحابي آخر، فالاحتمال أن يكون سمعه من تابعي ضعيف نادر جداَّ لا يؤثر في الظاهر، بل حيث رووا عن من هذا سبيله، بينوه وأوضحوه"1.وقد تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه المسألة أثناء مناقشته لابن القطان في حديث أَعَلَّهُ بأنه مرسل صحابي، ففي الحديث الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، وكانت له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات" قال ابن القطان - عن هذا الحديث، وحديث آخر لأبي بكرة -: "وعندي أن الحديثين غير متصلين؛ فإن أبا بكرة لم يُصَلِّ معه صلاة الخوف؛ لأنه بلا ريب أسلمَ في حصار الطائف ... وهذا كان بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من هوازن، ثم لم يلق صلى الله عليه وسلم كيداً إلى أن قبضه الله".فرد ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك عليه قائلاً: "وهذا الذي قاله لا ريب فيه، لكن مثل هذا ليس بعلة ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه، فإن أبا بكرة وإن لم يشهد القصة، فإنه إنما سمعها من صحابي غيره، وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من الصحابة، مع أن عامتها مرسلة عن__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/570) .
(1/408) النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينازع في ذلك اثنان من السلف وأهل الحديث والفقهاء، فالتعليل على هذا باطل"1.فوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - الجمهور في القول بصحة مراسيل الصحابة، والحكم لها بالاتصال.المسألة الثالثة: في حكم بعض المراسيل، وبيان منزلتها.تَكَلَّمَ الأئمة - رحمهم الله - على حكم مراسيل بعض التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينوا درجتها ومنزلتها، وما يُقْبَلُ منها وما يُرَدُّ.وقد كانت هذه الأحكام نتيجة بحثهم وتَحَرِّيهِم، واعتبارهم بمرسلات كل واحد من الرواة، وعادته فيما يرسله، ومن ثمَّ حكموا على مرسل كل شخص بما يناسب حاله.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - أثناء بحوثه بعض هؤلاء الْمُرْسِلِين، وَتَكَلَّم عن حالهم، وبين درجة مراسيلهم من حيث القبول والرد، والقوة والضعف.وأنا أذكر ما وقفت عليه من كلامه في هذا الباب، مُقَارِناً ذلك بكلام الأئمة أهل هذا الشأن، فمن هؤلاء:1- سعيد بن المسيب:ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى صحة مراسيل ابن المسيب، وأن ما قال فيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو حُجَّةٌ، حتى عند من لم يقبل المرسل.__________1 تهذيب السنن: (2/71 - 72) .
(1/409) ومن أقواله في هذا المعنى:قال رحمه الله: " ... فإن ابن المسيب إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حجة"1.وقال: "وسعيد بن المسيب إذا أرسَلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبلَ مُرْسَلُهُ"2.وقال: " ... ومن لم يقبل المرسل قَبلَ مرسل سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"3.وقال في حديث مرسل يريد أن يُقَوِّيهُ ويعضده: "وهو من مراسيل ابن المسيب"4.فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يرى حُجِّيَّةَ مراسيل ابن المسيب، وصحتها على الإطلاق، وهو بذلك موافق للجمهور من أئمة الحديث؛ فقد قال الحافظ العلائي رحمه الله: "وقد اتفقت كلمتهم على سعيد بن المسيب، وأن جميعَ مراسيله صحيحة، وأنه كان لا يُرسلُ إلا عن ثقة من كبار التابعين، أو صحابي معروف. قال معنى ذلك بعبارات مختلفة جماعة من الأئمة، منهم: مالك، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، ويحيى بن معين، وغيرهم"5.__________1 تهذيب السنن: (2/316) .2 تهذيب السنن: (4/364) .3 تهذيب السنن: (7/294) .4 الطرق الحكمية: (ص 325) .5 جامع التحصيل: (ص99) .
(1/410) وقد تَقَدَّم أن الشافعي - رحمه الله - استثنى من المراسيل كلها مراسيل ابن المسيب، فجعلها حجة مطلقاً، وعبارته: " ... ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب"1.وممن صرَّحَ بتقديمها أيضاً: الحاكم في (علوم الحديث) 2. وجعله الحافظ الذهبي - رحمه الله - من أصح المراسيل3.فتبين من ذلك: أن ابن المسيب من أصح الناس مرسلاً، والجمهور على قبول مراسيله مطلقاً، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله - ومشى عليه في كتبه.2- الزُّهْرِي:ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضعف مراسيل الزهري، وعدم الاحتجاج بها، بل ذهب إلى أنها من أضعف المراسيل، فقال: "مراسيل الزهري عندهم ضعيفة، لا يحتجُّ بها"4.وقال مرة: "مراسيل الزهري عندهم من أضعف المراسيل، لا تصلح للاحتجاج؛ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح. وقُرئ على عباس الدوري، عن ابن معين قال: مراسيل الزهري ليست بشيء"5.__________1 المراسيل - لابن أبي حاتم: (ص6) .(ص 25 - 26) .3 الموقظة: (ص38 - 39) .4 زاد المعاد: (5/364) .5 تحفة المودود: (ص170 - 171) . وانظر "المراسيل": (ص3) .
(1/411) وقال العلائي: "اختلف في مراسيل الزهري، لكن الأكثر على تضعيفها"1 ثم نقل عن الشافعي قوله: "يقولون: نُحَابي، ولو حابينا أحداً لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم".ثم قال العلائي رحمه الله: "والظاهر: أن قولَ الأكثر أولى بالاعتماد"2.وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن، وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل من صغار التابعين. وغالب المحققين يَعُدُّون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، فالظن بِمُرْسِلِه أنه أسقط من إسناده اثنين"3.فظهر من أقوال هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - أن المختار: ضعف مراسيل الزهري، وعدم الاعتماد عليها بحال. وهو ما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله.3- الشَّعْبِي:قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قول الشعبي: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرُدَّها - يعني زينب ابنته - إلا بنكاح جديد" قال:__________1 جامع التحصيل: (ص101) .2 جامع التحصيل: (ص 101 - 102) .3 الموقظة: (ص40) .
(1/412) "إن صحَّ عن الشعبي: فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه، وإن كان قاله رواية فهو منقطع لا تقوم به حجة، فَبَيْنَ الشعبي وبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَفَازَةٌ1 لا يُدْرى حالها"2.هكذا جزم ابن القَيِّم برد مرسل الشعبي، وأنه لا تقوم به حجةٌ! ولننظر أقوال الأئمة في ذلك:قال العجلي: "مرسل الشعبي صحيح، لا يُرْسِل إلا صحيحاً صحيحاً"3. وقال أبو داود: "مرسل الشعبي أحبُّ إليّ من مرسل النخعي"4.وقَدَّم ابن معين مراسيل إبراهيم النخعي عليها5.وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: " ... مراسيل مجاهد، وإبراهيم، والشعبي: فهو مرسل جيد، لا بأس به، يقبله قوم ويرده آخرون"6.وجعل السخاوي مراسيله في مرتبة من كان يَتَحَرَّى في شيوخه7.قلت: فغاية مراسيل الشعبي أنه مختلف فيها، وإن كان ظاهرُ كلام__________1 الْمَفَازَةُ: الموضع المهلك، مأخوذة من فَوَّزَ إذا مات، لأنها مظنة الموت. (المصباح المنير: 2/483) .2 أحكام أهل الذمة: (1/336) .3 تاريخ الثقات (ترتيب الهيثمي) : (ص244) .4 تهذيب التهذيب: (5/68) .5 تاريخ ابن معين - الدوري: (2/18) .6 الموقطة: (ص40) .7 فتح المغيث: (1/152) .
(1/413) الأئمة احتمالها، ولم أقف على تسمية من حكم بردِّهَا كما ذهب إليه ابن القَيِّم - وإن كان الذهبي أشار إلى جماعة قالت بردها - فهي إلى القبول أقرب منها إلى الردِّ، والله أعلم. (1/414) المبحث السادس: تَعَارُض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقفإذا روى بعض الثقات الحديث مُرْسَلاً وبعضهم مُتَّصِلاً، فهل يُحكمُ في ذلك للوصل أم للإرسال؟ اختلفَ أهل العلم في ذلك على أقوال:الأول: أن الحكم في ذلك لمن وصله، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر، أحفظ منه أم لا.وهذا القول صححه: الخطيب1، والنووي2، والعراقي3.قال ابن الصلاح: "وما صححه - يعني الخطيب - هو الصحيح في الفقه وأصوله"4.القول الثاني: أن الحكم في ذلك لمن أرسل.عزاه الخطيبُ لأكثر أصحاب الحديث5.قال السخاوي - رحمه الله - في توجيه هذا القول: "فسلوك غير الجادة دال على مزيد التحفظ، كما أشار إليه النسائي ... "6.__________1 الكفاية: (ص 580 - 581) .2 التقريب: (ص 8) .3 شرح الألفية: (1/175) .4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 34) .5 الكفاية: (ص580) .6 فتح المغيث: (1/170) .
(1/415) القول الثالث: أن الحكم للأكثر؛ فإن كان من أرسله أكثر ممن وصله، فالحكم للإرسال، وإن كان من وصله أكثر، فالحكم للوصل.قال السخاوي: "لأن تطرق السهو والخطأ إلى الأكثر أبعد"1.القول الرابع: أن الحكم في ذلك للأحفظ.والذي اختاره الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: هو أن الْمُحَدِّثِين- رحمهم الله - ليس لهم في ذلك قانونٌ ثابت؛ فإنهم لا يحكمون في مثل ذلك بحكم مطرد، وإنما يرجحون في مثل ذلك بالقرائن2.ولكن عملهم هذا، وترجيحهم بالقرائن إنما هو فيما يَظْهَرُ فيه الترجيح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهذا ... إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح: فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة"3. يعني أنه هو الذي تجري فيه الأقوال الأربعة الماضية.وقد ذكر ابن القَيِّم - عند تعرضه لهذه القضية - بعض المذاهب في المسألة، فمن ذلك:أنه - رحمه الله - قال في حديث تخيير البكر الكارهة في الزواج - وقد رُوي مرسلاً ومسنداً-:"وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه، فإنه قد روى مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادةٌ، ومن وصله مُقَدَّم__________1 فتح المغيث: (1/171) .2 انظر: النكت على ابن الصلاح (2/605) .3 النكت على ابن الصلاح: (2/605) .
(1/416) على من أرسله: فظاهرٌ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث ... وإن حكمنا بالإرسال - كقول كثير من المحدثين -: فهذا مرسل قويٌ قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة ... "1.ثم يبالغُ - رحمه الله - في الرد على من ضَعَّفَهُ بالإرسال، فيقول: "وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيحٌ؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وصله، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع - بل في أكثر المواضع التي توافقُ مذهب المقلد - وترد في موضع يخالف مذهبه؟! "2.وبغَضِّ النظر عن تقديم الوصل أو الإرسال في هذا الحديث، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّر: أن مذهب الفقهاء والأصوليين: تقديمُ الوصل والحكم للزيادة دائماً إذا كانت من ثقة، وأن مذهب كثير من المحدثين: تقديم الإرسال.وقال - أيضاً - موضحاً طريقة الفقهاء والأصوليين عند كلامه على أحاديث الفطر بالحجامة: "وعلى قول جمهور الفقهاء والأصوليين: لا يُلتفت إلى شيء من تلك العلل، وأنها ما بين تعليل بوقف بعض الرواة وقد رفعها آخرون، أو إرسالها وقد وصلها آخرون، وهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة"3.__________1 زاد المعاد: (5/96- 97) .2 تهذيب السنن: (3/40) .3 تهذيب السنن: (3/248) .
(1/417) وأما اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة: فقد كان يرى عدم لزوم حكم ثابت مُطَّرِد دائماً، وإنما يدور الحكم لأحد الجانبين مع القرائن والمُرَجِّحات، فمن أقواله في هذا الصدد: ما قاله في حديث: "من دخل حائطاً فليأكل ولا يَتَّخِذُ خُبْنَةً": "ولكن لو حَاكَمْنَا منازعينا من الفقهاء إلى أصولهم، لكان هذا الحديث حجةً على قولهم؛ لأن يحيى بن سليم من رجال الصحيحين، وهو لو انفرد بلفظةٍ، أو رفعٍ، أو اتصالٍ، وخَالَفَه غيره فيه لحكموا له، ولم يلتفتوا إلى من خالفه، ولو كان أوثق وأكثر ... ولكنَّا لا نرضى بهذه الطريقة، فالحديثُ عندنا معلول"1.فابن القَيِّم - رحمه الله - ينتقد طريقة الفقهاء عند وقوع ذلك، وأنهم يحكمون دائماً لمن زاد، دون مراعاة للاعتبارات الأخرى التي قد ترجح الجانب الآخر: كالكثرةِ، وكونِ المخالف أوثق، وغير ذلك من المرجحات.ويؤكد - رحمه الله - في مناسبة أخرى فسادَ طريقة من يحكم بحكمٍ ثابتٍ عند تعارض الوصل والإرسال، فيقول - رحمه الله - في حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: "وقد أَعَلَّه طائفةٌ بالإرسال بأن عمرو بن دينار رواه عن محمد ابن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وهذا أيضاً تعليلٌ فاسدٌ لا يؤثر في الحديث؛ لأن راويه عن عمرو إنسانٌ ضعيفٌ، لا يُعترض بروايته على الثقات ...__________1 تهذيب السنن: (3/426) .
(1/418) وهذه الطريق في مقابلها طريق الأصوليين، وأكثر الفقهاء: أنهم لا يلتفتون إلى علة للحديث إذا سلمت طريق من الطرق منها، فإذا وصله ثقةٌ أو رفعه، لا يبالون بخلاف من خالفه ولو كثروا"1.فأشار - رحمه الله - بذلك إلى أن من يُقَدِّم الوصلَ دائماً، وكذا من يُقَدَّم الإرسال على الوصل دائماً، كلاهما على طرفي نقيض.ثم يُقَرِّرُ - رحمه الله - الصواب في ذلك، فيقول: "والصواب في ذلك: طريقةُ أئمةِ هذا الشأن العَالِمِين به وبعلله، وهو: النظر والتَّمَهُّرُ في العلل، والنظرُ في الواقِفِين والرَّافِعِين، والمُرْسِلين والواصلين: أَيُّهم أكثرُ، وأَوْثَقُ، وأخصُّ بالشيخ، وأعرف بحديثه، إلى غير ذلك من الأمور التي يَجْزِمون معها بالعِلَّة المُؤَثِّرة في موضع، وبانتفائِها في موضعٍ آخر، ولا يرتضون طريقَ هؤلاء، ولا طريقَ هؤلاء"2.فهذا بيانُُ منه - رحمه الله - للطريقةِ المعتبرة في مثل ذلك، وهي: الترجيحُ بالقرائنِ والاعتباراتِ المحيطة بكل خبرِ على حدة.وقد ذكر في ضمن كلامه هذا بعض المُرَجِّحَاتِ والقرائنِ التي يُلْجَأُ إليها في مثل ذلك، ومنها:1 - الترجيحُ بالكثرة.2- الترجيحُ بالثقةِ والإتقانِ والحفظ، بكون أحد الجانبين أوثق وأحفظ من الآخر.__________1 تهذيب السنن: (5/228- 229) .2 تهذيب السنن: (5/229) .
(1/419) 3 - الترجيحُ باختصاصِ أحدِ الجانبين بالشيخ، وملازمتِهِ له، ومعرفته بحديثه.ويشير - رحمه الله - إلى وجه رابع من وجوه الترجيح، وهو:4 –كون أحد الجانبين قد سمعوا الحديث من الشيخ في أوقات مختلفة، والآخرون سمعوه منه في مجلس واحد عرضاً1.نقل ذلك عن الترمذي في ترجيحه الوصلَ على الإرسال في حديث أبي موسى مرفوعاً: "لا نكاح إلا بولي".قال الحافظُ ابن حجر-رحمه الله- "ولا يخفى رُجْحَان ما أُخِذَ من لفظِ المُحَدِّث في مجالس متعددة، على ما أُخِذَ عنه عرضاً في محل واحد"2.ويؤكد ابن القَيِّم الترجيحَ بالملازمة للشيخ، والاختصاص به، فيقول في حديث أبي موسى الماضي -عند ذكره وجوه ترجيح الوصل-: "ترجيحُ إسرائيل في حفظه وإتقانه لحديثِ أبي إسحاق ... وإن كان شعبةُ والثوري أجلُّ منه، لكِنَّه لحديثِ أبي إسحاقَ أتقن، وبه أعرف"3.ومن أمثلة استعماله القرائن في الترجيحِ، وعدم لزومه حالة واحدة:قوله في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في مسح أعلى الخف وأسفله:__________1 تهذيب السنن: (3/31) .2 النكت على ابن الصلاح: (2/607) .3 تهذيب السنن: (3/31) .
(1/420) "وقد تَفَرَّدَ الوليدُ بن مسلم بإسناده ووصله، وخَالَفَهُ مَنْ هو أحفظ منه وأجلُّ - وهو الإمام الثبت: عبد الله بن المبارك - فرواه عن: ثور، عن رجاء، قال حُدِّثْتُ عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.وإذا اختلف عبد الله بن المبارك والوليد بن مسلم، فالقول ما قال عبد الله"1.فقد رجح الإرسال هنا: لكون راويه أتقن وأحفظ من الآخر.أما حينما يكون الذي وصل الحديث أو رفعه ثقة متقن، ولا يقلُّ عن الذي أرسله حفظاً وإتقاناً، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - يحكم بتقديم زيادة الثقة؛ فإنه قال في حديث: " لا نكاح إلا بولي " الماضي: "وَصْلُه زيادةٌ من ثقة ليس دون من أرسله، والزيادةُ إذا كان هذا حالها، فهي مقبولة"2.فاتَّضَحَ من ذلك طريقةُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب، واختياره في ذلك، حيث إنَّه اختارَ طريقة أئمة الشأن في تعاملهم مع تعارض الوصل والإرسال؛ وذلك أنهم يدورون مع القرائن التي تُرَجِّح عندهم أحد الجانبين على الآخر، ولا يلتزمون في ذلك حكماً ثابتاً يطبقونه على كل حالة من هذه الحالات.وقد قَرَّرَ ابنُ القَيِّم في أكثر من مناسبة - كما مضى - أن هذه الطريقة هي الصواب، وكان -رحمه الله- مُطَبِّقاً لذلك في كلِّ الأحاديث التي بحثها من هذا القبيل.__________1 تهذيب السنن: (1/126) .2 تهذيب السنن: (3/31) .
(1/421) وهكذا كان موقفه - رحمه الله - فيما يتعارض فيه الوقف والرفع: فيقدم الرفع تارة إذا كان مَنْ رَفَعَهُ ثقة متقن، فيكون من باب زيادة الثقة1. وتارة يرجح الوقف إذا كانت هناك مرجحات، ككثرة الواقفين، وكونهم أشهر وأعلم بحديث الشيخ2، إلى غير ذلك من المرجحات، والله أعلم.__________1 انظر مثلاً: تهذيب السنن: (4/96) .2 انظر مثلاً: تهذيب السنن: (3/252) .
(1/422) المبحث السابع: الْمُنْقَطِعُتعريفه: هو ما سقط من إسناده راوِِ واحد قبل الصحابي، من أي موضع كان السقط1. وكذا لو سقط من إسناده اثنان، لكن لا على التوالي2.وهذا هو الأكثر في استعمالهم، كما صَرَّح به الخطيب وغيره3.ومن المسائل المتفرعة عن نوع المنقطع:العَنْعَنَةُ، أو: الإسناد الْمُعَنْعَن:إذا قال الراوي في حديثه: عن فلان، من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع، فما حكم هذا الإسناد؟ اختلف في ذلك:- فقال بعضهم: هو من قبيل المنقطع والمرسل حتى يتبين اتصاله.- والصحيح الذي عليه العمل: أنه من قبيل الإسناد المتصل، هذا الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم، بل ذهب البعض إلى إجماع أهل النقل على ذلك4، وذلك بشرطين:__________1 فتح المغيث: (1/153) .2 تدريب الراوي: (1/208) .3 فتح المغيث: (1/155) .4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 29) .
(1/423) أحدهما: أن يكون الْمُعَنْعِنُ غير معروف بالتدليس.الثاني: أن يثبت اللقاء بين الراوي المعنعن وشيخه، ولو مرة واحدة، كما ذهب إلى ذلك: البخاري، وشيخه علي بن المديني، وغيرهما من النقاد1.واكتفى الإمام مسلم في الحكم لذلك بالاتصال: بأن يكون الراوي المعنعن وشيخه متعاصرين، مع إمكان اللقاء، وبالغ في خطبة "صحيحه"2 في الرد على من قال باشتراط ثبوت اللقاء، وأنه قول مخترعٌ لم يُسْبَق قائله إليه.وقد أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة بمذهب الإمام مسلم رحمه الله، فكان يحكم على الإسناد المعنعن بالاتصال بمجرد تحقق المعاصرة بين الراوي وشيخه، وإمكان لقائهما، ولم ير أنه يلزم في ذلك ثبوت اللقاء بينهما، يتضح ذلك من كلامه في مناسبات عدة، فمن ذلك:أن الطحاوي أعل حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: بأن قيس بن سعد لا يُعْلَم حدث عن عمرو بن دينار بشيء، فقال ابن القَيِّم رحمه الله:"هذه عِلَّة ٌباطلة؛ لأن قيساً ثقة ثبت، غير معروف بتدليس. وقيسٌ وعمرو مكِّيَّان في زمان واحد، وإن كان عمرو أسن وأقدم وفاة منه. وقد روى قيس عن عطاء ومجاهد، وهما أكبر وأقدم موتاً من عمرو ابن دينار"3.__________1 نزهة النظر: (ص 64) .(1/29- 35) .3 تهذيب السنن: (5/227) .
(1/424) فابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا المثال يكتفي - للحكم باتصال هذا السند - بكون قيس وعمرو عاشا في زمان واحد، وأن لقاءهما ممكن غير مستبعد، هذا مع كون قيس بن سعد ثقة ثبت ولا يُعرف بتدليس.وما قاله ابن القَيِّم هنا من أن قيساً غير معروف بتدليس: غير كافِِ للحكم بالاتصال؛ إذ قد يكون المعاصر غير مُدَلِّس، ولكنه يرسلُ إرسالاً خفياً، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: "وقيل: يُشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع: ثبوت لقائهما ... ولو مرة واحدة، ليحصل الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي، وهو المختار"1.ولما أعلَّ البخاري - رحمه الله - حديث عقبة بن عامر في: " لَعْن الْمُحَلِّل والْمُحَلَّل له"، بأن الليث بن سعد لم يسمعه من مشرح بن هاعان، وكذا أعلَّه أبو زرعة بقوله:"لم يسمع الليث من مشرح شيئاً ... "، ردَّ ذلك ابن القَيِّم بقوله: "فإن الليث كان معاصراً لمشرح، وهو في بلده، وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد"2.فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب في هذه المسألة إلى الحكم للسند بالاتصال بمجرد المعاصرة مع إمكان اللقاء.والذي يظهر - والله أعلم - أن ما ذهب إليه البخاري، وشيخه__________1 نزهة النظر: (ص 64) .2 إعلام الموقعين: (3/46) .
(1/425) ابن المديني هو الراجح، وما ذهب إليه مسلم - رحمه الله - من انعقاد الإجماع على خلافه: غير مُسَلّمٍِ له، بل عمل أكثر الأئمة المتقدمين على مذهب البخاري.وقد أشار ابن رجب - رحمه الله - إلى أن مذهب البخاري هذا هو مقتضى كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ، قال: "بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع، كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه ... "1. ثم قال - بعد أن نقل أمثلة كثيرة من كلام هؤلاء الأئمة تدل على اشتراطهم اللقيّ-:"فإذا كان هذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام - وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه، مع موافقة البخاري وغيره - فكيف يصح لمسلم - رحمه الله - دعوى الإجماع على خلاف قولهم، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا، يقتضي حكاية إجماع الحُفَّاظِ الْمُعْتَدِّ بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يُعْرَفُ عن أحد من نظرائهم، ولا عَمّن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم ... "2.وسبق ابنَ رجب إلى الاعتراض على مسلم في ذلك: ابنُ الصلاح رحمه الله؛ إذ قال: "وفيما قاله مسلم نظرٌ، وقد قيل: إن القول الذي رَدَّهُ مسلمٌ هو الذي عليه أئمة هذا العلم: عليّ بن المديني والبخاري وغيرهما"3.__________1 شرح علل الترمذي: (ص272) .2 شرح علل الترمذي: (ص278) .3 مقدمة ابن الصلاح: (ص 31) .
(1/426) وقد نقل الإجماع على مذهب البخاري حافظا المشرق والمغرب: الخطيب1 وابن عبد البر2.وبَيَّنَ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في عِدَّة مناسبات رُجحانَ مذهب البخاري، فقال: "وهو المختار، تبعاً لعلي بن المديني، والبخاري، وغيرهما من النقاد"3. وقال في مكان آخر - بعد أن بَيّن الباعث للبخاري على اشتراط ذلك -: "فتبيّن رجحان مذهبه"4. ونقل عنه السيوطي - رحمه الله - قوله:"من حَكَمَ بالانقطاع مطلقاً: شَدَّدَ، ويليه من شَرَطَ طول الصحبة، ومن اكتفى بالمعاصرة: سَهَّل، والوسطُ - الذي ليس بعده إلا التعنت -: مذهب البخاري ومن وافقه ... "5.فَتَبَيّنَ من ذلك: أن ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من الحكم بالاتصال بمجرد المعاصرة: مرجوحٌ، وأنَّ الراجح هو اختيار البخاري ومن وافقه: من اشتراط ثبوت اللقاء؛ إذ إن ذلك مقتضى الاحتياط، والله تعالى أعلم.__________1 انظر: فتح المغيث: (1/160) .2 التمهيد: (1/12 - 13) .3 نزهة النظر: (ص 64) .4 النكت على ابن الصلاح: (2/596) .5 تدريب الراوي: (1/216) .
(1/427) المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلسوينقسم إلى قسمين: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ.أولاً: تدليس الإسناد: وهو "أن يروي المحدث عمّن قد سمع منه ما لم يسمعه منه، من غير أن يذكر أنه سمعه منه". قاله ابن القطان1.وعَرَّفَهُ ابن حجر بقوله: "أن يروي عمن لقيه شيئاً لم يسمعه منه بصيغة مُحْتَمِلة، ويلتحق به: من رآه ولم يجالسه"2.وهذا النوع هو الذي غلبت تسميته بـ "تدليس الإسناد" وسماه بعضهم: "تدليس السماع"3.ويلحق بهذا النوع ما يسمى بـ "تدليس التسوية"، وصورته - كما قال الحافظ العراقي -: "أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد الْمُدَلِّس - الذي سمع الحديث من الثقة الأول - فَيُسْقِطُ منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل"4.__________1 انظر (نكت ابن حجر على ابن الصلاح) : (2/614) .2 طبقات المدلسين: (ص25) .3 انظر: جامع التحصيل: (ص 110) .4 التقييد والإيضاح: (ص96) ، وانظر: إتحاف النبيل: (2/31- 42) .
(1/429) ولتدليس الإسناد صور أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر1.ثانياً: تدليس الشيوخ: وهو: "أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة"2.قال الحافظ العلائي: " ... فهو يختلف باختلاف الأغراض:فمنهم من يُدَلِّس شيخه لكونه ضعيفاً أو متروكاً حتى لا يُعْرَف ضعفه إذا صَرَّح باسمه.ومنهم من يفعلُ ذلك لكونه كثير الرواية عنه كي لا يتكرر ذكره كثيراً ... "3.قال ابن حجر فيمن يفعل ذلك لإخفاء ضعف شيخه: "وهو خيانةٌ ممن تعمّده"4.ومن المسائل التي تعرض لها ابن القَيِّم - رحمه الله - فيما يتعلق بالتدليس:المسألة الأولى: في حكم حديث المُدَلِّس.اختلف أهل العلم في قبول خبر من عُرف بالتدليس - وبخاصة ما يتعلق بتدليس الإسناد - على أقوال:__________1 انظر: طبقات المدلسين: (ص25) .2 طبقات المدلسين: (ص 26)3 جامع التحصيل: (ص118- 119) .4 طبقات المدلسين: (ص26) .
(1/430) أحدها: أن خبره مردود مطلقاً غير مقبول. عزاه الخطيبُ لفريق من الفقهاء وأصحاب الحديث1.الثاني: القبول مطلقاً. عزاه الخطيب - أيضاً- إلى خلقِِ كثير من أهل العلم.وذلك أنهم لم يروا التدليس من باب الكذب، ولا أنه ينقض عدالته2.الثالث: التفصيل: فمن كان لا يُدَلِّس إلا عن ثقة قُبِلَ تدليسه، وإلا فلا. عزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث3.الرابع: يُقبل ممن كان وقوعه منه نادراً، وأما من غَلَبَ ذلك على حديثه: فلا4.الخامس: التفصيل أيضاً، فيُقبَل من المُدَلِّس الثقة إذا صرَّح فيه بالسماع، وأما ما رواه بلفظ محتمل فلا، وهذا هو المعتمد.قال السخاوي: "وممن ذهب إلى هذا التفصيل: الشافعي، وابن معين، وابن المديني"5. وقَرَّرَ العلائي: أنه "الصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول"6. وصححه الحافظ الخطيب7، وكذا__________1 الكفاية: (ص515) .2 الكفاية: (ص515) .3 التمهيد: (1/17) .4 فتح المغيث: (1/181- 182) .5 فتح المغيث: (1/182) .6 جامع التحصيل: (ص111) .7 الكفاية: (ص515) .
(1/431) صححه ابن الصلاح1.ونفى ابن القطان الخلاف في ذلك، فقال: "إذا صَرَّحَ المُدَلِّس الثقة بالسماع: قُبِلَ بلا خلاف، وإن عنعن: ففيه الخلاف"2.وقد كان ابن القَيِّم يذهب إلى هذا التفصيل في حقِّ المدلسين، وجاءت عباراته صريحة في هذا المعنى في أكثر من مناسبة، فمن ذلك:قوله في حق محمد بن إسحاق: "إن ابن إسحاق ثقة لم يُجْرَح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... إنما يُخَاف من تدليسه، وهنا قد صرح بسماعه للحديث من محمد بن إبراهيم التيمي، فزالت تهمة تدليسه"3. قال ذلك في حديث أبي مسعود في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.وقال في حديث ابن إسحاق - أيضاً-:حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طلاق ركانة بن عبد يزيد: "وقد زالت تهمة تدليس ابن إسحاق بقوله: حدثني"4. وقال عنه مرة:"والذي يُخاف من ابن إسحاق: التدليس، وقد قال: حدثني"5.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص35) .2 فتح المغيث: (1/182) .3 جلاء الأفهام: (ص6) .4 إغاثة اللهفان: (1/287) .5 إعلام الموقعين: (4/350) .
(1/432) وقال - رحمه الله - في حديث عَنْعَنَ فيه بقية بن الوليد - وهو حديث ذمِّ القدرية وأنهم مجوس هذه الأمة -: "لو قال بقيةُ: حدثنا الأوزاعي. مشى حال الحديث، ولكن عَنْعَنَهُ مع كثرة تدليسه"1. وقال عنه مرة: "وإنما نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرة روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صرح بالسماع: فهو حجة"2.ومع تقرير ابن القَيِّم - رحمه الله - لمذهب الجمهور، وعمله بمقتضاه في عدة مناسبات - كما سبق نقل أمثلة لذلك - فإنه يذهب إلى استثناء بعض المدلسين من هذه القاعدة، فيرى: أن من كان لا يدلس إلا عن ثقة، فإنه تقبل عنعنته، ولا يطالب بإظهار السماع والتحديث.وقد مضى معنا أن هذا أحد المذاهب في المسألة، وأن ابن عبد البر حكاه عن أكثر أئمة الحديث، وجزم به الذهبي رحمه الله3.فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - جمع بين هذين المذهبين في العمل، فيرى: أن حديث المدلس لا يقبل منه إلا ما صَرَّحَ فيه بالسماع، إلا فيمن كان لا يُدَلِّس عن الضعفاء، وكان لا يُدَلِّسُ إلا عن ثقة.ومما قاله في هذا الصدد:"وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن الضعفاء، بل تدليسه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين"4.__________1 تهذيب السنن: (7/60) .2 تهذيب السنن: (1/129) .3 الموقظة: (ص 45) .4 زاد المعاد: (5/457) .
(1/433) ويؤكد - رحمه الله - هذا المعنى في حق أبي الزبير، فيقول في مناسبة أخرى: "وأكثرُ أهلِ الحديث يَحْتَجُّونَ به إذا قال: عن، ولم يُصَرِّح بالسماع، ومسلم يُصَحِّح ذلك من حديثه ... "1.ولكن، لعل ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد بعبارته الأولى أن ينفي عن أبي الزبير تدليس اسم شيخه الضعيف تغطية لحاله، وهو ما يعرف: "بتدليس الشيوخ" كما مرّ، فإن مناسبة كلام ابن القَيِّم هذا: أن أبا الزبير قال في إسناد الحديث الذي ذكره ابن القَيِّم: "عن رجل صالح من أهل المدينة". فقال ابن القَيِّم ما قال دفعاً لتوهم قيام أبي الزبير بذلك في حق شيخه المذكور.وأما قوله - رحمه الله - عن السلف: "لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح": فلعله يشير بالسلف هنا إلى التابعين خاصة، وأبو الزبير منهم، فهل يسلم له أن التابعين لم يقع منهم التدليس عن الضعفاء؟؟فقد ذهب إلى ذلك أيضاً: الحاكم رحمه الله، فرأى أن التابعين بأسرهم لم يكونوا يدلسون إلا عن ثقة، نقل ذلك عنه العلائي2، ثم اعترضه بقوله:"وهذا لا يتم إلا بعد ثبوت أن من دَلَّسَ من التابعين لم يكن__________1 زاد المعاد: (5/226) .2 جامع التحصيل: (ص115- 116) .
(1/434) وعلى هذا، فإنَّ إطلاق ابن القَيِّم القول بذلك في حق التابعين غير مُسَلّم، ويَرِدُ عليه ما أورده العلائي على أبي عبد الله الحاكم.فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب إلى أن خبر المدلس لا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع، وقد يُستثنى من ذلك عنده: من عُرِفَ بأنه لا يدلس إلا عن ثقة.المسألة الثانية: حكم ما وجد في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين.تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه المسألة، فقال في حديث أطيط العرش، وما أُعِلَّ به من عنعنة ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة: " ... فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي الصحيح قطعة من الاحتجاج بعنعنة المدلس: كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر كثيرة لذلك"2.فظاهرُ كلام ابن القَيِّم: الحكم بالاتصال لعنعنة الْمُدَلِّس إذا كان لقي من عنعن عنه، وسمع منه. ويستدل لذلك بما وجد في "الصحيحين" من الاحتجاج بعنعنة المدلسين.أما الحكم على عنعنة الشخص بالاتصال لكونه لقي من__________1 جامع التحصيل: (ص 116) .2 تهذيب السنن: (7/98) .
(1/435) عنعن عنه وسمع منه: فهذا في غير المدلسين باتفاق العلماء، وقد مضى معنا البحث في ذلك.وأما المدلس إذا عنعن: فالصحيح - كما مضى قبل قليل - أنه لا يحتج به إلا إذا صرح بالتحديث، بل إن ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب إلى ذلك، كما سبق نقله عنه.أما أن يكون ثبوت اللقاء سبباً للحكم بالاتصال فيما عنعنه المدلس: فلا.وأما ما وجد في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين، وإخراجهما ذلك على سبيل الاحتجاج، واستناد ابن القَيِّم - رحمه الله - على ذلك في الحكم لما وُجِدَ في غيرهما بالاتصال: فقد قال غير واحد من أهل العلم بأن ذلك محمول على ثبوت السماع عندهما في هذا المعنعن من جهة أخرى، "ولو لم نقف نحن على ذلك: لا في المستخرجات - التي هي مظنة لكثير منه - ولا في غيرها" كما قال السخاوي1.وممن صَرَّح بذلك من الأئمة: ابن الصلاح2، وتبعه النووي - رحمه الله - فقال: "وما كان في الصحيحين وشبههما3 عن المدلسين بـ "عن": محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى"4. ووافقهما الحافظ ابن حجر رحمه الله، لكنه أشار إلى تقييد ذلك بما كان عندهما على__________1 فتح المغيث: (1/183) .2 كما في (النكت) لابن حجر: (2/635) .3 يعني: من الكتب التي اشترط أصحابها الصحة.4 التقريب: (ص9) .
(1/436) سبيل الاحتجاج، أما ما أخرجاه من عنعنة المدلسين في المتابعات، فقد يحصل في مثله نوع من التساهل1.وأما ما مَثَّل به ابن القَيِّم رحمه الله:فأما أبو الزبير عن جابر: فلابد من تقييد ذلك"بصحيح مسلم"؛ لأن البخاري لم يخرج له إلا متابعة.ثم إن الأئمة قد احتملوا عنعنة أبي الزبير عن جابر إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه؛لأنه أعلم له على الأحاديث التي سمعها من جابر2.وأما ما كان في "صحيح مسلم" من ذلك، وليس من رواية الليث عنه: فقد قال الحافظ العلائي رحمه الله: "كأن مسلماً- رحمه الله - اطلع على أنها مما رواه الليث عنه، وإن لم يروها من طريقه"3.وأما سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: فإن ابن عيينة لم يكن يدلس إلا عن ثقة، وقال ابن حبان: "وهذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان ابن عيينة"4.وعلى كل حال، فلابد من حمل ما وقع في "الصحيحين"من ذلك على ما تقدم من كلام الأئمة، تحسيناً للظن بكتابيهما، ولإجماع الأمة على صحة ما وقع فيهما.__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/635- 636) .2 انظر (الميزان) : (4/37) .3 جامع التحصيل: (ص 126) .4 جامع التحصيل: (ص 116) .
(1/437) فهذا ما يجاب به عن تخريج أصحاب "الصحيحين" لعنعنة المدلس في مقام الاحتجاج، وأما إجراء هذا الحكم على ما وقع من ذلك خارج كتابيهما - كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم رحمه الله - قياساً عليهما: فغير مسلّم؛ لما تقدم من أن "للصحيحين" في ذلك خصيصة ليست لغيرهما، لتقدم كتابيهما على غيرهما، ولتلقي الأمة لهما بالقبول. (1/438) المبحث التاسع: الشَّاذتعريفه: اخْتُلِفَ في تعريف الحديث الشاذ على أقوال، أرجحها: أنه: مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه. قال الحافظ ابن حجر: "وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح"1. وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وجماعة من أهل الحجاز2.وعلى هذا المذهب: لابد أن يتوافر للحكم بالشذوذ شرطان:الأول: أن يكون الْمُتَفَرِّد ثقة.الثاني: أن يكون هذا المتفرد مخالفاً لمن هو أرجح منه: لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من المرجحات.وقد حَدَّ الخليلي الشاذ: بمطلق التفرد، ولم يقيده بالمخالفة، ولا بكون المتفرد ثقة3.وذهب الحاكم إلى تقييد الشاذ: بتفرد الثقة، ولكنه لم يشترط فيه المخالفة4.والراجح هو التعريف المتقدم أولاً، كما مضى في كلام ابن حجر، ورجحه أيضاً ابن كثير5.__________1 انظر: (نخبة الفكر مع نزهة النظر) : (ص35) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) ، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/653) .3 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) .4 معرفة علوم الحديث: (ص119) .5 اختصار علوم الحديث: (ص58) .
(1/439) وقد حَرَّرَ ابن الصلاح أن الشاذ المردود على قسمين:أحدهما: الحديث الفرد الذي خالف راويه من هو أولى منه في الحفظ والضبط.الثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يكون جابراً لما يوجبه التفرد من النكارة والضعف1.وهذا الذي حرره ابن الصلاح في حد الشاذ وصفته قال به ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنه قال - عند كلامه على صفة الراوي المقبول وشروط قبول خبره -: "أن لا يشذ عن الناس: فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يتابع عليه، وليس ممن يُحتمل ذلك منه: كالزهري، وعمرو بن دينار، وسعيد بن المسيب، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة ونحوهم؛ فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط.فأما مثل: سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وجعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر ونحوهم: فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأساً. وأما إذا روى أحدهم ما يخالف الثقات فيه، فإنه يزداد وهناً على وهن"2.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص37) .2 الفروسية: (ص 53 - 54) .
(1/440) وهذا الكلام من ابن القَيِّم - رحمه الله - يُحَدِّدُ بوضوحٍ صفة الحديث الشاذ بقسميه المتقدم بيانهما عند ابن الصلاح، فقد بيّن - رحمه الله - أن الشاذ هو:1- أن يروي الثقة ما يخالفه فيه من هو أوثق وأكبر.2- أو: ينفرد بما لا يتابع عليه، وليس هو ممن يحتمل تفرده، وذلك لقلة ضبطه، وعدم تمام حفظه. وهذا بخلاف تفرد الثقة الضابط، فإنه مقبول محتج به.ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى ويزيده وضوحاً، فيذكر أن التفرد أنواع، وأنه ليس كل تفرد يكون الحديث بموجبه شاذاً، فيقول رحمه الله:"التفرد نوعان:1- تفرد لم يُخَالَف فيه من تفرد به؛ كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين1، وأشباه ذلك.2- وتفردٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن2 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلولم يرو هذا عن ابن جريج، وتفرد همام بحديثه، لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه.__________1 يشير إلى تفرد مالك بحديث: " دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر". وتفرد عبد الله بن دينار بحديث: "النهي عن بيع الولاء وهبته".2 وهو حديث: "وضع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه إذا دخل الخلاء".
(1/441) فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1.ففي هذا الكلام منه - رحمه الله - بيان للفرق بين تَفَرُّدِ الثقة بما لم يروه غيره - مع كونه ممن يحتمل تفرده -: فهذا مقبول، وبين تفرد الثقة بما يخالفه فيه الثقات: فهذا الذي يكون شاذاً مردوداً، وهذا الفرق سبق بيانه واضحاً في كلام ابن الصلاح وغيره.ويؤكد هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقول رحمه الله: "والتَّفَرُّدُ الذي يُعَلَّلُ به: هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها.وأما الثقة العدل: إذا روى حديثاً وتفرد به، لم يكن تفرده علة، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم عملت بها الأمة"2.ويشير مرة إلى أن تفرد الثقة - إذا لم يخالف - لا يضر، فيقول في حديث السعاية، وما قيل من تفرد ابن أبي عروبة به: "ثم لو قدر تفرد سعيد به لم يضره"3.فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد حرر بكلامه هذا: معنى الشاذ، وصورته الصحيحة، وبيّن الفرق بين التفرد الذي يعد شذوذاً وما لا يكون كذلك.__________1 تهذيب السنن: (1/29- 30) .2 تهذيب السنن: (3/224) .3 تهذيب السنن: (5/399) .
(1/442) ومع ذلك، فكأنه - رحمه الله - أراد التنزل مع من يسمي تفرد الثقة غير المخالف "شاذاً"، فذهب إلى القول: بأن ذلك وإن سمي شاذاً، فإنه ليس بمردود بل هو محتج به.وقد سبق أن هذا المعنى وقع في تعريف الحاكم - رحمه الله - للشاذ، فهو عنده: تفرد الثقة دون متابع.قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فأما إذا روى الثقة حديثاً منفرداً به، لم يرو الثقات خلافه: فإن ذلك لا يُسمى شاذاً، وإن اصطلح على تسميته شاذاً بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح مُوجباً لرده، ولا مُسوِّغاً له".1وقال مرة في حديث صيام ست شوال: "فإن قيل: مداره على عمر بن ثابت الأنصاري، لم يروه عن أبي أيوب غيره، فهو شاذ، فلا يحتجُّ به.قيل: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث الأعمال بالنيات"2.وذلك محمول - كما تَقَدَّمَ - على التنزل منه - رحمه الله - مع المخالفين، وإلا فقد سبق تأكيده على أن هذا ليس شاذاً، ونقلنا كلامه في ذلك، والله أعلم.__________1 إغاثة اللهفان: (1/296) .2 تهذيب السنن: (3/313) .
(1/443) المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهدالاعتبار: "هو الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد". قاله الحافظ ابن حجر1.ذلك أن الأئمة يأتون إلى الحديث الذي يُظن كونه فرداً، فينظرون: هل وافق راويه أحد غيره على روايته أم لا؟ وذلك بالبحث والتفتيش في: الصِّحَاح، والجوامع، والمسانيد، والمعاجم، والفوائد، والمشيخات وغيرها. فهذا النظر والتفتيش يسمى "اعتباراً".فإن وُجِدَ أحد شارك هذا الراوي فرواه عن شيخه، أولم يوجد ولكن وُجد من رواه عن شيخ شيخه، وهكذا حتى الصحابي، فعند ذلك يُسمى حديث هذا المُشارك: "متابعة". وكلما بَعدت المشاركة عن ذلك الراوي الذي اعتبرت روايته، كلما كانت المتابعة أنقص وأقصر.فإن فُقِدَت المتابعة بهذا المعنى، ولكن وُجِدَت رواية هذا الحديث أو معناه عن صحابي آخر، فهو: "الشاهد".فعُلِمَ بذلك أن الاعتبار: هو عملية البحث والتفتيش عن متابع أو شاهد للحديث الذي يُظن أنه فردٌ، فإن فُقِدَتْ المتابعاتُ والشواهدُ فالحديث بذلك يكون فرداً2.__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/681) .2 انظر: التقييد والإيضاح: (ص109- 111) ، وتدريب الراوي: (1/241- 245) .
(1/445) ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب:المسألة الأولى: هل يتقوَّى الحديث الضعيف بتعدد طرقه؟جمهور أئمة الحديث على أن الحديث الضعيف يَتَقَوَّى بمجيئه من طرق أخرى، قال الإمام الزركشى: "وَشَذَّ ابنُ حزم عن الجمهور، فقال: ولو بلغت طرق الضعيف ألفاً لايقوى ... "1.وقال ابن دقيق العيد: "قد عُلِمَ أن تَضَافَرُ الرواةِ على شيء، ومتابعة بعضهم لبعض في حديث: مِمَّا يَشُدُّهُ ويقويه، وربما التحق بالحسن وما يحتجُّ به"2.ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - موافقاً للجمهور في القول بتقوية الضعيف بتعدد طرقه.ومن أقواله - رحمه الله - في ذلك:أنه قال في أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء فيها من أمرهصلى الله عليه وسلم بما يفيد الوجوب، قال: "الدليل الرابع - يعني من أدلة الوجوب -:ثلاثة أحاديث كل منها لا تقوم به الحجة عند انفراده، وقد يقوي بعضها بعضاً عند الاجتماع"3.__________1 البحر الذي زخر: (3/1075) .2 المصدر السابق: (3/1080) .3 جلاء الأفهام: (ص199) .
(1/446) وقال - رحمه الله - عند كلامه على مقدار زكاة الفطر: "وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضاً"1.وقال في حديث اعتداد أم سلمة رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها في الصَّبِر: "لا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار" قال:"وَذَكَرَ أبو عمر في "التمهيد" له طرقاً يشدُّ بعضها بعضاً"2.فهذه بعض الأقوال لابن القَيِّم فيما يتعلق بتقوية الضعيف واعتضاده بتعدد الطرق.المسألة الثانية: كتابة الحديث الضعيف للاعتبار به، دون اعتماد عليه.كثير من الأئمة يكتبون الحديث الضعيف ويخرجونه في كتبهم في باب المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه.قال الإمام أحمد رحمه الله: "ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد"3.وقال النووي رحمه الله: "وإنما يفعلون هذا - يعني إدخال الضعفاء في المتابعات والشواهد - لكون التابع لا اعتماد عليه، وإنما__________1 زاد المعاد: (2/19) .2 زاد المعاد: (5/703) .3 شرح علل الترمذي: (ص112) .
(1/447) الاعتماد على من قبْله"1.قال السخاوي - عقب نقله كلام النووي هذا -: "ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كل من المُتابِعِ والمتابَع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة"2.فالحاصل: أن الأئمة - رحمهم الله - يكتبون حديث الضعيف - ضعفاً قريباً- متابعةً واستشهاداً، ويكون اعتمادهم على الرواية الأصلية إن كانت مما يصلح لذلك، أو يكون الاعتماد على مجموع الروايتين معاً إذا كان كل منهما لا ينتهض للحجة بانفراده.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى جواز كتابة الحديث الضعيف وذكره في المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه وحده، فمن ذلك:ما جاء عنه في حديث بلال بن الحارث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "إنه من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها ... ". وقد رُوِيَ من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وضَعَّفَهُ بعضهم،فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "لكن هذا الأصل ثابت من وجوه: كحديث: " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه" ...__________1 شرح صحيح مسلم: (1/34) .2 فتح المغيث: (1/205) .
(1/448) وحديث: " من دل على خير، فله مثل أجر فاعله" وهو حديث حسن".قال: "فهذا الأصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات، فلا يَضُرُّ ذكره"1.وقال أيضاً - عند ذكره أحاديث الفطر بالحجامة -: "إن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها ... والباقي إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده، وإما ضعيف فهو يصلح للشواهد والمتابعات، وليس العمدة عليه"2.فظهر بذلك: موافقةُ ابن القَيِّم - رحمه الله - لأئمة هذا الشأن في جواز ذكر الضعيف في المتابعات والشواهد، دون الاعتماد عليه.__________1 مفتاح دار السعادة: (1/76) .2 تهذيب السنن: (3/247 - 248) .
(1/449) المبحث الحادي عشر: الموضوعالخبر الموضوع: هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المُختلق، المصنوع1. أي: أن واضعه اختلقه وصنعه2.والموضوع شرُّ أنواعِ الضعيف، كما قال الخطَّابي3، وتبعه ابن الصلاح4رحمهما الله تعالى.ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - اهتمام خاص بما يتعلق بالحديث الموضوع، والكشف عنه، وبيان خطره، والتحذير منه، ويتضح ذلك جليًّا في كتابه النافع (المنار المنيف) ، إذ ضمَّنه جملة من الضوابط التي يعرف بها كون الحديث موضوعاً، مع التنبيه على الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبيان حالها، وذكر المتَّهم بها، وقد مضى بيان ذلك واضحاً5.ومن المسائل المتعلقة بالحديث الموضوع مما تناوله ابن القَيِّم رحمه الله:المسألة الأولى: حكم رواية الحديث الموضوع أو الاستشهاد به.لا يجوز - عند أهل العلم بالحديث وغيرهم - ذكر الحديث الموضوع - برواية وغيرها - لمن عَلِمَ حاله، إلا مقروناً ببيان أمره6.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص47) ، وفتح المغيث: (1/248) .2 شرح ألفية العراقي: (1/261) .3 معالم السنن: (1/11) .4 مقدمة ابن الصلاح: (ص47) .(ص 300 - 309) . وانظر ما يأتي في (ص 460 - 469) .6 فتح المغيث: (1/249- 250) .
(1/451) قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "يجب على المحدث أن لا يروي شيئاً من الأخبار المصنوعة، والأحاديث الباطلة الموضوعة، فمن فعل ذلك بَاء بالإثم المُبين، ودخل في جملة الكذّابين"1.وأما من رواه مبيناً حاله، وذكره منبِّهاً على وضعه: فإن ذلك جائز، قال الخطيب رحمه الله: "ومن روى حديثاً موضوعاً على سبيل البيان لحال واضعه، والاستشهاد على عظيم ما جاء به، والتعجب منه، والتنفير عنه: ساغ له ذلك، وكان بمثابة إظهار جرح الشاهد في الحاجة إلى كشفه والإبانة عنه"2.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة المهمة، فأكد عدم جواز ذكر الحديث الموضوع إلا مع بيان حاله.فقال عن حديث عوج بن عنق الطويل: "وليس العجب من جُرْأَةِ مثل هذا الكَذَّاب على الله، إنما العجبُ ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم: من التفسير وغيره، ولا يبيِّن أمره"3.وقد أَوْرَدَ مرة حديثين موضوعين باطلين في فضل "الأرز" ومدحه، ثم قال: "ذكرناهما تنبيهاً وتحذيراً من نسبتهما إليه صلى الله عليه وسلم"4.__________1 فتح المغيث: (1/250) .2 فتح المغيث: (1/250- 251) .3 المنار المنيف: (ص77) .4 زاد المعاد: (4/285) .
(1/452) فَنَبَّهَ بذلك على ما يلزم العالم من واجب البيان للحديث الموضوع والتحذير منه.المسألة الثانية: بيان عظم جناية الوضاعين على الإسلام.لا شك أن خطر الوضاعين على شريعة الإسلام عظيم، وهل هناك جناية أعظم من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؟وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على عظم جناية هؤلاء الوضاعين، وكبير جرمهم، فقد أورد - رحمه الله - حديث تكليم حمار النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفور له، وبيّن أنه باطل موضوع، ثم ذكر أن مثل هذه الأحاديث قد فتحت باباً عظيماً للزنادقة للطعن في الدين، فقال: "هذه الأحاديث وأمثالها هي التي جرأت الزنادقة والملاحدة على الطعن في الإسلام، والقدح في الدين.فالجناية على الإسلام بالوضاعين والكذابين، تضاهي الجناية عليه من الزنادقة والطاعنين"1.المسألة الثالثة: بيان الشبهة التي يتعلق بها بعض الوضاعين، والرد عليها.والمقصود في هذا المقام خاصة: أولئك الذين حملهم التدين الناشيء عن الجهل على وضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، يحتسبون بذلك بزعمهم، ويتقربون إلى الله بجهلهم.__________1 الموضوعات: (ق 43/ب) .
(1/453) وقد اعتنى هؤلاء بوضع أحاديث في الفضائل، والترغيب والترهيب، وكان من الشُّبه التي تعلق بها بعضهم في ذلك قولهم: إن الكذب في الترغيب والترهيب كذب للنبي صلى الله عليه وسلم، لا كذب عليه!!قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا من كمال جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة فجورهم وافترائهم؛ فإنه - عليه السلام - لا يحتاج - في كمال شريعته وفضلها- إلى غيره"1.وقد ألمح ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى شبهتهم هذه، ورد عليها - وذلك عندما أورد بعض الأحاديث التي وضعوها في فضائل سور القرآن- فقال: "وقال بعض جهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكذب عليه.ولم يعلم هذا الجاهل: أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه، واستحق الوعيد الشديد"2.المسألة الرابعة: بيان أنه من المحال وقوع الكذب والغلط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون كشفه.إن من تمام حفظ الله - عز وجل - لهذا الدين: أن هيأ جهابذةً نقاداً، وأئمة أفذاذاً، مَحَّصُوا هذه الأحاديث، وميزوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام غيره من الكذابين.__________1 اختصار علوم الحديث: (ص 79) .2 المنار المنيف: (ص114- 115) .
(1/454) قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: "يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] "1.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا المعنى، وأن الله - عز وجل - لابد وأن يُقِيمَ في هذه الأمة من ينافح عن دينه، ويذبُّ الكذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: " ... ونحن لا نَدَّعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب، أو غلط، أو سها، فلا بد أن يقوم دليل على ذلك، ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه، ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها"2.ثم بيّن - رحمه الله - أن لهذه الطائفة تأييداً خاصاً، وتوفيقاً من الله عز وجل، فقال: "والله - عز وجل - يؤيد من ينافحُ عن رسوله تأييداً خاصاً، ويفتحُ له - في معرفة نقد الحق من الباطل - فتحاً مبيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه، وأنه لا يزال من عباده طائفة قائمة بنصرة الحق إلى أن يأتي أمر الله، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه"3.__________1 الجرح والتعديل: (1/1/18) .2 مختصر الصواعق: (2/481) .3 الموضوعات: (ق43/ب) .
(1/455) المسألة الخامسة: في بيان الأغراض الحاملة للوضاعين على وضع الحديث.تختلف الأغراض الباعِثَةُ للوضَّاعين على وضع الحديث وتتنوع، ومن ثَمَّ فهم ينقسمون إلى فرق وطوائف عديدة، وذلك بحسب الغرض الحامل لكل طائفة منهم على الكذب.ومن الأسباب التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما كان باعثاً للوضاعين على وضع الحديث:1- قوم حملهم على ذلك: الاستخفاف بالدين والطعن فيه، والتنقص للرسول صلى الله عليه وسلم والإضلال للناس، وهم الزنادقة: المبطنون للكفر المظهرون للإسلام، أو: الذين لا يتدينون بدين1.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذه الطائفة - عند ذكره: أن الحديث الموضوع يشتمل على مجازفات لا يصدر مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم - فقال:"وأمثال هذه المجازفات الباردة لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين:إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقاً قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه"2.__________1 فتح المغيث: (1/253) .2 المنار المنيف: (ص 51) .
(1/456) 2- وصنف آخر، كان قصدهم من وضع الحديث: شغل الناس بالخير وصرفهم عن الشر بزعمهم، فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، والفضائل: كفضائل سور القرآن سورة سورة، وغير ذلك.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذه الطائفة وصنيعها، فذكر ما قاموا به من وضع أحاديث فضائل السور، ثم قال: "وقد اعترف بوضعها واضعها، وقال: قصدت أن أشغل الناس بالقرآن عن غيره. وقال بعض جهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكذب عليه. ولم يعلم هذا الجاهل: أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه واستحق الوعيد الشديد"1. وهذه الطائفة غالباً ما ينسبون إلى الزهد والصلاح، ولذا فهم أعظم هذه الطوائف خطراً؛ لثقة الناس بهم2.وقد أشار بعض الأئمة - رحمهم الله - إلى حال هؤلاء القوم وسوء صنيعهم وكذبهم في الحديث النبوي، من ذلك قول يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: "ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث"3.3- وطائفة ثالثة من أصحاب الأهواء والبدع، وضعوا الحديث نصرةً لمذاهبهم، وتعصباً لِنِحَلِهم، وتأييداً لبدعهم: كالروافض، والخوارج، وغيرهم.__________1 المنار المنيف: (ص114 - 115) .2 انظر: ألفية الحديث وشرحها - للعراقي: (1/266)3 الجامع للخطيب البغدادي: (2/199) . وانظر أيضاً: مقدمة صحيح مسلم مع شرح النووي: (1/94) ، والتمهيد: (1/52) .
(1/457) قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما ما وضعه الرافضة في فضائل علي: فأكثر من أن يعد". ثم نقل عن الخليلي قوله: إنهم وضعوا ثلثمائة ألف حديث، ثم قال: "ولا تستبعد هذا؛ فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال"1.ومن ذلك أيضاً: ما أشار إليه - رحمه الله - من وضع أهل البدع أحاديث في الاكتحال والتطيب يوم عاشوراء، وذكر أن ذلك كله كذب من وضع المبتدعة، تأييداً لبدعهم2.4- وطائفة من هؤلاء كانوا من أصحاب المصالح الدنيوية، والأغراض الشخصية، فوضعوا أحاديث لتحقيق تلك المصالح، وتحصيل تلك الأغراض.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - يصف بعض هذه الطوائف: "وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي الْمُزَوِّرين، الذين يُرَوِّجُون لها ليكثر سواد الزائرين"3.ويشير بذلك إلى الأحاديث التي وُضعت في فضل الصخرة ببيت المقدس.وبعد، فهذه بعض الأغراض التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما حمل بعض الناس على وضع الحديث.__________1 المنار المنيف: (ص116) .2 المنار المنيف: (ص111- 113) .3 المنار المنيف: (ص87) .
(1/458) المسألة السادسة: العلامات التي يُعرف بها كون الحديث موضوعاً.تناول الأئمة رحمهم الله - عند كلامهم على الحديث الموضوع - بعض العلامات التي تدل على كون الحديث موضوعاً، وذلك مما يقع في متنه دون إسناده، بحيث ترشد هذه العلامات الناظرَ فيه إلى أنه ليس من كلام النبيصلى الله عليه وسلم.ولكن ليس ذلك بمقدور كل أحد، وإنما تميزت بذلك طائفة معينة من الأئمة، هيأهم الله لذلك، واختصهم بخصائص ليست لغيرهم، أولئك: هم جهابذةُ الحديث وأطباؤه، وصيارفته ونقاده.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في بيان صفة هذه الطائفة، والأسباب التي أوصلتهم إلى هذه المرتبة:"وإنما يعلم ذلك - يعني كون الحديث موضوعاً -: من تَضَلَّع1 في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه"2.__________1 تَضَلَّعَ الرجل: امتلأ ما بين أضلاعه شبعاً ورياً. (لسان العرب: ص2599، مادة: ضلع) .فمراد ابن القَيِّم هنا: من تَشَبَّعَ بمعرفة السنن حتى امتلأ من هذه المعرفة، وصار له فيها شأن.2 المنار المنيف: (ص44) .
(1/459) ولقد أسهم ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الجانب إسهاماً فَعَّالاً، وشارك بجهد نافع؛ذلك أنه - رحمه الله - قد سئل عن إمكان معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير نظر في إسناده.فأجاب - بعد أن بين أهمية هذا السؤال وعظم قدره - بجملة من الضوابط والدلائل التي يعرف بها ذلك1فجاءت كلماته نافعة في بابها، مفيدة لمن طالعها ونظرها.فمن هذه الضوابط والعلامات التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله:1- اشتمال الحديث على مجازفات باردة لا يمكن أن يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.والْمُجَازَفَة: هي إرسال الكلام إرسالاً من غير قانون. ويُقَالُ لمن كان هذا شأنه: جازف في كلامه2.فقصد ابن القَيِّم بذلك: أن يكون الحديث مشتملاً على كلام مبالغ فيه، وتهويلات لا ضابط لها.ويكثر هذا النوع من المجازفات الفارغة في أحاديث الترغيب والترهيب، وقد مثَّل ابن القَيِّم لذلك بأحاديث، منها:- حديث: " من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أعطي ثواب سبعين نبياً".__________1 انظر: المنار المنيف: (ص50 - 102) .2 المصباح المنير: (1/99) .
(1/460) قال ابن القَيِّم: "وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صَلَّى عُمْرَ نوحٍ - عليه السلام - لم يعط ثواب نبيٍّ واحد".1- وحديث: " من صلى بعد المغرب ست ركعات، لم يتكلم بينهن بشيء عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنة " 2.إلى غير ذلك من المبالغات الكثيرة التي نسجها الكذابون على هذا المنوال3.2- أن يكون الحديث مما يكذبه الحس.كأن يكون الحديث مشتملاً على أمر يشهد الواقع المحسوس المشاهد بكذبه، ومن أمثلة ما وضع من هذا القبيل:- حديث: " الباذنجان شفاء من كل داء " 4.- وحديث: " الباذنجان لما أكل له " 5.__________1 المنار المنيف: (ص50) ، وانظر (الموضوعات) لابن الجوزي (2/416- 417) ح992، فقد ذكر حديثاً طويلاً في ثواب من صلى الضحى يوم الجمعة، وفيه: "والذي بعثني بالحق إن له من الثواب كثواب إبراهيم، وموسى ويحيى وعيسى ... ". ثم حكم بوضعه. أما اللفظ الذي ذكره ابن القَيِّم رحمه الله: فلم أقف عليه.2 المنار المنيف: (ص47) ، وأورده ابن طاهر في (معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة) : (ص219ح824) . ورواه ابن حبان في (المجروحين) (2/83) في ترجمة عمر بن راشد اليمامي، قال: "كان ممن يروي الموضوعات عن ثقات أئمة…". ثم قال: "وهو الذي روى عن يحيى بن أبي كثير ... " فساق هذا الحديث.3 المنار المنيف: (ص44- 51) .4 انظر: الفوائد المجموعة (ص167) ح36 من كتاب الأطعمة والأشربة، وتذكرة الموضوعات (ص148) .5 انظر: تذكرة الموضوعات: (ص148) ، والمصنوع: (ص73ح75) ، وكشف الخفاء (ح874) .
(1/461) قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة، وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شِدَّة، ولو أكله فقيرٌ ليستغني لم يفده الغنى، أو جاهلٌ ليتعلم لم يفده العلم"1.فهذه الأحاديث وأمثالها مما يكذبها الواقع، وتدل المشاهدة والحقائق المقررة على خلافها.3- سماجة الحديث، وكونه مما يُسْخَرُ منه.والسَّمَاجُة: نقيض الملاحة، وسَمُجَ الشيء، فهو سَمْجٌ، وَسَمِجٌ: قَبُحَ2.ومن الأمثلة التي أوردها ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الأمر:- حديث: " لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ... " 3.- حديث: " لا تسبوا الديك؛ فإنه صديقي ... " 4.4- مخالفة الحديث لصريح القرآن.- كحديث مقدار الدنيا، " وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة" 5.__________1 المنار المنيف: (ص51) .2 لسان العرب: (ص2087. مادة: سمج) ، والمصباح المنير: (1/287) .3 المنار المنيف: (ص54) ، وانظر المصنوع (148ح252) ، وتذكرة الموضوعات (ص148) ، وتمييز الطيب من الخبيث (ص 135) .4 المنار المنيف: (ص55) ، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/133ح1347) ، وتنزيه الشريعة (2/249ح60) .5 المنار المنيف: (ص80) .
(1/462) فهذا الحديث يناقض نصوص القرآن الكثيرة التي فيها أن الله عز وجل قد اختص بعلم الساعة، ولم يطلع على ذلك أحداً، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ} [الأعراف: 187] .5- مناقضة الحديث لما جاءت به السُّنة الصريحة مناقضةً بَيِّنة.قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك: فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء"1.ومن أمثلة ذلك مما ساقه ابن القَيِّم رحمه الله: الأحاديث الواردة في مدح من اسمه محمد أو أحمد، وأنه من تسمى بذلك لا يدخل النار2.قال ابن القَيِّم: "وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه صلى الله عليه وسلم: أن النار__________1 المنار المنيف: (ص57) .2 من أمثلة ذلك: ما يروى عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "يُوقف عبدان بين يدي الله عزوجل فيأمر بهما إلى الجنة، فيقولان: ربنا بما نستأهل الجنة ولم نعمل عملاً تجازينا؟! فيقول الله لهما: عبديّ ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من اسمه أحمد أو محمد".أخرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) : (1/240- 241ح326) . أخرجه ابن الجوزي، وأورده ابن عراق في (تنزيه الشريعة) : (1/173ح13) . وينظر جملة من الأحاديث الواردة في ذلك في موضوعات ابن الجوزي - المصدر السابق - الأحاديث رقم (320 - 328) .
(1/463) لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة"1.6- أن يُدَّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلَ أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه.فإن العادة قد جرت على أن مثل ذلك ينقله العدد الكثير، أما أن يطبق الجميع على كتمان ذلك وعدم نقله، أو ينفرد واحد من دون هذا الجمع بنقل ذلك: فإنه لا يكاد يقع.وقد مَثَّل ابن القَيِّم - رحمه الله - لذلك بما ادَّعته الرافضة: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: " هذا وَصِيّ وأخي، والخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا ". ثم اتفقوا جميعاً على كتمان ذلك ومخالفته2.7- أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فَيَدُلُّ بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.ومن أمثلة ذلك:__________1 المنار المنيف: (ص57) .2 المنار المنيف: (ص57) ، وأخرج حديث الوصية لعلي: الجورقاني في (الأباطيل) : (2/148) ح543 - 544. ثم قال في الأول منهما: "هذا حديث باطل، لا أصل له". وقال في الثاني: "هذا حديث باطل، وفي إسناده ظلمات" وأخرج ابن الجوزي في (موضوعاته) (2/147) عدة أحاديث في الوصية لعلي، برقم (702 - 709) . وحكم عليها كلها بالضعف والوضع.
(1/464) - حديث: "الحجامة على القفا تورث النسيان" 1.- وحديث: " إذا غضب الله أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية" 2.- وحديث: " الْمَجَرَّةُ التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش" 3.8 - أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو وحي.وقد ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة كثيرة لذلك، أغلبها من الأحاديث الواردة في حسان الوجوه، وأن النظر إليهم يجلو البصر، أو أنه عبادة، أو أنهم لا يعذبون، وغير ذلك4.9- أن يكون الحديث مشتملاً على ذكر تاريخ حوادث مستقبلة.نحو: "إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأحاديث هذا__________1 المنار المنيف: (ص59) .وانظر: كشف الخفاء (ح1106) ، وتمييز الطيب من الخبيث (ص68) ، والأسرار المرفوعة (ح168) . وعزوه جميعاً للديلمي من طريق عمر بن واصل، وابن واصل اتهمه الخطيب بالوضع. وهو عندهم بلفظ " الحجامة في نقرة الرأس ... ". ونقرة القفا: حفرة في آخر الدماغ. (كما في المعجم الوسيط: نقر) .2 المنار المنيف: (ص59) .3 النار المنيف: (ص59) .4 المنار المنيف: (ص61 - 63) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/252) ح337، 338، باب: النظر إلى الوجه الحسن.
(1/465) الباب كلها كذب مفترى"1.وهذا الحكم - لا شك - مبني على استقراءٍ لأحاديث الباب كلها، فإنه قد قرر أن هذه الأحاديث - مع اشتمالها على معان باطلة - لم يصح منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.10- أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطُّرُقِيَّة أشبه وأليق.ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لذلك:- حديث: "الهريسة تشد الظهر" 2.- وحديث: "أكل السمك يوهن الجسد" 3.- وحديث: "من أخذ لقمة من مجرى الغائط أو البول، فغسلها ثم أكلها غفر له" 4.11- أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه.والظاهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قصد بذلك: مخالفة الحديث للشواهد الصحيحة من الكتاب والسنة.__________1 المنار المنيف: (ص64) ، وانظر ص (110 - 111) . وينظر حول ذلك: الموضوعات لابن الجوزي (3/460 - 476) .2 المنار المنيف: (ص64) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص418) .3 المنار المنيف: (ص64) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/155) ح1368، واللآلئ (2/233) ، وتنزيه الشريعة (2/239) ح17. ولفظه عند هؤلاء الثلاثة: "يذهب الجسد". قال ابن الجوزي عقبه: "هذا حديث ليس بشيء لا في إسناده، ولا في معناه، ولعله "يذيب الجسد" فقد اختلط على الراوي وفسره على الغلط، والسمك لا يذيب الجسد، ولا يذهب الحسد"، ثم بين شدة ضعف إسناده، ثم قال: "وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتحاشى عن مثل هذا".4 المنار المنيف: (ص65) ح117. وانظر: الأسرار المرفوعة (ص420) .
(1/466) وقد مثَّل - رحمه الله - لذلك بحديث عُوج بن عُنُق، وما جاء من: أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة ثلاثين وثلثاً، وأن نوحاً لما خَوَّفَهُ الغَرَقَ، قال له: احملني في قصعتك هذه ... إلى آخر ما جاء في الحديث.ثم بين ابن القَيِّم - رحمه الله - قيام شواهد عديدة من الكتاب والسنة على بطلانه1.12- ركاكةُ ألفاظِ الحديثِ وسَمَاجَتُهَا، بحيث يَمُجُّهَا السَّمع، ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن2.13- ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل.وقد مثل ابن القَيِّم لهذا الضابط بحديث: " وضع الجزية عن أهل خيبر". ثم بين أنه يشتمل على قرائن عديدة تدل على بطلانه3.فمن القرائن التي جاءت في هذا الخبر، وهي تدل على كذبه:- أن فيه "شهادة سعد بن معاذ"، وسعد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق.- وفيه: "وكتب معاوية بن أبي سفيان". ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح. إلى غير ذلك من القرائن الدالة على كذبه.__________1 المنار المنيف: (ص76 - 77) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص425 - 427) ، وتعليق محقق الكتاب على هذا الحديث.2 المنار المنيف: (ص90) .3 المنار المنيف: (ص102 - 105) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص444) ، وتعليق المحقق على الحديث.
(1/467) 14- أن يكون الحديث مما لم يوقف عليه في المصنفات الحديثية.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في حديث عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس، وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة":" ... فنحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه: أن هذا كذب على عمر رضي الله عنه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فلو يكون هذا عند عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... لما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام"1.وقد ذهب الفخر الرازي - رحمه الله - إلى أن الخبر إذا روي في زمان استقرت فيه الأخبار، فَفُتِّشَ عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرجال، عُلِمَ بطلانه، وذلك فيما بعد عصر الصحابة؛ فإنَّ الأخبار في عصرهم لم تكن استقرت2.ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، بحيث يَتَسَنَّى لكل شخص الحكم ببطلان الحديث لمجرد أنه لم يقف عليه في كتب السنن، بل لابد من قيد وضابط لهذه المسألة، وقد ذكر الحافظ العلائي - رحمه الله - لذلك قيداً حسناً، فقال: "وهذا إنما يقوم به - يعني التفتيش عن الحديث - الحافظ الكبير، الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه؛ كالإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومن بعدهم: كالبخاري، وأبي__________1 زاد المعاد: (5/539) .2 نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/847) .
(1/468) حاتم، وأبي زرعة، ومن دونهم: كالنسائي ثم الدارقطنى؛ لأن المأخذ الذي يحكم به - غالباً - على الحديث بأنه موضوع: إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق، والاطلاع على غالب المرويِّ في البلدان المتنائية، بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم.وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة، فكيف يَقْضِي بعدم وُجْدَانِهِ للحديث بأنه موضوع؟! هذا ما يأباه تصرفهم، فالله أعلم"1.فلابد من تقييد كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - بمثل ذلك.وبعد، فهذه هي الأمارات والضوابط التي وضعها ابن القَيِّم - رحمه الله - لمعرفة الحديث الموضوع بمجرد النظر في متنه، دون البحث في إسناده.ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على أن بعض الأئمة قد ذكر بعضاً من هذه الضوابط2، إلا أن ابن القَيِّم قد انفرد بزيادات عنهم3، مع حُسْنِ عرضها وتنسيقها، وجمع أمثلة وشواهد عديدة تحت كل ضابط منها، بحيث تكون مرجعاً مهماً في هذا الباب.__________1 نكت ابن حجر: (2/847) .2 انظر الكفاية: (ص 50 - 51) ، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/844- 847) ، وفتح المغيث: (1/264 - 265) .3 انظر مثلاً العلامات والضوابط رقم: (1، 3، 5، 8، 9، 10) .
(1/469) المبجث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد...المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترداشتراط العدالة والضبط في الراوي:قال ابن الصلاح رحمه الله: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه: على أنه يُشْتَرط فيمن يحتجُّ بروايته أن يكون عدلاً، ضابطاً لما يرويه ... "1.فَبَيَّنَ - رحمه الله - بذلك: أن رُكْنَي القبول للراوي هما: العدالة، والضبط. وقد سَبَقَ ضمن مباحث الحديث الصحيح الكلام عن هذين الشرطين.وقد عَبَّرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ضرورة توافر هذين الشرطين فيمن تقبل روايته، فقال: " ... اشْتُرِطَ فيها - أي الرواية - ما يكون مُغَلِّباً على الظن صدقَ الْمُخْبر، وهو: العدالةُ المانعةُ من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.فالشطرُ الأولُ من كلامِهِ يشيرُ إلى شرطِ العدالة، والشطرُ الثاني يشير إلى شرطِ الضبطِ.ومن المسائل التي تتعلق بالكلام على صفة من تُقْبَل روايته ومن ترد:__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 50)2 بدائع الفوائد: (1/5) .
(1/471) إنكار الأصل تحديث الفرع:إذا روى ثقة عن شيخ ثقة - أيضا ً- حديثاً، فأنكر الشيخ هذا الحديث ونفاه، فإن لذلك صورتين:الصورة الأولى: أن يكون الشيخ جَازِمَاً بِرَدِّهِ، فيقول: "ما رويته"، أو: "كذب عليّ". فعند ذلك يتعارض الجزمان، والشيخُ هو الأصل، فيجبُ رَدّ حديثِ فَرْعِهِ تبعاً لذلك1.وإنِّمَا رُدَّ الخبر لكذبِ واحدٍ منهما لا بعينه، كما قال ابن حجر رحمه الله2.وفي هذه الحالة - حالة جزم الشيخ بالنفي - سَوَّى ابن الصلاح رحمه الله - وتبعه الحافظ ابن حجر3- بين تصريح الشيخ بكذب الراوي، وبين مجرد الإنكار. إلا أن السخاوي - رحمه الله - حكى خلافاً بين المحدثين في الصورة الثانية خاصة - وهي إنكار الشيخ الرواية دون تكذيب - وأن بعضهم قال بقبول الرواية في هذه الحالة4.الصورة الثانية: ألا يجزم الشيخ برد ذلك المروي، كأن يقول: "لا أذكره"، أو: "لا أعرفه" أو نحو ذلك من الألفاظ التي تقتضي نسيانه، فإن ذلك لا يوجب رد رواية الراوي، بل تقبل عند الجمهور من المحدثين، ومعظم الفقهاء5.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 55) .2 نزهة النظر: (ص61) .3 نزهة النظر: (ص61) .4 فتح المغيث: (1/340 - 341) .5 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .
(1/472) وَحُكِيَ عن قوم من الحنفية القول بإسقاط المروي في هذه الحالة، وعدم قبوله.وَرَدَّ ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا مُتَعِقَّبٌ بأن عدالةَ الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي"1.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية وبيّن رأيه فيها، فإنه لمّا تكلم على حديث: ربيعة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد، وأن سُهَيلاً لما عرض عليه قال: "لا أحفظه"، ثم إنه - يعني سُهيلاً- رواه عن ربيعة - راويه عنه - فقال: "أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه"، وقد طعن قوم في الحديث بسبب ذلك، فأجاب ابن القَيِّم عن ذلك - مصححاً الحديث - بقوله: " ... إنَّ هذا يدل على صدق الحديث؛ فإن سُهيلاً صَدَّقَ ربيعة، وكان يرويه عنه عن نفسه، ولكنه نسيه، وليس نسيان الراوي حجة على من حفظ.الثالث: أن ربيعة من أوثق الناس، وقد أخبر أنه سمعه من سهيل، فلا وجه لرد حديثه ولو أنكره سهيل، فكيف ولم ينكره، وإنما نسيه للعلة التي أصابته؟ وقد سمعه منه ربيعة قبل أن تصيبه تلك العلة"2.فتضمن كلامه - رحمه الله - أموراً، وهي:__________1 نزهة النظر: (ص62) .2 تهذيب السنن: (5/226) .
(1/473) 1- أن الأصل قد صَدَّقَ الفرع، وكان يرويه عنه، مما يؤكد صدق الفرع، وهذا صريح في كلامه رحمه الله.2- أن الأصل نَسِيَ الحديث لِعِلَّة أصابته، والنسيان لا يوجب رد الحديث، فمن حفظ حجة على من نسي.3- أن الفرع إذا كان ثقة وأخبر أنه سمعه، فلا وجه لرد الحديث وإن أنكره الأصل، وهذا مفهوم من قوله عن سهيل: "فكيف ولم ينكره؟ ".وهذا الكلام منه - رحمه الله - لا غبار عليه، وهو متفقٌ مع ما تَقَدَّمَ تقريره في هذه المسألة، إلا أنه لم يتعرض لحالة انضمام التكذيب إلى الإنكار.فيمكن أن يُحْمَلَ كلامُ ابن القَيِّم - رحمه الله - على القبول في حالة إنكار الشيخ دون تكذيب، أو يكون قد اختار من الخلاف في هذه الصورة - حتى مع التكذيب -: القول بعدم الرد، والله أعلم.
(1/474) المبحث الثالث عشر: رواية المجهولالمجهول عند أهل الفن على قسمين: مجهول العين، ومجهول الحال.أما مجهول العين: فهو: "من لم يرو عنه إلا واحد، ولم يوثق".وأما مجهول الحال: فهو: "من روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق". ويقال له أيضاً: المستور1.ومن المسائل المتعلقة بالمجهول:المسألة الأولى: تعديل الْمُبْهَم.ذهب ابن القَيِّم إلى أن المبهم تثبت عدالته: إذا عدّله الراوي عنه الثقة؛ فقد أعلَّ ابن حزم حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن - في سقوط الحضانة بالتزويج - بالجهالة، حيث قال فيه أبو الزبير: "عن رجل صالح من أهل المدينة". فرد ابن القَيِّم ذلك عليه قائلاً: "وعنى بالمجهول: الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا ريب أن هذه الشهادة لا تُعَرِّفُ به، ولكنَّ المجهول إذا عَدَّلَهُ الراوي عنه الثقة: ثبتت عدالته؛ وإن كان واحداً على أصح القولين ... هذا مع أن أحد القولين: أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل ... وأما إذا روى عنه وصَرَّحَ بتعديله: فقد__________1 نزهة النظر: (ص50) .
(1/475) خَرَجَ عن الجهالة التي تُرَدُّ لأجلها روايته، ولا سيما إذا لم يكن معروفاً بالرواية عن الضعفاء والمتهمين"1.وهذا الذي ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - هو الراجح بالنسبة للراوي الذي سُمِّيَ، إذا كان الْمُعَدِّلُ متأهلاً لذلك2.وأما الراوي المبهم الذي لم يسم - كما في المثال الذي معنا - ففيه قولان للعلماء:الأول: أن ذلك لا يكفي في توثيق الراوي. قاله الخطيب البغدادي، وابن الصباغ، والصيرفي وغيرهم.الثاني: أن ذلك يكفي في توثيقه، قاله أبو حنيفة.والصحيح من ذلك القول الأول، قال السخاوي رحمه الله: "لأنه لا يلزم من تعديله أن يكون عند غيره كذلك، فلعله إذا سَمَّاهُ يعرف بخلافها، وربما يكون قد انفرد بتوثيقه ... بل إضراب المحدث عن تسميته ريبة توقع تردداً في القلب"3.ثم إنه لو ووفق ابن القَيِّم على ثبوت التوثيق للراوي المبهم، وزوال الجهالة عنه بمجرد ذلك، فإن ذلك لا ينطبق على المثال الذي توجه إليه كلام ابن القَيِّم رحمه الله؛فقد جاء فيه: "عن رجل صالح ". فما المراد بالصلاح هنا؟__________1 زاد المعاد: (5/456 - 457) .2 انظر: نزهة النظر (ص50) .3 فتح المغيث: (1/308) .
(1/476) ظاهر الكلام: أن المقصود الصلاح في الدين، لا الصلاح في باب الرواية، قال السخاوي - عقب قول الخليلي في رجل: شيخ صالح -: "أراد صلاحيته في دينه، جرياً على عادتهم في إطلاق الصلاحية حيث يريدون بها الديانة، أما حيث أريد: في الحديث، فيقيدونها"1. يعني بقولهم: صالح الحديث.فإذا تبين ذلك، فإن الوصف بهذا لا يؤخذ منه تعديل، فقد يكون الرجل صالحاً في دينه ولكنه ضعيف في الرواية2.فتلخص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم من ثبوت عدالة المجهول بتوثيق الراوي عنه له: مع كونه صواباً في المجهول المُسَمَّى إذا كان الموثق له متأهلاً لذلك، إلا أنه ليس بصواب في الراوي المبهم.المسألة الثانية: بمَ ترتفعُ جهالةُ الحالِ عن الراوي؟وأما مجهول الحال: فقد ذَهَبَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن الجهالة تزول عنه، ويحتج بحديثه:1- إذا روى عنه ثقتان فأكثر.2- ولم يُعلم فيه جرحٌ ولا قدحٌ.ففي حديث سلمة بن المحبق في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقع على جارية امرأته - وقد أعل بجهالة خالد بن عرفطة - قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فإن الحديث حسن؛ وخالد بن عرفطة قد روى عنه__________1 فتح المغيث: (1/200) .2 انظر الكلام على هذه المسألة فيما يأتي: (ص 570) .
(1/477) ثقتان: قتادة، وأبو بشر. ولم يعرف فيه قدح، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين ... "1.وخالد هذا: جَهَّلَه أبو حاتم الرازي2، والبزار3، وقال الذهبي: "لا يعرف"4. ولم يوثقه غير ابن حبان على مذهبه.وقال في حق الوليد بن زوران - وقد أعل ابن القطان حديثاً له بجهالة حاله -: "وفي هذا التعليل نظرٌ؛ فإن الوليد هذا روى عنه جعفر بن بُرْقان، وحجاج بن منهال، وأبو الْمَلِيح الحسن بن عمر الرقي وغيرهم. ولم يعلم فيه جرح"5.وقال في حق العالية بنت أنفع - وقد حَكَمَ الشافعي والدارقطني بجهالتها -: "هذا الحديث - يعني حديث النهي عن العينة - حسن، ويحتج بمثله؛ لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها، ويونس ابنها، ولم يعلم فيها جرح، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك"6.فهكذا يذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ارتفاع جهالة الحال عن الراوي والاحتجاج بخبره: برواية ثقتين عنه، ما لم يعلم فيه جرح.__________1 زاد المعاد: (5/38) .2 الجرح والتعديل: (1/2/340) .3 تهذيب التهذيب: (3/107) .4 المغني: (1/204) .5 تهذيب السنن: (1/107) .6 تهذيب السنن: (5/100) .
(1/478) وقد نصَّ الخطيب البغدادي وغيره على أن: رواية الاثنين عن المجهول ترفع عنه جهالة العين، ولا تُثْبِت له عدالة ولا توثيقاً، وأنه لابد من التصريح بثقته والنص على ذلك1. وهذا مذهب الجمهور من الأئمة والمحققين2.على أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد سُبِقَ إلى مثل ذلك أيضاً، فقد نُسِبَ إلى البزار والدارقطني القول بارتفاع جهالته والعمل بروايته، وعبارة الدارقطني - كما نقلها السخاوي رحمه الله -: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته، وثبتت عدالته"3.وكذا اكتفى بروايتهما: ابن حبان كما نص عليه السخاوي أيضاً4.فَتَلَخَّصَ من ذلك أن في قبول رواية مجهول الحال أقوالاً:1- رَدُّ روايته مطلقاً. وهو مذهب الجمهور، وذلك بناءً على أنه لابد من التصريح بتوثيقه.2- قبولها مطلقاً. وهو منسوب إلى البزار والدارقطني كما مضى، وبه يقول ابن حبان أيضاً.وقد مضى بيان هذين المذهبين، وهناك مذهب ثالث، وهو:__________1 انظر: الكفاية: (ص150) .2 فتح المغيث: (1/320) .3 فتح المغيث: (1/320) .4 فتح المغيث: (1/320) .
(1/479) 3- التوقف فيها، فلا تقبل ولا ترد حتى يتبين حاله، وهو مذهب إمام الحرمين الجويني، وأيده الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "والتحقيق: أن رواية المستور - ونحوه مما فيه الاحتمال - لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله، كما جزم به إمام الحرمين"1.وبذلك يتضح أن ما اختاره ابن القَيِّم من ارتفاع جهالة الحال عن الراوي بمجرد رواية اثنين عنه، مع عدم العلم بجرحه، ومن ثم الاحتجاج بخبره: مذهب مرجوح، وأن جمهور أهل العلم على خلافه، وأنه لابد في مجهول الحال من التوثيق الصريح، حتى تزول جهالته ويعمل بخبره.المسألة الثالثة: جهالةُ الصحَابي.إن توقفَ الأئمة في رواية المجهول وعدم قبولها: إنما هو للجهل بحال الراوي من العدالة.إذ إن عدالة الرواة شرط من شروط قبول الخبر، ولما كان عدم العلم بعدالة المجهول ينافي تحقق شرط العدالة، لزم - لأجل ذلك - التوقف عن قبول خبره حتى يعلم حاله.ولكن، هل يقال ذلك - أيضاً - في حق الصحابة رضوان الله عليهم؟؟ بمعنى: أنه إذا جاء الخبر عن صحابي غير مسمى مثلاً، فهل يتوقف عن قبول خبره بدعوى الجهل بحاله؟الْمُتَقَرِّرُ عند أئمة هذا الشأن: أن ذلك يجري فيمن دون الصحابة، أما الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم جميعاً عدول بتعديل الله - عزوجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم.__________1 نزهة النظر: (ص50) .
(1/480) قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن". ثم ساق - رحمه الله - جملة من آيات القرآن في مدحهم والثناء عليهم، ثم قال: "ووصفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم"1. ثم ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى.وقال ابن الصلاح رحمه الله: "للصحابة بأسرهم خِصِّيصَة، وهي: أنه لا يُسْئَلُ عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم - على الإطلاق - معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة"2.وقد أَكَّد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى في أكثر من مناسبة، مبيناً أنه لا ينبغي إعلال حديث بدعوى الجهل بحال صَحَابيِّهِ، ومن أقواله في ذلك:أن ابن حزم - رحمه الله - أعل حديث أبي الزبير، عن بعض__________1 الكفاية: (ص 93- 94) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص146 - 147) . وانظر في ذلك أيضاً: معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد: (ص46) ، والإصابة: (1/9) .
(1/481) أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة".فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما العلة الثانية: فباطلة على أصل ابن حزم وأصل سائر أهل الحديث؛ فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث؛لثبوت عدالة جميعهم ... "1.وقال - رحمه الله - في حديث لأبي أمامة بن سهل رضي الله عنه في صفة صلاة الجنازة - وقد وقع في بعض طرقه: عن أبي أمامة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: "وليس هذا بعِلَّةٍ قادحة فيه؛ فإنَّ جهالةَ الصحابي لا تَضُرُّ"2.المسألة الرابعة: هل تتقوى رواية المجهول بالمتابعات والشواهد؟إذا بَقِيَ مجهول العين على جهالته، فهل تتقوى روايته برواية غيره، ويُقْبَلُ خبره في المتابعات والشواهد؟أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك، فقال في حديث ميمونة رضي الله عنها في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في الحيض وهن مُتَّزِرَات - وقد أعله ابن حزم بأن نُدْبة - راويته عن ميمونة - مجهولةٌ لا تعرف - فقال ابن القَيِّم - رحمه الله - يرد عليه: "فأما تعليله حديث ندبة بكونها مجهولة: فإنها مدنية، روت عن مولاتها ميمونة، وروى عنها حبيب، ولم يعلم أحد جرحها.__________1 تهذيب السنن: (1/129) .2 جلاء الأفهام: (ص48) .
(1/482) والراوي إذا كانت هذه حالهُ، إنما يُخشى من تَفَرُّدِهِ بما لا يُتَابع عليه. فأما إذا رَوَى ما رواه الناس، وكانت لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديث مثل هذا، ولا يردونه ولا يعللونه بالجهالة. فإذا صاروا إلى معارضة ما رواه بما هو أثبت منه وأشهر: عللوه بمثل هذه الجهالة، وبالتفرد.ومن تأمل كلام الأئمة رأى فيه ذلك، فيظن أن ذلك تناقض منهم، وهو بمحض العلم والذوق والوزن المستقيم. فيجب التنبه لهذه النكتة، فكثيراً ما تمر بك في الأحاديث، ويقع الغلط بسببها"1.فابن القَيِّم - رحمه الله - يقرر: أن رواية مجهول العين تتقوى بغيرها من المتابعات والشواهد، وتكون مقبولة؛ حيث لم ينفرد. وأما إذا انفرد هذا المجهول بهذه الرواية، أو خالف من هو أوثق منه وأشهر: فإن خبره حينئذ يكون مردوداً؛لأنه - والحالة هذه - يكون من قبيل المنكر.وقد أشار الحافظ الدارقطني - رحمه الله - إلى مثل ذلك، فقال: " ... فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، وانفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره"2.وقد نصَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على ذلك أيضاً، لكنه خصه برواية مجهول الحال - المستور - فقال: "ومتى توبع السيئ الحفظ بِمُعْتَبَرٍ، وكذا: المستور، والمرسل، والمدلس: صار حديثهم حسناً، لا لذاته بل بالمجموع"3.__________1 تهذيب السنن: (1/176) .2 سنن الدارقطني: (3/174) .3 نخبة الفكر: (ص51 - 52) .
(1/483) وجعل الحافظُ السخاوي - رحمه الله - روايةَ المجهول مما يصلحُ في المتابعات والشواهد، وأنها تُكْتَبُ روايته للاعتبار، وذلك عند كلامه على مراتبِ الجرح والتعديل، وحكم رواية أصحاب كل مرتبة منها.فقد جعل "المجهول" في آخر مراتب الجرح - المرتبة السادسة - ثم حَكَمَ بأن أصحاب هذه المرتبة والتي قبلها ممن يُخَرَّجُ حديثهم في المتابعات والشواهد، قال: "لإشعار هذه الصِيَغِ بصلاحيةِ الْمُتَّصِفِ بها لذلك، وعدمِ منافاتها لها"1.فَتَبَيَّنَ من ذلك: صحة ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من: أن رواية مجهول العين - وبالأحرى مجهول الحال - تَتَقَوَّى بالمتابعات والشواهد، وأن جماعة من أئمة هذا الشأن قد ذهبوا إلى ذلك.__________1 فتح المغيث: (1/375) .
(1/484) المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحملهمن المسائل التي تتعلق بكيفية التحمل والأداء مما تعرض له ابن القَيِّم رحمه الله:المسألة الأولى: في تحمل الحديث قبل وجود الأهلية لذلك.هل يصحُّ تحمل الصَّبِي والكافر الحديث، بحيث يُقْبَلُ منهما مَا أَدَّيَاه بعد البلوغ والإسلام؟أما صِحَّةُ تحمل الكافر: فمتفق عليها بين أهل هذا الشأن1.وأما تحمل الصغير الذي لم يبلغ: فإنه يصح على المذهب الصحيح الذي جزم به غير واحد من العلماء، منهم: ابن الصلاح2، والنووي3، وابن كثير4، والعراقي5 وغيرهم.ومَنَعَ من ذلك آخرون، ولم يُجَوِّزُوه، قالوا: لأنَّ الصبيَّ مَظِنَّةُ عدمِ الضبط6.وقد رَدَّ الأئمةُ ذلك عليهم، فقال ابن الصلاح: "وَمَنَعَ من ذلك قومٌ فأخطؤوا"7.__________1 انظر: فتح المغيث: (1/380) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص60) .3 التقريب: (ص15) .4 اختصار علوم الحديث: (ص 108) .5 شرح الألفية: (2/15) .6 انظر: فتح المغيث: (1/381 - 382) .7 مقدمة ابن الصلاح: (ص60) .
(1/485) وقال العراقي: "وهو خطأ مردود عليهم"1.ومما يُقَوِّي جانب القبول: أن الأئمة - رحمهم الله - أجمعوا على قبول حديث جماعة من الصحابة مما تحملوه حال الصغر: كالحسن، والحسين، وابن عباس وغيرهم. فلم يروا فرقاً بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده2.ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب هذا المذهب الراجح في هذه المسألة، فقد أعل قوم حديث محمد بن عمرو بن عطاء المدني، عن أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيه: سمعت أبا حميد الساعدي، بعدم سماع محمد بن عمرو من أبي حميد. فَرَدَّ عليهم ابن القَيِّم ذلك، وقال - بعد أن أثبت إمكان لقاء محمد بن عمرو لأبي حميد، وسماعه منه -: "ولو امتنع أن يكون رجلاً - لتقاصر سِنِّهِ عن ذلك - لم يمتنع أن يكون صبياً مميزاً، وقد شاهد القصة في صغره، ثم أداها بعد بلوغه، وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقاً، وهو أسوة أمثاله في ذلك.فَرَدُّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الخيالات الفاسدة: مما يرغب عن مثله أئمة العلم"3.فهذا اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة، وهو__________1 شرح الألفية: (2/15) .2 انظر: فتح المغيث: (1/383 - 384) .3 تهذيب السنن: (1/363) .
(1/486) الصحيح كما تقدم، ولعل نقله الاتفاق على ذلك إشارة إلى أن من خالف في هذه المسألة لا يعتد بخلافه، والله أعلم.المسألة الثانية: متى يصحُّ سَمَاع الصَّغِير؟اختلف أهل العلم في ضابط سماع الصغير على أقوال عدة، الصحيح المعتبر منها: اعتبار تمييز كلِّ صبيٍّ وفهمه، دون اعتبار لسن معينة في ذلك؛ فَإنْ فَهِمَ الخطاب ورد الجواب: كان سماعه صحيحاً، وإن كان سِنُّهُ أقلَّ من خمس سنين، وإن لم يكن كذلك: لم يصح سماعه، وإن زاد عن الخمس.هذا ما صححه الأئمة: ابن الصلاح1، والنووي2، والعراقي3، وابن حجر4.وقد جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - ما يفيد اعتباره للتمييز في صحة السماع.فقد تَقَدَّم قوله في المسألة التي قبل هذه في حق محمد بن عمرو بن عطاء: "ولو امتنع أن يكون رجلاً ... لم يمتنع أن يكون صبياً مميزاً، وقد شاهد القصة في صغره ... وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقاً".وقال في حق فاطمة بنت المنذر - وقد أعل قوم حديثاً بأنها روته عن أم سلمة، وقد لقيتها صغيرة -:__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص62) .2 التقريب: (ص15) .3 شرح الألفية: (2/20 - 21) .4 فتح الباري: (1/173) .
(1/487) " ... فلا يلزم انقطاع الحديث من أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أم سلمة صغيرة؛فقد يَعْقِلُ الصغيرجداً أشياء ويحفظها، وقد عقل محمود بن الربيع الْمَجَّةَ وهو ابن سبع سنين1، ويعقل أصغر منه"2.فجعل - رحمه الله - عَقْلَ الصغير وتمييزه - دون مراعاة لسن معينة - أساساً للحكم بصحة سماعه من عدمه، وهذا هو القول المعتبر كما تقدم.المسألة الثالثة: هل يصح السماع ممن وراء حجاب؟هل يصح سماع من سمع من شخص دون أن يراه؟الجمهور على صحة ذلك وجوازه إن ثبت عنده أنه صوته: إما بعلمه وخبرته، أو بإخبار ثقة عدل بأن هذا صوته3.ومن الأدلة على صحة ذلك: حديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقد كن يحدثن من وراء حجاب، ونقل ذلك عنهن، واحْتُجَّ به في الدواوين المعتمدة4.ومنع من ذلك شعبة رحمه الله، فقال: "إذا حَدَّثَكَ المحدثُ فلم تر__________1 كذا وقع في (زاد المعاد) ، والمشهور أنه "خمس سنين" كما في (صحيح البخاري) . انظر: فتح الباري: (1/172) ح77، ك العلم. والْمَجَّة: الماء أو الشراب يرمي به من فيه.2 زاد المعاد: (5/590) .3 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص71) ، وفتح المغيث: (1/434) .4 شرح ألفية العراقي - له: (2/58) .
(1/488) وَجْهَه، فلا ترو عنه، فلعله شيطان قد تَصَوَّرَ في صورته يقول: حدثنا، وأخبرنا"1.وردَّ الأئمة هذا القول منه رحمه الله، فقال النووي: "وهو خلاف الصواب وقول الجمهور"2. وقال ابن كثير: "وهذا عجيب وغريب جداً"3.وقد بين ابن القَيِّم - رحمه الله - أن عدم رؤية الراوي المحدث لا يقدح في سماعه منه، وأن عدم الرؤية لا ينافي السماع.فقد كَذَّبَ هشام بن عروة محمد بن إسحاق في قوله: إنه حَدَّث عن زوجته فاطمة بنت المنذر، واعتمد في ذلك على أنه لم يرها أحد من الرجال منذ تزوجها، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... إن هشاماً إنما نفى الرؤية، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع.قال الإمام أحمد: لَعَلَّه سمع منها في المسجد، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟! فقد كانت امرأة كبرت وأَسَنَّت"4.فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد أنه لا تلازم بين السماع والرؤية، بل قد يحصل سماع لفظ الْمُحَدِّث دون رؤيته، ومع ذلك يكون سماعه صحيحاً معتبراً، والله أعلم.__________1 شرح ألفية العراقي - له: (2/58) .2 التقريب: (ص17) .3 اختصار علوم الحديث: (ص118) .4 تهذيب السنن: (7/97) .
(1/489) المسألة الرابعة: الوجادة، وحكم العمل بها.تعريفها: قال الحافظ العراقي: "أن تجد بخطِّ من عَاصَرْتَهُ - لقيته أو لم تلقه - أو لم تعاصره - بل كان قبلك - أحاديث يرويها، أو غير ذلك مما لم تسمعه منه ولم يُجِزْهُ لك"1.ويلحق بذلك: ما يجده الشخص من كتب المصنفين ممن عاصره كذلك، أولم يعاصره2.أما حكم الوجادة: فإنها منقطعة غير متصلة، ولكنها تأخذ نوعاً من الاتصال في حالة وثوقه بأنه خط من وجد ذلك عنه، وذلك لقوله: "وجدت بخط فلان"3.ولا يجوز أن يقول فيها: "عن فلان" أو: "قال فلان"، فضلاً عن قوله: "حدثنا وأخبرنا"4.هذا من ناحية الراوية بالوجادة، فالرواية بها لا تكون متصلة.وأما جواز العمل بالوجادة: ففيه أقوال ثلاثة:الأول: المنع من العمل بها. قال بذلك معظم المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم.__________1 شرح الألفية - للعراقي: (2/112) .2 فتح المغيث: (1/536) .3 شرح الألفية - للعراقي: (2/113- 114) .4 انظر: (مقدمة ابن الصلاح) : (ص86) .
(1/490) الثاني: جواز العمل بها. وذلك مَحْكِي عن الإمام الشافعي رحمه الله، وطائفة من نظار أصحابه.الثالث: وجوب العمل بها عند حصول الثقة به. جزم بذلك بعض المحققين من أصحاب الشافعي في أصول الفقه1.واختار ابن الصلاح - رحمه الله - القولَ بالوجوب، فقال: "وما قَطَعَ به هو الذي لا يَتَّجِه غيره في الأعصار المتأخرة؛ فإنه لو تَوَقَّف العمل فيها على الرواية لانسَدَّ باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها"2.ووافق ابنَ الصلاح على ذلك: النووي3، وابن كثير4، والعراقي5.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية النُّسَخ والكتب التي أُخِذَت عن طريق الوجادة، وأكد أن الأخذ عنها، والعمل بمقتضاها متعين، وأن ذلك هو دأب علماء هذه الأمة قديماً وحديثاً.قال - رحمه الله - في الرد على من طعن في سماع الحسن من سمرة: "وغاية هذا أنه كتاب6، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديماً__________1 ينظر حول العمل بالوجادة: مقدمة ابن الصلاح: (ص87) ، وتدريب الراوي: (2/63) ، وفتح المغيث: (1/534 - 535) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص87) .3 التقريب: (ص21) .4 اختصار علوم الحديث: (ص128) .5 شرح الألفية للعراقي: (2/114- 115) .6 فقد قال بهز بن أسد: إن اعتماده على كتب سمرة. (المراسيل - لابن أبي حاتم: ص32) .
(1/491) وحديثاً، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم ... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي، فيعمل بها من تصل إليه، ولا يقول: هذا كتاب. وكذلك خلفاؤه بعده، والناس إلى اليوم.فَرَدُّ السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل، والحفظ يخون، والكتاب لا يخون"1.ويؤكد في مناسبة أخرى حُجِّيَّة هذه الكتب، مشيراً إلى ضابط العمل بها، وشرط ذلك، فيقول - في الرد على من طعن في رواية مخرمة ابن بكير عن أبيه بأنها كتاب -: "إن كتاب أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فَرْقَ في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تَيَقَّنَ الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها. وهذه طريقة الصحابة والسلف ... ولو بَطَلَ الاحتجاجُ بالكتب، لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير؛ فإنَّ الاعتماد على النُّسَخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخونُ، ولا يُحْفظُ في زمنٍ من الأزمان المتقدمة أن أحداً من أهل العلم رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يُشَافِهْني به الكاتب، فلا أقبله. بل كُلُّهُم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه"2.__________1 إعلام الموقعين: (2/144) .2 زاد المعاد: (5/242) .
(1/492) فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد صحة العمل بما وُجدَ من تلك الكتب، وبخاصة ما كان منها موثوقاً به، ومتأكداً من صحة نسبته إلى صاحبه ومؤلفه.وهو بذلك يوافق ما رَجَّحَهُ أكثرُ الأئمة المتقدم كلامهم.
(1/493) المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخهالنسخ: هو "عبارة عن رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر".ذكر ذلك ابن الصلاح رحمه الله، ثم قال: "وهذا حد وقع لنا سالم من اعتراضات وردت على غيره"1.طرق معرفة النسخ: ويعرف ذلك بأمور، وهي:أولاً: تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو أصرحها، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه بريدة رضي الله عنه: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".ثانياً: أن يجزمَ الصحابيُّ بأن ذلك الخبر متأخر، كقول جابر رضي الله عنه: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار".ثالثاً: يُعرف ذلك - أيضاً - بالتاريخ، وهو كثير.رابعاً: أن يقعَ الإجماع على ترك العمل بحديث، وأنه منسوخ. والإجماع لا يَنْسَخ ولا يُنْسخ، وإنما يدل على وجود ناسخ2.وقد ورد في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - استعماله لبعض الطرق التي يستدل بها على النسخ، فمن ذلك:__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 139) .2 ينظر تفصيل ذلك في: مقدمة ابن الصلاح: (ص139 - 140) ، وتدريب الراوي: (2/190 - 192) ، ونزهة النظر: (ص 38 - 39) .
(1/495) 1- استدلاله على النسخ بمعرفة التاريخ.قال - رحمه الله - في حديث طلق في الرُّخصة في ترك الوضوء من مَسَّ الذكر، ومعارضته بحديث أبي هريرة وغيره: "أن حديث طلق لو صح، لكان حديث أبي هريرة ومن معه مُقَدَّماً عليه؛لأن طَلْقاً قَدِم المدينة وهم يبنون المسجد، فذكر الحديث، وفيه قصة مس الذكر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين، وإنما يُؤْخَذُ بالأحدث فالأحدثِ من أمره صلى الله عليه وسلم"1.2- وجود قرائن تدل على تأخر أحد الخَبَرين.فقد استدلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - على نسخ حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من أَدْرَكَه الفجر جنباً فلا يصوم ". بما رواه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من " أنه كان يصبح جنباً ويصوم "، فقال في تأييد القول بنسخ حديث أبي هريرة: "لا يصح أن يكون آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطال الصوم بذلك؛ لأن أزواجه أعلم الأمة بهذا الحكم، وقد أخبرن بعد وفاته: أنه كان يصبح جنباً ويصوم. ولو كان هذا هو المتقدم لكان المعروف عند أزواجه مثل حديث أبي هريرة، ولم يحتج أزواجه بفعله الذي كان يفعله ثم نسخ، ومحال أن يخفى هذا عليهن؛ فإنه كان يقسم بينهن إلى أن مات في الصوم والفطر"2.__________1 تهذيب السنن: (1/135) .2 تهذيب السنن: (3/266 - 267) .
(1/496) شروط تحقق النسخ:لابد للحكم بالنسخ في الخبرين المتعارضين من توافر بعض الشروط، وقد وَقَعَ في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - ذكر شيء من هذه الشروط، فمن ذلك:قوله - رحمه الله - في الرد على من ادعى أن التمتع في الحج منسوخ: "أما العذر الأول، وهو النسخ، فيحتاج إلى أربعة أمور ... يحتاج إلى:- نصوص أخر،- تكون تلك النصوص معارِضَة لهذه،- ثم تكون - مع هذه المعارضة - مُقَاوِمة لها،- ثم يثبتُ تأخرها عنها"1.وأشار مرة إلى بعض هذه الشروط، فقال في حديث عبد الله بن حمار في ترك قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه ناسخ للأمر بقتله في الرابعة:"وأما ادعاء نسخه بحديث عبد الله بن حمار، فإنما يتم بـ:- ثبوت تأخره،- والإتيان به بعد الرابعة،- ومنافاته للأمر بقتله"2.__________1 زاد المعاد: (2/187) .2 تهذيب السنن: (6/237) .
(1/497) ففي هذا تصريح منه - رحمه الله - بضرورة أن يكون الناسخ متأخراً، وأن يعارض المنسوخ معارضة لا يمكن معها الجمع بينهما.وعَبَّر - رحمه الله - عن ذلك مرة بقوله:"لا يمكن إثباته - يعني النسخ - إلا بعد أمرين:أحدهما: ثبوت معارضته المقاوم له.والثاني: تأخره عنه"1.وقال - رحمه الله - في الردِّ على من ذهب إلى أن القيام للجنازة- قيام تابعها، ومن مرت به، والمشيع عند القبر - منسوخ، رد على ذلك بقوله: "وهذا المذهب ضعيف من ثلاثة أوجه: أحدها: أن شرطَ النسخ: المعارضةُ، والتأخرُ. وكلاهما منتف في القيام على القبر بعد الدفن، وفي استمرار قيام المشيعين حتى توضع ... "2.ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضرورة مقاومة الناسخ - في الصحة والقوة - للمنسوخ، فيقول في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً في الإذن في الإقران بين التمرتين، وأنه ناسخ لحديث ابن عمر رضي الله عنه في النهي عن ذلك: "وهذا الذي قالوه - يعني ادعاء النسخ - إنما يصح لو ثبت حديث بريدة، ولا يثبت مثله ... "3.__________1 تهذيب السنن: (4/173) .2 تهذيب السنن: (4/312) .3 تهذيب السنن: (5/332) .
(1/498) فتلخص من ذلك: أن الشروط التي قررها ابن القَيِّم - رحمه الله - للحكم بالنسخ، هي:1- عدمُ إمكان الجمع بين الخَبَرَين.2- صَلاحِية كلٍّ منهما للحُجَّة.3 - معرفةُ الْمُتَأَخِّرِ.أما عدم إمكان الجمع بينهما: فلأن الجمع أولى من المصير إلى النسخ، قال الحازمي رحمه الله: " ... فَإِنْ أَمْكن الجمع جمع ... ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى؛ صوناً لكلامه - بأبي هو وأمي - عن سمات النقص"1.وأما اشتراط صلاحية كل من الخبرين للحجة: فلأن القويَّ لا تُؤَثِّر فيه مخالفة الضعيف2، فضلاً عن أن يقاومه فينسخه.وأما اشتراط ثبوت تأخر أحد الخبرين: فقد أشار إليه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بقوله: "فإن عرف - يعني التاريخ - وثبت المتأخر به أو بأصرح منه: فهو الناسخ والآخر المنسوخ"3.__________1 الاعتبار: (ص 9) .2 انظر: نزهة النظر: (ص37) .3 نزهة النظر: (ص 38) .
(1/499) المبحث السادس عشر: مُخْتَلِفُ الحديثتعريفه: قال النووي رحمه الله: "هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً، فَيُوَفَّقُ بينهما أو يرجَّح أحدهما"1.أقسامه: ينقسم مختلف الحديث إلى قسمين:أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، فَيَتَعَيَّن حينئذ المصير إلى ذلك، والقول بهما جميعاً.الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، وهذا يكون على ضربين:1- أن يظهر كون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فَيُعْمَلُ بالناسخ ويَتْرَكُ المنسوخ.2- أن لا تقوم دلالة على النسخ، فَيُصَارُ إلى ترجيحِ أحدهما على الآخرِ بوجه من وجوه الترجيح2.فَتَبَيَّنَ من ذلك: الخطوات التي ينبغي أن تسلك فيما ظاهره التعارض، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "فصار ما ظاهره التعارض واقعاً على هذا الترتيب:__________1 التقريب: (ص33) .2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص 143) ، والتدريب: (2/196- 198) .
(1/501) - الجمع إن أمكن،- فاعتبار الناسخ والمنسوخ،- فالترجيح إن تعين،- ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين"1.وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أنَّ الأحاديث التي ظاهرها التعارض لا تخرج عن أحد ثلاث حالات، فقال: "فإذا وقع التعارض:- فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً، فالثقة يغلط.- أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ.- أو يكون التعارض في فهم السامع، لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم.فلابد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة"2.فقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه القسمة العقلية أن الحديثين إذا وقع بينهما تعارض: فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالهما، أو أن أحدهما لا يكون من كلامه، ويكون أحد الرواة غلط فجعله من كلامه، كمن يرفع الموقوف أو يزيد لفظة ليست من كلامه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.__________1 نزهة النظر: (ص 39) .2 زاد المعاد: (4/149) .
(1/502) فإذا ثبت أن أحد الخبرين ليس من كلامه فلا إشكال، فإن الضعيف لا يُعَارَضُ به الثابت الصحيح.وأما إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما جميعاً: فإنه ينظر في نسخ أحدهما بالآخر إذا ثبت تأخر أحدهما. فإن لم نجد سبيلاً إلى نسخ أحدهما بالآخر، فإنه يتعين الجمع بينهما، وحينئذ لا يكون هناك تعارض في واقع الأمر، وإنما التعارض في فهم السامع.شرط وقوع التعارض:لابد للحكم على حديثين بالتعارض، وجعلهما من باب مختلف الحديث: أن يكون كل منهما مُحْتَجًّا به، أما إن كان أحدهما لا يُقْبَلُ بحال، فإنه لا يُعَارَضُ به القوي؛ إذ إنه - والحالة هذه - لا أَثَر له.وقد بين ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك وأكده، فقال: "لا يجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به"1.وقال: "ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا توجب سقوط الحكم بالصحيحة، والأحاديث الصحيحة يصدق بعضها بعضاً"2.__________1 تهذيب السنن: (6/324) .2 أحكام أهل الذمة: (2/641) .
(1/503) ذِكْرُ بعض وجوه الترجيح التي استعملها ابن القَيِّم رحمه الله:فمن وجوه الترجيح التي استعملها عند التعارض، أو أشار إليها:1- أن يكون رواة أحد الخبرين من أهل الرجل - صاحب القصة - وخاصته، فإنهم أعلم به من غيرهم، فيقدم خبرهم.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قصة توبة كعب بن مالك وانخلاعه من ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تعيين لقدره، وما عارض ذلك من أنه عَيَّنَ له الثلث، قال مُقَدِّماً رواية عدم التعيين:"فإن الصحيح ... ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري، عن ولد كعب بن مالك، عنه ... وهم أعلمُ بالقصةِ من غيرهم؛ فإنهم وَلَدُهُ، وعنه نقلوها"1.وقال في حديث جابر رضي الله عنه في قصة الصلاة على شهداء أحد: "وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"2.2- أن يكون عمل الصحابة أو أكثرهم - ولاسيما الخلفاء__________1 زاد المعاد: (3/586 - 587) .2 تهذيب السنن: (4/296) .
(1/504) الراشدين - موافقاً لأحد الخبرين، فيقدم على ما لم يكن كذلك.قال أبو داود رحمه الله: "إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر بما أخذ به أصحابه"1.قال ابن القَيِّم في ترجيحه أحاديث المزارعة على غيرها: "الأحاديث إذا اختلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد تقدم ذكر عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وغيرهم من الصحابة بالمزارعة"2.وقال عند الكلام على أحاديث نقض الوضوء بمس الذَّكَر: "لو قُدِّر تعارض الخبرين من كل وجه، لكان الترجيح لحديث النقض؛ لقول أكثر الصحابة به: منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان رضي الله عنهم ... "3.قال الحازمي - رحمه الله - في وجه الترجيح بعمل الصحابة والخلفاء: " ... فيكون إلى الصحة أقرب، والأخذ به أصوب"4.__________1 السنن: (2/428) .2 تهذيب السنن: (5/60) .3 تهذيب السنن: (1/135) .4 الاعتبار: (ص19) .
(1/505) 3- أن يكون أحد الخبرين جاء بالشك، والآخر مجزوماً به، فَتُقَدَّم روايةُ الجازم على رواية الشاكِّ.قال ابن القَيِّم في حديث تعريف اللُّقَطَة، وتقديم الرواية التي فيها التعريف سَنَة، على حديث أُبَيٍّ الذي فيه: أن التعريف ثلاث سنين: "ووقع الشك في رواية حديث أُبَيِّ بن كعب أيضاً: هل ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟ وفي الأخرى: عامين أو ثلاثة؟ فلم يجزم، والجازم مَقَدَّمٌ"1.وقال عند الكلام على رمي الجمرة، وقول ابن عباس رضي الله عنه: "ما أدري أَرَمَاهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع؟: "قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة بسبع حصيات من رواية: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر. وشكُّ الشاكِّ لا يُؤَثِّرُ في جَزْمِ الجازم"2.4- تقديم ما أخرجاه في "الصحيحين" أو أحدهما على ما لم يُخَرَّجْ فيهما3.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قصة صلاة معاذ بقومه وتطويله عليهم:__________1 تهذيب السنن: (2/268) .2 تهذيب السنن: (2/417 - 418) .3 وقد ذكر العراقي ذلك من المرجحات، التقييد والإيضاح: (ص 289) .
(1/506) "الذي في الصحيحين: أنه قرأ سورة البقرة ... وقصة قراءته بـ (اقتربت) لم تُذْكَر في الصحيح، والذي في الصحيح أولى بالصحة منها"1.5- تقديم خبر الْمُثْبتِ على خبرِ النَّافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم خَفِيَتْ على النافي.قال ابن القَيِّم في حديث جابر في الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، وما جاء في حديث أسامة بن زيد من قوله: "أُقِيْمت الصلاة فصلَّى المغرب ... ثم أقَيِّمت العشاء فصلاها" قال في حديث أسامة هذا: " ... وسكت عن الأذان ... بل لو نفاه جملة، لَقُدِّمَ عليه حديث من أَثْبَتَهُ؛ لِتَضَمُّنِهِ زيادة خفيت على النافي"2.وقال - رحمه الله - في الأحاديث التي تثبت سجوده صلى الله عليه وسلم في المفصل، والأحاديث التي تنفي ذلك: "فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لَتَعَيَّنَ تقديم حديث أبي هريرة؛ لأنه مثبتٌ معه زيادةُ علمٍ خفيت على ابن عباس"3.6- أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه، والآخر لم__________1 الصلاة: (ص 191 - 192) .2 تهذيب السنن: (2/402) .3 زاد المعاد: (1/364) .
(1/507) تختلف، فَيُقَدَّمُ الذي لم يختلف على غيره1.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في ترجيح حديث بُسْرَة في نقض الوضوء بِمَسِّ الذَّكَر على حديث طَلْق في عدم النقض:"أن طلقاً قد اختلفت الرواية عنه، فروي عنه: "هل هو إلا بضعة منك؟ " وروى أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً: "من مسَّ فرجه فليتوضأ"" 27- الترجيح بكثرة عدد الرواة لأحد الخبرين.قال الحازمي: "وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر"3. وقال السيوطي: "لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل"4.وقد رَجَّحَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بالكثرة، فقال في أحاديث النقض بمس الذكر أيضاً: "أن رواة النقض أكثر ... فإنه من رواية: بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد"5.وبعد، فهذه أبرز الْمُرَجِّحَات التي وقفتُ عليها في كلامِ ابن القَيِّم وأبحاثه في الترجيح بين الأخبار.__________1 وانظر: الاعتبار: (ص15) .2 تهذيب السنن: (1/135) .3 الاعتبار: (ص11) .4 تدريب الراوي: (2/198) .5 تهذيب السنن: (1/135) .
(1/508) المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقاتالْمُخْتَلِطِ:هو سيء الحفظ الذي يكون سوء الحفظ طارئاً عليه؛ لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه، أو عَدَمِها: بأن كان يعتمدها فَرَجَعَ إلى حفظه فساء1.وحقيقة الاختلاط:"فساد العقل، وعدمُ انتظام الأقوالِ والأفعال: إما بِخِرَف أو ضرر، أو مرض، أوعرض: من موتِ ابن أو سرقة مالٍ كالمسعودي، أو ذهاب كتب: كابن لهيعة، أو احتراقها: كابن الملقن". قاله السخاوي2.حكم رواية الْمُخْتَلِطِ:الحكم في ذلك يكون باعتبار الرواة عن الْمُخْتَلِطِ:- فمن أخذ عنه قبل الاختلاط: قُبِلَ حديثه.- ومن أخذ عنه بعد الاختلاط، أو أشكل أمره، فلم يُدْرَ أخذ عنه بعد الاختلاط أو قبله: لم يُقْبل حديثه.__________1 نزهة النظر: (ص51) .2 فتح المغيث: (3/331) .
(1/509) كذا قال غير واحد من أهل العلم1.ولكن إذا تُوبِع الْمُخْتَلِطِ - فيما روي عنه بعد الاختلاط - أو فيما لم يتميز من حديثه - فَوُجِدَ لروايته أصلٌ من غير طريقه: بأن وَافَقَهُ ثقة، أو مَنْ يَصْلُحُ حديثه للاعتبار: قُبِلَتْ روايته2.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن الْمُخْتَلِطَ يُقْبَل حديثه إذا كان الراوي له أَخَذَ عنه قبل الاختلاط، فقال - في حديث لسعيد الجُريري من رواية يزيد بن هارون عنه - وقد أخذ عنه بعد الاختلاط -:"إن حماد بن سلمة قد تابع يزيد بن هارون على روايته ... وسماع حماد منه قديم"3. يعني: فيكون مقبولاً.وقال في حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من صَلَّى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" - وقد روى من طريق: ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة -:"وهذا الحديث حسن؛ فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعُهُ منه قديمٌ قبل اختلاطِهِ، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حَدَّثَ به قبل الاختلاط"4.__________1 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص195) ، وتدريب الراوي: (2/372) .2 انظر: نزهة النظر: (ص 51 - 52) .3 تهذيب السنن: (3/426) .4 زاد المعاد: (1/501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) .
(1/510) وقال في حديث السِّعَاية - وقد روى من طريق سعيد بن أبي عروبة -:"وسعيدٌ وإن كان قد اختلط في آخر عمره، فهذا الحديث من رواية: يزيد بن زريع، وعبدة، وإسماعيل، والجِلَّة عن سعيد، وهؤلاء أعلم بحديثه، ولم يرووا عنه إلا ما كان قبل اختلاطه؛ ولهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم عنه"1.فهكذا نجدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّرُ ما ذهبَ إليه أئمة هذا الشأن: من قبول رواية الْمُخْتَلِطِ إذا كانت من رواية من أَخَذَ عنه قبل اختلاطه، ويؤكد أن ما وُجِدَ من ذلك في "الصحيحين" فإنه محمول على هذا2.وأما إذا كانت رواية الْمُخْتَلِطِ لم تأت إلا من طريق من أخذ عنه بعد اختلاطه، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يرَ رَدَّ ذلك مطلقاً، ولا جعله عِلَّةً دائماً، بل يرى أنه لابد من ضبطه بضابطٍ، فقال مرة في رواية يزيد بن هارون، عن سعيد الجريري، وقد روى عنه بعد الاختلاط: "هذا إنما يكون علة إذا كان الراوي ممن لا يُمَيِّزُ حديث الشيخ صحيحه من سقِيمه. وأما يزيد بن هارون وأمثاله إذا رووا عن رجل قد وقع في حديثه بعض الاختلاط، فإنهم يميزون حديثه وينتقونه"3.__________1 تهذيب السنن: (5/399) .2 وانظر: تدريب الراوي: (2/380) .3 تهذيب السنن: (3/426 - 427) .
(1/511) وهذا الكلام منه - رحمه الله - فيه إطلاق لابد من ضبطه وتقييده، فَيُقَالُ: يُقبل حديث من روى عن الْمُخْتَلِطِ في الاختلاط: إذا كان ممن يَنْتَقِي من حديثه، ويميزُ بين الصحيح والسقَيِّم، بتصريحه أو نحو ذلك، كما كان من حال وكيع بن الجراح مع سعيد بن أبي عروبة، فقد قال له يحيى بن معين: تُحَدِّثُ عن سعيد بن أبي عروبة، وإِنَّمَا سمعت منه في الاختلاط؟ قال: رأيتني حدثت عنه إلا بحديث مُسْتَوٍ؟ 1. فهذا التصريح من وكيع - رحمه الله - يدل على أنه ينتقي من حديثه، وأما من لم يصرِّح بذلك، ولم يأت عنه دليل آخر يفيد ذلك: فإن الأمر بالنسبة له محل توقف، والله أعلم.__________1 الكفاية: (ص 217) .
(1/512)

===========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الفصل الثاني: آراء ابن القيم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل
المبحث الأول: آراء ابن القيم في الجرح والتعديل
المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة.
...
الفصل الثاني: آراء ابن القَيِّم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل
ويتضمن هذا الفصل: عرضُ آراء ابن القَيِّم - رحمه الله - وإفاداته في علم "الجرح والتعديل" وقواعده، ومقارنة ذلك بآراء الأئمة الآخرين المعنيين بهذا الفن.
وقد وُجِدت هذه الآراء، وتلك الإفادات مبثوثةً في أثناء كتبه، وذلك عند بحثه ومعالجته للقضايا الحديثية، ونقده للأسانيد وحكمه عليها.
فإنه - رحمه الله - في أثناء تناوله لرجال الأسانيد، وكلامه فيهم جرحاً وتعديلاً، كان رُبَّمَا دَعَتْهُ الحاجة إلى ذكر قاعدة من قواعد الفن، وبيان رأيه فيها، وذلك: إما لتأييد حكمه على رجل، أو لرد تُهْمَةٍ ألصقت بآخر، أو لغير ذلك من الأغراض التي تبعث على الاستشهاد بقواعد هذا الفن.
والغَرَضُ من عرضِ ذلك: التعريفُ بمكانة ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب، ومدى تَمَكُّنِهِ منه، وإِلْمَامِهِ بقواعده، وكيفية تطبيقه لتلك القواعد في أثناء تعامله مع النصوص الحديثية، وحكمه على أسانيدها.
ومن أغراض ذلك أيضاً: تأكيد أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد بَنَى كلامه في الرجال - جرحاً وتعديلاً - على قواعد هذا الفن وأسسه، فلم يكن مجرد ناقل لكلام الأئمة في الرجال دون تمحيص ودراية، بل كان - رحمه الله - على وعي تام، وإدراك كامل لمعاني كلامهم، ومدلولات ألفاظهم، والضوابط التي كانت تحكم كلامهم في الرجال جرحاً وتعديلاً.
(1/515)
وقد جعلت الكلام في هذا الفصل من خلال مبحثين:
المبحث الأول: آراء ابن القَيِّم في الجرح والتعديل.
المبحث الثاني: منهجه في الجرح والتعديل.
(1/516)
المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة
أكثر علماء السَّلف على جواز الكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً، وذلك صوناً للأحاديث النبوية عن أن يُدْخَل فيها ما ليس منها، قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة، حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن النَّاقِلَةِ، والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية ... وأن يُعْزَل عنهم الذين جَرَحَهُم أهل العدالة، وكشفوا لنا عن عَوْرَاتِهِم ... "1.
والأصل في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي استأذن عليه: "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة". قال الخطيب رحمه الله: "ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: بئس رجل العشيرة؛ دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل؛ ليس بغيبة". قال: "وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل؛ لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره ... "2.
وكذلك حديث فاطمة بنت قيس لما استشارته في خطبة معاوية وأبي جهم لها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه،
__________
1 مقدمة الجرح والتعديل: (ص5) . وانظر مقدمة ابن الصلاح: (ص193) معرفة الثقات والضعفاء من رواة الحديث.
2 الكفاية: (ص83 - 84) .
(1/519)
وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحى أسامة بن زيد ... " الحديث. قال الخطيب: "في هذا الخبر دلالة على إجازة الجرح للضعفاء على جهة النصيحة؛ لتجنب الرواية عنهم، وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم ... "1.
وقال المعلمي اليماني: "أول من تكلم في أحوال الرجال القرآن، ثم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه"2.
وقد عَبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن مذهب الجمهور في ذلك، فقال - عند كلامه على الفوائد المستنبطة من قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك -: "ومنها: جوازُ الطعْنِ في الرَّجُلِ - بما يَغْلُب على اجتهادِ الطاعن - حَمِيَّة3، أو ذبًّا عن الله ورسوله، ومن هذا: طعنُ أهلِ الحديث فيمن طَعَنُوا فيه من الرواة، ومن هذا: طعنُ ورثةِ الأنبياء، وأهلِ السنة في أهل الأهواء والبدع، لله لا لحظوظهم وأغراضهم"4.
ويشير ابن القَيِّم - رحمه الله - بذلك إلى قول رجل من بني سلمة في كعب بن مالك: "يا رسول الله، حَبَسَه بُرْدَاهُ، ونظره في عطفه، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك: "ما فعل كعب؟ " 5.
__________
1 الكفاية: (ص84 - 85) .
(4) علم الرجال وأهميته: (ص18) .
3 الْحَمِيَّة: الأنفة. (المصباح المنير: 1/153) .
4 زاد المعاد: (3/575) .
5 صحيح البخاري: ك المغازي، باب حديث كعب بن مالك …ح4418. فتح الباري: (8/114) .
(1/520)
وقد أكد الأئمة - رحمهم الله - جواز ذلك، وبيان الغرض الباعث عليه، وردوا على من منع ذلك وعابه، وهاك بعض أقوالهم في ذلك:
قال الإمام الترمذي رحمه الله: "وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال ... ". ثم ساق - رحمه الله - جملة من هؤلاء الأئمة، وأقوالهم فيمن جرحوهم، ثم قال: "وإنَّمَا حملهم على ذلك عندنا - والله أعلم - النصيحة للمسلمين، لا يُظَنُّ بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغِيبة، إنما أرادوا عندنا: أن يُبَيِّنُوا ضعف هؤلاء لكي يُعْرَفوا". ثم ساقَ بإسناده إلى يحيى القطان رحمه الله، أنه قال: "سألت سفيان الثوري، وشعبة، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة: عن الرجل تكون فيه تهمة أو ضعف، أَسْكُتُ أو أُبَيِّن؟ قالوا: بَيِّنَ"1.
وقال الخطيب البغدادي: "وقد أَنْكَرَ قومٌ لم يتبحروا في العلم قولَ الحفاظ من أئمتنا، وأولي المعرفة من أسلافنا: إن فلاناً الراوي ضعيف، وفلاناً غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام، ورأوا ذلك غيبةً لمن قيل فيه ... "2. قال: "وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقاً في روايته،
__________
1 علل الترمذي: انظر جامع الترمذي: (5/738 - 739) .
2 الكفاية: (ص81) باب وجوب تعريف المزكِّي ما عنده من حال المسئول عنه.
(1/521)
مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَرَدَتْ مُصَرِّحَةً بتصديق ما ذكرنا، وبضدِّ قول من خالفنا"1.
والآثار عن أئمة السلف - رحمهم الله - في جواز ذلك - بل ووجوبه - كثيرة لا تُحْصَى2.
ولقد أحسنَ ابن القَيِّم رحمه الله بدقيق فهمه، وحسن استنباطه، حينما استدل بهذه القصة على جواز ذلك؛ إذ إن كلام الرجل في كعب ابن مالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته – ذَبًّا عن الله ورسوله وغَضَباً لهما: لو كان ذلك من الغيبة المحرمة، لما سكتَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أقرَّه، فدلَّ ذلك - أوضح دلالة - على جوازه لمصلحة شَرْعِيَّةٍ، ولا شك أن بيان حال نقلة السُّنن، وحملة الآثار من أعظم تلك المصالح.
فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - قد وافق أئمة الحديث والجَرْحِ والتعديل في هذه المسألة، وهي: جوازُ جَرْحِ الرواة، وكشف عيوبهم، وبيان ضعفهم، نصيحة لله ورسوله، وذَبًّا عن شريعة الإسلام.
__________
1 الكفاية: (ص83) .
2 راجع للوقوف عليها: شرح علل الترمذي: (ص76 - 81) .
(1/522)
المطلب الثاني: هل يثبتُ الجَرْحُ والتَّعْدِيْلُ بقولِ الواحد؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:
أولها: أنه لا يقبل في جرح الرواة وتعديلهم أقل من اثنين، قياساً على الشهادات.
ثانيها: أنه يكفي في الجرح والتعديل قول الواحد، في الرواية والشهادة على السواء.
ثالثها: التفريق في ذلك بين الرواية والشهادة: فيقبلُ في جرح الرواة وتعديلهم قول الواحد، ولا يقبل في الشهادة إلا اثنان1.
والرَّاجِح هو المذهب الثالث، نَقَلَهُ الخطيب عن كثير من أهل العلم، ثم قال: "والذي نَسْتَحِبُّهُ: أن يكون من يُزَكِّي الْمُحَدِّثَ اثنين للاحتياط، فإن اقْتُصِرَ على تزكية واحد: أَجَزَأَ"2. وقال ابن الصلاح: "وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره ... ؛ لأن العدد لم يُشْتَرَطْ في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات"3. ورجحه كذلك: العراقي4، وابن حجر5، والسخاوي6.
__________
1 الكفاية: (ص 160-161) . ومقدمة ابن الصلاح: (ص52) .
2 الكفاية: (ص 161) .
3 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) .
4 شرح الألفية: (1/295) .
5 نزهة النظر مع النخبة: (ص72) .
6 فتح المغيث (1/290) .
(1/523)
وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة رأي الجمهور: وهو الاكتفاء بقول الواحد في الجرح والتعديل.
قال مرة: " ... فإن التعديل من باب الإخبار والحُكْم، لا من باب الشهاد ة، ولا سِيَّمَا التعديل في الرواية؛ فإنه يُكْتَفَى فيه بالواحد ولا يزيد عن أصل نصاب الرواية"1.
يعني: لَمَّا كان يُكْتَفَى في قبول الرواية بالواحد، فكذلك تعديلُ رَاوِيهَا وجرحُهُ لا يشترط له أكثر من واحد.
فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يوافق اختياره اختيار الجمهور في هذه المسألة، وهي: الاكتفاء في الجرح والتعديل بقول الواحد، وعدم اشتراط أكثر من ذلك فيهما.
__________
1 زاد المعاد: (5/456 - 457) .
(1/524)
المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة؟
الصحيح المشهور: أن العدالة تثبتُ بأحد أمرين:
1- فتارةً تثبت بتنصيص الْمُعَدِّلِين على عدالته، وقد تَقَدَّم أنه يُكتفى في ذلك بقول الواحدِ على الصحيح.
2- وتارة تثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، "فمن اشتهرتْ عَدَالَتُهُ بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، اسْتُغْنِي فيه بذلك عن بَيِّنَةٍ شاهدة بعدالته تنصيصاً"1. فمثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ويحيى القطان، وأحمد، وابن مهدي، والشافعي، ووكيع، "ومن جَرَى مجراهم في: نباهة الذِّكْرِ، واستقامةِ الأمر، والاشتهارِ بالصِّدق والبصيرةِ والفهم، لا يُسْأَل عن عدالتهم، وإنما يُسْأَل عن عدالةِ من كان في عِدَاد المجهولين، أو أَشْكَلَ أَمْرُهُ على الطالبين"2.
قال ابن الصلاح: "وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث: أبو بكر الخطيب الحافظ"3.
وأما ابن القَيِّم - رحمه الله-: فقد تَوَسَّعَ في إثبات العدالة،
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .
2 الكفاية: (ص147) .
3 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .
(1/525)
فذهب إلى أنها تثبت لكل من عُرِفَ بحملِ العِلْمِ، والعناية به، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" 1.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ العلم الذي جاء به يحمله عُدُولُ أُمَّتِهِ من كلِّ خَلَفٍ، حتى لا يضيعَ ويذهب، وهذا يتضمن تعديله صلى الله عليه وسلم لحملة العلم الذي بُعِثَ به ... فكل من حَمَل العلم المشار إليه، لا بد أن يكون عدلاً، ولهذا اشتهر عند الأمة عدالة نَقَلتِهِ وحَمَلَتِهِ، اشتهاراً لا يَقْبَلُ شَكَّاً ولا امتراء، ولا ريب أن من عَدَّلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُسمعُ فيه جَرْحٌ، فالأئمة الذين اشتهروا عند الأمة بنقل العلم النبوي وميراثه، كلهم عدول بتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند الأمة جَرْحُه والقدحُ فيه: كأئمة البدعِ، ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين، فإنهم ليسو عند الأمة من حملة العلم، فما حَمَل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عدل"2.
ثم حَدَّدَ - رحمه الله - مفهوم العدالة، فقال: "ولكن قد يُغْلَط في مُسَمَّى العدالة، فَيُظَنُ أن المراد بالعدل: من لا ذنب له! وليس كذلك، بل هو عَدْلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا يُنَافي العدالة، كما لا ينافي الإيمان والولاية"3.
__________
1 أخرجه ابن عبد البر في (التمهيد) : (1/59) ، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) (ص29) ، من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، وسيأتي الكلام عليه بعد قليل.
2 مفتاح دار السعادة: (1/163) .
3 المصدر السابق.
(1/526)
فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم هذا أموراً:
- أنَّ العدالة تثبت لكل من عُرِفَ بحمل العلم النبوي.
- وأنَّ هذه العدالة ثابتةٌ لهذه الطائفة بشهادَتِهِ وخبره صلى الله عليه وسلم.
- وأنَّ هذه العدالةَ لا يُنَافِيهَا الوقوع في الذنوب الصغيرة التي يتوب العبد منها.
وقد سبقَ ابنَ القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بذلك: ابنُ عبد البر، فقال: "كل حامل علم، معروف العناية به، فهو عدل، محمول في أمره أبداً على العدالة، حتى يتبين جرحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدُولُه" 1".
وقد تُعُقِّبَ ابن عبد البر في ذلك، فقال ابن الصلاح: "وفيما قاله اتساع غير مرضي"2.
وبيان المآخذ على ما ذهب إليه ابن القَيِّم - وسبقه إليه ابن عبد البر - من وجوه:
أولها: ضَعْفُ الحديث الذي بنوا عليه هذا القول، وهو حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... ". وقد روي مرسلاً ومسنداً3.
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . وانظر التمهيد: (1/58-59) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .
3 ينظر دراسة هذا الحديث والكلام عليه: فيما علقته على (البدر المنير) : (1/214-219) .
(1/527)
فقد ضَعَّفَ هذا الحديث: ابن القطان1، والحافظ ابن كثير2، والعراقي3وغيرهم.
وصَحَّحَ الإمام أحمد الرواية المرسلة4. وذهب جماعة إلى أن الحديث يقوى بمجموع طرقه، ويصل إلى درجة الحسن، قال ذلك: العلائي5، والقسطلاني6، والسخاوي7، والقاسمي8، وغيرهم.
وقد مال ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويته أيضاً، فقال: "يُروى عنه من وجوهٍ شَدَّ بعضها بعضاً"9.
ثانيها: أنه على فرض ثبوت هذا الحديث، فإنه لا يصحُّ حَمْلُه على الخبر "لوجودِ من يحمل العلم وهو غير عدل وغير ثقة ... فلم يبق له محمل إلا على الأمر، ومعناه: أنه أمرٌ للثقات بحملِ العلمِ؛ لأن العلم إنما يُقْبَلُ عن الثقات"10.
ويؤيد ذلك: مجيئهُ من بعض الطرق بصيغة الأمر: "ليحمل هذا العلم ... " 11.
__________
1 التقييد والإيضاح: (ص139) .
2 الباعث الحثيث: (ص94) .
3 التقييد والإيضاح: (ص138) .
4 شرف أصحاب الحديث: (ص29) .
5 بغية الملتمس: (ص34) .
6 إرشاد الساري: (1/4) .
7 الهداية في علم الرواية: (ق16/ب) .
8 قواعد التحديث: (ص49) .
9 طريق الهجرتين: (ص619) .
10 فتح المغيث: (1/294- 295) .
11 الجرح والتعديل: (1/1/17) .
(1/528)
وَحَمَلَهُ بعضهم على إرادة الغالب، فقال السخاوي: " ... بل لا مانع أيضاً من كونه خبراً على ظاهره، ويُحْمَل على الغالب، والقصد: أنه مَظِنَّةٌ لذلك"1.
على أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله - ومن قبله ابن عبد البر - قد أَيَّدَهُما فيه جماعة، منهم: ابن الْمَوَّاق، فقال كمقالة ابن عبد البر2.
وقال المزي: "هو في زماننا مرضي، بل ربما يتعين"3.
وقال ابن الجزري: "ما ذهب إليه ابن عبد البر هو الصواب، وإن رَدَّهُ بعضهم"4.
وقال ابن سيد الناس: "لست أراه إلا مرضياً"5.
وقال النووي رحمه الله: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله - تعالى - يُوَفِّقُ له في كلِّ عصرٍ خَلَفَاً من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف ... وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة. ولا يَضُرُّ - مع هذا - كون بعض الفُسَّاقِ يَعْرِفُ شيئاً من العلم؛ فإن الحديث إنما هو
__________
1 فتح المغيث: (1/295) .
2 التقييد ولإيضاح: (ص139) .
3 فتح المغيث: (1/297) .
4 المصدر السابق.
5 المصدر السابق.
(1/529)
إخبار: بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرفُ شيئاً منه"1.
قال السخاوي - عقب مقالة النووي هذه -: "على أنه يقال: ما يَعْرِفُهُ الفُسَّاقُ من العلم ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عَمَلِهِم به ... وَصَرَّحَ به الشافعي في قوله:
ولا العلم إلا مع التُّقَى ... ولا العَقْلُ إلا مع الأَدَبِ"2
وقال الحافظ الذهبي: "إنه حق - ولا يدخلُ فيه المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم - فكلُّ من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث، وأنه معروفٌ بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تَلْيِيناً، ولا اتَّفَقَ لهم علم بأن أحداً وَثَّقَهُ: فهذا الذي عَنَاه الحُفَّاظ، وأنه يكونُ مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جَرْحٌ"3.
فظهر بذلك أن ابن القَيِّم - رحمه الله - له في قوله هذا مُؤَيِّدون، وأنه لم ينفرد بذلك، وأن هذا المذهب قَوَّاهُ جماعة لا يستهان بهم من أئمة هذا الشأن.
وبنظرةٍ فاحصة إلى كلام هؤلاء الأئمة يتبين لنا: أنه لا منافاةَ بين حملِ هذا الحديث على الخبر على الحقيقة، وبين ما وَقَعَ من حَمْل بعض ساقطي العدالة لهذا العلم، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار بعض الأمور، منها:
أولاً: أن يُحْمَلَ هذا الخبر على الغالب، أي: غالبُ من يحمل هذا العلم، أو: أَنَّ من يَحْمِلُهُ تغلبُ عليه العدالة، قال السخاوي: "والقصد:
__________
1 تهذيب الأسماء واللغات: (1/17) .
2 فتح المغيث: (1/295) .
3 فتح المغيث: (1/297) .
(1/530)
أنه مظنة لذلك"1.
ثانياً: ما قَرَّرَه النووي - رحمه الله - من أن: معرفة بعض الفُسَّاِق بهذا العلم، لا يتنافى مع إخباره صلى الله عليه وسلم بحمل العدول إياه؛ فإنَّ معرفتهم بهذا العلم غيرُ داخلة في هذا الحمل. هذا على فرض صحة تسمية ما يحمله هؤلاء الفساق علماً.
فَتَلَخَّص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من ثبوت العدالة لكل من عرف بحمل هذا العلم، والاشتغال به، قد يكون مقبولاً إذا حُمل على ما تقدم ذكره. ومع ذلك فإن ما ذهب إليه الجمهور، من أنه لابُدَّ - لإثبات العدالة - من التنصيص على ذلك، أو الاعتماد على الشهرة والاستفاضة: هو الأقرب إلى الاحتياط، ولذلك قال ابن أبي الدم2 - في رَدِّهِ على ابن عبد البر-: "وهو غير مرضي عندنا؛ لخروجه عن الاحتياط"3. والله أعلم.
ويلتحق بمسألة ثبوت العدالة مسألة أخرى وهي:
إذا روى العدل عن رجل وَسَمَّاهُ، هل تُعْتَبُر روايتهُ عنه تعديلاً له؟
__________
1 فتح المغيث: (1/297) .
2 العلامة، شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم، الهمداني الحموي الشافعي. حَدَّث بالقاهرة وكثير من بلاد الشام، وولي قضاء حماة، وكان إماماً في المذهب الشافعي، توفي سنة (642هـ) .
له ترجمة في سير أعلام النبلاء (23/25) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/124) .
3 فتح المغيث: (1/296) .
(1/531)
في المسألة ثلاثة أقوال1:
الأول: أنه ليس بتعديل له؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل، وهذا هو قول أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، وصححه ابن الصلاح2، وقال النووي: "هو الصحيح"3.
الثاني: أنه تعديل له مطلقاً، وهذا قول بعض أهل الحديث، وبعض أصحاب الشافعي. واحتجوا لهذا القول: بأن العدل لو كان يَعْلَم فيه جرحاً لَذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ الخطيب، فقال: "وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلا ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها. كيف وقد وُجِدَ جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أَمْسَكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم، مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب"4.
ثم ساق - رحمه الله - أمثلة مما وقع فيه ذلك.
الثالث: التفصيل؛ فإن كان ذلك العدل الذي روى عنه لا يروي إلا عن عدول، كانت روايته تعديلاً، وإلا فلا. وهذا المختار عند الأصوليين: كالسيف الآمدي، وابن الحاجب وغيرهما5. قال السخاوي: "بل وذهب إليه جمع من المحدثين، وإليه ميل الشيخين، وابن خزيمة في
__________
1 شرح الألفية: (1/320-321) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) .
3 التقريب: (ص13) .
4 الكفاية: (ص 150-151) .
5 شرح ألفية العراقي: (1/321-322) .
(1/532)
صحاحهم، والحاكم في مستدركه ... "1.
وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - القول الثاني: وهو أن ذلك يكون تعديلاً له مطلقاً؛ فإنه قال:
" ... ورواية العدل عن غيره تعديل له، ما لم يعلم فيه جرح"2.
وقال مرة في حديث رواه أبو إسحاق السبيعي، عن العالية في بيع العينة:
"وأما العالية: فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات، وقد دَخَلَت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلمُ بها ... ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكَذِبُ لم يكن فاشياً في التابعين فُشُوّه فيمن بعدهم"3.
ويدلُّ كلامه - رحمه الله - في أكثر من مناسبة على اختياره هذا المذهب وقوله به، فمن أمثلة ذلك:
أنه - رحمه الله - استدل على ثقة "سعد بن سعيد"4برواية جماعة من الأَجِلَّةِ عنه، فقال رحمه الله - رداً على من ضَعَّفَه -: " ... لكنه ثقة صدوق ... روى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن"5.
__________
1 فتح المغيث: (1/313) .
2 زاد المعاد: (5/181) .
3 تهذيب السنن: (5/105) .
4 الأنصاري، صدوق سيئ الحفظ. التقريب: (231) .
5 تهذيب السنن: (3/311) .
(1/533)
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه رد تضعيف مغراء العبدي1 بقوله: "قد روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"2.
فهذا هو اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة، وقد تَقَدَّمَ ضعف هذا المذهب وعدمُ صحته، وذلك لأمور، منها:
1- جوازُ أن يكون العدل لا يَعْرِفُ عَدَالة من روى عنه، فلا تكون روايته عنه تعديلاً له ولا خبراً عن صدقه.
2- أن العدل قد يَرْوِي عَمَّن تكون حالُهُ غير مرضية - مع علمه بحاله - ومع ذلك يمسك عن ذكر ذلك وبيانه. أشار إلى هذين الوجهين الخطيب كما تقدم.
3- وأمر ثالث ذكره أبو بكر الصيرفي، وهو: أن الرواية تعريف - أي مطلق تعريف - تزول جهالة العين بها بشرطه. أما العدالة: فلا تثبت إلا بالخبرة، ومجرد الرواية عنه لا تدل على الخبرة3.
ولكن: إذا كان العدل قد عُرِفَ بأنه لا يَرْوِي إلا عن ثقة عنده، فهل تكون روايته عَمَّنَ روى عنه تعديلاً له؟
تقدم عند الكلام على المذهب الثالث في هذه المسألة: أن جماعة ذهبوا إليه من الأصوليين والمحدثين، قال الخطيب البغدادي: "إذا قال
__________
1 الكوفي، أبو المخارق، مقبول. التقريب: (542) .
2 الصلاة: (ص119) .
3 فتح المغيث: (1/313) .
(1/534)
العَالِمُ: كل من أروي عنه وأُسَمِّيه فهو عدلٌ رضاً مقبولُ الحديثِ، كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه"1.
وقال الحافظ ابن حجر: "من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجل وصف بكونه ثقة عنده، كمالك، وشعبة، والقطان، وابن مهدي، وطائفة ممن بعدهم"2.
وابن القَيِّم - رحمه الله - قد أخذ بهذا القول وأَعْمَلَه؛ فإنه قال في داود بن الحصين: "وروى عنه مالك، وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده"3.
وقد جاء عن الإمام مالك - رحمه الله - ما يفيد ذلك، فقد سأله بشر بن عمر الزهراني عن رجل؟ فقال: "رأيته في كتبي؟ " قال: لا. قال: "لو كان ثقة لرأيته في كتبي"4.
ولكن هل هذه القاعدة على عمومها في حق كل من قيل فيه إنه لا يروي إلا عن ثقة؟؟
قال الحافظ الذهبي - رحمه الله - عقب مقالة مالك هذه: "فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عَمَّن هو عنده ثقة، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه، وهو
__________
1 الكفاية: (ص154) .
2 لسان الميزان: (1/15) .
3 رسالة في الأحاديث الموضوعة: (ق48/ ب)
4 مقدمة الجرح والتعديل: (ص24) ، وسير أعلام النبلاء: (8/71-72) .
(1/535)
عنده ثقة، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره، إلا أنه - بكل حال - كثير التَّحَرِّي في نقد الرجال"1.
ولهذا قال السخاوي - رحمه الله -: "من كان لا يروي إلا عن ثقة - إلا في النادر -: الإمام أحمد ... ومالك، ويحيى القطان"2. فاحترز بقوله: "إلا في النادر.
فظهرَ من ذلك أن هذه القاعدة أغلبية، وليست كُلِّيَّة في حق من قيل ذلك في حقه، وإذا كان كذلك فلا يصحُّ الاعتماد عليها في الحكم بعدالة كل من روى عنه واحد من أولئك الأئمة.
ويتلخص من ذلك: أن القول الأول - وهو عدم اعتبار رواية العدل تعديلا لمن روى عنه - هو الصواب والأقرب للاحتياط، كما تقدم بيانه. وأن القول الثاني - وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - غير صحيح، والأخذ به ينافي الاحتياط في الرواية. وأما القول الثالث: فهو تَوَسُّطٌ بين القولين، لكن يراعى تقييده وعدم إطلاقه، فيحمل على الغالب في حق من قيل فيه، ولذلك فإنه لا يعمل به بمجرده دون مراعاة أقوال الأئمة الآخرين في الرجل، وغير ذلك من الاعتبارات، كما هو واضح في كلام الذهبي المتقدم، والله أعلم.
__________
1 سير أعلام النبلاء: (8/72) .
2 فتح المغيث: (1/314) .
(1/536)
المطلب الرابع: إذا خالف رأي أو الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايته؟
...
المطلب الرابع: إذا خالفَ رأي الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايَتِهِ؟
وهذه المسألة لها تعلق بالمسألة التي سبقتها - وهي: هل رواية العدل عمن سماه تعديل له؟ - وكذلك هنا: هل فتوى العالم وفق حديث، أو عمله بمقتضاه يوجب تصحيحاً لهذا الحديث، وتعديلاً لرواتِهِ؟؟ وهل عمله أو فتواه على خلافه يوجب ضعفاً لروايته، وقدحاً في رواته؟؟
والذي يعنينا في هذا المقام هو مسألة: مخالفة فتوى الراوي أو عمله لروايته، هل يوجب ذلك ضعفَ روايته؟؟
فقد تناول ابن القَيِّم هذه القضية في مناسبات عدة، واختار: أن ذلك غير قادح ولا مؤثر في صحة حديثه، وبالتالي في عدالة رواته.
قال - رحمه الله - في فتوى ابن عباس رضي الله عنهما: ألا يصوم أحد عن أحد، مع أنه راوي حديث الصيام عن الميت1:
"فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته؛ فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة"2.
ثم يذكر ابن القَيِّم بعض الأسباب التي قد تحمل الراوي على ترك العمل بروايته، فيقول:
__________
1 صحيح مسلم: (2/804) ح 1148، ك الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت.
2 الروح: (ص 184) .
(1/537)
"ويجوز أن يكون قد نسي الحديث، أو تَأَوَّلَه، أو اعتقد له معارضاً راجحاً في ظنه"1.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، في أن الْحُرَّةَ تَعْتَدُّ بثلاث حيض، وأنها خالفت ذلك، فقالت: "الأَقْرَاء: الأطْهار". فقد خالف رأيها روايتها، قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ليس هذا بأول حديث خالفه راويه، فَأُخِذَ بروايته دون رأيه"2.
وقد ساق - رحمه الله - في (إعلام الموقعين) 3 ما يزيد على عشرين مثالاً لمخالفة رأي الراوي وفتواه لروايته، وقُدِّمَت في كل ذلك روايتُهُ على رَأْيِه.
وما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة موافق لما ذهب إليه أئمة هذا الشأن:
فقد قال الخطيب البغدادي: "إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حُكماً من الأحكام، فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك العمل بالخبر:
- لخبر آخر يعارضه، أو عموم، أو قياس.
__________
1 الروح: (ص 184) .
2 زاد المعاد: (5/611-612) .
(3/ 38-39) .
(1/538)
- أو لكونه منسوخاً عنده.
- أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه، وإذا احتمل ذلك لم نجعله قدحاً في راويه"1.
وقال ابن الصلاح: " ... وكذلك مخالفته للحديث، ليست قدحاً منه في صحته، ولا في راويه"2.
وقد خالف في ذلك ابن رجب الحنبلي رحمه الله، فإنه قال في آخر كتابه (شرح علل الترمذي) 3: "قاعدة - في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه". ثم قال: "قد ضَعَّفَ الإمام أحمد وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا". ثم ذكر أمثلة لذلك.
وقد حَقَّقَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أن في ذلك عن الإمام أحمد روايتين، وذكر أن الراجح عنده في ذلك: الأخذ برواية الراوي دون رأيه، فقال رحمه الله: "وأصل مذهبه، وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صحَّ لم يَرُدَّه لمخالفة راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأَمَةِ، فأخذ بروايته: أنه لا يكون طلاقاً، وترك رأيه"4.
__________
1 الكفاية: (ص 186) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) .
(ص529) .
4 إعلام الموقعين: (3/35) .
(1/539)
وقال مرة: "والمشهور عنه: أن العِبْرَة بما رواه الصحابي لا بقوله، إذا خالف الحديث ... "1.
فهذا ما يتعلق بالإمام أحمد رحمه الله، وأن عنه في ذلك روايتين، المشهور منهما ما وافق رأى الأكثرين، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله.
وأما غيره من الحفاظ الذين قال عنهم ابن رجب إنهم "أكثر الحفاظ": فلم يتبين لي من هم؟ وأما الأحاديث التي ضَعَّفُوها، فإنهم - والله أعلم - لم يضعفوها لمجرد مخالفة راويها لها، بل قد يكونوا ضعفوها لكونها ضعيفة في نفسها، فإذا صح - مع ذلك - عن راويها العمل على خلافها، تَأَكَّدَ حينئذ ضعفها، أما أن تكون هذه الروايات صحيحة في نفسها، ثم يَرُدُّونها لمخالفة راويها لها، ويقدحون بذلك في صحتها: فلا.
فَتَلَخَّص من ذلك: أن اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله – في هذه المسألة قد وافق اختيار الخطيب، وابن الصلاح، وابن كثير وغيرهم، وهو الصواب، والله أعلم.
__________
1 إغاثة اللهفان: (1/293) .
(1/540)
المطلب الخامس: هل يشترطُ ذكر سببِ الْجَرْح والتعديل؟
هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل؟ وأنه لا بد أن يكون مُفَسَّراً، أم أنهما يقبلان مُبْهَمين غير مفسرين؟ في المسألة مذاهب أربعة:
الأول: يقبلُ التعديل من غير ذكر سببه، وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً مبين السبب. وهذا مذهب الجمهور من المحدثين وغيرهم.
- أما عدم اشتراط التفسير في التعديل: فلأن أسباب التعديل كثيرة يصعب ذكرها؛ إذ لو طُلب إليه ذلك، للزمه أن يقول في حقِّ الْمُعَدَّل: "يفعل كذا وكذا"، فيعد ما يجب عليه فعله. "وليس يفعل كذا ولا كذا" فيعد ما يجب عليه تركه، وهذا لا شك فيه عُسْرٌ ومشقة. أما الجرح: فإنه يحصل بأمر واحد، فلا يشق في الغالب ذكره1.
- وأما اشتراطه في الجرح: فلأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناءً على ما اعتقده جرحاً، وليس هو بجرح في نفس الأمر، فمطالبته إذن ببيان السبب مزيل لهذا المحذور؛ إذ بالنظر في السبب المذكور يُعْرَف ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا2.
ويؤيد ضرورة ذلك: أنه ربما اسْتُفْسِرَ الجارح عن سبب جرحه، فذكر ما لا يصلح جارحاً، فمن ذلك: أن شعبة قيل له: لم تركت حديث
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) ، وشرح ألفية العراقي، له: (1/300) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص51) ، وفتح المغيث: (1/299) .
(1/541)
فلان؟ فقال: "رَأَيْته يركضُ على بِرْذَوْن، فتركت حديثه"1. ومنه: أن مسلم بن إبراهيم سألوه عن حديث الصالح المُرِّيِّ؟ فقال: "ما يُصْنع بصالح، ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة، فامتخط حماد"2.
إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يُعَدُّ الجرح فيها قدحاً في الراوي3.
الثاني: عكس الأول، فيجب بيان سبب العدالة، ولا يجب بيان سبب الجرح، قالوا:
- لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها، فيسارع الناس إلى الثناء على الظاهر4.
الثالث: أنه لا بدَّ من ذكر أسباب الجرح والتعديل معاً، حكاه الخطيب والأصوليون. قالوا:
- فكما يَجْرَحُ الجارح بما لا يقدح، فكذلك الْمُعَدِّل قد يُوَثِّقُ بما لا يقتضي العدالة5؛ كما استدل أحمد بن يونس على عدالة عبد الله العُمَري وثقته بقوله:"لو رأيتَ لحيته، وخضابه، وهيئته، لعرفت أنه ثقة".
__________
1 الكفاية: (ص182) . والبرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة. والجمع: براذين، والأنثى برذونة. (لسان العرب: برذن، والمعجم الوسيط: برذن) .
2 الكفاية: (ص185) .
3 انظر (الكفاية) : (ص181-186) فقد عقد باباً لذلك.
4 شرح ألفية العراقي: (1/303) ، وفتح المغيث: (1/301) .
5 فتح المغيث: (1/302) .
(1/542)
وهذا لا شك مما لا يعتمد عليه في إثبات العدالة، قال الخطيب: "لأن حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح"1.
الرابع: عكس الثالث، فلا يجب ذكر السبب في واحد منهما، إذا كان الجارح والمعدل عالماً بأسباب الجرح والتعديل، بصيراً مرضياً في أفعاله واعتقاده2.
والراجح من هذه الأقوال: هو القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور، قال الخطيب البغدادي: "هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونُقَّاده، مثل: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري ... "3. وقال ابن الصلاح: "التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور". قال: "وأما الجرح فإنه لا يقبلُ إلا مفسراً مبيَّنَ السبب ... وهذا ظاهرٌ مقررٌ في الفقه وأصوله"4. وقال العراقي: "هو الصحيح المشهور"5.
وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - مذهب الجمهور، وصرح به في عدة مواضع، فقال في "عبد الحميد بن جعفر":
__________
1 الكفاية: (ص165) .
2 شرح ألفية العراقي: (1/304) ، وتدريب الراوي: (1/308) .
3 الكفاية: (ص179) .
4 مقدمة ابن الصلاح: (ص50-51) .
5 شرح الألفية: (1/300) .
(1/543)
"وثقَهُ يحيى بن معين في جميع الروايات عنه، ووثقه الإمام أحمد أيضاً، واحتج به مسلم في صحيحه، ولم يُحفَظ عن أحد من أئمة الجرح والتعديل تضعيفه بما يوجب سقوط روايته ... وحتى لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته ما لم يُبَيِّن سبب ضعفه، وحينئذ يُنظر فيه: هل هو قادحٌ أم لا؟ "1.
فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد هنا أن الجرح لا يقبلُ إلا مُفَسَّراً، ويذكر تعليل ذلك: بأنه قد لا يكون جرحاً قادحاً مؤثراً، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بذكر سببه وتفسيره.
ومثال آخر يقرر فيه ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا القول ويؤكده، فيقول في حق "محمد بن عمرو بن عطاء" - وقد نقل عن يحيى بن سعيد تضعيفه له -: " ... تضعيف محمد بن عمرو بن عطاء: ففي غاية الفساد؛ فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وَثقَه أئمة الحديث: كأحمد، ويحيى بن سعيد ... وتضعيف يحيى بن سعيد له - إن صحَّ عنه - فهو رواية، المشهور عنه خلافها، وحتى لو ثبت على تضعيفه فأقام عليه، ولم يبينْ سَبَبَهُ لم يُلْتَفت إليه، مع توثيق غيره من الأئمة له ... "2.
ويُبْرِزُ لنا ابن القَيِّم - رحمه الله - ثمرة عدم قبول الجرح إلا
__________
1 تهذيب السنن: (1/360) .
2 تهذيب السنن: (1/360) .
(1/544)
مفسراً وفائدته، وأن ذلك هو السبيل لمعرفة ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا، فيقول في تضعيف شعبة "للمنهال بن عمرو" بسماعه صوت طنبور من بيته، أو أنه سمع صوت قراءة بالتطريب: "ومعلوم أن شيئاً من هذا لا يقدح في روايته ... ولعله مُتَأوِّلٌ فيه ... وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره، ولا إِذنه، ولا عِلْمه. وبالجملة: فلا يُرَدُّ حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.
وقال مرة: "وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطِّراح حديثه"2.
ولما ردَّ ابن حزم رواية "أبي الطفيل، وأبي عبد الله الجدلي" بأنهما كانا في جيش المختار3، وأن الجدلي كان حامل رَايَتِه قال ابن القَيِّم - رحمه الله - يرد عليه: "فَرَدُّ رواية الصاحب، والتابع الثقة بذلك باطل"4.
وقد وافقه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على أن الجرح بمثل هذا ليس بقادح، فقال: "ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"5.
فهذه الأمثلة وغيرها للجرح غير القادح تُوَضِّح لنا دقة مسلك
__________
1 تهذيب السنن: (7/140) .
2 الروح: (ص64) .
3 الذي أرسله إلى مكة ليمنع ابن الحنفية مما أراد به ابن الزبير. (تهذيب التهذيب 12/148) .
4 تهذيب السنن: (1/117) .
5 تهذيب التهذيب: (12/149) .
(1/545)
الجمهور في اشتراط تفسير الجرح، وبيان سببه.
وإذا عرفنا رأيَ ابن القَيِّم - رحمه الله - وطريقته في هذه المسألة، وأنه مع الجمهور في ضرورة تفسير الجرح، وأن التعديل يقبل على الإبهام، فإنه لا يفوتنا أن ننبه على أمر مهم، وهو:
هل يُطْلب تفسير الجرح دائماً، وفي كل راوٍ مُجَرَّح، أم أن هناك ضابطاً لهذا الأمر؟
هذا ما أجاب عنه ابن القَيِّم - رحمه الله - حين قال: "وهذا إنما يُحْتَاج إليه - يعني طلب تفسير الجرح - عند الاختلاف في توثيق الرَّجُل وتضعيفه، وأما إذا اتَّفَق أئمة الحديث على تضعيف رجل، لم يُحْتَج إلى ذكر سبب ضعفه. هذا أولى ما يُقَال في مسألة التضعيف المطلق"1.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مثل ذلك، إذ قال: "فإنْ خلا المجروح عن التعديل: قُبِل الجرح فيه مُجْمَلاً غير مبين السبب، إذا صَدَرَ من عارف على المختار؛ لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حَيِّزِ المجهول، وإعمال قول الْمُجَرِّح أولى من إهماله"2. وقال مرة: " ... فوجه قولهم: إن الجرح لا يقبل إلا مفسراً: هو فيمن اخْتُلِفَ في توثيقه وتجريحه"3.
__________
1 تهذيب السنن: (1/360) .
2 نزهة النظر: (ص73) .
3 لسان الميزان: (1/ 16) .
(1/546)
وهذا الضابط الذي وَضَعَه ابن القَيِّم - رحمه الله - لاشتراط تفسير الجرح، والتفصيل الذي فَصَّلَهُ، ووافقه عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، استحسنه غيرُ واحد، وعدَّه اللَّكنوي قولاً خامساً في المسألة1، بعد أن قال: " ... لكنه تحقيق مستحسن، وتدقيق حسن"2.
فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم قد وافق الجمهور على عدم قبول الجرح إلا مفسراً، ثم أضاف إلى ذلك ضابطاً حسناً، وتفصيلاً دقيقاً، في مسألة طلب تفسير الجرح، وهو: أنه يستغنى عن طلب التفسير في حالة الاتفاق على التضعيف، وهو نفسه الذي عبر عنه الحافظ ابن حجر "بالخلوِّ من التوثيق"، وقد جاء ذلك لبيان أن التفسير لا يشترط طلبُهُ على الإطلاق.
وقد تضمن كلامه - رحمه الله - الإشارة إلى حالة تعارض أقوال المعدلين والمجرحين في الراوي، فيطلب حينئذ تفسير الجرح للترجيح، وسيأتي الكلام على تعارض الجرح والتعديل في المطلب التالي.
__________
1 فقد مضى أن في مسألة اشتراط ذكر سبب الجرح والتعديل أربعة أقوال. (انظر ص 541) .
2 الرفع والتكميل: (ص110) .
(1/547)
المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل
إذا تعارض الجرحُ والتعديل في راو، فَجَرَحَهُ جماعة، وعَدَّلَه آخرون، فللعلماء في ذلك أربعة أقوال:
الأول: أن الجرح مُقَدَّم مطلقاً، سواء زاد عدد الْمُعَدِّلين على الْمُجَرِّحين، أو نقص عنه، أو استويا. هذا قول الجمهور كما قال الخطيب1، وقال ابن الصلاح: "هو الصحيح"2.
وذلك:
- لأن مع الجارح زيادة علم لم يَطَّلِع عليها الْمُعَدِّل، فهو قد علم ما علمه المعدل من حاله الظاهرة، وزاد عليه علم ما لم يعلمه من اختبار أمره.
- ولأن إخبار الْمُعَدِّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب تقديم قول الجارح3.
الثاني: إذا كان عدد الْمُعَدِّلين أكثر، قُدِّم التعديل على الجرح. قالوا:
- لأن كثرة المعدلين تُقَوِّي حالهم، وتوجب العمل بخبرهم. وقِلَّة الجارحين تضعف خبرهم.
__________
1 الكفاية: (ص 175- 177) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) .
3 الكفاية: (ص175) .
(1/548)
قال الخطيب - بعد أن حكى هذا القول عن طائفة -: "وهذا خطأ ... وبُعْدٌ ممن تَوَهَّمَهُ؛ لأن الْمُعَدِّلِين - وإن كثروا - ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون"1.
الثالث: يُقَدَّم الأحفظ. نقله السيوطي2 عن البلقيني، وظاهره أنه إذا زاد المعدلون أيضاً.
الرابع: أنهما يتعارضان فلا يُرَجَّح أحدهما على الآخر إلا بِمُرَجِّحٍ، نقله العراقي عن ابن الحاجب3، وهذا أيضاً فيما إذا كان عدد المعدلين أكثر، قال السخاوي:
"ووجهه: أن مع الْمُعَدِّلِ زيادة قوة بالكثرة، ومع الجارح زيادة قوة بالإطلاع على الباطن"4.
والراجح هو مذهب الجمهور، كما تقدم في كلام الخطيب، وابن الصلاح، وقال السيوطي: "هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين"5.
ولكن ينبغي عدم القول بتقديم الجرح على التعديل مطلقاً، بل لابد من تقييد ذلك: بكون الجرح مُفَسَّراً مبيناً، من عارفٍ بأسبابه. وإلى هذا أشار الحافظ ابن حجر بقوله: "والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة، ولكن مَحَله: إن صدر مَبَيَّناً، من عارف بأسبابه"6.
__________
1 الكفاية: (ص 177) .
2 تدريب الراوي: (1/310) .
3 شرح الألفية: (1/313) .
4 فتح المغيث: (1/308) .
5 تدريب الراوي: (1/309) .
6 نزهة النظر مع النخبة: (ص73) .
(1/549)
وقال السخاوي: "لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فُسِّرَ ... أما إذا تعارضا من غير تفسير: فالتعديل - يعني مقدم - كما قاله المزي وغيره"1.
وقال السيوطي: "وإذا اجتمع في الراوي جرح مفسر وتعديل: فالجرح مقدم، ولو زاد عدد المعدل"2.
ولم أقف لابن القَيِّم - رحمه الله - على رأي صريح في هذه المسألة - مسألة تعارض الجرح والتعديل - إلا أن كلامه في المسألة السابقة - مسألة اشتراط تفسير الجرح - يمكن أن يعطينا تصوراً عن رأيه في هذا الموضوع.
فقد قَرَّرَ ابن القَيِّم فيما مضى: أن الجرح لا ينبغي قبوله إلا مفسراً، وأن تفسير الجرح إنما يطلب عند الاختلاف في الراوي، وتعارض أقوال المجرحين والمعدلين فيه؛ وذلك للنظر في الأسباب التي أبداها المجرح هل هي قادحة أم لا؟ 3.
وبهذا يلتقي قول ابن القَيِّم في هذه المسألة مع قول الجمهور القائلين بتقديم الجرح على التعديل عند التعارض، مع تقييد ذلك بكون الجرح مفسراً، وأسبابه قادحة مؤثرة4.
__________
1 فتح المغيث: (1/307) .
2 تدريب الراوي: (1/309) .
3 انظر كلام ابن القَيِّم المتقدم في ص: (543- 547) .
4 انظر ما تقدم في ص: (548 - 549) .
(1/550)
على أن تقديم الجرح على التعديل، أو إعمال التعديل والإعراض عن الجرح، يكون محكوماً - في بعض الأحيان - ببعض الضوابط والأمور التي ينبغي أن تراعى عند التعرض لهذه المسألة.
ونستطيع - من خلال النظر في كلام ابن القَيِّم في الرجال، وتحليل بعض أقواله - أن نستخلص بعض هذه الضوابط وتلك الملاحظات، فمن ذلك:
أولاً: أن أقوال الأئمة في الراوي قد تَرِدُ مقيدة، فيجب مراعاة تلك القيود عند التعارض.
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة في أكثر من مناسبة، وبَيَّنَ أن الرجل قد يحتج به فيما رواه عن شيخ، ويترك في شيخ آخر. أو يوثق في روايته عن أهل بلد، ويضعف - هو بعينه - فيما رواه عن أهل بلد آخر.
ونَبَّهَ - رحمه الله - على ضرورة مراعاة ذلك في كلام الأئمة وحكمهم على الرواة، وأنه لا ينبغي في مثل ذلك معارضة أقوال بعضهم ببعض، بل يُعمل بكل قول باعتبار.
قال رحمه الله -: "وهذه مسألة غير مسألة تعارض الجرح والتعديل، بل يظن قاصر العلم أنها هي، فيعارض قول من جَرَحَهُ بقول من عَدَّلَه، وإنما هي مسألة غيرها، وهي: الاحتجاج بالرجل فيما رواه عن بعض الشيوخ، وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن آخر"1.
__________
1 الفروسية: (ص44) .
(1/551)
ومن الصور التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لتلك المسألة:
1- تضعيف حديث الراوي في بعض الشيوخ، وتوثيقه في غيرهم.
وذلك أن الراوي يكون ثقة في نفسه، لكنه يُضَعَّف في روايته عن بعض الشيوخ دون بقية شيوخه.
ويبيِّن ابن القَيِّم - رحمه الله - أن من الأسباب التي تجعل حديث الرجل ضعيفاً في شيخ بعينه: كونه غير معروف بالرواية عنه، وحفظ حديثه وإتقانه، وملازمته له1.
ومن الأمثلة التي وردت عند ابن القَيِّم لهذه الصورة:
أ- سفيان بن حسين2عن الزهري:
قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ثقة صدوق، وهو في الزهري ضعيف لا يحتج به؛ لأنه إنما لَقِيَه مرة بالموسم، ولم يكن له من الاعتناء بحديث الزهري، وصحبته، وملازمته له، ما لأصحاب الزهري الكبار: كمالك، والليث، ومعمر، وعقيل، ويونس، وشعيب"3.
__________
1 الفروسية: (ص44) .
2 ابن حسن، أبو محمد أو أبو حسن، الواسطي، ثقة في غير الزهري باتفاقهم، من السابعة /خت م 4. التقريب: (ص244) .
3 الفروسية: (ص44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (4/107) ، وهدي الساري: (ص457) ، وشرح علل الترمذي: (ص455) ، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم: (ص364-370) .
(1/552)
ب- قبيصة بن عقبة1 عن سفيان الثوري:
قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ومثل هذا: تضعيف قبيصة في سفيان الثوري، واحْتُجَّ به في غيره، كما فَعَل أبو عبد الرحمن النسائي"2.
2- توثيق حديث الرجل في أهل بلد، وتضعيفه في غيرهم.
ومثال ذلك عند ابن القَيِّم:
- إسماعيل بن عَيَّاش3:
قال ابن القَيِّم: " ... وهذا كإسماعيل بن عياش، فإنه عند أئمة هذا الشأن حجة في الشاميين أهل بلده، وغير حجة فيما رواه عن الحجازيين والعراقيين، وغير أهل بلده"4.
فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يقرر أنه إذا وجد في الرجل من أمثال هؤلاء جرح وتعديل، فإنه لا يُقَدَّمُ أحدهما على الآخر مطلقاً، بل تارة يقدم الجرح، وتارة يقدم التعديل، وذلك طبقاً للموازين التي مر ذكرها، والتي تضبط إطلاقات الأئمة في هذا الصدد.
__________
1 السوائي، أبو عامر الكوفي، صدوق ربما خالف، مات سنة 215 هـ- /ع. التقريب: (ص453) .
2 الفروسية: (ص 44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (8/347) ، وهدي الساري: (ص436) ، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم: (ص141-149) .
3 الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم /ى 4 التقريب: (ص109) .
4 الفروسية: (ص44) . وانظر: شرح علل الترمذي: (ص428) .
(1/553)
ثانياً: عدم معارضة أقوال أئمة الشأن الْمُعْتَبَرين بقول غيرهم.
إذا تعارض قول جماعة من الأئمة المعتبرين، وقول واحد ممن دونهم في هذا الشأن، فإن الأخذ بقول هؤلاء الأئمة - مع علمهم وإمامتهم في هذا الشأن - أولى من الأخذ بقول من دونهم، وكذا من كان مُتَأَخِّراً عنهم زمناً.
قال ابن القَيِّم رحمه الله - رَدًّا على ابن حزم في تضعيفه عمرو بن شعيب -: "وإذا تَعَارَضَ معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقول: البخاري، وأحمد، وابن المديني، والْحُمَيدي، وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم يُلْتَفَت إلى سواهم"1.
وقال مرة في ابن إسحاق - وقد نقل عن ابن عيينة قوله: ما سمعت أحداً يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر -: "ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بَعْدَهُم"2.
فهكذا نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّر: أن مَتَانَة الإمام الْمُتَكَلِّم في الرجل، ورسوخ قدمه، وطول باعه في الفَنِّ، مع مُعَاصَرَتِهِ للراوي - أو قرب عهده به - أَدْعى إلى تقديم قوله على قول غيره ممن ليس بهذه المثابة.
ثالثاً: مراعاة صحة سند القول المنسوب إلى أئمة الجرح والتعديل.
قد يَرِدُ قول لا يصح سنده إلى الإمام المنسوب إليه، فلا يجوز
__________
1 زاد المعاد: (5/456) .
2 تهذيب السنن: (7/95) .
(1/554)
حينئذ اعتماد هذا القول قي الترجيح عند التعارض؛ لأنه - والحالة هذه - كعدمه.
فمن ذلك: حكاية تكذيب محمد بن إسحاق، من رواية سليمان ابن داود، قال: قال لي يحيى بن سعيد القطان: أشهد أن محمد بن إسحاق كَذَّاب. قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهيب بن خالد. فقلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس. فقلت لمالك بن أنس: ما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة. قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة ابنة المنذر، ودَخَلَتْ عليَّ وهي ابنة تسعِ سنين، وما رآها حَتَّى لَقِيَتْ الله.
قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "إن سليمان بن داود - رَاوِيها عن يحيى - هو: الشاذكوني، وقد اتُّهِم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني"1.
وقد وافق الذهبيُّ ابنَ القَيِّم على تكذيب هذه الحكاية، فقال: "معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بدا منهم هذا بناءً على أصل فاسدٍ واهٍ، ولكن هذه الخرافة من صَنْعَةِ سليمان، وهو الشاذكوني - لا صَبَّحَه الله بخير -؛ فإنه مع تَقَدُّمه في الحفظ مُتَّهَمٌ عندهم بالكذب، وانظر كيف سلسل الحكاية؟! "2.
__________
1 تهذيب السنن: (7/ 97) .
2 سير أعلام النبلاء: (7/49) .
(1/555)
فهكذا ينبهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أنه لا يُعْتَمَد على جرح لا يصح سنده، فَيُعَارَض به أقوال الأئمة الآخرين ممن وَثقَ الرَّجُلَ.
وبعد، فهذه بعض الضوابط التي تيسر الوقوف عليها من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - فيما يتعلق بمسألة تعارض الجرح والتعديل، والتي ينبغي التنبه لها عند الوقوف على أقوال متعارضة للأئمة في الرجل، والله أعلم.
(1/556)
المطلب السابع: في حكم رواية الْمُبْتَدِعِ
مناسبة الكلام على رواية المبتدع في مبحث الجرح والتعديل: أن "البِدْعَةَ" من أسباب الطَّعْنِ في الراوي وجرحه، وبالتالي رَدِّ حديثه بشروطه.
والبدعة إما أن تكون مُكَفِّرةً، أو غير مكفرةٍ.
فالبدعة المكفرة1:
الجمهور على عدم قبول رواية صاحبها، قال النووي: "مَنْ كَفَر ببدعته لم يحتج به بالاتفاق"2. وقال ابن كثير: "المبتدع إن كفر ببدعته، فلا إشكال في ردِّ روايته"3.
واختار الحافظ ابن حجر - رحمه الله - التفصيل في ذلك، فقال: "والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كل مُكَفَّرٍ ببدعته ... فالمعتمد: أن الذي تُرَدُّ روايته: من أَنْكَرَ أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضَبْطُه لما يرويه، مع وَرَعِهِ وتقواه: فلا مانع من قبوله"4.
__________
1 قال ابن حجر: "لا بد أن يكون ذلك التكفير متفقاً عليه من قواعد جميع الأئمة، كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في عليٍّ أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك".
هدي الساري (ص 385) ، وانظر: فتح المغيث: (1/332 - 333) .
2 التقريب: (ص13) .
3 اختصار علوم الحديث: (ص99) .
4 نزهة النظر: (ص50) .
(1/557)
وَسَبَقَهُ إلى هذا المعنى ابنُ دقيق العيد، فقال: "والذي تَقَرَّرَ عندنا: أنه لا تُعْتَبَرُ المذاهب في الرواية؛ إذ لا نُكَفِّرُ أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة. فإذا اعتقدنا ذلك، وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى، فقد حصل معتمد الرواية ... "1.
وأما البدعة غير الْمُكَفِّرة: فللعلماء في قبول رواية صاحبها أقوال:
أولها: عدم قبولها مطلقاً:
قالوا: لأن في الرواية عنه ترويجاً لأمره، وتنويهاً بذكره.
وقد رَدَّ العلماء هذا القول، قال ابن الصلاح: "بعيدٌ مباعد للشائع عن أئمة الحديث؛ فإن كُتُبَهُم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة ... "2. وقال ابن حجر: "وهو بعيد"3.
الثاني: تقبل مطلقاً ما لم يكن مُسْتَحِلاًّ للكذب لنصرةِ مذهبه.
قالوا: لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه4. وعزاه بعضهم للشافعي، لقوله: "أقبلُ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"5.
__________
1 الاقتراح: (ص333-334) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .
3 نزهة النظر: (ص50) .
4 المصدر السابق.
5 مقدمة ابن الصلاح: (ص54) .
(1/558)
الثالث: التفصيل، فتقبل رواية من لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل رواية الداعية.
وهذا مذهب الأكثرين من العلماء، قال ابن الصلاح: "وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها"1.
وَفَصَّل ابن حجر - رحمه الله - في غير الداعية أيضاً، فقال: "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا إنْ روى ما يقوِّي بدعته فَيُرَدُّ على المذهب المختار"2.
وبالنظر إلى استبعاد الأئمة للمذهب الأول، فإنه يتحصل لدينا من مجموع المذهبين الباقيين أن رواية المبتدع تُقبل بشروط ثلاثة:
1- أن يكون صاحبُها ممن لا يستحل الكذب لنصرة مذهبه، فيقبلُ أهلُ الصدق منهم.
2- أن يكون غير دَاعِيَةٍ إلى بدعته.
3- أن لا يروي ما يؤيد بدعته ويوافقها ويُقَوِّيها.
وقد عرض ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه القضية في مناسبات مختلفة، والذي يظهر من مجموع كلامه: هو القول بقبول رواية المبتدع بالشروط التي مر ذكرها.
فمن كلامه - رحمه الله - في قبول رواية أصحاب البدع غير المكفرة:
__________
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .
2 نزهة النظر: (ص51) .
(1/559)
"وقد رُمِي جماعة من الأئمة الْمُحْتَجِّ بروايتهم بالقدر: كابن أبي عروبة، وابن أبي ذئب، وغيرهما. وبالإرجاء: كَطَلْق بن حبيب وغيره، وهذا أشهر من أن يذكر نظائره، وأئمة الحديث لا يردون حديث الثقة بمثل ذلك"1.
وقال مرة: "رواية أهل البدع مقبولة، فكم في الصحيح من رواية الشيعة الغلاة، والقدرية، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم ... ؛ إذ مجرد كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم"2.
يعني: إذا لم يكن داعية، ولم يرو ما يؤيد بدعته؛ فإن ما خُرِّجَ في الصحيح من رواية هذا الضرب، محمول على هذا3.
ومقصوده بالشيعة الغلاة: من كان من هؤلاء في زمان السلف، وهم يختلفون عمن وجد منهم في الأزمنة المتأخرة، قال الذهبي رحمه الله:
"فالشيعي الغالي في زمان السلف وَعُرْفِهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه، وتَعَرَّض لِسَبِّهم.
والغالي في زماننا وعرفنا: هو الذي يُكَفِّرُ هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالٌّ مُعَثَّرٌ"4.
__________
1 تهذيب السنن: (1/361) .
2 تهذيب السنن: (3/101) .
3 انظر: هدي الساري: (ص385) .
4 الميزان: (1/ 6) .
(1/560)
واعتبر - رحمه الله - التشيع الغالي في عهد السلف من البدع الصغرى، وأنه لا يُتْرَكُ حديثهم. وأما الرَّفْضُ الكامل، والحطُّ على الشيخين فقد عَدَّه بدعةً كبرى، فلا يحتج بأصحابها ولا كرامة1.
وقد جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - ما يؤكد عدم قبوله رواية المبتدع إذا روى ما يؤيد بدعته، فإنه - رحمه الله - قال عن الأجلح بن عبد الله - وكان شيعياً -:
"وأما حديث الأجلح بن عبد الله بن أبي الهذيل، عن علي رضي الله عنه، أنه قال: "ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَدَ الله بعد نَبِيِّهَا غَيْري، عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين": فالأجلح وإن كان صدوقاً، فإنه شيعي، وهذا الحديث معلوم بطلانه بالضرورة؛ فإن علياًرضي الله عنه لم يعبد الله قبل جميع الصحابة سبع سنين"2.
فتبين من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يتفق مع أكثر العلماء وجمهورهم في قبول رواية المبتدع بشروطها، كما دل عليه كلامه الذي نقلناه عنه.
__________
1 الميزان: (1/5-6) .
2 أحكام أهل الذمة: (2/505) .
(1/561)
المطلب الثامن: في ذكر فوائدَ متفرقة في الجرح والتعديل
الفائدة الأولى: في عدم جواز ذكر الجرح في الرجل، والسكوت عن التعديل.
من المعلوم أنه إذا كان الراوي فيه جرح وتعديل، فإنه لابد لمن يتعرض للكلام فيه - مُصَنِّفاً كان أم ناقلاً - أن يَذْكر كل ما قيل فيه جرحاً وتعديلاً، لا أن يذكر الجرح ويُعْرض عن التعديل، أو يذكر التعديل ويسكت عن الجرح.
ولا شك أن هذا الصنيع مذموم مِنْ فاعله؛ إذ يترتب عليه - في الحالة الأولى وهي: ذكر الجرح - ظن من لا معرفة له بهذا الشأن أن هذا الراوي مجمع على ضعفه، فيبني على ذلك حُكْمَهُ بِرَدِّ حديثه، وإسقاط روايته.
ولذلك فقد عاب الحافظ الذهبي - رحمه الله - ابن الجوزي لسلوكه هذا المسلك في كتابه (الضعفاء) ، فقال في ترجمة أبان بن يزيد العطار: "وقد أورده - أيضاً - العلامة أبو الفرج بن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وَثَّقَه. وهذا من عيوب كتابه: يسرد الجرح، ويسكتُ عن التوثيق"1.
ولما طَعَنَ الكوثري في "أسد بن موسى" بنقله كلام ابن حزم في جرحه، وسكوته عن نقل كلام من وَثَّقَهُ، كشف حاله العلامة المعلمي في (التنكيل) 2. ثم قال: "وقد أساء الأستاذ إلى نفسه جداً؛ إذ يقتصر على
__________
1 الميزان: (1/16) . وانظر: تهذيب التهذيب: (1/102) .
(1/206) .
(1/562)
كلمة ابن حزم في صدد الطعن، مع علمه بحقيقة الحال، ولكن! ".
ولقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - رأيه في هذه القضية بوضوح، ونَبَّه على خطورة هذا المسلك، وذلك عند كلامه على حديث عبد الله ابن أنيس في كلام الله - عز وجل - بصوت، ومحاولة بعضهم إعلاله بضعف عبد الله بن محمد بن عقيل، والقاسم بن محمد، فقال رحمه الله: "ولا التفاتَ إلى ما أعلَّه به بعض الجهمية ظلماً منه وهضماً للحق، حيث ذكَر كلام الْمُضَعِّفين لعبد الله بن محمد بن عقيل، والقاسم بن محمد، دون من وَثقَهُمَا وأثنى عليهما، فيوهم الغِرَّ1 أنهما مجمعٌ على ضَعْفِهِمَا لا يحتجُّ بحديثهما"2.
الفائدة الثانية: في أن ثقة الراوي لا تعني صحة كل ما روى.
إذا حَكَم الأئمة للراوي بأنه ثقة، فهل يعني ذلك بالضرورة صحة كل حديث رواه؟
وهذا السؤال يدعونا إلى سؤال آخر، وهو: هل الراوي الذي حُكِمَ له بالثقة لا يجوز عليه الخطأ والوهم؟
وهذان السؤالان مرتبطان تمام الارتباط، وسأحاول الجواب عنهما بشيء من البيان، وذلك من خلال تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - للمسألة.
__________
1 رجل غِرٌّ - بالكسر - وغَرِيرٌ: أي غيرُ مُجَرِّبٍ. (مختار الصحاح: ص471) .
2 مختصر الصواعق: (2/ 404) .
(1/563)
فقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية في أكثر من مناسبة، وأكد أن الثقة قد يغلط ويهم، وتقع العلل في حديثه، فقال رحمه الله: " ... فإن الثِّقَةَ قد يغلط وَيَهِمُ، ويكون الحديثُ من حديثه معلولاً عِلَّة مؤثرة فيه، مانعة من صحته"1.
ويؤكد - رحمه الله - هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقولُ - عند الكلام على من وَهِمَ في تحريم متعة النساء، وقال: إنها حُرِّمَت عام حجة الوداع -: "وهو وهم من بعض الرواة، سَافَرَ فيه وهمه من فتحِ مكة إلى حجة الوداعِ ... وَسَفَرُ الوهمِ من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يَعْرِضُ للحُفَّاظِ فمن دونهم"2.
وقد تناول الحافظ الذهبي - رحمه الله - هذه القضية أيضاً، فكان مما قال - في معرض رَدِّه على العقيلي لإدخاله عليّ بن المديني في كتاب (الضعفاء) -: "وأنا أشتهي أن تُعَرِّفَني: من هو الثَّقَةُ الثَّبْتُ الذي ما غَلِطَ ولا انفرد بما لا يُتَابَعُ عليه، بل الثقةُ الحافظ إذا انفردَ بأحاديث كان أَرْفَعَ له، وأكمل لرُتْبَتِهِ، وأدلَّ على اعتنائه بعلم الأثر ... "3.
وقال أيضاً: " ... ولا مِنْ شرط الثقة: أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ"4.
__________
1 رسالة الموضوعات: (ق 39/ أ) .
2 زاد المعاد: (3/459) .
3 الميزان: (3/140) .
4 المصدر السابق: (3/141) .
(1/564)
فإذا تَقَرَّر ذلك، فإنه لا ينبغي الحكم على كل حديث بالصحة بمجرد توثيق الأئمة لراويه، بل ينبغي مراعاة كون هذا الحديث مما لا علة له، ويكون خالياً من الشذوذ والنكارة.
ويشيرُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الغلط الحاصل للبعض نتيجة لهذا التصور الخاطئ فيقول: " ... أن يرى مثل هذا الرجل قد وُثِّقَ وشُهِدَ له بالصدق والعدالة، أو خُرِّجَ حديثه في الصحيح، فيجعلُ كلَّ ما رواه على شرط الصحيح. وهذا غلط ظاهر؛ فإنه إنما يكون على شرط الصحيح: إذا انتفت عنه العلة، والشكوك، والنكارة، وتوبع عليه ... "1.
ثم يستدل - رحمه الله - على أنَّ توثيق الراوي، وإخراجَ حديثه في الصحيح لا تناقض بينه وبين تخطئتِهِ أحياناً، وإعلال حديثه، بقوله: "فالبخاري يُوَثِّقُ جماعة، ويُعَلِّلُ هو بعينه بعضَ حديثهم، ويُضَعِّفُهُ، وكذلك غيره من الأئمة، ولا تنافي عندهم بين الأمرين، بل هذا عندهم من علم الحديث، وفقه علله، التي بها يُمَيِّزُهُ نُقَّاده وأطباؤه"2.
ويقول أيضاً - في الرد على من جَعَلَ كل راوٍ أخرج له مسلم واحتج به على شرطه في كل حديث يرويه -: "فإن مسلماً إذا احتج بثقة، لم يلزمه أن يصحح جميع ما رواه3، ويكون كل ما رواه على شرطه؛ فإن الثقة قد يَغْلَطُ ويَهِمُ،
__________
1 الفروسية: (ص 45) .
2 الفروسية: (ص 52-53) .
3 يعني الراوي.
(1/565)
ويكون الحديث من حديثه معلولاً علة مؤثرة فيه، مانعة من صحته، فإذا احتج بحديث من حديثه غير معلول، لم يكن الحديث المعلول على شرطه"1.
فتبين بعد هذا العرض: أن الثقة جائز عليه الوهم والغلط، وما دام الأمر كذلك، فلا مانع من إعلال ما تَبَيَّنَ أنه أخطأَ فيه، ولا يُجْعَلُ هذا المعلول صحيحاً اعتماداً على مجرد ثقة هذا الراوي، والله أعلم.
الفائدة الثالثة: إذا أخطأ الراوي في حديث، فإن ذلك لا يُوجِبُ جَرْحاً لازماً له.
وهذه المسألة لها صلة بالتي مضت، وهي على العكس منها: هل تضعيف الحديث بكون الراوي أخطأ فيه يورثه جرحاً لازماً له لا ينفك عنه، فَيُرَدُّ بذلك كل حديث رواه، حتى ولو كان صحيحاً سالماً من الخطأ؟
فقد تقرر فيما سبق: أن الثقة يغلط، وأن الحُكْمَ بثقتِهِ لا يمنعُ إعلال ما أخطأ فيه أو وهم، وكذلك الحال هنا: فإن إعلال حديث أخطأ فيه الثقة أو وهم، لا يجعله مجروحاً، ولا يجعل كل حديث له مردوداً.
فكما أَنَّا في الحالة الأولى لم نعتبر ثقة الراوي فيما أخطأ فيه، فكذلك الأمر هنا: لا نعتبرُ خطأه مُؤَثِّراً فيما أصاب فيه، ووافَقَ فيه غَيْرَهُ.
وقد تناولَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة عند كلامِهِ على المسألة التي سبقتها، فَبَيَّنَ - رحمه الله - أن ذلك يقعُ ممن لا نظر عنده،
__________
1 رسالة الموضوعات: (ق 39/ أ) .
(1/566)
وممن قصر ذوقه وفهمه عن ذوق وفهم أئمة العلل في نقدهم للمرويات، ثم بين غلط من يقع في ذلك، فقال: "النوع الثاني من الغَلَطِ: أن يَرَى الرَّجُلَ قد تُكُلِّمَ في بعض حديثه، وضُعِّفَ في شيخ أو في حديث، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجده، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظَّاهر وغيرهم"1.
وقال مرة: "والطائفة الثانية: يرون الرجل قد تُكُلِّمَ فيه بسبب حديث رواه، وضُعِّفَ من أجله، فيجعلون هذا سبباً لتضعيف حديثه أين وجدوه، فيضعفون من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بصحته"2.
ثم يُقَرِّرُ - رحمه الله - الصواب في ذلك، فيقول: "كون الرجل يخطئ في شيء، لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه"3.
وقال أيضاً: "وأئمة الحديث على التفصيل والنقد، واعتبار حديث الرجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثقات"4.
ولقد نبه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على هذه القاعدة الجليلة النافعة، فقال:
__________
1 الفروسية: (ص45) .
2 تهذيب السنن: (5/326) .
3 تهذيب السنن: (3/312) .
4 الفروسية: (ص45) .
(1/567)
"فإذا جُرِحَ الرجل بكونه أخطأ في حديث أو وهم أو تفرد، لا يكون ذلك جرحاً مُسْتَقَراً، ولا يُرَدُّ به حديثه"1.
ومن الأمثلة الظاهرة لإيضاح هذه القاعدة وبيانها عند ابن القَيِّم رحمه الله: كلامه عن "عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي" - وقد تُكُلِّم فيه من أجل حديث الشفعة - فقال رحمه الله: "عبد الملك أجلُّ وأوثق من أن يُتَكَلَّمَ فيه، وكان يُسَمَّى "الميزان" لإتقانه وضبطه وحفظه، ولم يتكلمْ فيه أحدٌ قطُّ إلا شعبة، وتكلم فيه من أجل هذا الحديث - يعني حديث الشفعة - وهو كلام باطل.
فإنه إذا لم يضعفه إلا من أجل هذا الحديث، كان ذلك دوراً باطلا؛ فإنه لا يثبت ضعف الحديث حتى يثبت ضعف عبد الملك، فلا يجوز أن يستفاد ضعفه من ضعف الحديث ... ؛ فإن الرجل من الثقات الأثبات الحفاظ، الذين لا مَطْمَحَ للطعن فيهم، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخَرَّجَ له عدة أحاديث ... "2.
وثمة مثال آخر، وهو ما جاء عن ابن حبان - رحمه الله - في تضعيف "بهز بن حكيم" بسبب روايته حديث "إنا آخذوها وشطر إبله"، وقوله: بأنه لولا هذا الحديث لأدخله في الثقات. فَرَدَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - بقوله: "كلام ساقط جداً؛ فإنه إذ لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدَّ لضعفه، كان هذا دوراً
__________
1 لسان الميزان: (1/ 17- 18) .
2 تهذيب السنن: (5/ 166 - 167) .
(1/568)
باطلاً ... وهذا غير موجب للضعف بحال"1.
فالحاصل: أن خطأ الراوي في حديث، لا يقضي عليه بالضعف، ولا يُجعل في عداد المجروحين بسبب ذلك، وبخاصة إذا لم يكن هناك سبب لضعفه سوى روايته لهذا الحديث، والله أعلم.
الفائدة الرابعة: لا يلزمُ من كون الراوي لم يُذْكَر في "الصحيحين" أن يكون مجروحاً.
هل من لم يُخَرَّج عنه في "الصحيحين" يكون مجروحاً؟
من المعلوم المقرر: أن البخاريَّ ومسلماً - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، وذلك باعترافهما وإقرارهما2.
وما دام الأمر كذلك، وأنه بقيت أحاديث صحيحة كثيرة خارج كتابيهما، فإنه - وتبعاً لذلك - قد بقي رواة كثيرون ثقات عدول لم يخرج عنهم في "الصحيحين".
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ومن الثقات الذين لم يُخَرَّجْ لهم في "الصحيحين" خَلْقٌ، منهم: من صَحَّحَ لهم الترمذي وابن خزيمة ... "3.
فإذا تقرر ذلك، فإنه لا يلزم من كون الراوي غير مخرج له في "الصحيحين"، أو أحدهما، أن يكون مجروحاً.
وقد أكد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى، فقال في شأن
__________
1 تهذيب السنن: (2/194) .
2 انظر مقدمة ابن الصلاح: (ص10) .
3 الموقظة: (ص 81) .
(1/569)
"يعقوب بن عتبة" - وقد حاول بعضهم تضعيف حديث بكونه تفرد به، وأنه ليس ممن خرج له في الصحيحين -:
"هذا ليس بِعِلَّةٍ باتفاق المحدثين؛ فإن يعقوب بن عتبة لم يُضَعِّفْهُ أحد، وكم من ثقة قد احتجوا به وهو غير مخرج عنه في الصحيحين"1.
ومثل هذا قول الذهبي - رحمه الله - في ترجمة أشعث بن عبد الملك الحمراني من "ميزانه"2: "إنما أوردته لذكر ابن عدي له في "كامله"، ثم إنه ما ذَكَرَ في حقه شيئاً يدلُّ على تليينه بوجه، وما ذكره أحد في كتب الضعفاء أبداً. نعم ما أخرجا له في "الصحيحين"، فكان ماذا؟ ".
وهذا واضحٌ بَيِّن، والله تعالى أعلم.
الفائدة الخامسة: في عدم الاعتماد في الرواية على الصالحين والزُّهَّاد.
إنَّ الغالب على أمثال هؤلاء - ممن اشتهروا بالصلاح والزهد والعبادة - الغلط والوهم في الحديث. كما قال ابن رجب3 رحمه الله.
وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على أنه لا ينبغي الاغترار بصلاح الرجل وتقواه وزهده، إن لم يكن معروفاً بحمل الحديث
__________
1 تهذيب السنن: (7/ 98) .
(1/ 267) .
3 شرح علل الترمذي: (ص480) .
(1/570)
وحفظه وإتقانه؛ إذ إن صلاحه وزهده لا يلزم منه أن يكون ثقة في الحديث، فقال: " ... فقد يكون الرجل صالحاً، ويكون مُغَفَّلاً: ليس تَحَمُّلُ الحديث، وحفظُهُ، وروايته من شأنه"1.
وعقد الحافظ الخطيب - رحمه الله - في "كفايته"2 باباً للتنبيه على ذلك، فقال: "باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية، وإن عُرِفَ بالصلاح والعبادة". ثم ذكر تحت هذا الباب جملة من الأخبار عن أهل العلم في التنبيه على ذلك، منها قول يحيى بن سعيد: "ما رأيت الصالحين في شيء أشد فتنة منهم في الحديث"3.
ونقل ابن رجب عن أبي عبد الله بن منده قوله: "إذا رأيت في حديث: حدثنا فلان الزاهد، فاغسل يدك منه"4.
ولكن، لا يعني ذلك أنَّ أهلَ الحديث وحُفَّاظَهُ وجهابذته ليسو من أهل الصلاح والعبادة، ولكن المقصود: من لم يكن من أهل الحفظِ والإتقانِ منهم.
__________
1 زاد المعاد: (5/540) .
(ص 247) .
3 الكفاية: (ص 247) .
4 شرح علل الترمذي: (ص480) .
(1/571)

==============================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...