الجمعة، 7 يناير 2022

21- تالع ...ابن قيم الجوزية 6- من كتاب الحج


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
6- من كتاب الحج

1- باب الإهلال بعمرة من بيت المقدس
46- (1) عَنْ أُمِّ سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ أَحْرَمَ بعمرةٍ من بيتِ الْمَقْدِسِ، غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ". وفي لفظ: "كَانَت كفارةً لما قَبْلَهَا من الذُّنُوبِ".
قال ابن القَيِّم: " ... حديث لا يثبت، وقد اضطُرِبَ فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً"1.
وقال مرة: "قال غير واحد من الْحُفَّاظ: إسناده ليس بالقويِّ"2.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3 - ومن طريقه البيهقي4 - والدارقطني في (سننه) 5، والبخاري في (تاريخه) 6 من طرق عن:
ابن أبي فُدَيْك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يُحَنِّس7، عن
__________
1 زاد المعاد: (3/300 - 301) .
2 تهذيب السنن: (2/284) .
(2/355) ح 1741 ك المناسك، باب في المواقيت.
4 في سننه: (5/30) .
(2/283) ح 210 ك الحج، باب المواقيت.
(1/1/161) .
7 حجازي، مقبول، من السادسة/ م د. (التقريب 311) .
(2/399)
يحيى بن أبي سفيان الأخنسي1، عن حكيمة بنت أمية2، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَهَلَّ بعمرة أو حَجَّةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه وما تَأَخَّرَ - أو وَجَبَتْ له الجنة -". وشكَّ عبد الله أيتهما قال. هذا لفظ أبي داود، وعند الدارقطني بدون شكٍّ "ووجبت"، وعند البخاريِّ "غُفِرَ ما تَقَدَّمَ من ذنبه" فقط.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... هذا هو الصواب بـ "أو"، وفي كثير من النسخ: "وَوَجبتْ" بالواو، وهو غلط"3.
ووقَعَ في رواية البخاريّ: "محمد بن عبد الرحمن بن يحنس" بدل "عبد الله بن عبد الرحمن" عند الباقين. قال الحافظ ابن حجر: "وكأن الذي في رواية البخاري أصحُّ"4.
وأخرجه الدارقطني في (سننه) 5، وابن حبان في (صحيحه) 6 من طريق:
محمد بن إسحاق، عن سليمان بن سُحَيْم7 عن يحيى الأخنسي،
__________
1 مستور، من السادسة، قد أرسل عن أبي هريرة وغيره/ د ق. (التقريب 591) .
2 ابن الأخنس، مقبولة، من الرابعة/ د ق. (التقريب 745) .
3 تهذيب السنن: (2/284) .
4 التلخيص الحبير: (2/230) .
(2/284) ح 212.
6 الإحسان: (6/5) ح 3693.
7 أبو أيوب المدني، صدوق، من الثالثة/ م د س ق. (التقريب 251) .
(2/400)
عن حكيمة، عن أم سلمة مرفوعاً، ولفظه: "مَنْ أَهَلَّ بعمرةٍ من المسجد الأقصى، غُفِرَ له مَا تَقَدَّمَ من ذنبه" زاد ابن حبان: "فَرَكِبَتْ أُمُّ حكيم إلى بيت المقدس حَتَّى أَهَلَّتْ منه بعمرة".
ومن الطريق نفسه أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1 فجعله: عن "سليمان بن سُحَيم، عن حكيمة بنت أمية"، بإسقاط "يحيى الأخنسي".
وأخرجه ابن ماجه أيضاً، من طريق ابن إسحاق، عن يحيى الأخنسي، عن حكيمة، عن أم سلمة، مرفوعاً، ولفظه: "مَنْ أَهَلَّ بعمرة من بيت المقدس، كانت كفارة لِمَا قبلها من الذنوب" 2.
وأخرجه أحمد في مسنده3 من طريق: ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة4، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة5، عن حكيمة، عن أم سلمة به.
وأخرجه الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: الواقدي7، عن
__________
(2/999) ح 3001 ك المناسك، باب من أهل بعمرة من بيت المقدس.
2 سنن ابن ماجه: (2/999) ح 3002.
(6/299) .
4 ابن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل، المصري، ثقة، من الخامسة، مات سنة 136 هـ / ع. (التقريب 140) .
5 الأنصاري، المدني، ثقة، من الثالثة/ خ د س ق. (التقريب 311) .
(2/283) ح 211.
7 هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني، القاضي، نزيل بغداد، متروك مع سعة علمه، من التاسعة، مات سنة 207هـ/ ق. (التقريب 498) .
(2/401)
عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس، عن يحيى الأخنسي، عن أم حكيم، عن أم سلمة به.
وهذا الحديث ضعيف، مضطرب المتن والسند.
أما ضعفه: فقال الإمام البخاري: "لا يثبت" كذا نقل الذهبي1 وابن حجر2 أنه قال ذلك في (التاريخ) ، ولم أقف على هذه اللفظة فيه، والذي فيه قوله - بعد أن روى الحديث في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن يحنس -: "ولا يُتَابع في هذا الحديث؛ لأنه وَقَّتَ ذا الحُلَيْفَةَ والجُحْفَةَ، وأهَلَّ عليه الصلاة والسلام - من ذي الحليفة"3. وقال الحافظ المنذري في كلامه على أحاديث المهذب: "حديث غريب"4. وأَعَلَّهُ ابن القَطَّان بجهالة أم حكيم، فقال: "لا يُعْرَفُ حالها"5. وقال الإمام النووي: "إسناده ليس بالقويِّ"6.
وَرَمَزَ له السيوطي بالضعف في (الجامع الصغير) 7. وقال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف"8.
__________
1 في الميزان: (3/622) .
2 في التلخيص الحبير: (2/230) .
3 التاريخ الكبير: (1/1/161) .
4 البدر المنير: ج 4 (ق365) .
5 بيان الوهم والإيهام: (5/731) .
6 المجموع: (7/179) .
7 مع فيض القدير: (6/91) ح 8544.
8 التعليق على المشكاة: (2/777) ح 2532.ذ
(2/402)
وأما اضطرابه: فقد تَقَدَّمَ الاختلافُ في إسناده، وكذا اختلاف ألفاظه وتباينها، ولذلك قال الحافظ المنذري: "وقد اخْتَلَفَ الرواة في متنه وإسناده اختلافاً كثيراً"1. وقال الحافظ ابن كثير: "وفي حديث أمِّ سلمة هذا اضطراب". كذا نقله عنه الشوكاني في (نيل الأوطار) 2. ونقل ابن الملقن عن الدارقطني أنه أَعَلَّهُ بالاختلاف في إسناده، ثم قال: "وهو كما قال"3. وقد تَقَدَّمَ قول ابن الملقن رحمه الله: "وقد اضطرب فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً".
وقد أَوْرَدَهُ الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 4 وبَيَّنَ ضَعْفَ سَنَدِهِ وأشار إلى اضطرابه، ثم تَعَقَّبَ المنذري في تصحيحه إياه فقال: "ثم إن المنذري كأنه نسي هذا - يعني إعلاله إياه بالاضطراب كما مضى - فقال في الترغيب والترهيب5: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح! ". وذكره في (ضعيف الجامع) 6 (وضعيف سنن ابن ماجه) 7.
فَلَتَخَّصَ من ذلك: أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ ومضطربٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله.
__________
1 مختصر سنن أبي داود: (2/285) .
(5/25) .
3 البدر المنير: ج4 (ق365) .
(ح 211) .
(2/190) .
(ح 5358) .
(ح 646، 647) .
(2/403)
2- باب لا تنتقب المرأة المحرمة
47- (2) حَدِيث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "إِحْرَامُ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ، وإحرامُ المرأةِ في وجهها".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1 - في معرض ردِّه ‍ على القائلين بوجوب كشف المرأة المحرمة وجهها - ثم قال: "هذا الحديث لا أصل له، ولم يَرْوِهِ أحدٌ من أصحاب الكُتُبِ المعتمد عليها، ولا يُعرَفُ له إسناد، ولا تقوم به حُجَّةٌ، ولا يُترَكُ له الحديث الصحيح الدَّال على أن وجهها كبدنها، وأنه يَحْرُمُ عليها فيه ما أُعْدَّ للعضو؛ كالنِّقَابِ والبُرْقَع ونحوه، لا مُطْلَقُ السِّتْرِ كاليدين".
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 2، والطبراني في (الأوسط) 3، والبيهقي في (سننه) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5، وابن عديّ في (الكامل) 6، كلهم من طريق:
__________
(2/350) .
(2/294) ح 259.
3 انظر: مجمع البحرين: (ق74/ب) ك الحج، باب ما يلبس المحرم.
(5/47) .
(1/116) في ترجمة "أيوب بن محمد".
(1/349) في ترجمة "أيوب" أيضاً.
(2/404)
عبد الله بن رجاء1، عن أيوب بن محمد2، عبد عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، ولفظه: "ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها". وعند الطبراني وابن عدي: "حرم" بدل "إحرام".
وقد أخرجه الطبراني في (الكبير) 3 بالإسناد نفسه، لكن جعله موقوفاً، والظاهر أنه خطأ؛ لأن الإسناد هو نفسه إسناده في (الأوسط) ، من شيخ الطبراني إلى آخره، بالإضافة إلى اتفاق هؤلاء الجماعة على روايته بهذا الإسناد مرفوعاً.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين:
1- الكلام في أيوب بن محمد اليمامي.
2- وأن الصواب فيه الوقف على ابن عمر.
أما العلة الأولى، وهي الكلام في أيوب بن محمد: فقال فيه ابن معين: "لا شيء"4. وسأله عند الدارمي؟ فقال: "شيخ يماميٌّ ضعيف"5.
__________
1 ابن عمر الغداني، بصري، صدوقٌ يَهِمُ قليلاً، من التاسعة، مات سنة 220هـ / خ خد س ق. (التقريب 302) .
2 أبو سهل العجلي، اليَّمَامي، لقبه: أبو الجمل. ضَعَّفَهُ جماعةٌ، وَوَثَّقَهُ بعضهم، وسيأتي كلام العلماء فيه مُفَصَّلاً.
ترجمته في: الجرح والتعديل: (1/1/257) ، والضعفاء للعقيلي: (1/116) ، والميزان: (1/292) .
(12/370) ح 13375.
4 الجرح والتعديل: (1/1/257) .
5 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص179) رقم 645.
(2/405)
وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"1. وقال العقيلي: "يَهِمُ في بعض حديثه"2. وقال ابن حبان: "كان قليلَ الحديث، ولكنه خالفَ النَّاس في كلِّ ما روى، فلا أدري: أكان يَتَعَمَّدُ، أو يقلبُ وهو لا يَعْلَم"3. وقال الدارقطني: "مجهول"4.
وقال أبو حاتم: "لا بأس به"5. وَوَثَّقَهُ يعقوبُ الفَسَويّ6.
والذي يظهر: رُجْحَان جانب الجرح على جانب التعديل في هذا الرجل، ولاسيما أن بعضهم قد بَيَّنَ سبب الجرح.
ولذلك فقد أَعَلَّ جماعة من أهل العلم هذا الحديث بأيوب هذا: فقال البيهقي: "وأيوب بن محمد أبو الجمل ضعيفٌ عند أهل العلم بالحديث، فقد ضَعَّفَهُ يحيى بن معين وغيره"7. وقال ابن القطان: "لا يصحّ"8، وقال الذهبي في (تهذيب سنن البيهقي) : "وفيه أيوب بن
__________
1 الجرح والتعديل: (1/1/257) .
2 الضعفاء: (1/116) .
3 المجروحين: (1/166) .
4 السنن: (1/149) .
5 الجرح والتعديل: (1/1/257) .
6 الميزان: (1/292) .
7 السنن: (5/47) .
8 بيان الوهم والإيهام: (5/730) .
(2/406)
محمد أبو الجمل، ضَعَّفَهُ ابن معين، وغيره"1. وقال الهيثمي: "وفيه أيوب بن محمد اليمامي، وهو ضعيف"2،. وقال الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل، وهو ضعيف"3.
وأما العلّة الثانية، وهي أنه يُروى موقوفاً، وأنه الصواب: فإن أيوب بن محمد هذا - مع ضعفه - قد خُولِفَ فيه: فأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 - ومن طريقه البيهقي5 - من طريق: هشام بن حَسَّان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه".
وأخرجه العقيلي في (الضعفاء) 6، وابن حزم في (المحلى) 7 من طريق: سعيد بن منصور، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر بالإسناد نفسه إلى ابن عمر قال: "الذِّقْنُ مِنَ الرأسِ فلا تُغَطِّهِ" وقال: "إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرَّجُلِ في رأسه".
فقد خالف سفيان بن عيينة، وهشام بن حسان أيوب بن محمد في رواية هذا الحديث، فروياه موقوفاً على ابن عمر من قوله.
وقد حَكَمَ الأئمة لرواية الوقف وحكموا على الرواية المرفوعة
__________
1 انظر: فيض القدير: (5/369) .
2 مجمع الزوائد: (3/219) .
3 التلخيص الحبير: (2/272) .
(2/294) ح 260.
5 في سننه: (5/47) .
(1/116) .
(7/92) .
(2/407)
بالوهم، فقال العقيلي: "لا يُتَابع على رفعه، إنما هو موقوف"1. وقال الطبراني: "لم يرفعه عن عبيد الله بن عمر إلا أيوب، تَفَرَّدَ به عبد الله بن رجاء"2. وقال ابن عدي: "هذا الحديث لا أعلم يرفعه عن عبيد الله غير أبي الجمل هذا، وأبو الجمل لا أعرف له كثير شيء"3. وقال الدارقطني: "تَفَرَّدَ برفعه أيوب هذا، والصواب وقفه"4. وقال البيهقي: "المحفوظ موقوف"5. وقال الذهبي: "المحفوظ موقوف"6.
فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ رَفْعُهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الصواب أنه من كلام ابن عمر رضي الله عنهما.
فإذا تقرر ذلك، فإننا لا نوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - على قوله:
- إن الحديث لا أصل له، إلا أن يقصد: لا أصل له مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
- وأنه لم يروه أحدٌ من أصحاب الكتب الْمُعْتَمَدِ عليها.
- وأنه لا يُعرف له إسناد.
فإنه قد ثَبَتَ من خلال هذه الدراسة خلاف ذلك، والله أعلم.
__________
1 الضعفاء: (1/116) .
2 مجمع البحرين: (ق 74/ب) .
3 الكامل: (1/349) .
4 التلخيص الحبير: (2/272) ، وفيض القدير: (5/369) .
5 السنن: (5/47) .
6 الميزان: (1/292) .
(2/408)
3- باب لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين
48- (3) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى النَّساء في إِحْرَامِهِنَّ عن القُفَّازَينِ والنقابِ ... ". وفي رواية: "المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين".
أورد ابن القَيِّم هذا الحديث مستدلاً به على القول بتحريم لبس القفازين للمحرمة، وَرَدَّ على من قَالَ بأنه معلولٌ بالوقفِ على ابن عمر1. وسيأتي.
هذا الحديث مداره على نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، واخْتُلِفَ فيه على نافع.
فأخرجه البخاري في (صحيحه) 2، والترمذي في (جامعه) 3، والنسائي في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (السنن) 6، كلهم من طريق: الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجلٌ فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟
__________
1 تهذيب السنن: (2/351 - 352) .
2 ك جزاء الصيد، باب ما يُنْهَى من الطيب للمحرم ... ح 1838. (فتح الباري: 4/52) .
(3/185) ح 833، باب فيما لا يجوز للمحرم لبسه.
(5/133) باب النهي أن تنتقب المرأة الحرام.
(2/119) .
(5/46) .
(2/409)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحدٌ ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا شيئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ1 ولا الوَرْسُ2. ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين". هذا لفظ البخاري، ولفظ الباقين بنحوه، إلا أن عندهم زيادة قوله: "ولا الخِفَاف ".
وأخرجه النسائي، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: موسى بن عقبة4، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً بنحو حديث الليث المتقدم، إلا أن البيهقي عنده زيادة أشار إليها، وهي: "وكان عبد الله بن عمر يأمر المرأة بِزَرِّ الجلباب إلى جبهتها". وهذا الإسناد صحيح، كما سيأتي من كلام العراقي رحمه الله.
وأخرجه أبو داود في (سننه) 5، وأحمد في (مسنده) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 من طريق:
محمد بن إسحاق، حدثني نافع - كذا أبو داود والحاكم، وعند أحمد: عن نافع - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أنه سمع
__________
1 الزَّعْفَرَان: لَونٌ مَنَ الطِّيبِ تُصْبَغُ به الثِّيَابِ. (لسان العرب: ص1833) .
2 الوَرْسُ: نبت أصفر يصبغ به. (النهاية: 5/173) .
3 س: (5/135) باب النهي عن أن تلبس المحرمة القفازين، هق: (5/46) .
4 ابن أبي عيَّاش، الأسدي، مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي، من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لَيَّنَهُ، مات سنة 141هـ / ع. (التقريب 552) .
(2/412) ح 1827، باب ما يلبس المحرم.
(2/32) .
(1/486) .
(2/410)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهنَّ عن: القفازين، والنقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب، ولتلبسْ بعد ذلك ما أَحَبَّتْ من ألوان الثياب: معصفراً، أو خَزَّاً، أو حُلِّياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خُفَّاً". لفظ أبي داود، ولفظ الحاكم نحوه، لكن لفظ أحمد: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ينهى الناس إذا أحرموا عما يُكرَهُ لهم من الثياب ... وسمعته ينهى النساء عن القُفَّازِ، والنقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب".
قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال النووي: "رواه أبو داود بإسناد حسن، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي، إلا أنه قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، وأكثر ما أُنْكِرَ على ابن إسحاق التدليس، وإذا قال المدلس: حَدَّثَنِي، احْتُجَّ به على المذهب الصحيح المشهور"1. وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح"2.
وأخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: إبراهيم بن سعيد4، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُحْرِمَةُ لا تنتقب ولا تلبس القفازين".
قال أبو داود: "إبراهيم بن سعيد المديني شيخ من أهل المدينة ليس
__________
1 المجموع: (7/232) .
2 مسند أحمد بتعليق أحمد شاكر: (6/332) ح 4740.
(2/412) ح 1826.
4 المدني، أبو إسحاق، مجهول الحال، من السابعة/ د. (التقريب 89) .
(2/411)
له كبير حديث". وقال ابن عدي: "وهذا الحديث لا يُتَابَعُ إبراهيمُ هذا على رفعه، ورواه جماعة عن نافع، عن ابن عمر"1. قال الحافظ العراقي: " ... لكن رواه البيهقي من رواية فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن نافع - وقد تَقَدَّمَتْ هذه الرواية - ومن وراية جويرية عن نافع -وستأتي- وإسنادهما صحيح، ففيه ترجيحٌ لرواية إبراهيم بن سعيد، وَرَدٌّ لقول ابن عديٍّ: أنه تَفَرَّدَ برفعه"2.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من رواية: جويرية4، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث الليث عن نافع المتقدم، ورواه من طريق آخر عن جويرية مختصراً.
وقد تقدم قبل قليل تصحيح الحافظ العراقي لإسناد جويرية هذا.
فهؤلاء جميعاً: الليث بن سعد، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، وإبراهيم بن سعيد، وجويرية بن أسماء، رووه عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار البخاري - رحمه الله - إلى كلَِّ هذه الروايات عقب إخراجه من طريق الليث بن سعد الماضي.
ورواه مالك - رحمه الله - عن نافع، عن ابن عمر رضي الله
__________
1 الكامل: (1/257) .
2 طرح التثريب: (5/43) .
(5/47) .
4 ابن أسماء بن عبيد الضُّبَعي، البصري، صدوق، من السابعة، مات سنة 173هـ/ خ م د س ق. (التقريب 143) .
(2/412)
عنهما - أنه كان يقول: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلتبس القفازين"1. هكذا موقوفاً على ابن عمر. وتابعه على وقفه: ليث بن أبي سليم، كما أشار إليه البخاري رحمه الله.
ورواه عبيد الله بن عمر العُمَري، عن نافع، فَفَصَلَ المرفوع عن الموقوف، أخرج ذلك ابن خزيمة في (صحيحه) 2، من حديث: بشر بن المفضل، عن عبد الله عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلاً قال: يا رسول الله ماذا نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ فقال: "لا تلبسوا القُمُصَ ولا السراويلات، ولا البرانسَ، ولا العمائمَ، والا القلانسَ، ولا الخفافَ ... ". قال: وكان عبد الله يقول: "ولا تنقب المرأة، ولا تلبس القفازين".
فهذه أوجه رواية هذا الحديث عن نافع، رفعه بعضهم وهم الأكثر، ووقفه آخرون، وفصل عبيد الله العُمَرِي بين المرفوع والموقوف.
وقد أَعَلَّ قومٌ الرواية المرفوعة، وقالوا: إن قوله: "لا تنتقب المرأة ... " من قول ابن عمر، وقد أُدْرجَ في الحديث. قال ذلك: أبو علي الحافظ، كما نقله عنه الحاكم3. ووافق على دعوى الإدراج: الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: " ... والغرض أن مالكاً اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله، وظهر الإدراج في رواية غيره"4.
__________
1 الموطأ: (1/328) ح 15 ك الحج، باب تخمير المحرم وجهه.
(4/162) ح 2597، باب ذكر الثياب الذي زجر المحرم عن لبسها في الإحرام.
3 انظر: سنن البيهقي: (5/47) .
4 فتح الباري: (4/53) ، وانظر: (شرح الموطأ) للزرقاني: (2/233) .
(2/413)
ولم يوافق ابن دقيق العيد على دعوى الإدراج، فقال معقباً على كلام أبي علي السالف: "وهذا يحتاج إلى دليل؛ فإنه خلاف الظاهر، وكأنه نَظَرَ إلى الاختلاف في رفعه ووقفه ... وهذا غير قادحٍ؛ فإنه يمكن أن يُفْتي الراوي بما يرويه". ثم استدلَّ - رحمه الله - على بطلان دعوى الإدراج بوجهين:
أحدهما: أنه ورد النهي عن لبس المحرمة النقاب والقفازين مفرداً، كما في رواية أبي داود المتقدمة من طريق "إبراهيم بن سعيد".
الثاني: أنه جاء النهي عن النقاب والقفازين مبدوءاً به الحديث - يعني رواية أبي داود من طريق محمد بن إسحاق - قال: "وهذا أيضاً يمنع الإدراج"1.
وقد أجاب الحافظ العراقي عن كلام ابن دقيق العيد هذا من وجهيه:
أما الوجه الأول: فإن حديث إبراهيم بن سعيد ضعيف، لجهالة إبراهيم. ولكنه يَتَقَوَّى ويزول تفرده بمتابعة من تابعه: كموسى بن عقبة، وجويرية.
وأما الوجه الثاني: فإن عبيد الله بن عمر أحفظ من ابن إسحاق، وقد فَصَلَ المرفوع عن الموقوف، فروايته أولى2.
__________
1 انظر كلام ابن دقيق العيد في: نصب الراية: (3/26 - 27) .
2 انظر: طرح التثريب: (5/43) .
(2/414)
وقد ردَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - القولَ بإعلال هذا الحديث، وقال بأن إعلاله بالوقف باطلٌ؛ فإن البخاري وغيره قد رووه حديثاً واحداً متصلاً؛ والبخاري - رحمه الله - حَكَى الخلاف فيه، ومع ذلك لم يره مؤثراً في صحة الحديث، أو معللاً له1.
قلت: والجمع - في نظري - بين هذه الروايات أولى من إعلال بعضها؛ فإن إعلال الرواية المرفوعة يلزم منه تخطئة الثقات بدون دليل ظاهر.
فقد رواه جمعٌ من الثقات - وعلى رأسهم الليث بن سعد - عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً متصلاً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس البرانس والخفاف وغير ذلك، وأخرج البخاري - رحمه الله - هذه الرواية، وحكى وجوه الاختلاف الواقعة فيها، فلو كانت هذه الرواية المرفوعة معلولةً عنده لما أخرجها في الباب معتمداً عليها، ولَقَدَّمَ عليها الرواية الموقوفة.
وكذا صنع الإمام الترمذي رحمه الله، فإنه أخرجها كما أخرجها البخاري، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم". ولا أظن أنه قد خفي عليه ما علمه غيره، من كون هذه الجملة الأخيرة قد رُويت موقوفة.
وقال ابن عبد البر: "رَفْعُهُ صحيح عن ابن عمر"2.
__________
1 انظر: تهذيب السنن: (2/351 - 352) .
2 حكاه عنه أبو زرعة العراقي في (طرح التثريب) : (5/42) .
(2/415)
وصححه الحاكم - كما تقدم - وحَسَّنَهُ النوويُّ، وقَوَّاهُ العراقي.
فلا مانع حينئذ من أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بكامله، ثم أفتى مرةً بجزء منه، وهو ما يتعلق بالقفازين والنقاب للمرأة، فجاء بعضهم فظن أن هذا الذي أفتى به ابن عمر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ففصله عن الشطر الأول من الحديث، وكلام ابن دقيق العيد يُشْعِرُ بشيء من هذا، ومع ذلك فلم يدخله الخطيب - رحمه الله - في كتابه في الْمُدْرَج.
فيترجح بذلك القول بصحة الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله، وأن إعلاله غير مقبول، والله أعلم.
(2/416)
4- باب في إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي
49- (4) عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "هَذِهِ عُمْرَةُ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا، فَمَنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ هَدْيٌ فَلَيُحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، وقد دَخَلَتْ العمرةُ في الحَجِّ إلى يومِ القِيَامَةِ ".
قال أبو داود: "هذا منكر، إنما هو قول ابن عباس".
50- (5) وعن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمروة، فقد حَلَّ، وهي عُمْرَةٌ ".
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذين الحديثين بالكلام، فقال: "وقوله: "دخلتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامةِ". لا ريب في أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحدٌ إنه من قول ابن عباس، وكذلك قوله: "هَذِه عمرةٌ تَمَتَّعْنَا بهَا ". وهذا لا يشكُّ فيه من له أدنى خبرة بالحديث".
ثم قال معلقاً على الحديث الثاني منهما:
"والتعليل الذي تَقَدَّمَ لأبي داود في قوله: "هذا حديث منكر". إنما هو لحديث عطاء هذا، عن ابن عباس يرفعه ... ؛ فإن هذا قول ابن عباس الثابت عنه بلا ريبٍ، رواه عنه أبو الشعثاء، وعطاء، وأنس بن سليم وغيرهم من كلامه، فانقلبَ على النَّاسخ، فَنَقَلَهُ إلى حديث
(2/417)
مجاهد عن ابن عباس، وهو إلى جانبه، وهو حديثٌ صحيحٌ لا مَطْعَنَ فيه ولا عِلَّةَ، ولا يُعَلِّلُ أبو داود مِثْلَهُ، ولا مَنْ هو دون أبي داود، وقد اتَّفَقَ الأئمةُ الأثبات على رفعه"1.
قلت: أما حديث مجاهد، عن ابن عباس: فقد أخرجه مسلم في (صحيحه) 2، وأبو داود، والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد، والطيالسي، والدارمي في (مسانيدهم) 4، والطبراني في الكبير5، والبيهقي في (سننه) 6، من طرق: عن: شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به.
وأخرجه الطبراني في (الكبير) 7 من طريق: أبي مريم، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إنما جَعَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم عمرةً؛ فإنهم قدموا مكة قبل عرفة بأربع ليالٍ، فَكَرِهَ أن يمكث المسلمون أربع ليالِ لا يطوفون بالبيت، وعلم أنهم إذا طافوا بالبيت حلُّوا، إلا من كان ساق هدايا، فقال: "عمرةٌ استمتعنا بها - ثلاث مرات - ثم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
__________
1 تهذيب السنن: (2/314 - 316) .
(2/911) ح203 (1241) بابُ جواز العمرة في أشهر الحجِّ.
3 د: (2/387) ح1790 باب إفراد الحجِّ. س: (5/181) باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي.
4 حم: (1/236، 341) . طس: (ح2642) . مي: (1/379) ح1863، باب من اعتمر في أشهر الحج.
(11/60) ح11045.
(5/18) .
(11/61) ح11046.
(2/418)
وأخرجه الترمذي في (جامعه) 1 من طريق: يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصراً، ولفظه: "دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة ".
وأما طَعْنُ أبي داود في هذا الحديث، وقوله: "إنه منكرٌ، وأن الصحيح: موقوف على ابن عباس" فقد رده المنذري رحمه الله، فقال: "وفيما قاله أبو داود نظرٌ؛ وذلك أنه قد رواه: الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن المثني، ومحمد بن بشار، وعثمان بن أبي شيبة، عن محمد جعفر، عن شعبة مرفوعاً. ورواه أيضاً: يزيد بن هارون، ومعاذ بن معاذ العَنْبَريِّ، وأبو داود الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، عن شعبة مرفوعاً، وتقصير من يُقَصِّرُ به من الرواةِ لا يُؤَثِّرُ فيما أَثْبَتَهُ الحُفَّاظ"2.
وقد ذهب ابن القَيِّم - كما مضى من كلامه - إلى أن تعليل أبي داود هذا إنما هو لحديث عطاء الذي بعده، وأن الناسخ نقله إلى هذا الحديث، ثم قال رحمه الله: "والمنذري - رحمه الله - رأى ذلك في السنن، فنقله كما وجده"3.
قلت: ويُقَوِّي ما ذهب إليه ابن القَيِّم: أنني لم أر - بعد البحث - أحداً نقل كلمة أبي داود هذه، مؤيداً لها أو منتقداً: كالمزي في (تحفة الأشراف) 4، وابن الأثير في (جامع الأصول) 5، ولا انتقده الدارقطنيُّ
__________
(3/262) ح932.
2 مختصر السنن: (2/314 - 315) .
3 تهذيب السنن: (2/316) .
(5/216) .
(3/136) .
(2/419)
فيما تتبعه من أحاديث مسلم، ومثله لا يَسْكُتُ النسائيُّ عن ذكر عِلَّتَهُ وقد أخرجه، وكذا البيهقي فإنه عادةً ما يُنَاقِشُ مثل هذا، فالظاهر - والله أعلم - صِحَّة ما ذهب إليه ابن القَيِّم، وأن الحديث صحيح رفعه، ولا وجه لإعلاله.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول في (الدراية) 1: "رواته ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه"! ولَعَلَّهُ بَنَى حكمه هذا على مقالة أبي داود المتقدمة، فإن كان الأمر كذلك فقد عُرِفَ ما فيها.
وأما الحديث الآخر الذي رواه عطاء، عن ابن عباس: فقد أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن النَّهَّاس3، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم من كلام ابن القَيِّم أن إعلال أبي داود الماضي: إنما المقصود به حديث عطاء هذا.
وقد أَعَلَّ المنذري حديث عطاء هذا "بالنهاس"، فقال: "في إسناده النهاس بن قهم ... ولا يحتجُّ بحديث"4.
قلت: ولا يبعد أن يكون الخطأ في هذا الحديث منه، فقد قال عنه
__________
(2/34) ح 489.
(2/388) ح 1791.
3 ابن قهم، القيسي، أبو الخطاب، البصري، ضعيف، من السادسة/ بخ د ت ق. (التقريب 566) .
4 مختصر السنن: (2/315) .
(2/420)
يحيى بن سعيد: " ... وكان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة"1.
فَتَلَخَّص من ذلك: صِحَّةَ حديث مجاهد، عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا وجه للطَّعْنِ فيه، وأن حديث عطاء، عن ابن عباس ضعيف، والله أعلم.
__________
1 تهذيب التهذيب: (10/478) .
(2/421)
5- باب من قال: كان الفسخ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
51- (6) عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله، أَرَأَيْتَ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى العُمْرَة، لنا خَاصَّةً أَمْ للنَّاسِ عَامَّةً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَلْ لَنَا خَاصَّة".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث ضمن أدلة القائلين بعدم جواز الفسخ، وأنه خَاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "هذا حديث لا يُكْتَب، ولا يُعارَضُ بمثله تلك الأساطين الثابتة".
ثم ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: "لا أقول به، لا يُعْرَف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت"1.
ثم استدل على بطلان هذا الحديث: بأنه قد رُوِيَ عن النبي أنه قال: "دَخَلَتْ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة ". فكيف يصحُّ عنه بعد ذلك أن يجعل الفسخ مختصاً بالصحابة؟ ‍‍!.
قال: "فنحن نشهد بالله: أنَّ حديث بلال بن الحارث هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غلطٌ عليه، وكيف تُقَدَّمُ رواية بلال بن الحارث على روايات الثقات الأثبات، حَمَلَةِ العلم، الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف روايته؟! "2.
__________
1 زاد المعاد: (2/192) .
2 المصدر السابق: (2/193) .
(2/422)
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، والحاكم في (المستدرك) 4 من طرق، عن: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن5، عن الحارث بن بلال6، عن أبيه7، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وألفاظهم متقاربة بنحو ما سقناه أول الباب.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بجهالة الحارث بن بلال؛ فإنه لم يرو عنه إلا ربيعة بن أبي عبد الرحمن وحده، ولم يُوَثَّقْ، ولذلك قال الإمام أحمد: "لا نعرف هذا الرجل، ولم يروه إلا الدراوردي، هذه الأحاديث أحب إليَّ"8. وقال الدارقطني - كما نقله عنه المنذري -: "تَفَرَّدَ به ربيعة بن
__________
1 د: (2/399) ح 1808 باب الرجل يهلُّ بالحجِّ ثم يجعلها عمرة. س: (5/179) باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي. جه: (2/994) ح 2984 باب من قال: كان فسخ الحجِّ لهم خاصة. كلهم في ك الحج.
2 حم: (3/469) . مي: (1/378) ح 1862 باب في فسخ الحج.
3 قط: (2/241) ح 24. هق: (5/41) .
(3/517) .
5 التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني، المعروف بـ "ربيعة الرأي"، واسم أبيه: فرُّوخ، ثقة فقيه مشهور، من الخامسة، مات سنة 136هـ على الصحيح/ ع. (التقريب207) .
6 ابن الحارث المزني، مدني، مقبول، من الثالثة/ د س ق. (التقريب 145) .
7 هو: بلال بن الحارث المزني، أبو عبد الرحمن المدني، صحابيُّ، مات سنة 60هـ/4. (التقريب 129) .
8 مسائل الإمام أحمد - لعبد الله: (ص204) .
(2/423)
أبي عبد الرحمن، عن الحارث، عن أبيه. وتَفَرَّدَ به عبد العزيز الدراوردي عنه"1. وقال ابن حزم: "الحارث بن بلال مجهول، ولم يخرج أحدٌ هذا الخبر في صحيح الحديث ... "2. وقال المنذري: "والحارث: هو ابن بلال ابن الحارث، وهو شبه المجهول"3. وقال ابن القطان: "والحارث بن بلال لا يُعرف حاله"4. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"5.
وقد مَالَ النووي إلى تصحيحه، فقال: "إسناده صحيح إلا الحارث بن بلال، ولم أَرَ في الحارث جرحاً ولا تعديلاً، وقد رواه أبو داود ولم يُضَعِّفْهُ، وقد ذكرنا مَرَّاتٍ: أنه ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده، إلا أن يوجد فيه ما يقتضي ضعفه"6.
قلت: وقد وُجدَ هنا ما يقتضي ضَعْفَهُ، وهو جهالة الحارث بن بلال كما تقدم.
ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر استدلَّ به القائلون بخصوصية الفسخ بالصحابة وهو:
52- (7) حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "كان فَسْخُ الحَجِّ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَنَا خَاصَّةً".
__________
1 مختصر السنن: (2/331) .
2 المحلى: (4/108) .
3 مختصر السنن: (2/331) .
4 بيان الوهم والإيهام: (3/468) .
5 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح644) .
6 المجموع: (7/146) .
(2/424)
ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث من طريق الحُميدِي، قال: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن المُرَقِّع1، عن أبي ذر به، ثم قال: "المرقع ليس ممن تقوم بروايته حُجَّةٌ، فضلاً عن أن يُقَدَّم على النصوص الصحيحة غير المدفوعة، وقد قال أحمد بن حنبل - وقد عُورِضَ بحديثه -: ومن المرقع الأسدي؟! "2.
قلت: هذا الحديث أخرجه الحميدي في (مسنده) 3 بالإسناد واللفظ اللذين ساقهما ابن القَيِّم رحمه الله، والمرقع الأسدي - راويه عن أبي ذرٍّ - لم أجد من ترجمه سوى ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 4، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ونقل عن أبيه قوله: "روى عن أبي ذر، روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، وليث بن أبي سليم". لكن وَثَّقَهُ يحيى ابن سعيد الأنصاري.
فقد أخرجه البيهقي في (سننه) 5 من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، قال: حدثنا المرقع الأسدي - وكان رَجُلاً مَرْضيًّا- أن أبا ذر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت رخصة لنا، ليست لأحدٍ بعدنا" يعني: فسخ الحج بالعمرة. قال يحيى: "وحقق ذلك عندنا: أن أبا بكر،
__________
1 انظر: ترجمته في الجرح والتعديل: (4/1/418) .
2 زاد المعاد: (2/191) .
(1/73) ح 132.
(4/1/418) .
(5/41) .
(2/425)
وعمر، وعثمان رضي الله عنهم لم ينقضوا الحج بعمرة، ولم يُرَخِّصُوا فيه لأحدٍ، وكانوا هم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما فعل في حجه ذلك ممن شهد بعضه".
ففي هذا الإسناد: شهادة يحيى بن سعيد الأنصاري للمرقع بأنه كان مرضياً، وفي هذه الشهادة ما يدفع قول ابن حزم عن المرقع: " ... وهو مجهول"1. فقد أَعَلَّ الحديث به، فلا شكَّ أنَّ من عَرَفَهُ حجة على من لم يعرفه.
ثم إن حديث أبي ذر هذا: أخرجه مسلم في (صحيحه) 2، ولكن بلفظ: "كانت المتعة في الحجِّ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ". وفي رواية: " لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ". يعني: متعة النساء ومتعة الحج، والمراد بالمتعة في قوله هذا: متعة الفسخ، كما سيأتي من كلام النووي رحمه الله، فتكون هذه الرواية مؤيدة لرواية المرقع المتقدمة.
فهل تكون رواية أبي ذَرٍّ هذه حجة لمن ذهب إلى عدم جواز الفسخ، وأنه خاصٌّ بالصحابة؟؟
أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن حديث أبي ذرٍّ هذا: بأنه - بعد تسليم صحته - رأي له رضي الله عنه، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، حين سأله سُرَاقَة بن مالك عن الفسخ بقوله:
__________
1 المحلى: (4/108) .
(2/897) ح 160 - 163.
(2/426)
أَلِعَامِنَا هذا أم لأبدٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل لأبد أبد" 1. فتكون بذلك دعوى الاختصاص باطلة.
قال ابن القَيِّم: "وهذا أصحُّ سنداً من المرويِّ عن أبي ذر، وأولى أن يُؤْخَذَ به منه لو صحَّ عنه"2.
ثم ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن حديث أبي ذر هذا - الذي فيه "أن المتعة كانت لهم خاصة " - إن أُرِيدَ به متعةُ الفسخ3 فإنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهذا الذي فَهِمَه من حرَّم الفسخ.
الثاني: اختصاص وجوب ذلك بالصحابة، فيكون واجباً في حقِّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجائزاً مُسْتَحَبَّاً في حقِّ باقي الأمة، وذهب إليه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، ولم يرضه ابن القَيِّم رحمه الله.
الثالث: أنه ليس لأحدٍ بعض الصحابة أن يبتدأ حجاً قارناً أو مفرداً بلا هدي، لأنه يحتاج معه إلى الفسخ، بل فرضٌ أن يفعل من بعد الصحابة ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من القِرَان لمن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسقه.
__________
1 صحيح مسلم: (2/888) ح 147.
2 زاد المعاد: (2/191) .
3 قال النووي رحمه الله: " ... ليس مراد أبي ذر إبطال التمتع مطلقاً، بل مراده: فسخ الحج" (شرح مسلم: 8/203) .
(2/427)
قال ابن القَيِّم: "وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين: رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأَوَّلِ، أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة"1.
ثم أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - على دعوى النَّسْخ: بأن الفسخ قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر من الصحابة عَدَّهم، ثم عدَّ جملة من التابعين رووا ذلك عن هؤلاء الصحابة، ثم قال:
"فصار نقل كافة عن كافة، يوجبُ العِلْمَ، ومثل هذا لا يجوزُ نسخه إلا بما يَتَرَجَّحُ عليه أو يقاومه، فكيف يجوز دعوى نسخه بأحاديث لا تقاومه ولا تدانيه ولا تقاربه؟ وإنما هي بين مجهول رواتها، أو ضعفاء لا تقوم بهم حجة. وما صحَّ فيه: فهو رأي صاحب، قاله بِظَنِّهِ واجتهاده - وهو أصحُّ ما فيها - وهو قول أبي ذر: كانت المتعة لنا خاصة ... فلو كان ما قاله أبو ذر رواية صحيحة ثابتة مرفوعة، لكان نسخ هذه الأحاديث المتواترة به ممتنعاً، فكيف وإنما هو قوله؟؟ "2.
قلت: لعلَّ النفس تطمئن إلى حَمْلِ كلام أبي ذَرٍّ على خصوصية الوجوب، فمراده: أن وجوب الفسخ وتحتُّمه إِنَّمَا هو خاصُّ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما سائر الأمة: فالأمر في حقها على الجواز، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة كما مرَّ قبل قليل.
ولم يرضه ابن القَيِّم رحمه الله، بل قال: بوجوب الفسخ في
__________
1 زاد المعاد: (2/193 - 194) .
2 تهذيب السنن: (2/312) .
(2/428)
حقِّ الأمة، فقال: "ونحن نُشْهِدُ الله علينا: أَنَّا لو أَحْرَمْنَا بحَج، لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لأمره"1.
وخلاصة البحث مع ابن القَيِّم في أحاديث الباب: أنه أورد في خصوصية الفسخ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثين، وهما: حديث بلال بن الحارث، وحديث أبي ذر من رواية المرقع، ثم حكم على كلا الحديثين بالضعف.
والذي ظهر لي: أن ابن القَيِّم يُوَافَقُ على تضعيفه حديث بلال؛ لجهالة "الحارث بن بلال"، وأما حديث أبي ذر فلا نوافقه على ذلك؛ لانتفاء جهالة المرقع، ومتابعة إبراهيم التيمي، عن أبيه له في روايته عن أبي ذر عند مسلم.
ثم إنه لا تعارض بين رواية أبي ذرٍّ وبين سائر الروايات؛ وذلك بحمل رواية أبي ذرٍّ على خصوصية الوجوب كما مضى، وإلا فإن تقديم رواية جمهور الصحابة الذين رووا الفسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى، والله أعلم.
__________
1 زاد المعاد: (2/182) .
(2/429)
6- باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس
53- (8) "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَدِّمَ ضَعَفَةَ أَهلِهِ ليلة العيد، وَأَمَرَهُم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ".
ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث هكذا، ثم قال: "حديث صحيح، صَحَّحَهُ الترمذي وغيره"1.
قلت: هذا الحديث مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويرويه عن ابن عباس جماعة، أشهرهم ثلاثة:
أولهم: الحسن2 العُرَنِيُّ عن ابن عباس.
أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، خمستهم من طريق: سفيان الثوري.
__________
1 زاد المعاد: (2/248) .
2 ابن عبد الله العُرَني، الكوفي، ثقة، أرسل عن ابن عباس، من الرابعة/ خ م د س ق. (التقريب 161) .
3 د: (2/480) ح 1940 ك المناسك، باب التعجيل من جمع. س: (5/270) ، ك الحج، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.
4 حم: (1/311، 343) . طس: (ح 2767) .
5 الإحسان: (6/67) ح 3858، باب الزجر عن رمي الجمار للحاج قبل طلوع الشمس.
(2/430)
وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، وأحمد في (مسنده) 2 كلاهما من طريق: مسعر وسفيان.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق منصور. كلهم عن:
سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنيّ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قَدَّمَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أُغَيلِمة بني عبد المطلب على حمرات، فجعل يَلْطَحُ4 أفخاذنا ويقول: "أَبَيْنِيَّ! لا ترموا الجَمْرَةَ حتى تطلع الشمس".
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين قريب منه، إلا أن عند النسائي: "بَعَثنا" بدل "قَدَّمنا". وعند أحمد وابن ماجه زيادة، وهي قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ولا إخَالُ يرميها حتى تطلع الشمس" زادها سفيان. وقد وقع عند الإمام أحمد في رواية سفيان ومسعر أن ذلك كان "بليل".
وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس، كما قال الإمام أحمد5، وقال يحيى بن معين: "صدوق ليس
__________
(2/1007) ح 3025 ك المناسك، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار؟.
(1/234) .
(5/132) باب الوقت المختار لرمي جمرة العقبة.
4 قال ابن الأثير: "اللَّطْحُ: الضربُ بالكفِّ، وليس بالشديد". (النهاية 4/250) .
وقد فَسَّرَه أبو داود عقب الحديث، فقال: "اللَّطْحُ: الضرب اللَّينُ".
5 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص46) . وتهذيب التهذيب: (2/291) .
(2/431)
به بأس، إنما يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس"1.
وقد أشار المنذريُّ إلى هذه العلة في (مختصر السنن) 2، وقال الحافظ ابن حجر: "وفيه انقطاع"3. وسيأتي أن الحديث صحيح بطرقه.
الثاني: مقسم، عن ابن عباس.
أخرجه الترمذي في (جامعه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5 من طريق: المسعودي6.
والمسعوديُّ وإن كان قد اختلط، إلا أن الحديث عند الترمذي وأحمد من رواية وكيع عنه، وقد سمع منه قبل الاختلاط، كما نصَّ عليه الإمام أحمد7.
وأخرجه أحمد في (مسنده) 8 من طريق: الأعمش، وأبي
__________
1 تهذيب التهذيب: (2/291) .
(2/404) .
3 بلوغ المرام مع سبل السلام: (2/744) .
(3/231) ح 893، باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل.
5 حم: (1/344) . طس: (ح2703) .
6 هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، المسعودي، صدوقٌ اخْتلطَ قبل موته، وضَابِطُه: أَنَّ مَنْ سِمِعِ منه بِبَغداد فبعد الاختلاط، من السابعة، مات سنة 160 هـ / خت 4. (التقريب 344) .
7 تهذيب التهذيب: (6/210) .
(1/326) .
(2/432)
الأحوص، كلهم عن:
الحكم بن عتيبة1، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما به مختصراً، وعند الطيالسي: " ... فأتى على غُلَيْمٍ منهم فَحَرَّكَهُ برجله، وقال: لا تَرْمِ جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".
قال أبو عيسى: "حديث حسن صحيح".
الثالث: عطاء2، عن ابن عباس.
أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3 من طريق:
حبيب بن أبي ثابت4، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضعفاء أهله بِغَلَسٍ، ويأمرهم: لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس". لفظ أبي داود، ولفظ النسائي بنحوه.
وفي هذا الإسناد عنعنة حبيب، وهو مُدَلِّس يُكثِرُ من التدليس5، فتكون هذه عِلَّة تمنع من صحة هذا السند.
__________
1 أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه إلا أنه رُبَّمَا دَلَّسَ، من الخامسة، مات سنة 113 هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 175) .
2 ابن أبي رباح، القرشي مولاهم، المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، من الثالثة، مات سنة 114 هـ وقيل: تَغَيَّرَ بآخره، ولم يكثر ذلك منه/ ع. (التقريب391) .
3 د: (2/481) ح 1941. س: (6/272) .
4 ابن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة 119 هـ / ع. (التقريب 150) .
5 وقد جعله ابن حجر في الطبقة الثالثة منهم، انظر: طبقات المدلسين: (ص84) .
(2/433)
وبالنظر إلى هذه الطرق عن ابن عباس: نجد أن طريق المسعودي - ومن تابعه - عن الحكم، عن مقسم هو أحسنها، ولذلك فقد صححه الترمذي - كما مرَّ - والطريقان الآخران يشهدان له ويُقَوِّيَانه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهو حديث حسن". ثم ساق هذه الطرق الثلاثة، ثم قال: "وهذه الطرق يُقَوِّي بعضها بعضاً، ومن ثمَّ صححه الترمذي وابن حبان"1. وقد صححه كذلك: الشيخ الألباني في (الإرواء) 2 وفي (صحيح ابن ماجه) 3.
ولذا فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والله أعلم.
__________
1 فتح الباري: (3/528) .
(4/274 - 276) .
(ح 2451) .
(2/434)
7- باب من قال بجواز رمي الجمرة قبل طلوعِ الشمس للعذر
54 - (9) عن عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ بأمِّ سلمة ليلة النحر، فَرَمَتْ الجمرةَ قبل الفجر، ثُمَّ مَضَت فَأَفَاضَتْ ... " الحديث.
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وقال: "حديث منكرٌ، أنكره الإمام أحمد وغيره". ثم ساق كلام الإمام أحمد في ذلك.
قال: "وما يدل على إنكاره: أن فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة الصُّبْح يوم النَّحْر بمكة، وفي رواية: "توافيه بمكة " وكان يَومَها، فأحبَّ أن توافيه. وهذا من المحال قطعاً".
ثم استدلَّ على بطلانه أيضاً: بحديث عائشة في (الصحيحين) : "أن سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تَدْفَعَ قبله، فَأَذِنَ لها. قالت عائشة: "ولأن أكون استأذنتُ كما استأذنته سودة أحبَّ إليَّ من مفروح به". قال: "فهذا الحديث الصحيح يبين أن نساءَهُ - غير سودة - إنما دَفَعْنَ معه"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3، والبيهقي في (سننه) 4 من طريق:
__________
1 زاد المعاد: (2/248 - 252) . وانظر: تهذيب السنن: (2/404 - 405) .
(2/481) ح 1942، ك الحج، باب التعجيل من جمع.
(1/469) .
(5/133) .
(2/435)
ابن أبي فُديك، عن الضحاك بن عثمان1، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة النحر، فرمتْ الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ". تعني عندها. هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقيين مثله، إلا أن عند الحاكم: "وكان ذلك يوم الثاني الذي يكون عندها ... ". كذا رواه الضحاك عن هشام. قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرطهما ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
ورواه أبو معاوية2، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها.
أخرجه من هذا الطريق: الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 3، من طريق: يحيى بن يحيى، وأبي كريب، ومحمد بن حاتم، ثلاثتهم: عن أبي معاوية، بالإسناد إلى أم سلمة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة".
قال الإمام مسلم عقبه: "وهذا الخبر وَهْمٌ من أبي معاوية، لا من غيره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ في حجته يوم النحر بالمزدلفة،
__________
1 ابن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي، أبو عثمان المدني، صدوقٌ يَهِمُ، من السابعة/ م 4. (التقريب 279) .
2 هو: محمد بن خازم الضرير الكوفي، عَمِيَ وهو صغير، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة 195هـ، وقد رُمِيَ بالإرجاء / ع. (التقريب 475) .
(ص 186) .
(2/436)
وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يأمر أم سلمة أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، وهو حينئذ يصلي بالمزدلفة؟ " قال: "هذا خبر محال، ولكن الصحيح من روى هذا الخبر عن أبي معاوية، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة ... وإنما أفسد أبو معاوية معنى الحديث حين قال: توافي معه"1.
قلت: وهذه الرواية التي أشار مسلم إلى صحتها عن أبي معاوية: أخرجها البيهقي في (سننه) 2 من طريق: يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة به. بدون قوله "معه".
ورواه أسد بن موسى3، عن أبي معاوية بالإسناد نفسه، ولكن لفظه: "أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة". هكذا بتقديم قوله: "يوم النحر". أخرجه هكذا الطحاوي في (شرح معاني الآثار) 4، ثم قال: "ففي هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بما أمرها به من هذا يوم النحر، فذلك على صلاة الصبح في اليوم الذي بعد يوم النحر".
ولكن تعقبه البيهقي بقوله: "فتعلق به بعض من يدَّعي تصحيح الآثار على مذهبه، وزعم أنه إنما أمرها بذلك يوم النحر؛ لتوافي معه
__________
1 التمييز: (ص186) .
(5/133) .
3 ابن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي، أسد السنة، صدوق يُغْرِبُ، وفيه نصبٌ، من التاسعة، مات سنة 212هـ / خت د س. (التقريب 104) .
(2/218) .
(2/437)
صلاة الصبح من غد يوم النحر بمكة ... وليس من الإنصاف أن تُتْرَكَ رواية الجمهور، ويُؤْخَذ برواية واحدٍ لم يكن عندهم بمصر بالحافظ جداً"1. يعني: أسد بن موسى.
وخالف هؤلاء جميعاً جماعة من أصحاب هشام، فرووه عنه، عن أبيه، عن أم سلمة مرسلاً.
أخرجه الطحاويُّ في (شرح المعاني) 2 من طريق: حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه: "أَنَّ يومَ أُمِّ سلمة دَارَ إلى يوم النحر، فأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع أن تُفيضَ، فَرَمَتْ جمرة العقبة، وصلت الفجر بمكة".
وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق: داود بن عبد الرحمن العطَّار، والدراوردي، كلاهما عن هشام به، ولفظه: "دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُمِّ سَلَمَة يوم النَّحْرِ، فأمرها أن تُعَجِّلَ الإفاضة من جمع، حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح، وكان يومها فأحبَّ أن توافقه".
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 4 من طريق: الثوري، عن هشام به بنحو لفظ البيهقي، مختصراً.
وقد رواه وكيع، عن هشام، عن أبيه مرسلاً أيضاً، ولفظه: "أن
__________
1 معرفة السنن والآثار: (7/313) رقم 10170.
(2/218) .
(5/133) .
(ص 186) .
(2/438)
النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ أُمَّ سلمة أن توافيه الصبح بمنىً". أخرجه مسلم في (التمييز) 1، وقال: "وَهِمَ فيه كنحو ما وَهِمَ فيه أبو معاوية ... وسبيل وكيع كسبيل أبي معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصبح يوم النحر بالمزدلفة، دون غيرها من الأماكن لا محالة".
فَتَلَخَّص من ذلك: أن هذا الحديث يُروى مرسلاً، ويروى متصلاً. ويُروى بلفظ: "توافي صلاة الصبح"، وبلفظ: "توافي معه صلاة الصبح"، وبلفظ: "توافيه صلاة الصبح".
أما من ناحية إسناده: فقد رَجَّحَ بعض الأئمة الرواية الْمُرْسَلَة، فقال الدارقطني - بعد أن أذكر الروايات المتصلة -: "وخالفهم أصحاب هشام الحفاظ عنه، رووه عن هشام، عن أبيه مرسلاً، وهو الصحيح"2.
وَقَوَّى البيهقي - رحمه الله - الراوية المتصلة بقوله: "وَصَلَ أبو معاوية هذا الحديث عن هشام، وأبو معاوية حجة قد أجمع الحفاظ على قبول ما ينفرد به، ثم قد وَصَلَهُ الضَّحَاكُ بن عثمان، وهو من الثقات الأثبات"3.
ثم ساق - رحمه الله - رواية الضحاك بن عثمان بإسناده، ثم قال: "إسنادٌ صحيح لا عار فيه".
__________
(ص 187) .
2 علل الدارقطني: ج5 (ق122/أ) .
3 معرفة السنن والآثار: (7/316) رقم 10181.
(2/439)
ثم قال - مُوَفِّقَاً بين الرواية المتصلة والمرسلة -: "وكأنَّ عروة حمله من الوجهين جميعاً، فكان هشام يرسله مرةً ويُسْنِده أخرى، وهذه عادتهم في الرواية"1.
وصَحَّحَ النووي رواية أبي داود المتصلة أيضاً، فقال: "إسناد صحيح على شرط مسلم"2.
قلت: فعلى كلام البيهقي هذا لا تكون الرواية المتصلة معلولة، وهو ظاهر صنيع الإمام مسلم رحمه الله، فإنه لما رواه على الوجهين لم ير الرواية المتصلة معلولة من جهة إسنادها، وإنما تَكَلَّمَ في متنها فقط.
وأما من ناحية المتن: فقد أنكروا رواية أبي معاوية وقوله: "أمرها أن توافيه" وكذلك: "توافي معه"، وقد تقدم كلام الإمام مسلم - رحمه الله - في ذلك، وأنه رَجَّحَ رواية أبي معاوية التي فيها "توافي " فقط.
وقد نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الأثرم أَنَّ الإمام أحمد أَنْكَرَ هذه الرواية وقال: " ... النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة؟! " ينكر ذلك. قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد، فسألته، فقال: عن هشام، عن أبيه: أمرها أن توافي، وليس: توافيه. قال: وبين ذين فرق. قال: "وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن عنه - يعني ابن مهدي - فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام، عن أبيه"3.
__________
1 المعرفة: (7/317) رقم 10183.
2 المجموع: (8/132) .
3 زاد المعاد: (2/249 - 250) .
(2/440)
فإذا علمنا هذا، فَإِنَّ حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الحديث كُلِّهِ بالنَّكَارَةِ غير مُسَلَّم، واستدلاله لذلك بكلام الإمام أحمد لا يساعده؛ لأنَّ الإمام أحمد - كما مضى - قد أنكر هذه اللفظة فقط، وهو الذي قاله الإمام مسلم أيضاً، وأوضح البيهقي - رحمه الله - ذلك يقوله: "وأما ما ذُكِرَ من حكاية أحمد: فإنما أُنكرَ قوله: "توافي معه صلاة الصبح"؛ إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقت صلاة الصبح"1.
وأما استدلاله على بطلانه بحديث عائشة في (الصحيحين) : أن سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تدفع قبله، فأَذِنَ لها، وحَبَسَ باقي نسائه حتى دفعن بدفعه:
أقول: ليس في هذا دليل على عدم خروج أم سلمة رضي الله عنها بليلٍ، بل ذكرت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه، وهي سودة، ولم تذكر التي أمرها بالخروج، وهي أم سلمة رضي الله عنها، ولذلك قالت عائشة: "ولأن أكون استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة ... ".
وما يقال في أم سلمة، يقال في أم حبيبة رضي الله عنهن؛ فإنه قد ثبت في (صحيح مسلم) 2 "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمعٍ بليلٍ" فهذا
__________
1 معرفة السنن والآثار: (7/316) رقم 10180.
(2/940) ح 1292.
(2/441)
يردُّ على قول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... أن نساءه - غير سودة - دَفَعْنَ معه". فعندي - والله أعلم - أن قول عائشة رضي الله عنها: "وحبسنا حتى أصبحنا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ" يعني: ما عدا من بَعَثَ بهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وما عدا من استأذنته.
ولذلك فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - اضطر إلى أن يقول في حديث أم حبيبة: "انفرد به مسلم، فإن كان محفوظاً، فهي إذن من الضَّعَفَةِ التي قَدَّمَها"1.
فَتَلَخَّص من هذا: أن حديث إرسال أمِّ سلمة - رضي الله عنها - ورميها الجمرة بليل، حديث صحيح، صححه الأئمة: مسلم، والحاكم، والبيهقي، والنووي. وأن الذي أنكره الإمام أحمد هو لفظة واحدة فقط، وهي قوله: "توافي معه" أو "توافيه". وأما حكم ابن التركماني2 عليه بالاضطراب، ومتابعة الشيخ الألباني له3، فإنه لا دليل عليه، وأن ما ذُكر فيه من اختلاف ليس مما يوجب سقوطه.
ثم إنَّ ابن القَيِّم نفسه عاد بعد ذلك فقال: "ثُمَّ تَأَمَّلْنَا، فإذا لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قَدَّمَهُ من النساء: فَرَمَيْنَ قبل طلوع الشمس للعذر، والخوف عليهنَّ من مزاحمة
__________
1 زاد المعاد: (2/251) .
2 في الجوهر النقي: (5/132) .
3 في إرواء الغليل: (4/279) .
(2/442)
الناس وحَطْمِهِم. وهذا الذي دَلَّت عليه السنة: جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر: بمرض، أو كِبَرٍ يشقُّ عليه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح، فلا يجوز له ذلك"1.
قلت: وعلى هذا فإنه يُقال في أم سلمة - رضي الله عنها - ما قاله ابن القَيِّم نفسه في أم حبيبة: من أنها من الضَّعَفَةِ الذين قَدَّمَهُم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة النحر، فرموا بليل، وبهذا تتفق الأحاديث ولا يضرب بعضها بعضاً، ويكون هذا التوفيق والجمع من ابن القَيِّم بين هذه النصوص هو المعتمد، ويُحْمَل إنكاره لحديث تقديم أم سلمة - رضي الله عنها - على ما جاء فيه من قوله: "أن توافي معه صلاة الصبح"، لما تقدم بيانه.
ومن الأحاديث الواردة في الرمي قبل طلوع الشمس، حديث:
55- (10) عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر نِسَاءَهُ أن يَخْرُجْنَ من جَمْعٍ ليلة جمع، فيرمينَ الجَمْرَةَ، ثم تُصْبِحُ في مَنْزِلِهَا". وكانت تصنع ذلك حتى ماتت.
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند كلامه على دفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة، ورميه جمرة العقبة، وأن نساءه دفعن معه، ما عدا سودة رضي الله عنها، فإنها استأذنت أن تدفع قبله.
وقد أورد - رحمه الله - حديث عائشة هذا حُجَّةً للمخالفين، ثم قال: "يَرُدُّهُ محمد بن حميد أحد رواته، كَذ َّبَهُ غير واحد. ويَرُدُّهُ أيضاً:
__________
1 زاد المعاد: (2/252) .
(2/443)
حَدِيثُهَا الذي في (الصحيحين) وقولها: وَدِدت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنته سودة"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 من طريق:
محمد بن حميد3، عن هارون بن المغيرة، عن عبد الله بن يعلى الطائفي، عن عطاء، عن عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة - رضي الله عنهما - به، وفي آخره قول عطاء: "ولم أزلْ أفعله".
ومحمد بن حُمَيْد ضَعَّفَهُ الجمهور، وكذبه: أبو زرعة، وابن خراش، والنسائي4. وكان الإمام أحمد حسن الرأي فيه، وكذا ابن معين، لكن قال أبو علي النيسابوري: "قلتُ لابن خزيمة: لو حَدَّثَ الأستاذ عن محمد بن حميد؛ فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه؟ فقال: إنه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً". كذا في (تهذيب التهذيب) 5، وأما في (الميزان) 6: "لو أخذت الإسناد ... " بدل "لو حَدَّثَ الأستاذ"! ولعله تصحيف.
ومما يدلُّ على أن هذا الحديث قد يكون من مناكيره: ما رواه ابن
__________
1 زاد المعاد: (2/250 - 251) .
(2/273) ح 175.
3 ابن حيَّان الرازي، حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، من العاشرة، مات سنة 248 هـ / د ت ق. (التقريب 475) .
4 انظر: الميزان: (3/530) ، وتهذيب التهذيب: (9/130 - 131) .
(9/131) .
(3/530) .
(2/444)
أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 1 بسنده إلى محمد بن عيسى بن الدامغاني، أنه قال: "لما مات هارون بن المغيرة، سألت محمد بن حميد أن يُخْرِجَ إليَّ جميع ما سمع منه، فأخرج إليَّ جُزَازَات، فأحصيت جميع ما فيه: ثلثمائة ونيفاً وستين حديثاً". قال جعفر بن محمد بن حماد - راوي هذه الحكاية عن ابن الدامغاني -: "وأخرج ابن حميد عن هارون بعد: بضعة عشر ألف حديث".
وهذا الحديث من رواية محمد بن حميد، عن هارون بن المغيرة هذا، وقد كان ابن حميد يسرق الحديث، ويأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض2، فلا يبعد أن يكون هذا الحديث وَقَعَ فيه شيء من ذلك.
ومما يدل على نكارته أيضاً: ما أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من أنها - رضي الله عنها - كانت تقول: " ... فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة، أحب إليَّ من مفروح به"3. فهذا ظاهر في أنها دفعت بدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فَتَلَخَّص: أنَّ هذا الحديث لا يصحُّ؛ لضعف إسناده، ونكارة متنه، فَيَتَرَجَّحُ اختيارُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ردِّهِ، والله أعلم.
__________
(3/2/233) .
2 انظر: الميزان: (3/530) .
3 أخرجه البخاري في (صحيحه) : ك الحج، باب من قَدَّمَ ضعفةَ أهله بليلٍ ح 1681 (فتح الباري 3/527) .
(2/445)
8 ـ باب من قال بجواز التضحية ثلاثة أيام بعد النحر
...
8 - باب من قال بجواز التضحية ثلاثة أيام بعد يوم النحر
56- (11) حديث: "كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ ".
أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث مستدلاً به للمذهب القائل بأن أيام النحر: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، وَرَجَّحَ هذا المذهب، لكنه قال عن هذا الحديث: "لكنَّ الحديث منقطع لا يثبت وصله".
ثم عاد فقال - في معرض ترجيحه هذا المذهب -: "وَرُوِيَ من وجهين مختلفين - يَشَدُّ أحدهما الآخر - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مني منحر، وكلُّ أيام التشريق ذبحٌ ". وَرُوِىَ من حديث جبير بن مطعم - يعني الماضي - وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر. قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون"1.
قلت: هذا الحديث الذي أورده ابن القَيِّم - رحمه الله - حاكماً بانقطاعه: أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طريق:
أبي المغيرة4، عن سعيد بن عبد العزيز5، عن سليمان بن
__________
1 زاد المعاد: (2/318 - 319) .
(4/82) .
(9/295) .
4 هو: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، الحمصي، ثقة، من التاسعة، مات سنة212هـ/ ع. (التقريب 360) .
5 التنوخي، الدمشقي، ثقة إمام، سَوَّاهُ أحمد بالأوزاعي، وقَدَّمَهُ أبو مسهر، لكنه اختلط في آخر أمره، من السابعة، مات سنة 167هـ/ بخ م 4. (التقريب238) .
(2/446)
موسى1، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة. وكل مزدلفة موقفٌ، وارفعوا عن مُحَسِّر. وكل فِجَاجِ مني منحر، وكلُّ أيام التشريق ذبحٌ". ثم ساقه الإمام أحمد من طريق: أبي اليمان، عن سعيد بن عبد العزيز، بإسناده مثله.
وهذا الإسناد منقطع كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنَّ سليمان ابن موسى لم يدرك جبير بن مُطْعِم، قال البخاري: "سليمان لم يدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "2. وقال ابن كثير - وعنه نقل صاحب (نصب الراية) 3 -: "هكذا رواه أحمد، وهو منقطع؛ فإن سليمان بن موسى الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم". وقال البيهقي عقب روايته: "وهو مرسل". ونقل النووي في (شرح المهذب) 4 إعلال البيهقي له، وأَقَرَّهُ. وقال الحافظ ابن حجر: "في سنده انقطاع"5.
قلت: وقد رُوي عن سليمان من وجه آخر ظاهره الاتصال، فقد أخرجه البزار في (مسنده) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، وابن
__________
1 الأموي مولاهم، الدمشقي، الأَشْدَق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل، من الخامسة/ م 4. (التقريب 255) .
2 علل الترمذي: (1/313) ، باب زكاة العسل.
(3/61) .
(8/287) .
5 فتح الباري: (10/8) .
6 انظر: كشف الأستار: (2/27) ح رقم 1126. باب: عرفة كلها موقف.
7 الإحسان: (6/62) ح 3843.
(2/447)
عديّ في (الكامل) 1 كلهم من طريق: عبد الملك بن عبد العزيز2، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الحسين، عن جبير رضي الله عنه به مرفوعاً.
ولكنَّ هذا الإسناد منقطع أيضاً، حكم عليه بذلك البزار رحمه الله، فقال: " ... ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنَّا لا نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في: "كل أيام التشريق ذبح". إلا في هذا الحديث، فكذلك ذكرناه، وبَيَّنَا العلة فيه"3.
وقد أخرجه الطبراني في (معجمه الكبير) 4، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق، عن: سويد بن عبد العزيز6، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن نافع بن جبير7، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ولفظه عند الدارقطني والبيهقي مختصر، كما أورده ابن القَيِّم أول الباب.
__________
(3/1119) في ترجمة "سليمان بن موسى".
2 القشيري، النسائي، أبو نصر التمَّار، ثقة عابد، من صغار التاسعة، مات سنة 228هـ / م س. (التقريب 363) .
3 انظر: نصب الراية: (3/61) .
(2/144) ح 1583.
5 قط: (4/284) ح 47. هق: (9/296) .
6 ابن نمير، السُّلَمِي مولاهم، الدمشقي، وقيل أصله حمصي، وقيل غير ذلك، ضعيف، من كبار التاسعة، مات سنة 194هـ، ت ق. (التقريب 260) .
7 ابن مطعم النوفلي، أبو محمد وأبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة 99هـ / ع. (التقريب 558) .
(2/448)
وقد أشار البزار - رحمه الله - إلى رواية سويد هذه عقب إخراجه رواية عبد الرحمن بن أبي حسين المتقدمة، فقال: "ورواه سويد بن عبد العزيز، فقال فيه: عن نافع بن جبير، عن أبيه، وهو رجلٌ ليس بالحافظ، ولا يُحْتَجُّ به إذا انفرد بحديث، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب ... "1. وأَعَلَّهُ البيهقي بسويد أيضاً، فقال: "ورواه سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف عند بعض أهل النقل ... "2. وتَعَقَّبَهُ ابن التركماني، فقال: "هو ضعيف عند كلهم أو أكثرهم"3.
وبذلك يكون حديث سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى دائراً بين الضعف والانقطاع، ولكن أشار الحافظ ابن حجر إلى أنه ورد موصولاً من وجه آخر، فقال: "ووصله الدارقطني، ورجاله ثقات"4.
قلت: لعله يشير بذلك إلى ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 5- ومن طريقه البيهقي6 - من طريق: أبي معيد7، عن سليمان ابن موسى، عن عمرو بن دينار، عن جبير بن مطعم به.
__________
1 نصب الراية: (3/61) ، وانظر كشف الأستار: (2/27) فقد أورده مختصراً.
2 السنن: (9/296) .
3 الجوهر النقي: (9/296) .
4 فتح الباري: (10/8) .
(4/284) ح 49.
6 السنن: (9/296) .
7 حفص بن غيلان، وهو بكنيته أشهر، شامي، صدوقٌ فقيهٌ، رُميَ بالقَدَرِ، من الثامنة/ س ق. (التقريب 174) .
(2/449)
وهذا إسنادٌ رجاله ثقات، إلا أبا معيد، فإنه تَكَلَّمَ فيه بعضهم، ولكنه صدوقٌ، وقد وثقه الأكثرون1، فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وقد وَثَّقَ ابن حجر - رحمه الله - رجال هذا الإسناد2 كما مضى.
وقد أشار الزيلعي في (نصب الراية) 3 إلى أن الطبراني أخرجه في (مسند الشاميين) ، من طريق أبي معيد، عن سليمان بن موسى، عن محمد ابن المنكدر، عن جبير به، فيكون هذا طريقاً آخر لهذا الحديث، فيثبتُ بذلك اتِّصَالُهُ من طريق سليمان بن موسى إلى جبير بن مطعم رضي الله عنه، وتنتفي عنه بذلك عِلَّةُ الانقطاع التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله.
وأما قول ابن القَيِّم رحمه الله: " روي من وجهين مختلفين يشدُّ أحدهما الآخر ... " ثم ذِكْرُهُ رواية جبير بن مطعم، ورواية جابر رضي الله عنهما: فإن كان يقصد أن حديث جابر يشدُّ حديث جبير، فإنه لا يتم له الاستشهاد به؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه ليس فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل أيام التشريق ذبح ". وإنما لفظه - كما أخرجه أبو داود4 وغيره - أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر".
أما إن كان قصده: مجيء حديث جبير بن مطعم نفسه من وجه
__________
1 انظر: تهذيب التهذيب: (2/418 - 419) .
2 إن كان هذا هو الإسناد الذي أراده بقوله: "وصله الدارقطني ... ".
(3/61) ، ولم أقف عليه في (مسند الشاميين) بعد البحث.
(2/478) ح 1937.
(2/450)
آخر- كما تقدم في كلام ابن حجر - فقد حصل المقصود وهو: تقوية رواية جبير المنقطعة.
هذا، وقد صحح الهيثمي إسناد حديث جبير، فقال: "رجاله موثوقون"1. - يريد رجال أحمد والطبراني - ورَمَزَ له السيوطي بالصحة2. وَأَقَرَّهُ الشيخ الألباني في (صحيح الجامع الصغير) 3.
فَتَلَخَّص من ذلك: ثبوت حديث جبير بن مطعم هذا، وانتفاءُ ما أَعَلَّهُ به ابن القَيِّم من الانقطاع، وذلك بوروده من وجه آخر متصلاً، وتصحيح الأئمة له.
على أنَّ كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - الظاهر منه مَيْلُهُ إلى تقوية الحديث بمجيئه من وجه آخر، كما تقدم من كلامه.
__________
1 مجمع الزوائد: (3/251) .
2 الجامع الصغير مع فيض القدير: (5/27) ح 6331.
(ح 4537) .
(2/451)
9- باب ما يستحب من ذبح صاحب النسيكة نسيكته بيده، وجواز الاستنابة فيه
57- (12) عن علي صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، فَنَحَرَ ثلاثين بيده، وَأَمَرَنِي فنحرت سَائِرَهَا ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وعزاه لأحمد وأبي داود، ثُمَّ قال: "هَذَا غلط، انقلب على الراوي؛ فإن الذي نَحَرَ ثلاثين: هو عليٌّ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعاً بيده لم يشاهده عليٌّ ولا جابر، ثم نَحَرَ ثلاثاً وستين أخرى، فَبَقِيَ من المائة ثلاثون، فَنَحَرَهَا عليٌّ، فانقلب على الراوي عدد ما نَحَرَهُ عليٌّ بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم "1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 - وأخرجه البيهقي في (سننه) 4 من طريق أبي داود - كلهم من طريق:
محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيحٍ5، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه به. وعند الإمام أحمد زيادة، وهي قوله: " ... وقال: اقسم
__________
1 زاد المعاد: (2/260) .
(2/369) ح 1764 ك الحج، باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبْلُغَ.
(1/159) .
(5/238) .
5 هو: عبد الله بن أبي نجيح - واسم أبي نجيح: يسار - المَكِّي،، أبو يسار، الثقفي، ثقة رُمِيَ بالقدر، وَرُبَّمَا دَلَّسَ، من السادسة، مات سنة 131 هـ / ع. (التقريب326) .
(2/452)
لُحُومَهَا بين الناس وجُلُودَهَا وجِلالها، ولا تُعْطِيَّنَّ جَازِرَاً منها شيئاً".
وهذا الحديث معلول بأمور، وهي:
أولاً: عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس، فإنه لا يُقْبَلُ منه إلا ما صرح فيه بالسماع1.
ثانياً: أن سفيان الثوري رواه عن ابن أبي نجيح بالإسناد السابق، فلم يذكر فيه ما جاء في رواية ابن إسحاق، ولكن فيه قول علي رضي الله عنه: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم فَقَمْتُ على البُدْنِ، فأمرني فقسمت لحومها، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها ". أخرجه البخاري في (صحيحه) 2.
وقد سبق أن رواية أحمد عن ابن إسحاق فيها زيادة، وهي: أمْرُهُ له بقسمة لحومها وجلالها، فَيُخْشَى أن يكون دخل لابن إسحاق حديث في حديث، فالله أعلم.
ثالثاً: وهو ما ذكره ابن القَيِّم رحمه الله، فإن حديث جابر في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوله: " ... ثم انصرف إلى الْمَنْحَر، فَنَحَر ثلاثاً وستين بيده، ثم أَعْطَى عَلِيَّاً فَنَحَرَ مَا غَبَر" 3. أخرجه مسلم في (صحيحه) 4.
وقد قَدَّم البيهقي - رحمه الله - رواية مسلم؛ فإنه أخرجها في
__________
1 انظر: طبقات المدلسين: (ص132) .
2 ك الحج، باب لا يعطى الجزار من الهَدْي شيئاً. ح 1716. (فتح الباري 3/555) .
3 غَبَر: بَقِيَ. (المصباح المنير 2/442) .
(2/886) . ح 147، ك الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(2/453)
(السنن) 1، ثم أخرج رواية ابن إسحاق بعدها، ثم قال: "كذا رواه محمد ابن إسحاق، ورواية جعفر أصحُّ" يعني التي في (مسلم) عن جابر.
وكذا قَدَّمَها الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ فإنه قال - بعد أن ساق رواية ابن إسحاق -: "وأصحُّ منه ما وقع عند مسلم". فساق حديث جابر، ثم حاول الجمع بين هذه الرواية ورواية ابن إسحاق، فقال: "والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين، ثم أمر علياً أن ينحر سبعاً وثلاثين مثلاً، ثم نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وثلاثين". قال: "فإنْ سَاغَ هذا الجمعُ، وإلا فما في الصحيح أصحُّ"2.
أما ابن القَيِّم رحمه الله، فقد ذهب إلى وقوع القلب في حديث ابن إسحاق كما تقدم كلامه في ذلك، وأن الصواب رواية مسلم التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده، مع نحره صلى الله عليه وسلم سبع بُدْنٍ قياماً، كما في حديث أنس3 رضي الله عنه فيصير مجموع ما نحره صلى الله عليه وسلم سبعين بدنة. لا أن علياً هو الذي نحر هذا العدد.
وهذا المسلك من ابن القَيِّم - رحمه الله - قويٌّ في تقديم ما في الصحيح وردِّ ما عداه.
وعلى كل حال، فإن رواية ابن إسحاق شاذَّةٌ لمخالفتها رواية
__________
(5/238) .
2 فتح الباري: (3/555 - 556) .
3 وهو جزء من حديث يَصِفُ فيه أنس رضي الله عنه حَجَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري في (صحيحه) ك الحج، باب نحر البدن قائمة. ح1714 (فتح الباري 3/554) .
(2/454)
جابر في (صحيح مسلم) ، مع ضَعْفِ إسنادها كما تقدم، وقد رَجَّحَ رواية الصحيح: البيهقي، ثم ابن حجر رحمهما الله، كما تقدم، والله أعلم.
(2/455)
10- باب ما جاء في طواف الإفاضة
58- (13) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: "أَنَّ النَّبِي أَخَّرَ طَوافَهُ يوم النَّحْرِ إلى اللَّيل". وفي لفظ: "طَوافَ الزِّيَارَة".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وتحسين الترمذي له، ثم قال: "وهذا الحديث غَلَطٌ بَيِّنٌ، خلاف المعلوم من فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الذي لا يَشُكُّ فيه أهل العلم بحَجَّتِه"1.
ثم ذكر - رحمه الله - كلام البخاري في إعلاله بعدم سماع أبي الزبير من عائشة، وكلام ابن القطان في إعلاله بتدليس أبي الزبير وقد عنعنه، ثم قال: "ويدل على غلط أبي الزبير عن عائشة: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى عن عائشة، أنها قالت: حَجَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْنَا يومَ النحر"2.
وقال مرة: "هذا الحديث وَهْمٌ؛ فإن المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم: أنه إنما طاف طواف الإفاضة نهاراً بعد الزوال، كما قاله جابر، وعبد الله بن عمر، وعائشة. وهذا أمرٌ لا يرتاب فيه أهل العلم بالحديث"3.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن
__________
1 زاد المعاد: (2 / 275 - 276) .
2 زاد المعاد: (2/277) .
3 تهذيب السنن: (2/428) .
(2/456)
ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق، عن:
سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنها - به.
وعَلَّقَهُ البخاري في (صحيحه) 4، فقال: "وقال أبو الزبير، عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: أَخَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل".
قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي بعض نسخه: "حسن"5.
ولكن هذا الحديث أُعِلَّ بعلل - كما تقدم في كلام ابن القَيِّم رحمه الله - منها:
أولاً: انقطاعه بين أبي الزبير وعائشة، وقيل: ابن عباس أيضاً:
فقد سأل الترمذي البخاريَّ عنه، فقال له: أبو الزبير سمع عائشة
__________
1 د: (2/509) ح2000 باب الإفاضة في الحج. ت: (3/253) ح920 باب ما جاء في طواف الزيارة بالليل. س: في (الكبرى) (4/218) ح4155. جه: (2/1017) ح3059 باب زيارة البيت. كلهم في ك الحج.
(1/288، 309) ، (6/215) .
(5/144) .
4 ك الحج، باب الزيارة يوم النحر. (فتح الباري 3/567) .
5 تحفة الأشراف: (5/237) .
(2/457)
وابن عباس؟ قال: "أما ابن عباس فنعم، وإن في سماعه من عائشة نظراً"1. وقال أبو حاتم: "أبو الزبير رأي ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة"2. وقال ابن عيينة: "يقولون: أبو الزبير المكي لم يسمع من ابن عباس"3 قال العلائي - عقب نقله كلام هؤلاء الأئمة -: "حديثه عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة في صحيح مسلم"4.
قلت: ولكنَّ هذا على قاعدة مسلم المعروفة، وهي: اكتفاؤه في السند المعنعن بإمكان اللقاء دون ثبوته، وهذا - على فرض قبوله - يكون في غير المدلسين، أما إذا كان المُعَنْعِنُ مُدَلِّسَاً، فإنهم لم يختلفوا في عدم قبول ما عنعنه، وإنما الخلاف في قبول عنعنة المدلس إذا كان ممن عُلِمَ لقاؤه بمن عنعن عنه. وأبو الزبير من المدلسين المشهورين بذلك، فتكون هذه علة أخرى في الحديث، وهي:
ثانياً: عنعنة أبي الزبير وهو مُدَلِّسٌ: وقد أَعَلَّهُ بذلك جماعة، فقال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر تدليس أبي الزبير-: "ولسنا نحتجُّ من حديثه إلا بما فيه بيان أنه سمعه، وليس في هذا بيان سماعه منهما"5. وقال ابن القطان: "عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ نهاراً، وإنما اختلفوا: هل صلى الظهر بمكة أو
__________
1 علل الترمذي: (1/388) .
2 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص193) .
3 المصدر السابق.
4 جامع التحصيل: (ص 330) .
5 حجة الوداع: (ص211 - 212) .
(2/458)
رجع إلى منىً فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه؟ ... وجابر يقول: إنه صلى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه ... وهو شيء لم يرو إلا من هذا الطريق، وأبو الزبير مُدَلِّسٌ، ولم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة"1.
وتعقب الحافظ العراقي الترمذي في تحسينه إياه: بأنه معلول بعنعنة أبي الزبير2. وأعله الشيخ الألباني - أيضاً - بعنعنة أبي الزبير وهو مدلس3.
ثالثاً: أن هذا الحديث قد عارضه ما هو أصح منه وأثبت: وذلك من حديث جابر، وابن عمر، ومن حديث عائشة نفسها، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن القَيِّم رحمه الله.
قال النووي رحمه الله: " ... إن روايات جابر، وابن عمر، وأم سلمة عن عائشة: أصحُّ وأشهرُ وأكثر رواة، فوجب تقديمها، ولهذا رواها مسلم في صحيحه دون حديث أبي الزبير وغيره"4.
وحديث ابن عمر المشار إليه: أخرجه مسلم في (صحيحه) 5 من طريق: نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يوم النَّحْرِ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى".
__________
1 بيان الوهم والإيهام: (5/64) ح 2305.
2 شرح الترمذي: ج3 (ق 156/ أ) .
3 إرواء الغليل: (4/265) .
4 المجموع: (8/160) .
(2/950) ح 335 (1308) .
(2/459)
وأما حديث جابر: فهو ضمن حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله: " ... ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر ... ". وهو في (صحيح مسلم) 1 أيضاً.
وأما حديث عائشة: فقد أخرجه البخاري في (صحيحه) 2 من طريق: أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها رضي الله عنها، أنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر ... ".
فهذه الأحاديث الصحيحة عارضت حديث أبي الزبير المتقدم، وفي جميعها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض نهاراً.
وقد ذهب البعض إلى الجمع بين هذه الأحاديث، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ... فَيُحْمَلُ حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام"3.
وتعقبه الشيخ الألباني، فقال: "وهذا التأويل ممكن بناءً على اللفظ الذي عند البخاري: "أَخَّرَ الزيارة إلى الليل". وأما الألفاظ الأخرى فهي تأبى ذلك؛ لأنها صريحة في أنه طواف الإفاضة في اليوم الأول، يوم النحر"4.
وسبق ابن حجر إلى محاولة الجمع أيضاً: النوويُّ رحمه الله، فقال في جوابه عن هذه الأحاديث: " ... أن يُتَأَوَّلَ قوله: "أَخَّرَ طواف يوم
__________
(2/892) .
2 ك الحج، باب الزيارة يوم النحر ح 1733.
3 فتح الباري: (3/567) .
4 إرواء الغليل: (4/264) .
(2/460)
النحر إلى الليل". أي: طواف نسائه، ولابدَّ من التأويل للجمع بين الأحاديث"1.
قلت: بل الجمع غير لازم هنا، ويَتَعَيَّنُ الترجيح؛ لأن المعارض لهذه الأحاديث الصحيحة ضعيف لا يقاومها، قال الشيخ الألباني رحمه الله: "ولذلك فلا بد من الترجيح، ومما لا شكَّ فيه أن حديث ابن عمر أصحُّ من هذا، مع ما له من الشاهدين من حديث جابر، وعائشة نفسها"2.
فَتَلَخَّص من ذلك: أن حديث أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس: حديث ضعيف، ومع ضعفه فقد عارضته الأحاديث الصحيحة الصريحة في طوافه صلى الله عليه وسلم طواف الزيارة نهاراً، فوجب تقديم هذه الأحاديث على هذا الضعيف، وهذا ما اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، وهو الصواب، والله أعلم.
__________
1 المجموع: (8/160) .
2 إرواء الغليل: (4/264) .
(2/461)
11- باب الشرب من ماء زمزم
59 - (14) عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَه ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد ضَعَّفَ هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المُؤَمَّل راويه عن محمد بن المنكدر، وقد روينا عن عبد الله بن المبارك: أنه لَمَّا حجَّ أتى زمزم، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، عن نَبَيِّكَ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِبَ له " وإني أشربه لظمأ يوم القيامة، وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذن حسن، وقد صححه بعضهم، وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة"1.
قلت: هذا الحديث يُروى عن جابر رضي الله عنه من طريقين:
الطريق الأول: أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 والطبراني في (الأوسط) 4، والبيهقي في (سننه) 5، والعقيلي
__________
1 زاد المعاد: (4/392 - 393) .
(2/1018) ح 3062، ك المناسك، باب الشرب من زمزم.
(3/357، 372) .
(1/469) ح 853.
(5/148) .
(2/462)
في (الضعفاء) 1، والخطيب في (تاريخ بغداد) 2 من طرق، عن: عبد الله بن المُؤَمَّل3، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به.
وهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن المُؤَمَّل، وبه ضعفه ابن القطان4، وضعفه - أيضاً - النووي في (المجموع) 5.
وقال العقيلي: "لا يُتابع عليه". وكذا قال ابن حبان في (المجروحين) 6. وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا عبد الله بن المُؤَمَّل". وقال البيهقي عقب إخراجه: "تَفَرَّدَ به عبد الله بن المُؤَمَّل".
قلت: أما تضعيفه بابن المُؤَمَّل: فنعم، وأما القول بأنه تَفَرَّدَ به: فلا؛ فقد تابعه إبراهيم بن طهمان7، كما نَبَّهَ على ذلك صاحب (الجوهر النقي) 8 فقال - متعقباً البيهقي -: "قلت: لم ينفرد به، بل
__________
(2/303) .
(3/179) في ترجمة محمد بن القاسم المدائني.
3 ابن وهب الله، المخزومي، المكي، ضعيف الحديث، من السابعة، مات سنة 160هـ / بخ ت ق. (التقريب 325) .
4 بيان الوهم والإيهام: (3/478) ح 1243.
(8/198) .
(2/28) .
7 الخراساني، أبو سعيد، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقةٌ يُغْرِبُ، وتُكِلِّمَ فيه للإِرْجَاءِ، ويقال: رجع عنه، من السابعة، مات سنة 168هـ / ع. (التقريب90) .
(5/148) .
(2/463)
تابعه إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، كذا أورده البيهقي نفسه فيما بعد، في باب الرخصة في الخروج بماء زمزم".
والحديث في (سنن البيهقي) 1 من طريق: أحمد بن إسحاق البغدادي، عن معاذ بن نجدة، عن خَلاَّد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وفيه قصة.
وأعلَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هذه المتابعة لابن المُؤَمَّل، فقال: "ولا يصحُّ عن إبراهيم ... إنما سمعه إبراهيم من ابن المُؤَمَّل"2.
وتعقبه الشيخ الألباني فقال: "ولا أدري من أين أخذ الحافظ هذا التعليل، فلو اقتصر على قوله: لا يصح عن إبراهيم. لكان مما لا غُبَارَ عليه"3.
وأَعَلَّهَا الشيخ الألباني - رحمه الله - بجهالة أحمد بن إسحاق البغدادي4. لكنه قال مرةً: "إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات"5‍!
وأعلَّ ابن القطان هذا الحديث بعنعنة أبي الزبير، فقال: "تدليس أبي الزبير معلوم"6. فَتَعَقَّبَهُ ابن الملقن في (البدر المنير) 7 بقوله: "قلت: قد
__________
(5/202) .
2 التلخيص الحبير: (2/268) .
3 إرواء الغليل: (4/321) .
4 المصدر السابق.
5 السلسلة الصحيحة: (2/573) ح 883.
6 بيان الوهم والإيهام: (3/478) ح 1243.
7 ج 4 (ق 412) نسخة أحمد الثالث. وانظر: التلخيص الحبير (2/268) .
(2/464)
صَرَّحَ بالتحديث في رواية ابن ماجه، وكذا البيهقي في باب الرخصة في الخروج بماء زمزم".
لكن تَعَقَّبَ ذلك الشيخ الألباني، فقال عن طريق ابن ماجه هذه: "لكنها رواية شاذة غير محفوظة، تَفَرَّدَ بها هشام بن عَمَّار ... وهشام فيه ضَعْفٌ ... والوليد بن مسلم مُدَلِّسٌ ولم يُصَرِّحْ بسماعه من ابن المُؤَمَّل1. وقد خالفه رواة الطرق الأخرى، وهم ستة، فقالوا: عن أبي الزبير، عن جابر. فروايتهم هي الصواب"2.
قلت: فإن سُلِّمَ تَعَقُّبُ الشيخ الألباني هذا، فتبقى عنعنة أبي الزبير علة أخرى في هذا الطريق كما قال ابن القطان.
هذا ما يتعلق بالكلام عن الطريق الأول عن جابر، وقد ظهر ما فيه.
الطريق الثاني: أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) 3 في ترجمة عبد الله بن المبارك بسنده إلى سويد بن سعيد4 قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منه شَرْبَةً، ثم استقبل الكعبة، ثم قال:
__________
1 وإنما قال: "قال عبد الله بن المُؤَمَّل" (سنن ابن ماجه 2/1018) .
2 إرواء الغليل: (4/322) .
(10/166) .
4 ابن سهل الهروي الأصل، ثم الحدثاني، ويقال له: الأنباري، أبو محمد، صَدُوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِيَ فَصَارَ يَتَلَقَّن ما ليس من حديثه فَأَفْحَشَ فيه ابن معين القول، من قدماء العاشرة، مات سنة 240هـ / م ق. (التقريب ص 260) .
(2/465)
اللهم إن ابن أبي الموالي1 حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِبَ له". وهذا أَشْرَبُهُ لعطش القيامة. ثم شَرِبَه.
وأخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) 2 وقال: "غريب، تَفَرَّدَ به سويد" ونقل ذلك عنه ابن حجر في (التلخيص الحبير) 3 ثم قال عن سويد: "وهو ضعيف جداً، وإن كان مسلمٌ قد أخرج له في المتابعات ... " إلى أن قال: "وقد خَلَّطَ في هذا الإسناد، وأخطأ فيه عن ابن المبارك، وإنما رواه ابن المبارك، عن ابن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، كذلك رويناه في (فوائد أبي بكر ابن المقري) من طريق صحيحة، فَجَعَلَه سويد: عن ابن أبي الموالي، عن ابن المنكدر. واغْتَرَّ الحافظ شرف الدين الدمياطي بظاهر هذا الإسناد، فحكم بأنه على رسم الصحيح؛ لأن ابن أبي الموالي انفرد به البخاريّ، وسويداً انفرد به مسلمٌ، وغفل عن أن مسلماً إنما أخرج لسويد ما توبع عليه، لا ما انفرد به، فضلاً عما خُولف فيه".
وقد رُوِيَ هذا الحديث عن ابن عباس، لكنه شديد الضَّعْفِ، بل باطل، كما سيأتي بيانه، فقد أخرجه: الدارقطني في (سننه) 4 عن:
__________
1 عبد الرحمن بن أبي الموالي - واسمه: زيد، وقيل: أبو الموالي جده- أبو محمد، مولى آل عليّ، صدوق رُبَّمَا أخطأ، من السابعة، مات سنة 173هـ / خ 4. (التقريب ص351) .
(8/67) ح 3833.
(2/268) وانظر أيضاً: فتح الباري (3/493) .
(2/289) ح238.
(2/466)
عمر بن الحسن بن علي. والحاكم في (المستدرك) 1 عن: علي بن حمشاد العدل، كلاهما عن: محمد بن هشام بن عيسى المروزي، ثنا محمد بن الحبيب الجارودي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ زَمْزَم لما شُرِبَ له، إن شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي به شفاكَ الله، وإن شربته لِشِبَعِكَ أشبعك الله به، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه الله. وهي هَزْمَة2 جبريل، وسُقْيَا الله إسماعيل". هذا لفظ الدارقطني. وعند الحاكم: "وإن شربته مستعيذاً عاذك الله" بدل: "وإن شربته لشبعك ... ". وليس عنده: "وهي هزمة جبريل ... ".
قال أبو عبد الله الحاكم - عقب إخراجه -: "هذا حديث صحيح الإسناد إن سَلِم من الجارودي، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وهذا الحديث له ثلاث علل - كما قال الشيخ الألباني3رحمه الله -:
العلة الأولى: أن محمد بن حبيب الجارودي أخطأ فيه عن ابن عيينة فجعله موصولاً مسنداً، وغيره جعله عن ابن عيينة عن مجاهد قوله،
__________
(1/473) .
2 الهَزْمَةُ: النقرة في الصدر، وفي التفاحة إذا غمزتها بيدك، وهزمت البئر: حفرتها. والمراد بهزمة جبريل: أنه ضربها برجله فنبع الماء. (النهاية 5/263) .
3 في إرواء الغليل: (4/329 - 333) ح 1126.
(2/467)
قال ابن حجر: "والجارودي صدوق، إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حُفَّاظُ أصحاب ابن عيينة: الحميدي، وابن أبي عمر، وغيرهما عن أبن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله"1.
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الجارودي هذا: "أتى بخبر باطلٍ اتُّهِمَ بسنده"2.
العلة الثانية: جهالة محمد بن هشام المروزي راويه عن الجارودي، قال ابن القطان: "لا يُعرف حاله"3.
العلة الثالثة: ضعف عمر بن الحسن الأشناني، شيخ الدارقطني في هذا الخبر. قال الذهبي في ترجمته في (الميزان) 4: "صاحب بلايا" ثم ساق هذا الحديث من طريق الدارقطني، ثم قال: "وابن حبيب - يعني الجارودي - صدوقٌ، فآفة هذا هو عمر، فلقد أَثِمَ الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطلٌ، ما رواه ابن عيينة قطُّ، بل المعروف حديث عبد الله بن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً".
قال الشيخ الألباني رحمه الله: "وجملة القول: أن الحديث بالزيادة التي عند الدارقطني موضوعٌ؛ لتفرد هذا الأشناني به، وهو بدونها باطلٌ؛ لخطأ الجارودي في رفعه، والصواب: وقفه على مجاهد. ولئن قيل: إنه لا
__________
1 التلخيص الحبير: (2/268) .
2 الميزان: (3/508) .
3 البدر المنير: ج 4 (ق 412) .
(3/185) .
(2/468)
يُقَالُ من قِبَلِ الرأي فهو في حكم المرفوع؟ فإن سُلِّمَ هذا، فهو في حكم المرسل، وهو ضعيف"1.
وقد جعله السخاوي شاهداً لحديث جابر المتقدم2، فتعقبه الشيخ الألباني بقوله: "ولكنه عندي ضعيف جداً فلا يصلح شاهداً، بل قال فيه الذهبي: خبر باطل"3.
ولحديث جابر شاهدٌ آخر عن معاوية رضي الله عنه موقوفٌ عليه، أشار إليه السخاوي في (المقاصد الحسنة) 4 فقال - بعد أن ساق حديث جابر وابن عباس الماضيين -: "وأحسن من هذا كله عند شيخنا: ما أخرجه الفاكهي، من رواية ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: لما حجَّ معاوية فحججنا معه، فلما طافَ بالبيت ... " فذكره، وفيه أن معاوية أمر بدلوٍ من زمزم، فشربه، ثم قال: "زمزم شفاء، وهي لما شُرِبَ له". قال السخاوي: "بل قال شيخنا: إنه حسن مع كونه موقوفاً. وأفرد فيه جزءاً".
قلت: ومما يشهد لمعناه: حديث أبي ذر رضي الله عنه يرفعه: "إنها مباركة وهي طعام طُعْمٍ، وشفاء سُقْمٍ". واستشهد به ابن حجر للحديث المتقدم5، وهو في (مسند الطيالسي) 6.
__________
1 إرواء الغليل: (4/332) .
2 المقاصد الحسنة: (ح 928) .
3 إرواء الغليل: (4/324) .
(ص 568) .
5 كما في المقاصد الحسنة (ص 568) .
(ح 457) .
(2/469)
فالحاصل: أن هذا الحديث يَتَقَوَّى بمجموع هذه الطرق، فيكون حسناً لغيره، لا لذاته كما يفهم من كلام ابن القَيِّم رحمه الله1؛ إذ إنَّ طُرُقَهُ كلها لم تَسْلَم من الضَّعْفِ.
وحَسَّنَه الحافظ المنذري في (كلامه على أحاديث المهذب) 2. وقال الحافظ ابن حجر: "ومرتبة هذا الحديث: أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به"3. وقال مرة: "غريب، حسنٌ بشواهده"4.
بقي التنبيه على أمرٍ وقع لابن القَيِّم رحمه الله، وهو قوله في هذا الحديث: "وقد ضَعَّفَ هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المُؤَمَّل راويه عن محمد بن المنكدر". كذا قال، وقد عُلِمَ مما سبق أنَّ ابن المُؤَمَّل إنما يرويه عن أبي الزبير، وأن الذي رواه عن ابن المنكدر هو ابن أبي الموالي.
__________
1 وانظر: إرواء الغليل: (4/324) .
2 أفاد ذلك ابن الملقن - رحمه الله - في (البدر المنير) : ج4 (ق 412) .
3 المقاصد الحسنة: (ص 568) .
4 فيض القدير: (5/404) .
(2/470)
12- باب فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلمذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - فضلَ مكة، والبيت الحرام، وأنه أَفْضَلُ بقاع الأرض على الإطلاق، فقال: "وَثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ففي (سنن النسائي) ، و (المسند) بإسناد صحيح، عن:60 - (15) عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "صلاة في مَسْجِدي هذا أفضل من أَلف صلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مَسْجِدي هذا بمائة صلاةٍ ". ورواه ابن حبان في صحيحه1.قلت: هذا الحديث أخرجه: أحمد في (مسنده) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والبيهقي في (سننه) 4، وابن عبد البر في (التمهيد) 5، كلهم من طريق: حَمَّاد بن زيد، عن حبيب الْمُعَلَّم6.__________1 زاد المعاد: (1/48) .(4/5) .3 الإحسان: (3/71) ح 1618.(5/246) .(6/25) .6 أبو محمد البصري، مولى معقل بن يسار، اختلف في اسم أبيه، فقيل: زائدة، وقيل: زيد، صدوق، من السادسة، مات سنة 130 هـ / ع. (التقريب 152) .
(2/471) وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 1 عن: الربيع بن صبيح2. كلاهما - حبيب والربيع - عن:عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ووقع عند الطيالسي قول عطاء: "بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث، قال عطاء في آخره: "فكأنه مائة ألف". وعند ابن حبان: "وَصَلاةٌ في ذاكَ أَفْضَل من مائةِ صلاةٍ في هذا ".وعزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد) 3 لأحمد، والطبراني، والبزار، وأما ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من أن هذا الحديث في (سنن النسائي) فإنني لم أقف عليه فيه بعد البحث، ولا هو في (السنن الكبرى) له فيما بحثت، ولم يذكره المزيُّ في (تحفة الأشراف) في مسند ابن الزبير، فلعله سبق قلم من ابن القَيِّم رحمه الله.وإسناد هؤلاء الجماعة - ما عدا الطيالسي - صحيح على شرط الشيخين، وإلى ذلك أشار الهيثمي رحمه الله، فقال: "ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح"4.ولكن رُوِيَ هذا الحديث عن عطاء من وجهٍ آخر موقوفاً على__________1 ح (1367) .2 السَّعْدِي، البصري، صدوق سيء الحفظ، وكان عابداً مجاهداً، من السابعة، مات سنة 160هـ / خت ت ق. (التقريب 206) .(4/4 - 5) .4 مجمع الزوائد: (4/4-5) .
(2/472) ابن الزبير، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 1 عن: ابن جريج. وابن عبد البر في (التمهيد) 2 من طريق: حجاج بن أرطاة3، كلاهما عن: عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير موقوفاً عليه. ولفظ عبد الرزاق: عن عطاء، أنه سمع ابن الزبير يقول على المنبر: "صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاة فيما سواه من المساجد". قال: ولم يُسَمِّ مسجد المدينة، فَيُخَيَّلُ إليَّ أَنَّمَا يريد مسجد المدينة. ولفظ ابن عبد البر: "الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمائة ضِعْفٍ". قال عطاء: فنظرنا في ذلك، فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف ضِعْفٍ.قال ابن عبد البر: "هكذا رواه عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، واخْتُلِفَ في رفعه عن عطاء ... وَمَنْ رَفَعَهُ عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحفظ وأثبت من جهة النقل. وهو أيضاً صحيح في النظر؛ لأنَّ مثله لا يُدْرَكُ بالرأي، ولا بد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن مَنْ رَفَعَهُ أولى، مع شهادة أئمة الحديث لِلَّذي رفعه بالحفظ والثقة"4. وقال أيضاً: "ولكن الحديث لم يُقِمْهُ ولا جَوَّدَهُ إلا حبيب المعلم، عن عطاء، أقام إسناده، وجود لفظه"5. وقال: "فأسند حبيب المعلم هذا الحديث وَجَوَّدَهُ،__________(5/121) ح 9133.(6/23) .3 ابن ثور بن هبيرة، النخعي، أبو أرطاة الكوفي، القاضي، أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس، من السابعة، مات 145هـ/ بخ م4. (التقريب 152) .4 التمهيد: (6/23) .5 المصدر السابق: (6/ 24) .
(2/473) ولم يُخَلِّطْ في لفظه ولا معناه، وكان ثقة"1. ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق حبيب. ثم قال: "ولم يُرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ قَوىٍّ ولا ضعيف، ما يعارض هذا الحديث، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم. وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحدٍ، إلا لِمُتَعَسِّفٍ لا يُعَرَّجُ على قوله في حبيب المعلم ... وقد رواه الحجاح بن أرطاة، عن عطاء، مثل رواية حبيب المعلم سواء"2.قلت: وقد تابعَ حبيباً على رفعه الربيع بن صبيح، كما تقدم عند الطيالسي، ومع ذلك، فإنه لا يمتنع أن يكون رُوِيَ عن ابن الزبير على الوجهين، فمع أنه كان عنده مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان ربما لا يرفعه، وبخاصة أنه قاله في خطبة له على المنبر، وإلا فإنه مما لا مجال فيه للرأي، ولابدَّ فيه من توقيف كما تقدم في كلام ابن عبد البر رحمه الله. ويؤكده: أن حجاج بن أرطاة قد روى المرفوع أيضاً، فدلَّ ذلك على أن الحديث عن ابن الزبير على الوجهين.فَتَلَخَّص من ذلك: أن الحديث صحيح الإسناد، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولا مطعن لأحدٍ فيه، وما رُوي من ذلك موقوفاً على ابن الزبير لا يُعَلُّ به المرفوع، فإما الجمع بينهما، أو ترجيح المرفوع، وهو ظاهرٌ، والله تعالى أعلم.__________1 التمهيد: (6/25) .2 المصدر السابق: (6/26) .
(2/474)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...