الجمعة، 7 يناير 2022

21.ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها المجلد الأول.. الي... ص (1/225) ترقيم الشاملة والتتابع علامة الوصل


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
المجلد الأول

مقدمة
...
ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
تأليف: د. جمال بن محمد السيد
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [عمران:102] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70، 71] .
أما بعد: فإن الله عز وجل أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على جميع الأديان، وَأَيَّدَهُ بالحجج القاهرة والمعجزات الظاهرة التي من أعظمها معجزة القرآن، وَتَكَفَّلَ - سبحانه - بحفظ هذا الكتاب الكريم
(1/9)
حتى تقوم حجته على الثقلين من الإنس والجان، وأسند إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة التبليغ للقرآن والبيان، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
فَقَامَ صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة أحسن قيام، وَنَصَحَ للخلق وأرشدهم إلى الطريق الموصلة إلى طاعة الرحمن، وَحَذَّرَهُم من سلوك سبل الغِوَايَة والخسران، فقامت به الحجة، وتمت به النعمة والمنة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] .
وقد كان بيانه صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتُهُ وحياً من الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3، 4] ، فالله عزوجل قد أرسله بالكتاب والسنة جميعاً، كما قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه} [البقرة:231] . فالحكمة: هي السُّنَّةُ المبينةُ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرادَ الله عز وجل بما لم ينص عليه في الكتاب1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ.." 2.
فَدَلَّ ذلك على أنه أوتي السُّنَّةَ كما أوتي القرآن، وأن الكتابَ والسنةَ قرينان لا ينفصلان، وبذلك تكون السنةُ داخلةً في الوعد الذي
__________
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن: (3/157) ، وتفسير القرآن العظيم: (1/281) .
2 وهو من حديث المقدام بن معد يكرب، وسيأتي تخريجه في ص (326) .
(1/10)
قطعه الله على نفسه بحفظ هذا الذكر، حيث قال سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] 1.
وكان من مظاهر حفظ الله سبحانه لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: أن هيأ لها خير قرون هذه الأمة، فتلقوها عنه صلى الله عليه وسلم، وحفظوها في صدورهم، "وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه - عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن رب العالمين - سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا: هذا عهدُ نَبِيِّنَا إلينا، وقد عَهِدْنَا إليكم، وهذه وصيةُ رَبِّنَا وفرضُهُ علينا، وهي وَصِيَّتُهُ وفرضه عليكم. فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم ... ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد ... "2.
ومع مرور الأيام، وتعاقب الأزمان، دخل في هذا الشأن من ليس من أهله، فوقع الوهم والغلط في الرواية، بل وظهر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
فحينئذٍ أقام الله سبحانه طائفة من الأئمة الحفاظ، فاجتهدوا في جمع الأحاديث والآثار في الصحاح، والمسانيد، والسنن، والجوامع، والمعاجم، وغيرها؛ فلم ينقض القرن الرابع الهجري إلا وقد استوعبت مصنفاتهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم، كما صنفت كتب الجرح والتعديل وبيان أحوال الرواة، فَعُرِفَ الثقة الثبت من المجروح العليل، مما مَكَّنَهُم من النظر في أسانيد الأحاديث والآثار، وتمييز الصحيح من الضعيف والسليم من المعلول من تلك
__________
1 وسيأتي - عن ابن القَيِّم وغيره - مزيد كلام على دخول السنة في الذكر الذي تكفل الله بحفظه. انظر ص: (326 - 329) .
2 إعلام الموقعين: (1/6) .
(1/11)
الأخبار، وهم مستمرون على ذلك على مر الدهور والأعوام، وحتى قيام الساعة إن شاء الله؛ فإن الله سبحانه يقيِّض في كل زمان وعصر وفي كل قُطْرٍ ومصر من العلماء الْمُبَرِّزين من يَذُبُّ عن سنته صلى الله عليه وسلم، ويحمي حوزة الدين من كل مُبْتَدَعٍ ودخيل، وهم ظاهرون على الحق، قائمون بأمر الله "لا يَضُرُّهُم من خَذَلَهُم أو خَالَفَهُم حتى يأتيَ أمر الله وهم ظاهرون على النَّاس" 1.
ومن أولئك الأعلام الأفذاذ: الإمام العلامة، ناصر السنة، وقامع البدعة، شمس الدين بن قَيِّم الجوزية رحمه الله، فقد كان شوكة في حلوق المنحرفين والمبتدعين، وحرباً على المتعصبين والمقلدين، وذلك بدعوته للتمسك بسنة سيد المرسلين، ونبذ ما سوى ذلك من بدع المبتدعين.
فَنَصَرَ اللهُ به السُّنَّةَ المحمدية، وأحيا به الطريقة السَّلفيَّة، وقمع به كثيراً من الطرق البدعية، والانحرافات العقدية.
فقد عاش رحمه الله حياته مجاهداً بلسانه وقلمه في سبيل تحقيق هذه الغاية الجليلة، لا يخشى في الله ملامة اللائمين، ولا يصده عن مواصلة جهاده كثرة الشانئين والحاقدين، حتى لقي الله على ذلك.
وكانت حياته العلمية رحمه الله حافلة بالبذل والعطاء في كل فن من فنون الشريعة الإسلامية، فلم يدع منها باباً إلا طرقه، ولا سيما الحديث وعلومه، حيث إن دعوته قامت - في المقام الأول - على
__________
1 أخرجه مسلم في صحيحه: (3/1524) ح 1923 (174) ك الإمارة، باب قوله: صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ... " من حديث معاوية. وسيأتي مزيد كلام عن حفظ الله لدينه بجهود هذه الطائفة (انظر ص: 327 - 329) .
(1/12)
نصوص الكتاب، وما ثبت من السنة، فبذل لأجل ذلك جهداً مشكوراً في العناية بالحديث، وتمييز صحيحه من سقيمه، وبيان الأحاديث الموضوعة التي اعتمد عليها أهل التعصب وأرباب البدع في ترويج باطلهم، فوقف لهم بالمرصاد، يفضح أمرهم، ويكشف كذبهم.
وقد وُجدت له - في أثناء ذلك - مشاركات قيمة، وأقوال نافعة في قواعد الحديث وأصوله، كما وجدت له أحكام موفقة في نقد الرجال وبيان أحوالهم جرحاً وتعديلاً.
ولما كانت جهود ابن القَيِّم - رحمه الله - في خدمة هذا الدين على درجة كبيرة من الأهمية، وكانت علومه وآثاره تحظى - لدى الموافق والمخالف - بمكانة عَلِيَّة: كان - رحمه الله - جديراً بأن تتجه إليه جهود الدارسين والباحثين، ترجمةً لحياته، وإبرازاً لجوانب مهمة في شخصيته، وإحصاءً لآثاره، وتقريباً لفقهه، وجمعاً لإفاداته المهمة في كل فن، واستخلاصاً لأفكار ومبادئ تربوية هادفة من كتبه، إلى غير ذلك من جوانب مهمة طالتها كتابات الباحثين حول شخصية ابن القَيِّم وعلومه1.
وقد كانت لدي رغبة قوية في إبراز شيء من جهد ابن القَيِّم في الحديث وعلومه، وبخاصة بعد أن وقفت على تلك البحوث القيمة - في الحديث وعلومه - في كتابيه: (الفروسية) ، (وتهذيب السنن) ، وذلك
__________
1 وسيأتي ذكر طرف من هذه الدراسات والبحوث المهمة حول ابن القَيِّم رحمه الله. انظر ص (35 - 37) .
(1/13)
حينما قرأنا دروساً من الكتابين في السنة المنهجية التحضيرية، بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية شرفها الله.
ولما كنت بصدد تسجيل موضوع لنيل درجة (الدكتوراه) ، وجدت الفرصة مناسبة لتحقيق هذه الرغبة، وبعد البحث والتتبع، وسؤال المختصين من مشايخي وأساتذتي وزملائي، علمت أن أحداً لم يتعرض لهذا الموضوع، ولمست منهم تشجيعاً وتأييداً للكتابة فيه، فزادت لدي الرغبة - حينئذ - وقويَ العزم على الكتابة في هذا الجانب من حياة هذا الإمام العلم، فتقدمت بهذا الموضوع أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في السنة النبوية وعلومها، وكان عنوانه: (ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها) .
وكنت أسعى من خلال الكتابة في هذا الموضوع إلى تحقيق هدفين:
أولهما: بيان مكانة ابن القَيِّم في الحديث وعلومه، وذلك من خلال الكشف عن آرائه وإسهاماته العلمية في هذا الجانب، والقيام بدراستها وتحليلها، ومن ثَمَّ مقارنتها بآراء أئمة هذا الشأن، ليعرف مكان ابن القَيِّم - رحمه الله - بينهم.
ثانيهما: جمع أكبر قدر ممكن من هذه الآراء وتلك الإسهامات من بطون كتبه ومؤلفاته العديدة، وعرضها في ترتيب موضوعي، مما يسهل على طالب هذه الفوائد الوصول إليها، بعد أن كانت منثورة في أماكن متفرقة من كتبه، لا يُهْتَدى إليها إلا بتتبع كل مؤلفاته، والمرور عليها بحثاً بحثاً، ولا يخفى ما في ذلك من صعوبة ومشقة.
(1/14)
وفي ضوء تحديد هذين الهدفين: تبرز قيمة الموضوع، وتتضح أهميته في تقريب جهد ابن القَيِّم في الحديث وعلومه.
وقد قمت - من أجل تحقيق ذلك - بقراءة وجرد كل ما نشر من مؤلفات لابن القَيِّم رحمه الله، والتي تزيد على ثلاثين كتاباً، تتراوح ما بين كبير في خمس مجلدات كـ (زاد المعاد) ، وصغيرٍ ذاتِ وريقات كـ (رسالته إلى أحد إخوانه) وغيرها.
(1/15)
مخطط البحث وأقسامه
وقد جعلت رسالتي هذه في: مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة.
أما المقدمة: فقد ذكرت فيها فكرة عن الموضوع، وأهميته، والهدف منه، وعملي فيه.
وأما الباب الأول: فقد خصصته لدراسة شخصية ابن القَيِّم، وحياته العلمية، ثم مؤلفاته التي تركها، وذلك في فصول أربعة:
الفصل الأول: في الكلام على عصر ابن القَيِّم. وفيه مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الدينية.
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية.
المبحث الرابع: الحالة العلمية والثقافية.
الفصل الثاني: في حياة ابن القَيِّم. وفيه مباحث:
المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده.
المبحث الثاني: أسرته ونشأته الأولى.
المبحث الثالث: أخلاقه وصفاته الشخصية.
المبحث الرابع: زهده وعبادته.
المبحث الخامس: نبل أهدافه، ونقاء آرائه.
المبحث السادس: مِحَنُه ووفاته.
(1/16)
الفصل الثالث: في سيرته العلمية. وفيه مباحث:
المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له، وثناؤهم عليه.
المبحث الثاني: في ذكر شيوخه.
المبحث الثالث: اهتمامه باقتناء الكتب وذكر مكتبته.
المبحث الرابع: أسفاره ورحلاته.
المبحث الخامس: أعماله العلمية ومناصبه.
المبحث السادس: في ذكر تلاميذه.
الفصل الرابع: في الكلام على مؤلفاته. وفيه مباحث:
المبحث الأول: منهج ابن القَيِّم في التأليف، وخصائص مؤلفاته.
المبحث الثاني: ذكر مؤلفات ابن القَيِّم.
المبحث الثالث: مصادر ابن القَيِّم في مؤلفاته.
المبحث الرابع: دراسة بعض مؤلفات ابن القَيِّم.
الباب الثاني: ويشتمل على آراء ابن القَيِّم ومنهجه في الحديث وعلومه. وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: آراؤه في علوم الحديث. وفيه مباحث:
المبحث الأول: أقسام الخبر.
المبحث الثاني: الحديث الصحيح.
(1/17)
المبحث الثالث: الحديث الحسن.
المبحث الرابع: المرفوع والموقوف.
المبحث الخامس: المرسل.
المبحث السادس: تعارض الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع.
المبحث السابع: المنقطع.
المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس.
المبحث التاسع: الشاذ.
المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد.
المبحث الحادي عشر: الموضوع.
المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد.
المبحث الثالث عشر: رواية المجهول.
المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله.
المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه.
المبحث السادس عشر: مختلف الحديث.
المبحث السابع عشر:معرفة من اختلط من الرواة الثقات.
الفصل الثاني: آراء ابن القَيِّم ومنهجه في الجرح والتعديل. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: آراء ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. وفيه مطالب:
(1/18)
المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة.
المطلب الثاني: هل يثبت الجرح والتعديل بقول الواحد؟
المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة؟
المطلب الرابع: إذا خالف رأي الراوي روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايته؟
المطلب الخامس: هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل؟
المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل.
المطلب السابع: حكم رواية المبتدع.
المطلب الثامن: ذكر فوائد متفرقة في الجرح والتعديل.
المبحث الثاني: منهج ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. وفيه مطالب:
المطلب الأول: مكانة ابن القَيِّم في نقد الرجال.
المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال.
المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل.
المطلب الرابع: ذكر بعض الفوائد المتفرقة في الرجال.
(1/19)
الفصل الثالث: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث والحكم عليه. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث وعزوه.
المبحث الثاني: منهجه في الحكم على الحديث.
الفصل الرابع: منهج ابن القَيِّم في شرح الحديث، وبيان معانيه واستخرج أحكامه. وفيه مباحث:
المبحث الأول: منهجه في شرح الحديث، وبيان معانيه.
المبحث الثاني: منهجه في بيان غريب الحديث.
المبحث الثالث: منهجه في التعريف بالأماكن والبقاع.
المبحث الرابع: منهجه في الاستدلال بالنصوص الحديثية على آرائه.
المبحث الخامس: منهجه في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض.
الباب الثالث: في دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القَيِّم.
وجمعت في هذا الباب جملة من الأحاديث التي حكم عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - بتصحيح أو تضعيف أو غير ذلك، وَبَيَّن عللها، مع دراسة تلك الأحكام في ضوء أقوال الأئمة وأحكامهم على الأحاديث نفسها، ومن ثَمَّ بيان إصابة ابن القَيِّم أو عدم إصابته فيما حكم به.
وقد أطلت النَّفس في هذا الباب، فتوسعت في تخريج هذه الأحاديث بحسب أصول التخريج المعروفة؛ لكون التخريج علماً جامعاً
(1/20)
وممارسة عملية لعلوم الحديث المختلفة؛ كقواعد علم المصطلح، ومباحث الجرح والتعديل وتاريخ الرواة، وعلم العلل؛ وذلك لاستجلاء معالم الشخصية العلمية لهذا الإمام العَلَم الفَذِّ، وإبراز جهوده في هذا المجال من بين مسالك هذه الدراسة، فكان هذا الباب تطبيقاً عملياً على ما سبق عرضه من آراء وأقوال لهذا الإمام العَلَم فيما يتعلق بعلوم الحديث.
وذكرت في الخاتمة: أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي حول ابن القَيِّم وعلومه.
ثم ذيلت البحث بالفهارس التفصيلية التي لا غنى عنها للمطالع في هذا الكتاب.
منهجي في هذا البحث
أما منهجي وطريقة سيري في هذا البحث فيمكنني تلخيص ذلك فيما يلي:
أولاً: لقد اعتمدت في كل كلمة نقلتها عن ابن القَيِّم على كتبه مباشرة، دون أي كتاب آخر قد يوجد فيه كلامه.
ثانياً: عندما يكون كلام ابن القَيِّم في المسألة طويلاً، فإنني أُلَخِّصُ المراد منه، وقد فعلت ذلك في قسم دراسة الأحاديث أكثر من غيره.
ثالثاً: ربما أضطر في بعض الأحيان إلى مراجعة طبعات أخرى لبعض المصادر، غير الطبعة التي اعتمدتها في سائر المواضع، فما وقع لي من ذلك نبهت عليه في الحاشية، وهو قليل.
(1/21)
رابعاً: لم ألتزم في كل مسألة تعرضت لها بذكر جميع ما وقفت عليه من كلام لابن القَيِّم حول هذه المسألة، بل أختار من ذلك ما أراه كافياً في الدلالة على المراد، وذلك تجنباً للإطالة. وقدر أشير في الحاشية إلى شيء من المواضع التي تركتها، حتى يراجعها من شاء. وأما إذا كان كلامه مختصراً فإنني أذكره من كل المواضع التي ورد فيها.
خامساً: في حالة عدم موافقتي لابن القَيِّم في رأي أو حكم، فإنني أُنَبِّه على ذلك، مُبَيِّناً ما استندت إليه في اختيار خلاف قوله، مع مناقشة اختياره إن لزم الأمر، وذلك كله في ضوء كلام أهل العلم في المسألة.
سادساً: قمت بشرح بعض الكلمات الغريبة مما تدعو الحاجة إلى شرحه، وتحديد بعض الأماكن والتعريف بها، واقتصرت بالنسبة للأماكن: على غير المشهور، أو ما كان له تعلق مباشر بالكلام عن ابن القَيِّم.
سابعاً: استعملت بالنسبة لبعض الكتب رموزاً للدلالة عليها، وذلك على سبيل الاختصار.
وهذه الرموز هي:
د: لأبي داود في "السنن".
ت: للترمذي في "جامعه".
س: للنسائي في "السنن".
جه: لابن ماجه في "سننه".
(1/22)
طأ: لمالك في "الموطأ".
حم: لأحمد في "المسند".
مي: للدارمي في "السنن".
طس: للطيالسي في "المسند".
يع: لأبي يعلى في "المسند".
خز: لابن خزيمة في "صحيحه".
حب: لابن حبان في "صحيحه".
كم: للحاكم في "المستدرك".
طب: للطبراني في "معاجمه"، مع التقييد بالمراد من معاجمه الثلاثة.
قط: للدارقطني في "السنن".
هق: للبيهقي في "السنن".
عق: للعقيلي في "الضعفاء".
وبقية المصادر ترد مذكورة باسمها الصريح.
وبعد؛ فهذا ما يَسَّرَ الله لي جمعه حول الإمام العلامة ابن قَيِّم الجوزية رحمه الله، وأرجو الله - سبحانه - أن أكون قد وفقت في ذلك للحقِّ وهديت للصواب والرشد، والله - عز وجل - لم يجعل قول أحد من خلقه كله صواباً، إلا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلا وحياً.
(1/23)
وحسبي أني لم أَدَّخِر جهداً في سبيل إخراج هذا البحث بالصورة اللائقة بمكانة هذا الإمام العلم، فما كان فيه من صواب وخير فمن فضل الله وهو الموفِّق إليه، فله الحمد، وما كان فيه من خطأ وتقصير ونقص فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بوافر الشكر وجميل الثناء لكل من قدَّم لي مساعدة أو أسدى إليَّ نصحاً، أو تفضَّل عليَّ بتوجيهٍ أثناء إعدادي لهذا البحث، من المشايخ الفضلاء، والزملاء الأعزاء، وأخصُّ بالذكر: شيخي وأستاذي الفاضل الشيخ الدكتور ربيع بن هادي المدخلي، الذي أشرف على هذه الرسالة، وبذل من جهده ووقته الكثير في سبيل خروجها بهذه الصورة، أسأل الله - سبحانه - أن يجزيه عني خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، آمين.
وأُثَنِّي بالشكر للأستاذين الفاضلين: فضيلة الدكتور عبد المنعم عطية، وفضيلة الدكتور عاصم القريوتي اللذين تجشما عناء قراءة هذا البحث - رغم كبر حجمه - وأتحفاني بملحوظاتهما المفيدة وتوجيهاتهما السديدة، أثناء مناقشتهما لي، مما أعانني على إصلاح كثير من الخلل، واستدراك كثير من النقص والزلل، فجزاهما الله عني خير الجزاء، وبارك في علمهما، ونفع بهما آمين.
وأُثَلِّثُ بالشكر الوافر والثناء الجميل العاطر، للأستاذين الفاضلين اللذين قوَّما هذه الرسالة، مُكَلَّفين من قِبَل عمادة البحث العلمي، فقاما
(1/24)
بقراءتها مشكورين مأجورين، وأتحفاني بملحوظات نفيسة قيمة، وفوائد سديدة مؤيَّدة، أفدت منها كثيراً في إكمال ما بقي من نقص، وإصلاح ما خفي - قبلُ - من خطأ، فجزاهما الله خير الجزاء.
والشكر موصول لعمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، ممثلة في عميدها فضيلة الأستاذ الدكتور/ محمد بن خليفة التميمي، وكافة منسوبي العمادة، على جهودهم المباركة الميمونة في نشر الكتب النافعة بين أهل العلم وطلابه. وما نشر هذا الكتاب الذي بين يديك - أخي القارئ الكريم - إلا ثمرة من ثمار هذه الجهود المخلصة الموفقة.
كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلامية على ما يبذلونه من جهود حثيثة في سبيل إعداد الدعاة المؤهلين الذين يقومون بواجب الدعوة إلى الله - عز وجل - في كافة أنحاء المعمورة، متسلحين بالعقيدة الصافية، والعلم الشرعي الأصيل، والذين كانوا بحق مشاعل نور وهداية لكثير من المتعطشين إلى الدعوة الإسلامية الصحيحة الخالصة، فجزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وكتبه: محمد جمال بن محمد السيد
المدينة النبوية الشريفة
في الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وأربعمائة وألف للهجرة
(1/25)

==========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الباب الأول: حياة ابن القيم، وسيرته العلمية وآثاره
الفصل الأول: عصر ابن القيم وبيئته.
المبحث الأول: الحالة السياسية
...
مصادر ترجمة ابن القَيِّم:
وقد رأيت أن أمهد بين يدي هذا الباب بالكلام على المصادر التي ترجمت لابن القَيِّم رحمه الله، فأعطي فكرة عنها، مع تحليل للمادة التي احتواها كل مصدر منها، وذكر ما تميز به بعضها عن الآخر.
وذلك: لأن ما سيأتي من وصفٍ لابن القَيِّم، وسردٍ لأحداث حياته، مأخوذٌ من هذه المصادر بالدرجة الأولى، فيحتاج الناظر في هذه الترجمة أن يتعرف على هذه المصادر.
وقد ترجم لابن القَيِّم جماعةٌ من معاصريه فمن بعدهم، فمن هؤلاء:
الحافظ الذهبي1 (ت748هـ) ، وتلميذه الصَّفَدِي2 (ت764هـ) ، وأبو المحاسن الحُسَينيُّ3 (ت765هـ) ، وتلميذاه: ابن كثير4 (ت774هـ) ، وابن رجب5 (ت 795هـ) .
وتتفاوت هذه التراجم فيما بينها من حيث: طولها وقصرها، ونوع المادة والمعلومات التي قدمتها كل ترجمة منها.
فأطول هذه التراجم وأوفاها: ترجمة تلميذيه الصَّفَدِي، وابن رجب؛ إذ استوعبا أهمَّ المعلومات المتعلقة بحياة ابن القَيِّم - وبخاصة
__________
1 المعجم المختص: (ص 269) .
2 الوافي بالوفيات: (2/270-272) .
3 ذيل العبر: (ص155) .
4 البداية والنهاية: (14/246-247) .
5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447 - 451) .
(1/31)
العلمية منها - فقد كان للصَّفَدِي جهد طيب في محاولة استقصاء شيوخ ابن القَيِّم في كل فن، وأما ابن رجب فقد بذل جهداً كبيراً في محاولة استقصاء أكبر قدر من مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله. كما أبرزَ الكثيرَ من صفاته الشخصية، وأخلاقه، وعبادته.
ويليهما في ذلك: الحافظ ابن الكثير، وقد أبرز اجتهاد ابن القَيِّم في الطلب، وتفوقه وتقدمه في علوم عديدة، وكذا أحواله في عبادته وزهده، وما تحلى به من أخلاق حميدة.
وأما الذهبي، وأبو المحاسن الدمشقي: فقد جاءت ترجمتهما مختصرة جداً؛ حيث وقعت في أسطر معدودة، ومع ذلك فإن ترجمة الذهبي تضمنت معلومات دقيقة ومفيدة على وجازتها، حتى إن أكثر من جاء بعده نقل من ترجمته. وقدم أيضاً - أعني الذهبي - رأيه الشخصي في ابن القَيِّم؛ إذ وصفه بأنه: (معجب برأيه، جرئ على الأمور) . وسيأتي رد الشوكاني على ذلك.
وأما المترجمون له ممن جاء بعده، فهم:
ابن ناصر الدين1 (ت842هـ) ، والمقريزي2 (ت 845 هـ) ، وابن حجر3 (ت852هـ) ، وابن تَغْرِي بَرْدِي4 (ت874 هـ) ،
__________
1 الرد الوافر: (ص68 - 69) .
2 السلوك: (2/3/834) .
3 الدرر الكامنة: (4/21 - 23) .
4 النجوم الزاهرة: (10/249) ، والمنهل الصافي: ج3 (ق 61 - 62) ، والدليل الشافي: (2/583) .
(1/32)
والسخاوي1 (ت902هـ) ، والسيوطي2 (ت911هـ) ، والنعيمي3 (ت 927هـ) ، والداودي4 (ت 945هـ) ، وابن العماد5 (ت1089هـ) ، والشوكاني6 (ت1250هـ) ، وصديق حسن7 (ت 1307هـ) ، والآلوسي8 (ت1317هـ) ، وابن بدران9 (ت 1346هـ) ، والشطي10 (ت 1379هـ) ، وأحمد قدامة11 (قَدَّمَ لكتابه سنة 1385هـ) ، وعمر رضا كحَّالة12 وغيرهم.
ولم تقدم هذه المصادر زيادة على المصادر السابقة، بل إن أكثرها ينقل عن تلك المصادر.
إلا أننا - مع ذلك - يمكن أن نلمح بعض الأمور التي تستحق التنبيه عليها في بعض هذه المصادر المتأخرة؛ فقد أفاد المقريزي مثلاً: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قدم القاهرة مراراً. وأما ابن حجر: فقد قَدَّمَ رأيه
__________
1 نقل ترجمته وكلامه في ابن القَيِّم: صديق حسن في (التاج المكلل: ص 419) .
2 بغية الوعاة: (1/62 - 63) .
3 الدارس في تاريخ المدارس: (2/90) .
4 طبقات المفسرين: (2/90 - 93) .
5 شذرات الذهب: (6/168 - 170) .
6 البدر الطالع: (2/143 - 145) .
7 التاج المكلل: (ص 416 - 420) .
8 جلاء العينين: (ص 30 - 31) .
9 منادمة الأطلال: (ص240 - 242) .
10 مختصر طبقات الحنابلة: (61 - 62) .
11 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/267) .
12 معجم المؤلفين: (9/106 - 107) .
(1/33)
الشخصي عن بعض الجوانب في حياة ابن القَيِّم العلمية، فرأى أن ابن القَيِّم مع جودة تصانيفه وعذوبة أسلوبها، فإنها لا تخرج عن أقوال شيخه ابن تَيْمِيَّة، مع تصرفه في ذلك 1.
وأما الشوكاني رحمه الله: فقد تضمنت ترجمته دفاعاً قوياً عن ابن القَيِّم رحمه الله، وبخاصة في الرد على ما قاله الذهبي، كما سيأتي ذكر ذلك.
وفي مقابل ذلك نجد الكتب الأخرى لم تقدم أي جديد؛ فابن تغري بردى - مثلاً - مع أنه ترجم لابن القَيِّم في ثلاثة من كتبه، إلا أنه لم يضف جديداً، فنقل في (المنهل الصافي) كلام شيخه الصَّفَدِي بحروفه، ولم يزد على ذلك شيئاً، واختصر ذلك في سطرين في (الدليل الشافي) . وهكذا باقي المترجمين.
وبذلك تبقى المصادر المتقدمة هي الأصل في استيفاء مقاصد ترجمة ابن القَيِّم رحمه الله، وبخاصة: الصَّفَدِي، وابن كثير، وابن رجب.
__________
1 وقد أجاب عن ذلك الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله، فأجاد وأفاد، وكان مما قال: " ... لكن محل البحث هو ترتيب هذه النتيجة وهي (أنه لا يخرج عن شيء من أقواله) على هذه المحبة - يعني محبة ابن القَيِّم لشيخه - فإنَّ فيها نوع إجمال مانع من فهم المراد. فإن كان المراد أن ابن القَيِّم آلة ليس له سوى فضل الجمع والتهذيب والترتيب والانتصار لآراء شيخه لا للدليل وما يؤيده الدليل. فهذا سبيله الرفض، وفهمه بعيد من كلمة الحافظ ابن حجر.
وإن كان المراد: أن ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - مع محبته لشيخه ابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - فإنه إنما ينتصر لأقواله ومفرداته عن دليل وقناعة لا مجرد تبعية. فنعم، وهذا المراد هو الأقرب لجلالة الحافظ ابن حجر واتصافه بالإنصاف". انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 86 - 88) .
(1/34)
بعض الدراسات الحديثة عن ابن القَيِّم:
من المناسب في هذا المقام - ونحن بصدد الحديث عن مصادر ترجمة ابن القَيِّم - أن نشير إلى بعض الدراسات التي قام بها بعض المعاصرين حول ابن القَيِّم وجهوده العلمية المختلفة.
فمما وقفت عليه من ذلك:
1- (ابن قَيِّم الجوزية: حياته وآثاره) للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد.
وهو من أجمع وأنفع ما كتب حول ابن القَيِّم وآثاره العلمية، مع قيامه - أثناء الكتاب - بالرد على كثير من الشبه والافتراءات التي أثارها بعض الحاقدين على ابن القَيِّم.
والكتاب مطبوع عدة طبعات.
2- (ابن القَيِّم وموقفه من التفكير الإسلامي) للدكتور عوض الله حجازي، وقد نال به درجة الدكتوراه سنة 1947م.
قال عنه الشيخ بكر أبو زيد: "ومع أنه خَلَفِيُّ العقيدة، فإن كتابته هي أرق وأغزر رسالة درست حياة ابن القَيِّم رحمه الله"1.
3- (ابن القَيِّم: من آثاره العلمية) لأحمد ماهر محمد البقري.
حصل به الباحث على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية، بجامعة الإسكندرية، وطبع سنة 1397هـ.
__________
1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص117) حاشية 4.
(1/35)
وقد تناول فيه المؤلف جوانب عدة من حياة ابن القَيِّم العلمية: في اللغة، والتفسير وغيرهما، مع مباحث أخرى حول ثقافة ابن القَيِّم، وآثاره.
4- (ابن قَيِّم الجوزية: عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف) للدكتور عبد العظيم عبد السلام شرف الدين، طبع للمرة الثالثة سنة 1405هـ وقد بذل فيه مؤلفه جهداً ظاهراً.
5- (ابن قَيِّم الجوزية: جهوده في الدرس اللغوي) للدكتور طاهر سلمان حموده. طبع بالإسكندرية، سنة 1396هـ.
وقد بحث فيه المؤلف الجانب اللغوي عند ابن القَيِّم، فدرس منهجه في: النحو والإعراب، ثم في: المعنى. مع كتابته ترجمة جيدة لابن القَيِّم.
6- (ابن القَيِّم وحسه البلاغي في تفسير القرآن) للدكتور عبد الفتاح لاشين، وهو مطبوع.
7- (ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف) للدكتور عبد الله محمد جار النبي. حصل به المؤلف على درجة الدكتوراه، من جامعة أم القرى، بمكة المكرمة. وطبع بمكة سنة 1406هـ.
وقد أبرز فيه المؤلف جهود ابن القَيِّم في الدفاع عن عقيدة السلف، وذلك بعرض آراء المخالفين لعقيدة السلف، ثم إيراد رد ابن القَيِّم عليهم من خلال أبحاثه التي طرقها في أكثر كتبه.
8- (الفكر التربوي عند ابن القَيِّم) للدكتور حسن على الحجاجي، حصل به المؤلف على درجة الدكتوراه من كلية العلوم الاجتماعية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وطبع سنة 1408هـ بجدة.
(1/36)
وقد عرض فيه المؤلف آراء ابن القَيِّم التربوية في أسلوب شيق، وترتيب ممتع، مستشهداً في كل قضية بكلام ابن القَيِّم في كتبه المختلفة.
والكتاب نافع جداً ومفيد في بابه.
9- (منهج ابن القَيِّم في التفسير) لمحمد أحمد السنباطي.
ذكر فيه آراء ابن القَيِّم في التفسير، وهو مطبوع.
تلك هي أبرز الدراسات التي وقفتُ عليها حول ابن القَيِّم - رحمه الله - في عصرنا الحاضر.
وقد اشتملت كل هذه الدراسات على ترجمة لحياة ابن القَيِّم الشخصية والعلمية، وكان أوفاها في ذلك: كتاب الشيخ بكر أبي زيد حفظه الله، وقد استفدت منه كثيراً في دراستي لابن القَيِّم.
وبالإضافة إلى هذه الدراسات، فقد ترجم لابن القَيِّم أغلبُ المحققين لكتبه1.
__________
1 انظر مقدمة التحقيق للكتب التالية: (أحكام أهل الذمة) تحقيق الدكتور/ صبحي الصالح، و (زاد المعاد) تحقيق/ شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، و (الصواعق المرسلة) تحقيق الدكتور/ علي بن محمد الدخيل الله، و (شرح القصيدة النونية) لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، وغير ذلك من كتبه.
(1/37)
الفصل الأول: عصر ابن القَيِّم وبيئته
لا شك أن هناك علاقة وثيقة، وصلة وطيدة بين المرء وبيئته التي عاش وترعرع فيها، وبين الصفات التي تميز شخصيته، ولذلك فإنه من الضروري عند دراسة شخصية من الشخصيات إلقاء الضوء على الزمان والمكان اللذين وُجِدت فيهما تلك الشخصية، وبخاصة أولئك الذين يعيشون أحداث عصرهم، ولهم صلة بمشكلاته، وعلى رأس هؤلاء: الدعاة، والمصلحون، والعلماء.
فكما أن لهؤلاء العلماء أثراً واضحاً في مجتمعاتهم وأهل عصرهم: تربيةً، وإصلاحاً، ونشراً للخير والفضيلة، فإن للعصر وأحداثه - أيضاً - تأثيراً بالغاً فيهم، وذلك من حيث: نوع المشكلات والأدواء التي يهتمون بمعالجتها، والطريقة التي يسلكونها في ذلك، وما يرونه أولى بصرف العناية إليه من غيره، وكذا من ناحية نظرة حُكَّام ذلك العصر للعلم وأهله، ومدى تجاوبهم مع رسالة العلماء، إلى غير ذلك من الأمور التي لها أثر مباشر على أهل العلم ودعوتهم.
وقد رأيت أن يكون هذا الفصل مشتملاً على بيان لكل من: الحالة السياسية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية لهذا العصر، وذلك ضمن مباحث أربعة:
(1/38)
المبحث الأول: الحالة السياسية
لقد عاش ابن القَيِّم - رحمه الله - في الشام في أواخر القرن السابع ومنتصف القرن الثامن الهجري (691 - 751هـ) .
ولو عدنا إلى ما قبل مولد ابن القَيِّم - رحمه الله - بفترة ليست بالبعيدة، لوجدنا أن العالم الإسلامي قد مني بكارثة مروعة، وذلك حين اجتاح التتار العالم الإسلامي، واستولوا على بغداد عاصمة الخلافة، وقتلوا خليفة المسلمين المستعصم بالله، حتى (بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التُّلُول) 1. وذلك في سنة (656هـ) .
ثم ما كان بعد من لطف الله - سبحانه - بالعباد والبلاد، حين رد كيد هؤلاء الغزاة، وهزمهم شر هزيمة على يد الملك المظفر قطز2 - سلطان مصر - وذلك بعد أن استولى التتار على معظم مدن الشام، وفي عزمهم الزحف إلى مصر وكانت هزيمتهم في سنة (658هـ) (وجاءت البشارة، ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه) 3.
__________
1 البداية والنهاية: (13/216) ، حوادث سنة (656هـ) .
2 سيف الدين، قطز بن عبد الله المُعِزّي، كان من مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، وكان فارساً، شجاعاً، بطلاً، ديناً كثير الخير، محبباً إلى الرعية، هزم الله على يديه التتار، ونصر به الإسلام، قتل سنة (658هـ) .
3 البداية والنهاية: (13/231- 235) ، حوادث سنة (658هـ) .
(1/39)
كما أن العالم الإسلامي تعرض -أيضاً- للغزو الصَّليبي الحاقد، فاستولى الصليبيون على كثير من ديار المسلمين، واستمرت الحروب بينهم وبين المسلمين قرنين من الزمان، يصيبون من المسلمين، ويصيب المسلمون منهم، إلى أن منَّ الله سبحانه - وله الحمد - بتطهير البلاد منهم في سنة (690هـ) - قبل مولد ابن القَيِّم بسنة - على يد الملك الأشرف خليل بن قلاوون1، فما حَلَّت سنة (690هـ) إلا وقد (فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مُدَدٍ متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة) 2.
تلك أهم المؤثرات السياسية الخارجية التي تعرض لها العالم الإسلامي - وبخاصة مصر والشام - في ذلك العصر، وما تركته تلك الحروب من آثار على العالم الإسلامي آنذاك، كان من أهمها:
- إحياء روح الجهاد في نفوس الأمة، والرغبة في التضحية وبذل النفس في سبيل الله سبحانه.
- توحيد الصفوف عند نزول المحن والشدائد، وبخاصة إذا كان الخطر المحدق يهدد الإسلام والمسلمين.
- كشفت هذه الحروب عن بعض المنافقين أعداء الإسلام وأهله،
1 خليل بن قلاوون، الملك الأشرف بن الملك المنصور - قلاوون - وليَ السلطة بعد موت أبيه المنصور في سنة 689هـ، وكان شجاعاً مهاباً كريماً، مات مقتولاً سنة 693هـ.
__________
انظر: البداية والنهاية: (17/667) ، والدليل الشافي: (1/292) .
2 البداية والنهاية: (13/338) ، حوادث سنة (690هـ) .
(1/40)
من: الرافضة، والنصارى، وغيرهم ممن كانوا عوناً لأعداء الإسلام، وكان أشرّ هؤلاء جميعاً الرافضة، وعلى رأسهم ابن العلقمي - وزير الدولة حينذاك - حيث إنه اجتهد في (صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان ... إلى أن لم يبق منهم سوى عشرة آلاف - وقد كانوا مائة ألف - ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً في أن يزيل السُنَّةَ بالكُلِّيَة، وأن يُظْهِرَ البدعة الرافضيَّة، وأن يقيمَ خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين ... ) 1.
وبالرغم من أن هذه الأحداث سابقة لمولد ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه أفاد منها واستوعب دروسها جيداً، فكان يحذر المسلمين من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر، ويُبَيِّنُ خطرهم على الإسلام وأهله، يقول رحمه الله في حق الرافضة:
"وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رؤوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات2 المسلمين وعلماؤهم وعُبَّادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جَرَّائهم؟ ومُظَاهَرَتُهُم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة" 3.
هكذا أفاد ابن القَيِّم من أحداث التاريخ في دعوته، ومن هنا يتأكد
__________
1 البداية والنهاية: (13/215) ، حوادث سنة (656هـ) .
2 سَرَاةُ: كل شيء أعلاه. والجمع: سروات. (مختار الصحاح، مادة: سرا) .
3 مدارج السالكين: (1/83) .
(1/41)
لنا: إلى أي حد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - متأثراً بأحداث عصره، وإلى أي حدٍّ استطاع أن يُسَخِّر دروس هذه الأحداث في خدمة أهدافه ومبادئه، وكيف اشتعلت غيرته الدينية - رحمه الله - على حرمات الإسلام التي انتهكت، وعلى صفوة علمائه وعُبَّادِه الذين راحوا ضحية حقد الرافضة وكيدهم للإسلام وأهله.
تلك أبرز الآثار التي تركتها هذه الحروب على المسلمين في ذلك العصر.
وإذ قد استعرضنا أهم المؤثرات الخارجية في الظروف السياسية للدولة، يحسن أن نتعرف - كذلك - على أوضاع الدولة وسياستها الداخلية في تلك الفترة.
حكم المماليك لمصر والشام:
خضعت مصر والشام لحكم المماليك فترة طويلة من الزمن، والمماليك: أصلهم من الرقيق الذين كان حكام الدولة الأيوبية - ومن قبلهم العباسيون - يشترونهم، حتى جاء عهد الملك نجم الدين أيوب، فاستكثر منهم، واتخذهم جنوده وأعوانه1.
أما عن قيام دولتهم: فإنه لما توفي الملك الصالح أيوب في سنة (647هـ) متأثراً بمرضه- فيما كان منشغلاً بقتال الفرنج عند المنصورة- استُدْعِيَ ابنه المعظم تورانشاه من الشام، وبويع له بالملك، وقاتل الفرنج قتالاً عظيماً، إلا أن مماليك أبيه قتلوه، وأقاموا عليهم عزَّ الدين أيبك
__________
1 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص1-2) .
(1/42)
التركماني، ولقبوه: بالملك المعز1، وكان ذلك في سنة (648هـ) .
وقد قضى المماليك بذلك على آخر سلاطين الدولة الأيوبية، وأقاموا أول سلاطين دولتهم: عز الدين أيبك2.
وفور سماع الأمراء الأيوبيين في الشام بمقتل تورانشاه، ثارت ثورتهم، وأخذوا يستعدون لغزو مصر والقضاء على دولة المماليك الناشئة، وظل الأمر مُتَوتِّرًا حتى تم الاتفاق بين المماليك والأيوبيين على اقتسام السلطة بينهم: مصر، وفلسطين حتى نهر الأردن، مع غزة والقدس للماليك، وبقية بلاد الشام للأيوبيين، وذلك في سنة (651هـ) 3.
ثم لما هزم الله التتار على يد المماليك كما مضى - بعد أن فر الأيوبيون من أمامهم - استقرت الأمور نسبياً للماليك في بلاد الشام، وأصبح نوَّابُ الشام - بالرغم من تمتعهم بالسلطان والنفوذ - تابعين لسلطة المماليك بالقاهرة، التي كانت عاصمة الدولة ومقر الحكومة آنذاك4. وبذلك أصبحت الشام - موطن ابن القَيِّم - خاضعة في حكمها لسلطة المماليك، والسلطان يستنيب عليها من شاء من الأمراء.
ويصف الدكتور صفوح خير الوضع آنذاك بقوله: "ثم أصبح مماليك مصر سادة الشام بعد انتصارهم الكبير على المغول في عين
__________
1 البداية والنهاية: (13/188 - 190) ، حوادث سنة (648هـ) .
2 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص 9 - 11) .
3 البداية والنهاية: (13/196) ، والعصر المماليكي في مصر والشام: (ص15 - 17) فما بعدها.
4 العصر المماليكي: (ص 197 - 204) .
(1/43)
جالوت ... وأصبحت سوريا بكاملها - اعتباراً من هذا التاريخ - مقاطعة ملحقة بدولة مصر، وعلى رأس هذه الدولة: المماليك الترك الذين ثاروا على سادتهم سلاطين الأيوبيين" 1.
إحياء الخلافة العباسية:
ثم إنه تم على يد المماليك إعادة منصب الخلافة، وذلك بعد أن ظل شاغراً منذ مقتل الخليفة المستعصم على أيدي التتار سنة (656هـ) .
ففي سنة (659هـ) خرج المستنصر بالله أحمد بن الظاهر من معتقله ببغداد، ثم قدم على الظاهر بيبرس في مصر، وبعد ثبوت نسبه بايعه الملك الظاهر، والقاضي، والوزير، والأمراء، وخُطِبَ له على المنابر، وضرب اسمه على السِّكَّة2، ثم قُلِّدَ الظاهر بيبرس السلطة في السنة نفسها3، فكان ذلك بمثابة اعترافٍ رسمي بشرعية حكم الدولة المملوكية آنذاك.
ولكن هل كان لمنصب الخليفة هذه المرة قيمة فِعْلِيَّة؟ أم أن ذلك لم يكن إلا أمراً شكلياً يضفي على سلطة المماليك وحكمهم للبلاد الصبغة الشرعية فحسب؟
الواقع أن الأمر لم يكن إلا شكلاً، مع خلوه عن كل مضمون حقيقي لصفة الخليفة، وممارسته لصلاحياته في حكم البلاد.
__________
1 مدينة دمشق - دراسة في جغرافية المدن: (172 - 173) .
2 السكة: حديدة منقوشة تطبع بها الدراهم والدنانير.
3 البداية والنهاية: (13/244 - 245) .
(1/44)
ولقد أحسَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بمرارة هذا الأمر، وتأسف لما وصل إليه حال الخليفة في تلك الأيام، فأخذ يُعَبِّرُ عن ذلك في مؤلفاته وكتاباته، فقال مرة - في معرض ذَمِّهِ للمعرضين عن نصوص الوحي، الْمُقَدِّمين عليها آراء الرجال: "أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السِّكة والخطبة، وما له حكم نافذ ولا سلطان"1.
وهكذا يتأثر ابن القَيِّم - رحمه الله - مرة أخرى بأحداث مجتمعه، فلا يجد إلا قلمه يصوِّر به بعض تلك الأحداث، لافتاً بذلك الأنظار إلى وضع خاطئ، ومرض يحتاج إلى علاج.
والواقع أن الأمر بالنسبة للخليفة لم يقف عند مجرد إهماله، وتدبير الأمر دونه، بل تعدَّى ذلك إلى إهانة السلطان له، بل واعتقاله وتشريده؛ فقد استهلت سنة (737هـ) "والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس) 2. ولم تستهل السنة التي بعدها إلا والخليفة المستكفي (منفيٌّ ببلاد قوص، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به ... "3. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
التنافس والتناحر بين سلاطين المماليك:
أما عن الأمراء والسلاطين الذين حكموا البلاد في تلك الفترة: فقد كانوا في حالة يرثى لها من التناحر، والتطاحن، والتنافس، والتقاتل فيما بينهم.
__________
1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص42) .
2 البداية والنهاية: (14/187) .
3 البداية والنهاية: (14/190) .
(1/45)
فإن هؤلاء المماليك - الذين كانوا أرقَّاء في خدمة السلاطين - قد وصل أكثرهم إلى مناصب مرموقة، وكثر اتخاذ الأمراء منهم، ومن ثَمَّ أصبح كل واحد منهم يتطلع إلى الجلوس على كرسي السلطة، ولا يرى لغيره ميزة في التقدم عليه، واعتلاء السلطة دونه.
فأخذ كل واحد منهم يقوِّي من أمر نفسه، ويكثر من المماليك حوله، حتى إذا سنحت له فرصة انقض على السلطان القائم فقتله، أو سجنه، أو نفاه، ثم يحل محله في حكم البلاد.
ولم يكن الطمع في السلطة وحده هو الدافع إلى التخلُّص من السلطان القائم، بل إن مجرد عدم رضى الأمراء عن السلطان، أو خوفهم من بطشه بهم، كان مسوِّغاً - كذلك - لإقصائه أو التخلص منه.
ومن يستعرض تاريخ تلك الدولة يجد من ذلك عجباً، إذ إن العَدْوَ على السلطان القائم، وقتله أبشع قتلة، لم يكن أمراً مستغرباً آنذاك، حتى إن كلَّ واحد منهم كان يتوقع أن يأتي دوره في أية لحظة، وكان لا يستبعد ذلك، فالأمراء الذين قتلوا المظفر قطز - ظلماً وعدواناً - قيل: إنهم لما قتلوه "حار الأمراء بينهم فيمن يُوَلُّون المُلْك، وصار كلُّ واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعاً ... " 1.
فقد اعتلى كرسيَّ السلطنة في الفترة (648 - 784هـ) - وهي ستة وثلاثون عاماً، هي فترة حكم دولة المماليك الأولى - تسعةٌ وعشرون حاكماً، قُتِل أكثرهم أو خُلِع، وقليل منهم توفي أو اعتزل2.
__________
1 البداية والنهاية: (13/236) ، حوادث سنة (658هـ) .
2 انظر: (التاريخ الإسلامي - العهد المملوكي) لمحمود شاكر: (ص 35 - 39) .
(1/46)
تلك هي أبرز السمات المميزة للناحية السياسية التي عاشتها تلك الدولة:
- أخطار خارجية محدقة بالدولة، تمثلت في حروب التتار والصليبيين ضد الدولة.
- ومناوشات وعداوات بين المماليك في مصر والملوك الأيوبيين في الشام، عقب قضاء المماليك على آخر ملوكهم.
- وتناحر وتقاتل بين سلاطين الدولة أنفسهم.
- مع ضياع سلطة الخليفة في وسط هذه الأحداث، وعدم تمكينه من القيام بأعباء الخلافة، أو تصريف شيء من أمور الدولة.
ولا يخفى ما خلَّفَتْه هذه القلاقل والاضطرابات من آثار على الناس في ذلك الوقت: من عدم الأمن والاستقرار، وارتفاع الأسعار وغلاء الأقوات، مع حرمان الناس من المشاركة في حكم بلادهم؛ إذ كان ذلك لطائفة المماليك دون غيرهم، إلى غير ذلك من الأوضاع السيئة التي كان لها أسوأ الأثر على حياة الناس حينذاك.
(1/47)
المبحث الثاني: الحالة الدينية
في ظل هذا الوضع السياسي المتردي، وهذه الظروف غير المستقرة، ساءت الحالة الدينية في البلاد، وضعف الوازع الديني في نفوس الكثيرين، وَاْرْتُكِبَت الكثير من المحرمات، وشاعت المنكرات.
ولقد كان الكثيرُ من الأمراء والسلاطين قدوةً سيئة في هذا الجانب، وذلك بما شانوا به أنفسهم من حياة اللهو والبذخ والانحلال والترف، فنجد أحدهم - وهو الملك المنصور - قد "صدر عنه من الأفعال التي ذكر أنه تعاطاها من شرب المسكر، وغشيان المنكرات، وتعاطي ما لا يليق به ... "1.
هذا إلى جانب سفك كل واحد منهم دم الآخر طمعاً في المنصب والسلطة كما تقدم.
ولقد انتشر حينذاك التعصب المذهبي، وأدى إلى كثير من الخلافات بين العلماء أنفسهم، فضلاً عن بقية الناس، حتى إن الجامع الأموي في دمشق كان يوجد به إمام لكل مذهب، ولكل إمام محراب، ويشير الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إلى شيء من الاختلاف في الجامع، فيقول: "وأمر الكاملُ في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحدٌ منهم المغرب سوى الإمام الكبير، لِمَا كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد، وَلَنِعْمَ ما فعل"2.
__________
1 البداية والنهاية: (14/204) حوادث سنة (742هـ) .
2 البداية والنهاية: (13/159) .
(1/49)
وكانت هذه الخلافات تؤدي في بعض الأحيان إلى الشحناء والقطيعة بين العلماء، حتى إن السلطان كان يتدخل في ذلك للإصلاح بينهم، ويَحْكِي ابن كثير - رحمه الله - موقفاً من هذه المواقف - وكان حاضره - فيقول: "وجلس نائبُ السلطة في صدر المكان، وجلسنا حوله، فكان أول ما قال: كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا، فصرنا نحن إذا اختلفتِ العلماءُ واختصموا فمن يصلح بينهم؟ وشرع في تأنيب من شنَّع على الشافعيّ" 1.
وقد كانت العقائد المختلفة المخالفة لعقيدة أهل السنة منتشرة حينذاك، وربما أدت إلى وقوع الخلاف والفتن أيضاً؛ ففي المحرم من سنة 716هـ (وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق، فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز، فأصلح بينهم) 2. كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله.
ولعله - رحمه الله - يشير بهذه الحادثة إلى الخلاف بين الأشعرية3 - الذين كانوا جمهور الشافعية وقتئذ - وبين الحنابلة أهل الحديث والأثر، فالخلاف بينهم في ذلك الوقت معروف، والنزاع بينهم
__________
1 البداية والنهاية: (14/332) .
2 البداية والنهاية: (14/78) .
3 وينسبون إلى أبي الحسن الأشعري (ت324هـ) ، ويثبتون لله سبع صفات فقط، وهي: العلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والحياة، وهذه الصفات قديمة قائمة بذاته، وأما صفات الأفعال، مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة فهي حادثة. ولهم غير ذلك من الاعتقادات التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة. انظر: الملل والنحل (1/119) ، ورسالة في الرد على الرافضة (ص166) .
(1/50)
مضطرم "زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة العقائد، واعتماد الأشاعرة على الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي في دراستها" 1.
ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - موقفه الواضح في هذه القضية، من: الانتصار لعقيدة أهل السنة والجماعة، والوقوف في وجه الأشاعرة، كما يتضح ذلك من مؤلفاته العديدة في هذا الصدد.
هذا عن النزاعات العقدية والمذهبية في ذلك الوقت، التي كانت - ولاشك - من عوامل الفوضى الدينية، والتفرق والاختلاف.
كما انتشرت في ذلك الوقت بعض الفرق الضالة التي تنتسب - كذباً - إلى الإسلام، مع شدة عداوتها وحربها لأهله، وعلى رأس هذه الفرق: الرَّافِضَة2، والنُّصَيْرِيَّة3 وغيرهما، وما كان لهذه الفرق
__________
1 الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص76) .
2 وسموا بذلك: لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج على هشام بن عبد الملك، فطعن عسكره في أبي بكر، فمنعهم من ذلك فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم: رفضتموني؟ قالوا: نعم. فيقي عليهم هذا الإسلام.
وهم فِرق عديدة، ويقولون بإمامة عليٍّ وتفضيله على سائر الصحابة، ويتبرءون من أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة، ومنهم من يسب الصحابة ويلعنهم، قبحهم الله. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (ص77) ، والفَرْقُ بين الفِرَق: (ص15– 17) .
3 وهم يُنْسبون إلى محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكري، وادَّعى النبوة، ثم ادَّعى الربوبية.
ومن اعتقاداتهم: أن الله كان يَحلُّ في علي، وأنه في اليوم الذي قلع فيه باب خيبر كان الله - تعالى عما يقولون - قد حلَّ فيه. ولهم غير ذلك من الاعتقادات الباطلة. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (ص91 - 92) ، والمذاهب الإسلامية- لمحمد أبي زهرة (ص94 - 95) .
(1/51)
من أثر في زعزعة الاستقرار الديني في المجتمع، والكيد للمسلمين، وقد تقدم ما فعلته الرافضة بالمسلمين أثناء غزو التتار.
ولقد كان هؤلاء الرافضة - ولله الحمد - يُقَابَلُون بالقتل والتنكيل عندما يُصرِّح أحدهم بكفره؛ ففي سنة (744هـ) "وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرَّفض الدال على الكفر ... ) 1. ووجد رجل آخر، اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي يسب الصحابة ويقول: كانوا على الضلالة، (فعند ذلك حُمِلَ إلى نائب السلطنة، وشهد عليه قوله: كانوا على الضَّلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه، وأحرقته العامة، قَبَّحَهُ الله"2.
ولم تكن النُّصَيْرِيَّة أخف شرّاً ولا أقل ضرراً من أولئك الرافضة، بل إنهم خرجوا في سنة (717هـ) عن الطاعة، وادَّعوا الألوهية لعليِّ، وكفَّروا المسلمين، ودخلوا مدينة (جَبَلَة) وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وسَبُّوا الشيخين، وخربوا المساجد واتخذوها خَمَّارَات إلى أن "جُرِّدَت إليهم العساكر، فهزموهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً… وقتل المهدي أضلهم"3.
وإلى جانب وجود هذه الفرق المعادية للإسلام والسنة وأهلها، وجدت في أوساط الناس البِدَعُ والخرافات، والاعتقاد في الأشخاص من
__________
1 البداية والنهاية: (14/222) ، حوادث سنة (744هـ)
2 البداية والنهاية: (14/325) ، حوادث سنة (766هـ) .
3 البداية والنهاية: (14/86) ، حوادث سنة (717هـ) .
(1/52)
المشعوذين والدجالين، وقد كان لانتشار فرق الصوفية حينذاك دورٌ كبيرٌ في شيوع هذه الخرافات والترويج لها، وزاد الأمر سوءاً: تشجيع بعض الأمراء لهم، بل والعناية بأمرهم، والإنفاق عليهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الاعتقاد فيهم؛ كما كان من أمر الظاهر بيبرس؛ إذ كان له شيخ اسمه الخضر بن أبي بكر العدوي، وكان الظاهر "يعظمه تعظيماً زائداً، وينزل إلى عنده إلى زاويته في الأسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره، ويكرمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحةٍ مطابقةٍ؛ إما رحمانيةٍ أو شيطانية ... " 1. وشيخ آخر اسمه ناصر الدين بن إبراهيم العثماني "كان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد، وَوَصَلَهُ منه افتقاد" 2.
كما انتشر الْمُنَجِّمُون، وكثر قصد الناس لهم، حتى كانت سنة (733هـ) "أمر السلطان بتسليم المُنَجِّمِين إلى والي القاهرة، فضربوا وحبسوا؛ لإفسادهم حال النساء" 3.
أما البدع التي سادت المجتمع في ذلك الوقت فكثيرة، كبدعة الوَقِيْد في المسجد الأموي بدمشق في ليلة النصف من شعبان، وذلك أن الناس يشعلون في هذه الليلة في المسجد قناديل زيادة عما فيه، ويعتقدون أنهم إن لم يفعلوا ذلك في عام مات السلطان، مع إحياءِ هذه الليلة، وفي سنة (751هـ) - عام وفاة ابن القَيِّم رحمه الله – "بطل الوقيد بجامع
__________
1 البداية والنهاية: (17/538 - 539) ، حوادث سنة (676هـ) .
2 البداية والنهاية: (14/66) ، حوادث سنة (711هـ) .
3 البداية والنهاية: (14/169) ، حوادث سنة (733هـ) .
(1/53)
دمشق، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة، وفرح أهل العلم بذلك وأهل الديانة، وشكروا الله -تعالى- على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد" 1.
كما سادت المجتمع ألوانٌ من الشركيات؛ كالتبرك بالأحجار والجمادات ونحو ذلك، من ذلك ما حكاه ابن كثير - رحمه الله - عن شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، من أنه في شهر رجب سنة (704هـ) : "راح الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه - ومعه حَجَّارون - بقطع صخرة كانت بنهر قَلُوطٍ تزار ويُنْذَر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن الناس شبهة كان شرُّهَا عظيماً" 2.
كما انتشرت المعاصي والمنكرات بين الناس: من شرب للخمر والحشيش، واحترافِ بعض النساء للبغاء وغير ذلك، حتى إن جماعة من مجاوري الجامع بدمشق جاءوا في سنة (758هـ) "إلى أماكن مُتَّهَمَةٍ بالخمر وبيع الحشيش، فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها، وأتلفوا شيئاً كثيراً من الحشيش وغيره"3.
بل قد وُجِدَ من الأمراء من يضمن هذه المنكرات والفواحش نظير
__________
1 البداية والنهاية: (14/247) ، حوادث سنة (751هـ) .
2 البداية والنهاية: (14/36) ، حوادث سنة (704هـ) .
3 البداية والنهاية: (14/269) ، حوادث سنة (758هـ) .
(1/54)
أجر معلوم يأخذه على ذلك، كما كان من حال سيف الدين قَبْجَق1 نائب دمشق؛ فإنه "ضَمِنَ الخَمَّارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجُعِلَت دار ابن جَرَادة … خَمَّارَة وحانة أيضاً، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهمٍ، وهي التي دمَّرته ومحقت آثاره"2.
ومن المنكرات التي سادت المجتمع أيضاً: الغناء والطرب، وقد أعلن ابن القَيِّم - رحمه الله - حرباً لا هوادة فيها على الغناء وأهله، وبَيَّنَ شَبَهَهُم، ودحض مزاعمهم في استحلال ذلك، حتى إنه أفرد لذلك مؤلفاً كما سيأتي، كما اعتنى بذلك في مؤلفاته الأخرى، وبخاصة (إغاثة اللهفان) ، وما ذلك إلا دليلٌ على شيوع هذا البلاء في زمنه، واستفحال أمره.
تلك هي أهم مظاهر الفساد الديني في ذلك الوقت، ولا شك أن مثل هذه البيئة وما فيها من مفاسد ومخالفات شرعية، من أكبر العوامل التي تُحَرِّكُ الدعاة المخلصين، والعلماء العاملين، للقيام بمجابهة هذه المنكرات، والتحذير منها، والتنبيه على خطرها، ومحاولة الأخذِ بأيدي الناس إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم.
ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب جهد مشكور؛ فإنه يُعَدّ واحداً من أبرز علماء هذه الأمة الذين حملوا راية الإصلاح الديني في ذلك العصر، ولا يزال صدى دعوته وأثرها يعمل عمله في الناس إلى يومنا هذا، وسيظل كذلك إن شاء الله.
__________
1 له ترجمة في البداية والنهاية: (18/107) ، حوادث سنة 710هـ، والدليل الشافي: (2/533) .
2 البداية والنهاية: (14/11) ، حوادث سنة (699هـ) .
(1/55)
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية
لا شك أن وضع الناس في المجتمع وما يسودهم من عادات وتقاليد، وما يحكم معاملاتهم وعلاقاتهم، يخضع - بصورة مباشرة - لما يعيشه هذا المجتمع من ظروف سياسية، داخلية كانت أم خارجية.
فالحروب المتتابعة التي تعرضت لها البلاد في تلك الفترة أدت إلى عدم الاستقرار في المجتمع، وكثرة الانتقال والترحال - الهجرة الداخلية - وذلك فراراً من خطر القتل، مع ما يصاحب ذلك: من فقدان المأوى، وتعطلِ الأعمال، وكساد التجارات، وقلة الأقوات.
ويُصَوِّرُ ابن كثير - رحمه الله - شيئاً من ذلك عندما عزم هولاكو على غزو دمشق، فيقول: "فانزعج الناصر - صاحب دمشق - لذلك، وبعثَ بحريمه وأهله إلى الكَرْك لِيُحَصِّنَهم بها، وخافَ أهل دمشق خوفاً شديداً - ولاسيما لَمَّا بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات - سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناسٌ كثيرٌ منهم ونهبوا" 1.
وما يقال عن أثر الحروب الخارجية، يقال - أيضاً - عن أثر السياسة الداخلية لحكام البلاد، وما كان بينهم من منازعات مستمرة.
كما أننا نلمح ارتباطاً وثيقاً - كذلك - بين حالة البلاد الدينية، والحالة الاجتماعية؛ فإنَّ الفَهْمَ الصحيح للإسلام، والتطبيق السليم لأحكامه، والالتزامَ الصادقَ بتعاليمه، كل ذلك له أثر طيب على أفراد
__________
1 البداية والنهاية: (13/228) .
(1/57)
المجتمع، وعاداتهم وتقاليدهم؛ فيسود المجتمع الاستقرار والأمن، ويعُمُّه الخير والرخاءُ.
وعلى العكس تماماً، فإن الانسلاخ من أحكام الدين وشرائعه، وتضييع تعاليمه وشعائره، من أهم أسباب شيوع الفوضى وعدم الاستقرار في المجتمع، وفساد الأخلاق، وضياع القِيَم.
أما عن أهم السمات التي ميَّزت حالة المجتمع، والأوضاع التي سادت أفراده، فإنها تتلخص فيما يلي:
أولاً: التفاوت الواضح بين طبقات المجتمع وفئاته، مع عدم المساواة بين أفراده.
فطبقة الحكام والأمراء في المقدمة، تحظى بكل الخيرات والنعم، وتستأثر بالإقطاعات الواسعة، وتحوز الأموال الطائلة، التي بلغت - على سبيل المثال - عند أحد الأمراء (ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار) من الذهب، عدا الأموال والأملاك والإقطاعات الأخرى، هذا ما كان يملكه الأمير سيف الدين بشتك1، وأمثاله كثيرون.
ثم تلي هذه الطبقة: طبقة الجنود من أتباعهم على اختلاف رتبهم ومقاماتهم، إذ كان الأمراء يولون هذه الفئة عناية فائقة، وذلك كسباً لولائهم، ليكونوا سنداً لهم عند نزول المحن.
ثم يلي هؤلاء: بقية فئات المماليك، الذين كانوا يرون لهم ميزةً على سائر أبناء الشعب أصحاب البلاد الأصليين.
__________
1 البداية والنهاية: (14/203) .
(1/58)
ثم تأتي بعد ذلك سائر فئات الشعب، يتقدمهم العلماء والفقهاء، وغيرهم من المثقفين، وقد كانت هذه الطبقة تحظى باحترام الأمراء والسلاطين أكثر من غيرها.
ثم في آخر هذا الترتيب الطبقي: عامة الناس من عمال، وفلاحين، وغيرهم من أصحاب الحرف الأخرى، الذين كانوا يشقون ويكدحون لراحة غيرهم مع ما هم فيه من الفقر والحرمان1.
ثانياً: تَعَرُّض الكثيرين من أبناء الشعب لألوان من الظلم: من ضرائب ومُكُوسٍ2 باهظة، وهضم للحقوق، وغير ذلك.
ففي شهر جمادى الأولى من سنة (711هـ) (قُرِّرَ على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس، لكل فارس خمسمائة درهم، وضُربت على الأملاك والأوقاف فتألم الناس من ذلك تَأَلُّمًا عظيماً) 3.
أما في سنة (712هـ) - بعد ذلك بعام - فقد "تكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالاً كثيرة، وصادر وضرب بالمقارع4، وأهان جماعة من الرؤساء" 5.
__________
1 ينظر حول ذلك: (العصر المماليكي في مصر والشام) : (ص312 - 325) .
2 جمع مَكْس، وهو الجباية، مصدر، ثم سُمِّي المأخوذ (مكساً) تسمية بالمصدر، وقد غلب استعمال المكس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلماً عند البيع والشراء. (المصباح المنير - مادة: مكس) وانظر: (لسان العرب - مادة: مكس) .
3 البداية والنهاية: (14/64) .
4 جمع مِقْرَعَة، وهي خشبة يُضرب بها، وكل ما قَرَعْتَ به، وهي أيضاً ما تُقرع به الدابة. (مختار الصحاح: قرع، والمعجم الوسيط 2/729) .
5 البداية والنهاية: (14/69) .
(1/59)
ويَحْكي الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في أحداث سنة (745هـ) أنه "دخل الشيخ أحمد1 الزُّرَعِيُّ على السلطان الملك الصالح، فطلب منه أشياء كثيرة: من تبطيل مظالم ومُكُوسات ... " 2.
ومن الحوادث التي وقعت إبَّان الغزو التتريّ، والتي ترسم لنا صورةً واضحةً عن مدى الظلم الواقع على أفراد الشعب، مع ما كان يتمتع به جنود المماليك من جاهٍ ونعمةٍ: ما حكاه ابن كثير رحمه الله: من أن التتار لما جاوزوا نهر الفرات واقتربوا من حلب عُقِد مجلس بين يدي المنصور بن المعز التركماني، "وحضر قاضي مصر بدر الدين السِّنْجَاريُّ3، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العهدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال: إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائص4 المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس - سوى آلات الحرب - بحيث لم يبق للجندي سوى
__________
1 أحمد بن موسى، ابو العباس الزُّرَعِيُّ، الشيخ الصالح، نزيل (زرع) من أعمال دمشق، كان من القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بمصالح الناس عند السلطان والدولة. (توفي 761هـ) .
(البداية والنهاية 18/615 - طبعة الدكتور/ التركي، والدليل الشافي 1/91) .
2 البداية والنهاية: (14/224) .
3 القاضي بدر الدين الكردي السِّنْجَاريُّ، باشر القضاء بالديار المصرية مراراً، توفي سنة (663هـ) . (البداية والنهاية 17/463) .
4 جمع حياصة، والحياصة: سير طويل يُشَدُّ به حزام الدابة. (لسان العرب: ص1070، مادة: حيص) .
(1/60)
فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذٍ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم ... " 1.
ومثل ذلك: موقف الإمام النووي - رحمه الله - حين أَخَذَ الظاهر بيبرس موافقة علماء الشام على أخذ مال من الرعية يستنصر به على قتال التتر، وامتنع النووي عن الكتابة له بذلك، فسأله عن سبب امتناعه، فقال له: أنا أعرف أنك كنت في الرِّقِّ للأمير بندقدار، وليس لك مالٌ، ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، وكل مملوك له حياصةٌ من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حقٌّ من الحُلِيِّ، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مَمَاليكُكُ بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحُلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية ... " 2.
وفي هاتين القصتين أيضاً: بيان لما كان يتمتعُ به الأمراء ومماليكهم من نعمة وأموال دون سائر الناس، كما سبق التنبيه على ذلك.
ثالثاً: انتشار بعض الأمراض الاجتماعية الخطيرة، والعادات السيئة بين أفراد المجتمع، ومن أبرزها:
أ- الرشوة في الولاية وغيرها:
ويبدو أن هذا الأمر قد استشرى في المجتمع، وعمَّت به البلوى، حتى كانت سنة (712هـ) "وفيها قدم كتاب من السلطان إلى دمشق:
__________
1 البداية والنهاية: (13/228 - 229) .
2 حسن المحاضرة: (2/105) .
(1/61)
أن لا يُوَلَّى أحدٌ بمالٍ ولا برشوة، فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل… وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة رحمه الله" 1.
ومن ذلك أيضاً: ما حكاه الحافظ ابن كثير في أحداث (714هـ) ، فقال: "وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قَدِم القاضي بدر الدين بن الحداد2 من القاهرة متولِّياً حِسْبَة دمشق، فَخُلِع عليه عوضاً عن فخر الدين سليمان البُصْراويِّ3، عُزِلَ، فسافر4 سريعاً إلى البَرِّيَّة ليشتري خيلاً للسلطان يُقَدِّمُهَا رشوة على المنصب المذكور، فاتفق موته في البَرِّيَّة"5.
ب- الحيل المحرمة التي اتخذت وسيلة للتخلص من الأحكام الشرعية، والتلاعب بالدين.
__________
1 البداية والنهاية: (14/68) .
2 هو: الإمام العالم الفقيه، أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمديّ الحنبليّ. سمع الحديث واشتغل وحفظ (المحرر) في مذهب الإمام أحمد. (ت724هـ) . له ترجمة في: البداية والنهاية: (18/248) ، والدرر الكامنة (4/164) .
3 سليمان بن عثمان البُصراوي، والي الحسبة بالشام، وكان شاباً كريم الأخلاق، حسن الشكل، ت (714هـ) في البرية كما في الخبر الذي ساقه ابن كثير أعلاه. (انظر: البداية والنهاية 18/103، 138) .
4 يعني: البصراوي المعزول.
5 البداية والنهاية: (14/73) حوادث سنة (714هـ) .
(1/62)
وعلى رأس الحيل التي انتشرت آنذاك: التحليل، وأُعلن ذلك حتى صارت له حوانيت يَتَرَزَّقُ منها أصحابها.
وقد أعلن ابن القَيِّم رحمه الله الحرب على هذه الحيلة الشنيعة، فلم يترك مناسبة إلا بين شَرَّها، وحكم الشرع فيها، وخطرها على المجتمع، ويصف - رحمه الله - هذه العادة القبيحة، والحيلة الشنيعة التي انتشرت في مجتمعه فيقول: "فلو شاهدتَ الحرائر الْمَصُوناتِ، على حوانيت المحللين متبذلات، تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجازر ... حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت، نهضا واستتبعها خلفه للوقت، بلا زفاف ولا إعلان، بل بالتَّخَفِّي والكتمان"1.
ج- سفور النساء وتبرجهن، وانتشار ذلك، وعموم الشر بسببه: إلى أن "نادى مناد من جهة نائب السلطنة - حرسها الله تعالى - في البلد: أن النساء يمشين في تَسَتُّر، ويلبسن أُزْرهنَّ إلى أسفل من سائر ثيابهن، ولا يُظْهرن زينة ولا يداً، فامتثلن لذلك ولله الحمد والْمِنَّة"2.
رابعاً: انعدام الأمن في أنحاء المجتمع.
وقد أدى ذلك إلى انتشار السرقة والنهب وقطع الطريق، فقد أمر نائب السلطان مرة "بجماعة انتهبوا شيئاً من الباعة، فقطعوا أحد عشر منهم، وسمر عشرة تسميراً، تعزيراً وتأديباً"3.
__________
1 إغاثة اللهفان: (1/268) .
2 البداية والنهاية: (14/293) .
3 البداية والنهاية: (14/237) .
(1/63)
وفي سنة (746هـ) وفي عشية يوم الاثنين رابع عشر جمادى الأولى (قطع نائب السلطنة - ممن وجب قطعه في الحبس - ثلاثة عشر رجلاً، وأضاف إلى قطع اليد قطع الرِّجْلِ من كل منهم، لِمَا بلغه أنه تكرر من جناياتهم) 1.
ولقد كان يكثر السطو والنهب والسرقة في أوقات الفتن والقلاقل والاضطرابات الداخلية، أكثر من غيرها من الأوقات.
خامساً: نزول الْجَدْبُ والقحط والجفاف بالمجتمع، ونقصُ السلع والأقوات، وغلاء الأسعار.
وكثيراً ما كان يحدث ذلك، حتى إن بعض السلع بيعت بأضعاف أضعاف ثمنها الحقيقي؛ فإنه في شهر ذي الحجة من سنة (743هـ) (غلا السعر جداً، وقل الخبز، وازدحم الناس على الأفران زحمة عظيمة، وبيع خبر الشعير المخلوط بِالزُّوَانِ2 والنُّقَارَةِ3 ... فإنَّا لله وإنا إليه راجعون) 4.
وفي سنة (748هـ) (عُمِلَت ليلة النصف على العادة من إشعال القناديل ولم يشعل الناس لما هم فيه من الغلاء وتأخر المطر وقلة الغَلَّة) 5.
__________
1 البداية والنهاية: (14/228) .
2 الزُّوان والزِّوان: ما يخرج من الطعام فيرمى به ... وقيل: هو حب يخالط البر. (لسان العرب: ص1983، مادة: زون) .
3 النُّقَارة: ما يتساقط من نقر الحجارة والخشب. (المعجم الوسيط - نقر) .
4 البداية والنهاية: (14/220) .
5 البداية والنهاية: (14/235) .
(1/64)
ولا شك أن هذا الغلاء والضَّنَك، والنقص في الأقوات والأرزاق، يرجع إلى إغراق الناس في المعاصي، وتضييعهم حقوق الله سبحانه، وتعديهم حدوده.
سادساً: انتشار الأمراض والأوبئة الفَتَّاكة التي كانت تهلك الآلاف من الناس.
ولعل أشد ما رأته البلاد من ذلك، هو الطاعون العام - أو الطاعون الأعظم - في سنة (749هـ) ؛ ففي ربيع الأول منه (كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين، وزاد الأموات كل يوم على المائة… وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم) 1.
وفي شهر رجب من السنة نفسها (بلغ الْمُصَلَّى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين وأكثر من ذلك، خارجاً عمن لا يؤتى بهم إليه من أرجاء البلد ... أما حواضر البلد وما حولها فأمرٌ كثيرٌ، يقال إنه بلغ ألفاً في كثير من الأيام) 2.
(واستهل شهر شعبان والفناء في الناس كثيرٌ جداً، وربما أَنْتَنَت البلد) 3.
وكان ذلك قبل وفاة ابن القَيِّم - رحمه الله - بعامين.
ولعل شدة هذا الوباء، وعظم أمره، من العوامل التي جعلت ابن القَيِّم - رحمه الله - يؤلف كتاباً في (الطاعون) كما ستأتي الإشارة إليه4 عند سرد مؤلفاته.
__________
1 البداية والنهاية: (14/237) .
2 البداية والنهاية: (14/239) .
3 البداية والنهاية: (14/240) .
4 انظر: ص (250) .
(1/65)
ويربط ابن القَيِّم - رحمه الله - بين هذه الأوبئة الفتاكة وبين شيوع بعض المنكرات التي تسود المجتمع، وبخاصة: تبرج النساء واختلاطهن بالرجال - وقد مضت الإشارة إلى شيء من ذلك في المبحث الماضي - فيقول رحمه الله: "ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة ... واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة" 1.
تلك هي أبرز الأوضاع التي سادت المجتمع في عصر ابن القَيِّم، والتي تَأَثَّر بها، وسَخَّر جهده ووقته وعلمه لبيان مخاطرها، وطرق علاجها، ووضع الحلول لها، وذلك كله في ضوء ما جاءت به الشريعة المطهرة، وأرشد إليه كتابُ الله وسُنَّةُ رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 الطرق الحكمية: (ص281) .
(1/66)
المبحث الرابع: الحالة العلمية والثقافية
بالرغم من أن الحياة السياسية، والدينية، والاجتماعية في عصر ابن القَيِّم كانت مظلمة ومضطربة في غالبها كما مضى، إلا أن الحالة العلمية للبلاد كانت مشرقةً إلى حد كبير.
فإنه لا يخفى على المتتبع للحركة العلمية وسيرها في العالم الإسلامي: أن مصر والشام قد ازدهرت فيهما الحياة العلمية في تلك الفترة، وأصبحتا مقصداً لكثير من أهل العلم الوافدين من سائر أقطار العالم الإسلامي، ولا أدلَّ على صدق ذلك من هذا التراث العلمي الهائل الذي أَثْمَرَتْهُ جهود العلماء في تلك الحِقْبَة.
ويشير الحافظ الذهبي - رحمه الله - إلى ازدهار الحركة العلمية، وكثرة العلم في دمشق - أيام ابن القَيِّم وشيوخه - فيقول: "وتَنَاقَصَ العلم بها في المائةِ الرابعة والخامسة، وكَثُرَ بعد ذلك، ولاسيما في دولة نور الدين ... ثم كثر بعد ذلك بابن تَيْمِيَّة، والمزي وأصحابهما ولله الحمد"1.
عوامل ازدهار الحركة العلمية آنذاك:
هناك بعض العوامل التي كان لها دورٌ كبيرٌ في هذا الازدهار العلمي، فمن أهم تلك العوامل:
1- رعاية سلاطين الدولة وملوكها للعلم وأهله، وتشجيعهم
__________
1 الأمصار ذوات الآثار: (ص162 - 166) .
(1/67)
للنهضة العلمية؛ فقد كان الملك الأشرف - رحمه الله - (شَهْماً، شُجَاعاً كَرِيماً جواداً لأهل العلم، لا سيما أهل الحديث … وقد بنى لهم دار حديثٍ بالسفح) 1.
وأما الملك الكامل: فإنه كان (يحب العلماء ويَسْأَلهم أسئلةً مشكلةً) 2.
بل إنه قد وجد من سلاطين المماليك وأمرائهم من اشتغل بالفقه والحديث، حتى تصَدَّر بعضهم للإقراء والتدريس3. وقد كان للملك الكامل (كلام جيد على صحيح مسلم) 4.
2- سقوط الخلافة الإسلامية، وضياع بغداد - عاصمة الخلافة الإسلامية - وخرابها، الأمر الذي أدى إلى انتقال النشاط العلمي إلى مصر والشام، وَحَلَّت القاهرة - آنذاك - محل بغداد في تَبَوُّء هذه المكانة.
3- ذهاب صفوة علماء الأمة الإسلامية ومفكريها في أثناء هذه الهجمة التترية الغاشمة، وكذا ضياع كثير من الكتب والمؤلفات القيمة في تلك الهجمة، الأمر الذي وَلَّدَ شعوراً لدى علماء الأمة - في ظل دولتهم الجديدة - بضرورة تحمل المسؤولية في إحياء ما فقدته أمتهم من تراث ومعرفة، فتنافسوا - لأجل ذلك - في التأليف والإبداع.
__________
1 البداية والنهاية: (13/158) .
2 البداية والنهاية: (13/160) .
3 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص229 - 230) .
4 البداية والنهاية: (13/160) .
(1/68)
4- وقد يكون من أسباب هذه النهضة العلمية أيضاً: انتقال كثير من علماء الإسلام ومفكريه إلى مصر والشام آنذاك، فقد جذبتهم تلك النهضة العلمية المرعية من حكام البلاد، وذلك الجو العلمي المشجع، فكان لهم - ولا شك - دور فعال في إثراء الحياة العلمية في ذلك الوقت.
تلك من أبرز العوامل التي لعلها ساهمت بدور هام في تلك النهضة العلمية في مصر والشام آنذاك.
مظاهر ازدهار الحركة العلمية وتقدمها آنذاك:
أما عن أهم مظاهر الحركة العلمية وازدهارها فيتمثل فيما يلي:
أولاً: كثرة معاهد العلم ودوره.
وقد اهتم بإنشائها ورعايتها الملوك والسلاطين وغيرهم من الأعيان والموسرين، فكانوا يبنون تلك الدور ويقفون الأوقاف للإنفاق على مدرسيها، وطلابها، وخدَّامها، وقد تمثلت هذه المعاهد والدور فيما يأتي:
أ- المدارس:
لقد كان للمدارس في ذلك الوقت دور فعال في خدمة العلم وطلابه، وتخريج نخبة من خيرة العلماء آنذاك، وذلك أن تلك المدارس كان يقوم عليها أكابر علماء الوقت، والصفوة منهم في كل فن، مع تفرغ طلابها تفرغاً كاملاً لطلب العلم وتحصيله، إذ كانت تجري عليهم الرواتب والأرزاق، مما أتاح لهم فرصة أكبر للتفرغ لتحصيل العلم، فتخرج من هذه المدارس علماء جهابذة.
(1/69)
ولم يكن حضور الدروس بهذه المدارس قاصراً على عوام الطلبة، بل ربما حضرها كبار الناس والأعيان، بل والعلماء، من ذلك ما يحكيه ابن كثير - رحمه الله - عن المدرسة الشامية البرَّانِية، وأنه لما درَّس فيها القاضي جمالُ الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي "حضر عنده القضاة والأعيان وجماعة من الأمراء والفقهاء" 1.
وقد كان من هذه المدارس بالشام آنذاك عدد كبير، وسأكتفي بالتعريف بمدرستين فقط من مدارس دمشق، وهما: المدرسة الْجَوزِيَّة، والمدرسة الصَدْرِية، وذلك لما لابن القَيِّم - رحمه الله - من علاقة بهما.
1- المدرسة الْجَوزِيَّة:
وهي منسوبة إلى واقفها: محي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين ابن أبي الفرج بن الجوزي، المولود (580هـ) . وقد كان من أهل العلم والفضل، وعظ في موضع أبيه بعد وفاته فأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدماً في المناصب حتى وليَ أستاذ دار الخلافة، ثم قتل مع الخليفة المستعصم بالله على يد التتار - قبحهم الله - سنة (656هـ) 2.
قال عنها الحافظ ابن كثير - رحمه الله –: "وهي من أحسن المدارس"3. وقال الشيخ بكر أبو زيد: "وهي من أعظم مدارس الحنابلة بدمشق الشام"4.
__________
1 البداية والنهاية: (14/228) .
2 البداية والنهاية: (13/223 - 224) .
3 البداية والنهاية: (13/224) .
4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص12) .
(1/70)
وقد كان والد ابن القَيِّم - رحمه الله - قيِّماً على هذه المدرسة، وقد أمَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - للصلاة بها كما سيأتي.
ولا يزال محل هذه المدرسة معروفاً حتى الآن بدمشق حي (البزورية) الذي كان يعرف قديماً بسوق القمح1، ثم اختلسَ جيرانها مُعْظَمَها وبقيت منها بقية، ثم صارت محكمة في سنة (1327هـ) 2، ثم أقفلت مدة إلى أن فتحتها جمعية الإسعاف الخيري وجعلتها مدرسة لتعليم الأطفال. وقد احترقت في أول الثورة السورية ضد الفرنسيين، ثم أعيد بناؤها مرة أخرى3.
ولكنها لم تعد مدرسة بعد إعادة بنائها، وإنما (جُدِّدَ مكانها مخازن ومُصَلَّى بسيط) كما يقول محقق كتاب (الدارس في تاريخ المدارس) 4. ويؤكد ذلك محقق (زاد المعاد) 5 فيقول: "ولم تزل كذلك - يعني محترقة - حتى أعمرت حوانيت، وجُعِلَ فوقها مسجد صغير تقام فيه بعض الصلوات إلى يومنا هذا".
فتبين من ذلك: أن هذه المدرسة لم يعد باقياً منها إلا مكانها فقط.
__________
1 وتسميته بذلك عرفت قبل عهد ابن كثير رحمه الله، فإنه قال في أحداث سنة (728هـ) : "وقد كان سوق البزروية اليوم يسمى سوق القمح". (البداية والنهاية: 14/138) .
2 منادمة الأطلال: (ص227) .
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص13) .
(2/29) .
(1/15) .
(1/71)
2- المدرسة الصدرية:
نسبة إلى واقفها: صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مُؤمَّل التنوخي المغربي، ثم الدمشقي، الحنبلي، "أحد المعدلين، ذوي الأموال والمروءات، والصدقات الدارّة البارة". كما يقول ابن كثير رحمه الله، وقد وقفها للحنابلة، وكانت وفاته سنة (657هـ) 1.
وقال صاحب (منادمة الأطلال) 2: "كانت بدرب يقال له: دَرْب الرَّيْحَان، بجوار تُرْبة القاضي جمال الدين المصري، ويؤخذ من كلام الذهبي: أن محلها كان داراً للواقف، فجعلها مدرسة ووقف لها أوقافاً ودُفِن بها. قلت: وتربة الجمال المصري هي عند القبور التي يزعم الناس: أن من جملتها قبر معاوية، ولا مدرسة هناك اليوم. والْمُحَقَّق: أن الصَّدْرِية مُحِيت آثارها وصارت دُوراً".
وقد دَرَّسَ بهذه المدرسة ابن القَيِّم - رحمه الله - كما سيأتي عند ذكر وظائفه، وكذا درَّس ولداه: عبد الله، وإبراهيم، كما سيأتي بيان ذلك عند الترجمة لهما.
ب- الجوامع:
لم تكن الجوامع تقل أهمية عن المدارس في الإسهام في ازدهار الحركة العلمية آنذاك.
وما قيل عن اهتمام الملوك والأمراء ببناء المدارس، ورعاية أمرها،
__________
1 البداية والنهاية: (13/229) .
(ص239) .
(1/72)
والإنفاق عليها، يقال مثله بالنسبة للجوامع والمساجد التي كانت كثيرة منتشرة في ذلك العصر بدمشق.
ويحدثنا ابن كثير -رحمه الله- عن اهتمام السلاطين ببناء الجوامع، فيقول في أحداث سنة (632هـ) : "فيها خرَّب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطيء وخمور ومنكرات متعددة، فَهَدَمَه وأمر بعمارة جامع مكانه، سمي: جامع التوبة"1.
ويقول في أحداث سنة (717هـ) : "وفي صفر شُرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر ... على نهر بانياس بدمشق"2.
وأما عن أشهر الجوامع بدمشق في ذلك الوقت فهو: (الجامع الأموي) ويعرف أيضاً بـ (جامع بني معاوية) ، وإذا أُطْلِقَ (جامع دمشق) فلا يراد إلا هو، كما يَسْتَعمل ذلك كثيراً مؤرخو هذه الفترة، وهو من أعظم جوامع دمشق.
وقد كان لهذا الجامع في عصر ابن القَيِّم أثرٌ كبيرٌ في الحركة العلمية، ويذكر صاحب (منادمة الأطلال) 3 أنه كان بهذا الجامع:
__________
1 البداية والنهاية: (13/153) .
2 البداية والنهاية: (14/83) .
(ص: 363) .
(1/73)
- عدة مدارس، منها: الغزالية، والأسدية، والقوصية، والسيفية وغيرها.
- وكان له تسعة أئمة.
- وإحدى عشرة حلقة للتدريس في الفنون المختلفة.
- وثلاث حلقات للاشتغال بالحديث.
- وكان به بيت للخطابة، وبه خزانة للكتب.
ويذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - شيئاً من النشاط العلمي، ومجالس الوعظ في هذا الجامع، وذلك في مناسبات عديدة من كتابه (البداية والنهاية) ، حتى إنه يذكر أيضاً أخبار عمارته وصيانته1، وشيئاً من البدع التي كانت فيه وأُبْطِلَت بفضل الله ومَنِّه2، إلى غير لك من الأمور التي تدل بوضوح على عظم المكانة العلمية والدينية لهذا الجامع آنذاك.
ومن الأخبار العلمية التي أشار إليها ابن كثير في هذا الجامع: ما ذكره في ترجمة الشيخ محب الدين عبد الله بن أحمد المقدسي الحنبلي3، من أنه (كانت له مجالس وعظ من الكتاب والسنة في الجامع الأموي) 4.
__________
1 انظر مثلاً: البداية والنهاية: (14/134، 201) .
2 انظر مثلاً: ما تقدم من كلام لابن كثير على إبطال بدعة الوقيد في الجامع (ص53) .
3 العابد الناسك الإمام، سمع الكثير وقرأ بنفسه، وانتفع به الناس، وكان له صوت طيب بالقراءة، وعليه سكينة ووقار. ت (737هـ) .
له ترجمة في البداية والنهاية: (18/396) ، والدرر الكامنة: (2/348) .
4 البداية والنهاية: (14/189) .
(1/74)
ويقول عن الشيخ إبراهيم بن المحب1: "كان يحدث بالجامع الأموي ... وكان مجلسه كثير الجمع لصلاحه وحسن ما كان يؤديه من المواعيد النافعة"2. إلى غير ذلك من أخبار هذا الجامع، التي توجد منثورة في الكتب التي تناولت الأحداث التاريخية الإسلامية، خاصة في البيئة الدمشقية.
هكذا كانت المدارس والجوامع منتشرة في تلك الفترة بشكل ملحوظ، مع قيامها بواجبها في تخريج العلماء، ونشر المعرفة والعلوم النافعة على أتم وجه، فكانت بذلك عنواناً صادقاً على ازدهار الحركة العلمية آنذاك.
ثانياً: كثرة المؤلفات النافعة القيمة في ذلك العصر.
فقد كان من مظاهر ازدهار الحركة العلمية - أيضاً - واتساع نطاقها، وعظم شأنها: تلك المؤلفات النافعة القيمة التي أنتجتها جهود العلماء في تلك الفترة.
فلقد كانت تلك الفترة التي عاش فيها ابن القَيِّم - رحمه الله - فترة ذهبية في حياة الأمة الإسلامية، من حيث وفرة الإنتاج العلمي وغزارته، مع تنوع الفنون التي تناولتها المؤلفات آنذاك.
__________
1 إبراهيم بن أحمد بن المحب، أبو إسحاق المقدسي، طلب الحديث وقتاً، وسمع جملة، توفي رحمه الله سنة (749هـ) في الطاعون العام. له ترجمة في البداية والنهاية: (14/239) ، والدرر الكامنة: (1/9) .
2 البداية والنهاية: (14/239) حوادث سنة (749هـ) .
(1/75)
ولم تكن هذه الحصيلة المباركة من هذه المؤلفات، إلا نتيجة لما زخر به ذلك العصر من علماء أفذاذ، وجهابذة حفاظ: في الحديث، والفقه، والتفسير، واللغة، والتاريخ وغير ذلك، ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - واحداً من أعلام هذا العصر المبارك، الذين أَمَدُّوا المكتبة الإسلامية بقدر هائل من المؤلفات النافعة في شَتَّى الفنون.
ولقد اتسمت مؤلفات ذلك العصر - إلى حد كبير - بالشمول والجمع والاستيعاب.
فوجدت في ذلك العصر كتب الشروح الحديثية، كـ (شرح البخاري) لقطب الدين الحلبي (ت735هـ) ، و (شرح الترمذي) لابن سيد الناس (ت734هـ) وكلاهما لم يكمل.
ووجدت كتب الرجال، وعلى رأسها (تهذيب الكمال) للحافظ الْمِزِّي (ت742هـ) ، و (الميزان) للحافظ الذهبي (ت748هـ) .
وكذا وجدت كتب الأطراف الحديثية، وأهمها في ذلك العصر: (تحفة الأشراف) للحافظ الْمِزِّي.
ووجدت الكتب التاريخية التي جمعت حوادث تلك الفترة وتواريخها وما قبلها، وعلى رأسها (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (ت774هـ) - تلميذ ابن القَيِّم - رحمهما الله تعالى.
كما أُلِّفَت كتب جامعة في اللغة، وأهمها: (لسان العرب) للعلامة ابن منظور (ت711هـ) . إلى غير ذلك من المؤلفات الكثيرة النافعة.
ولعل ابن القَيِّم - رحمه الله - يكون قد أسهم بمؤلفات جامعة
(1/76)
نافعة في تلك الفترة، وذلك بكتابه النافع: (تهذيب سنن أبي داود) ؛ إذ إنه بَسَطَ فيه الكلام في مواضع عديدة بسطاً واسعاً، وكذلك كتابه (زاد المعاد) الذي يعد مرجعاً متكاملاً في السيرة النبوية، والأحكام الفقهية وغير ذلك.
وقد وجدت - إلى جانب ما تقدم - بعض المختصرات، وكذا كتب النكت والتعليقات، إلى جانب ما وُضِعَ في بعض العلوم من منظومات، إلى غير ذلك من فنون التصانيف المختلفة.
تلك هي أهم مظاهر النهضة العلمية في تلك الفترة التي تَمَثَّلَت في:
- دور العلم ومعاهده الكثيرة في مصر والشام على وجه الخصوص.
- ثم في هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين خَرَّجَتْهُم تلك المعاهد.
- ثم في ذلك التراث الخالد، وتلك المؤلفات النافعة التي خَلَّفَها علماء تلك الفترة، والتي لا يزال الانتفاع بها مستمراً إلى يومنا هذا.
وبعد، فهذه هي أوضاع العصر الذي عاش فيه ابن القَيِّم وأحواله، وتلك هي ظروفه: السياسية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية.
وقد ظهر أن الحالة العلمية للبلاد في تلك الفترة كانت أحسن تلك الأحوال كلها، كما ظهر لنا أيضاً: أثر هذه الأحوال مجتمعة على نهج ابن القَيِّم وتوجهاته: في دعوته، وكتاباته؛ فلقد أثرت تلك الأحوال الْمُتَرَدِّية على المنهج الذي سلكه ابن القَيِّم - رحمه الله - في دعوته الإصلاحية، وَأَثَّرَ ذلك بالتالي على مؤلفاته والموضوعات التي تناولتها تلك
(1/77)
المؤلفات، تماماً كما كان للحالة العلمية - على وجه الخصوص - أثر طيب على شخصيته وتكوينه العلمي.
وإنني أود في نهاية حديثي عن الأحوال المميزة لعصر ابن القَيِّم رحمه الله، أن أؤكد أمراً مهماً، وهو: أنه بالرغم مما غلب على تلك الأحوال من سوءٍ في عهد الحكم المماليكي، إلا أنه وجدت جوانب حسنةٌ وصورٌ مشرقةٌ في تاريخ تلك الدولة، فمن ذلك:
- تلك الغيرة الدينية على حرمات الإسلام ومُقَدَّسَاتِه، التي كانت - بتوفيق الله وتأييده - وراء دفع خطرين عظيمين عن الأمة الإسلامية، وهما: خطر التتار وخطر الصليبين.
- الغيرة على حدود الله، ففي أحيان كثيرة كانوا يواجهون المفسدين - على اختلاف أنواعهم - فَيُنْكِّلون بهم، ويطبقون الحدود الشرعية عليهم، وقد مضى ذكر شيء من ذلك.
- احترامهم للعلماء - في الكثير الغالب - وتوقيرهم، والنزول عند آرائهم، وعدم قضاء كثير من الأمور المهمة إلا في حضرتهم، مما كان له أكبر الأثر في قيام العلماء بدور مهم في تلك الفترة.
- رعايتهم للعلم وأهله، حتى أثَمْرَ ذلك الاهتمام هذه النهضة العلمية التي قدمنا الحديث عنها.
(1/78)

==========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الفصل الثاني: حياة ابن القيم
المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده.
...
المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده
1- اسمه، ونسبه، وكنيته، ولقبه:
هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز، الزُّرَعِي الأصل، ثم الدمشقي، الحنبلي، المشهور بابن قَيِّم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله.
وقد اتفقت أكثر المصادر على الوصول إلى جده الثالث (حريز) 1، بينما وقف بعضها عند جده الأول (أيوب) 2.
وقد زاد الشيخ بكر أبو زيد في اسمه جَدّاً رابعاً، فقال: " ... ابن حريز بن مكي زين الدين". وذكر الشيخ أنه قد تحصل له ذلك من ترجمة أخي ابن القَيِّم عبد الرحمن في (الدرر الكامنة) ، حيث زاد فيه هذه الزيادة3.
وأما أبوه: فالجميع ذكروا أنه (أبو بكر) ، لم يسمه أحد بغير ذلك، فعلى هذا تكون كنيته اسمه. ويؤكد ذلك: أن ابن القَيِّم نفسه في
__________
1 انظر: الوافي بالوفيات: (2/270) ، والذيل على طبقات الحنابلة: (2/447) ، والرد الوافر: (ص68) ، والدرر الكامنة: (4/21) .
2 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، والبداية والنهاية: (14/246) ، والنجوم الزاهرة: (10/249) .
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 7 - 8) . وانظر الدرر الكامنة: (2/434) .
(1/81)
قصيدته الميمية في التضرع1لم يسم أباه إلا بأبي بكر، بل كان يكتب ذلك بخطه2.
وأما ضبط (حريز) - جده الأعلى-: فقد استظهر الشيخ بكر أبو زيد أنه: بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين، وبعدهما ياء منقوطة باثنتين من تحت، ثم الزاي المعجمة في آخره، على وزن (فَعِيل) ، وأن هذا الضبط هو الأكثر والأشهر على ألسنة أهل العلم3.
وأما (الزُّرَعِيُّ) : فنسبة إلى قرية (زرع) وقد ذكر ياقوت في (معجم البلدان) 4 - نقلاً عن أبي القاسم الدمشقي-: أنها كانت تسمى (زُرَّا) ، فقال: "علي بن الحسين. .. الزُّرِّي الإمام، من أهل زُرَّا، التي تدعى اليوم: زرع، من حوران"5.
فَعُلِم من ذلك: أنها كانت في القديم تعرف بـ (زُرَّا) وكانت النسبة إليها: الزُّرِّي، ثم عرفت بعد بـ (زُرَع) فصار المنسوب إليها يقال له: (الزُّرَعِيُّ) .
__________
1 انظر أبياتاً منها: (ص 110) .
2 انظر: صورة خطه في مقدمة (روضة المحبين) بتحقيق الأستاذ أحمد عبيد: ص/ض.
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص7) .
(3/135) .
5 كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة، ذات قرى كثيرة ومزارع، وتقع حوران في جنوبي دمشق، وهي المعروفة الآن بمحافظتي: درعا، والسويداء. معجم البلدان: (2/317) ، ومعالم وأعلام في بلاد العرب: (1/351) .
(1/82)
وأفاد الدكتور أحمد عبيد: أن (زرع) هذه هي التي تعرف اليوم بـ (إِزْرَع) 1. ويوافق الأستاذ أحمد قدامة الأستاذ أحمد عبيد على ذلك، ويزيد الأمر إيضاحاً، فيقول عند كلامه على (إزرع) : "بلدة في محافظة درعا2، هي مركز منطقة إزرع، ومركز الناحية، تبعد عن درعا 32كم، وعن دمشق 96كم، كانت قديماً تسمَّى: (زرافة) ثم: (زرع) . سكانها: 3226 نسمة"3.
فتلخص من ذلك كله: أن هذه القرية التي ينسب إليها ابن القَيِّم: كانت قديماً تسمى: (زرا) - وزرافة على كلام الأستاذ أحمد قدامة - ثم عرفت بعد بـ (زرع) ، ثم أصبحت الآن عند العوام: (إِزْرَع) .
ولكن المؤكد عندنا: أنها في أيام ابن القَيِّم - رحمه الله - وإلى آخر حياته لم تكن تعرف إلا بـ (زرع) ؛ فقد ذكر ابن كثير -رحمه الله– في أحداث سنة (748هـ) : أنه نزل المطر، وامتلأت الأودية والغدران، "وامتلأت بركة زرع بعد أن لم يكن فيها قطرة"4. كما أن جماعة كثيرين من أهل العلم قد عرفوا بهذه النسبة في عصر ابن القَيِّم وأيامه5.
وقد وقعت زيادة في نسبته، وذلك في ترجمة أخيه عبد الرحمن، حيث قال صاحب (الجوهر المنضد) 6: " ... ابن أيوب بن سعد بن حريز اليمامي، الزُّرَعِي، ثم الدمشقي".
__________
1 مقدمة (روضة المحبين) : (ص/ع) .
2 راجع الكلام الماضي قبل قليل عن (حوران) .
3 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/29) .
4 البداية والنهاية: (14/236) .
5 انظر مثلاً: البداية والنهاية: (14/128، 129، 224، 225) .
(ص 57) .
(1/83)
ولم أر أحداً من الذين ترجموا له ذكر في نسبته (اليمامي".
وأما شهرته - رحمه الله - بابن قَيِّم الجوزية: فقد أجمعت على هذه الشهرة كل المصادر التي ترجمته، وبها عُرِف بين أهل العلم قديماً وحديثاً.
وأما عن سبب هذه الشهرة وأصلها: فلأن والده كان قَيِّماً1 على المدرسة (الجوزية) 2 التي كان ابن القَيِّم إمامها.
ومع أن وظيفة القِوامة في (المدرسة الجوزية) لم تكن حكراً على أبي بكر - والد ابن القَيِّم - وحده، بل لا بد أن يكون قد تولاها غيره - إما قبله أو بعده - إلا أن الواضح: أن والد ابن القَيِّم كان أشهر من تولى هذا المنصب، فصار هو المراد عندما يقال: (قيم الجوزية) ، وغلبت - بالتالي - هذه الشهرة على ابنه، حتى صار لا يُعرف إلا بها. وقد يكون الأب اكتسب هذه الشهرة بسبب شهرة ابنه شمس الدين، الذي ذاع صيته آنذاك.
وهذا كثير عند أهل العلم، ينسبون الرجل إلى وظيفة أو صنعة أبيه أو جَدِّه، كما كان الحافظ الذهبي - رحمه الله - يعرف بـ (ابن الذهبي) نسبة إلى صنعة الذهب التي مارسها أبوه3.
__________
1 القيِّمُ: السيد وسَائِسُ الأمر. (لسان العرب ص: 3784، مادة: قوم) . فالمعنى: المسؤول عن المدرسة، والقائم بتدبير أمورها.
2 وتقدم الكلام عليها: (ص 70) .
3 انظر: الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص79) .
(1/84)
والمشهور الآن بين أهل العلم وطلابه، وأكثر الناس قولهم: (ابن القَيِّم) بحذف المضاف إليه اختصاراً وجعل (ال) عوضاً عنه، وهذا الاختصار لا مانع منه؛ فقد صار هو المقصود عند الإطلاق لشهرته، ومع ذلك ينبغي التنبه من التباسه بغيره، فقد وقع في ترجمة محمد بن رافع السلامي - صاحب (الوفيات) ، المتوفى سنة 774هـ -: أنه سمع من ابن القَيِّم1، هكذا بدون إضافة، ومع ذلك فليس هو ابن قَيِّم الجوزية الذي نترجم له، وإنما هو: علي بن عيسى بن سليمان بن رمضان، الثعلبي، المصري، الشافعي، بهاء الدين، أبو الحسن، مولده 613هـ. تَفَرَّد بالرواية عن الفخر الفارسي، وليَ نظر الأوقاف، وكان ديِّنَاً، خيِّراً، متواضعاً. توفي سنة 710هـ2.
فإذا قيل: إن ابن رافع سمع من ابن القَيِّم، توهم من لم يمعن النظر أنه ابن قَيِّم الجوزية، وبخاصة أن ابن رافع دخل دمشق مراراً، وأخذ عن جماعة هم في طبقة ابن قَيِّم الجوزية، فاحتمال التباسه غير بعيد، ولذا أردت التنبيه، والله أعلم.
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً: ما يسمع على ألسنة البعض من قولهم: (ابن القَيِّم الجوزية) بالجمع بين (أل) والإضافة، ومعلوم أنهما لا يجتمعان في التعريف.
__________
1 الوافي بالوفيات: (3/68) ، وذيل التذكرة - للحسيني: (ص53) ، والرد الوافر: (ص43) .
2 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص26) ، والدرر الكامنة: (3/164-165) . وقد كان أبو هـ قَيِّم قُبَّة الشافعي، كما أفاده الذهبي رحمه الله. (معجم الشيوخ: 2/38) .
(1/85)
كنيته:
اتفق كل من ذكر كنيته من مترجميه على أنها (أبو عبد الله) ، وذلك تكنية له باسم ولده عبد الله، وهو أصغر ولديه كما سيأتي في ترجمته.
لقبه:
واتفقت مصادر ترجمته - أيضاً - على تلقيبه بـ (شمس الدين) ، ولقبه السيوطي بـ (الشمس) 1، بجعل (ال) عوضاً عن المضاف إليه، ومنه قولهم: (التقى ابن تَيْمِيَّة والشهاب ابن حجر) ، أي: تقي الدين وشهاب الدين.
وقد كانت هذه الألقاب وأمثالها منتشرة بين أهل العلم في عصره رحمه الله، وربما لقبه بذلك أبوه - أو غيره - تفاؤلاً بأن ينفع الله به، وأن يجعله من العلماء العاملين، الذين تضيء آثارهم طريق العباد هداية ونوراً، فجاء اللقب - بتوفيق الله - مطابقاً للحقيقة، وانتفع القاصي والداني بأنوار علومه، وكان - بحق - شمساً بين أقرانه، نفع الله به البلاد والعباد.
2- مولده:
اتفقت الكتب التي ترجمت لابن القَيِّم - رحمه الله - على أن مولده كان في سنة إحدى وتسعين وستمائة (691هـ) .
__________
1 بغية الوعاة: (1/62) .
(1/86)
وذكر الصَّفَدِي - من بينهم - يوم ولادته وشهرها، فقال: "مولده سابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة"1. وتابعه على ذلك: السيوطي2، ثم الداودي3.
أما عن مكان ولادته: فلم ينص أحد ممن ترجم له على ذلك، وقد تقدم أنه منسوب إلى (زرع) أولاً، ثم (دمشق) ثانياً، فقال ابن ناصر الدين رحمه الله: " ... الزرعي الأصل، ثم الدمشقي"4. فهل يعني ذلك أنه ولد في (زرع) ، ثم انتقل إلى دمشق؟ أم أن الانتقال حصل لأبيه أو أحد أجداده، وأن مولده كان في دمشق؟ كلا الأمرين محتمل، وعلى كلٍّ فإن الأمر في ذلك سهل؛ إذ إن مكان ولادته لا يخرج عن أحدهما.
ثم رأيت بعد ذلك الأستاذ أحمد قدامة يجزم بأنه مولود في دمشق5، فالله أعلم.
__________
1 الوافي بالوفيات: (2/270) .
2 بغية الوعاة: (1/62) .
3 طبقات المفسرين: (2/91) .
4 الرد الوافر: (ص68) .
5 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/267) .
(1/87)
المبحث الثاني: أسرته ونشأته الأولى
لاشك أن لأسرة الرجل وأهل بيته دوراً كبيراً في تكوينه الخُلُقِي، وتنشأته وتوجيهه، وذلك بحسب ما يكون عليه أفرادها من أخلاق وقيم وعادات، وبحسب ما يولون أولادهم من عناية ورعاية واهتمام.
فإن الأسرة التي يغلب على أفرادها الصلاح والتمسك بتعاليم الإسلام وتقوى الله عزوجل، ينشأ أولادها - في الغالب - كذلك، وإذا كان الأمر على خلاف ذلك، فقلَّ أن يرجى من أبناء هذه الأسرة خير.
من أجل ذلك، كان علينا - ونحن نصف حياة ابن القَيِّم - أن نتعرف على أسرته وأهل بيته، الذين كان لهم الفضل الأكبر - بعد الله سبحانه - في توجيهه الوجهة الصحيحة، وسلوكه طريق العلم وأهله.
ولم يتيسر لي الوقوف على شيء من أخبار هذه الأسرة عن طريق ابن القَيِّم نفسه؛ إذ لم يتعرض لشيء من ذلك - فيما أعلم - مثلما يفعل بعض العلماء، غير أنه أمكن التقاط بعض تلك الأخبار عن هذه الأسرة من خلال بعض الكتب التي تُعنى بالحوادث والتاريخ، وعلى رأسها: (البداية والنهاية) لابن كثير رحمه الله- تلميذ ابن القَيِّم، وصاحبه المقرب- فقد ذكر جملة من الأخبار عنهم، كما كان للشيخ الفاضل بكر بن عبد الله أبي زيد - حفظه الله - فضل السبق في ذلك؛ إذ ذكر طرفاً من أخبار هذه الأسرة المباركة1.
__________
1 في كتابه المفيد النافع (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره) : (ص21 - 23) .
(1/89)
وَالِدُهُ:
هو الشيخ: أبو بكر بن أيوب بن سعد الزرعي، الدمشقي، الحنبلي، قَيِّم المدرسة (الجوزية) بدمشق، كما مضى ذكر ذلك.
أما عن أخلاقه وعبادته: فيقول ابن كثير رحمه الله: "كان رجلاً صالحاً، متعبداً، قليل التكلف، وكان فاضلاً"1.
وقد جاء أنه - رحمه الله - اشتهر بكثرة عبادته، ولذلك ترجمه ابن كثير بقوله: "الشيخ العابد: أبو بكر". ولا شك أن ذلك كان له أثر كبير على ولده ابن القَيِّم رحمه الله، فأخذ عنه كثرة عبادته، كما سيأتي ذكر ذلك عنه إن شاء الله.
وأما عن طلبه للعلم: فيقول ابن كثير رحمه الله: "سمع شيئاً من دلائل النبوة على الرشيدي العامري"2.
ولا شك أن عمله في قوامة المدرسة الجوزية والقيام بشأنها، قد أتاح له أن يحيا في جو علمي، وأن يكون على اتصال دائم بالعلم وأهله، وبخاصة أن هذه المدارس كان يوضع في وظيفة التدريس بها أكابر العلماء وأفاضلهم.
وأما عن علومه وإفاداته: فقد كان بارعاً في علم الفرائض، بل كان له فيها اليد الطولى، حتى إن ابنه - ابن القَيِّم - تلقاها عنه، ودرسها عليه3.
__________
1 البداية والنهاية: (14/114) .
2 البداية والنهاية: (14/114) .
3 وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله.
(1/90)
وفاته:
توفي - رحمه الله - فجأة ليلة الأحد، تاسع عشر ذي الحجة، من سنة (723هـ) ، وذلك بالمدرسة الجوزية مقر عمله، وصُلِّيَ عليه بعد الظهر من الغد بالجامع - يعني الجامع الأموي- ودفن بباب الصغير12.
ولأجل سيرة الوالد الحسنة، وأخلاقه الفاضلة، فقد اكتسب حب الناس ومودتهم، فلما مات - رحمه الله - "كانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيراً"3.
وعلى هذا، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان عند وفاة أبيه في أواسط عمره، وريعان شبابه، إذ كان آنذاك في الثانية والثلاثين من العمر، وبذلك يكون - رحمه الله - قد نال حظاً وافراً من رعاية والده وعنايته قبل رحيله عن الحياة الدنيا.
فرحم الله أبا بكر - قيم الجوزية - رحمة واسعة، فقد جمع بين: حسن الخلق، والصلاح والعبادة، مع الاشتغال بالعلم ونشره، مما كان له أكبر الأثر على حياة الولد - ابن القَيِّم - حيث جمع هذه الصفات كلها وزيادة، كما سيأتي الكلام على ذلك.
__________
1 البداية والنهاية: (14/114) .
2 قال في (منادمة الأطلال) (ص40) : "وهو الباب القبلي للبلد، قال ابن عساكر: سمي بذلك لأنه كان أصغر أبوابها حينما بنيت" اهـ. وهو باق إلى الآن (وفاة ابن بدران صاحب (المنادمة) سنة 1346هـ) بمصلبة الشاغور، ومن جانبه الغربي زقاق يقال له: زقاق الصمادية، ومن شرقيه: طريق يوصل إلى حارة الزط، وبناؤه قوي متين) اهـ.
3 البداية والنهاية: (14/114) .
(1/91)
َأخُوه:
وقد بورك للشيخ أبي بكر في ذُرِّيَّتِه وبنيه، فكان لابن القَيِّم أخ يصغره بحوالي عامين، وكان هو الآخر من المشتغلين بالعلم.
ولا عجب في ذلك، فإن أباهما كان من أهل العلم-كما سلف- فحبب الله ذلك إلى بنيه، مع ما كان يمارسه الأب من حسن التوجيه، وجميل التربية.
أما عن هذا الأخ، فهو: الشيخ القدوة، أبو الفرج، عبد الرحمن بن أبي بكر بن أيوب ... مولده سنة (693هـ) 1 بعد أخيه ابن القَيِّم بحوالي عامين.
وقد ذكره ابن رجب الحنبلي في (مشيخته) 2، وقال: "سمعت عليه كتاب (التوكل) لابن أبي الدنيا، بسماعه على الشهاب العابر3. وتفرد بالرواية عنه"4.
وقال ابن حجر: "تفرد بالرواية عن الشهاب العابر"5.
توفي - رحمه الله - ليلة الأحد، عشرين من ذي الحجة سنة (769هـ) ، ودفن بباب الصغير6. وقد كَمُلَ له من العمر ست وسبعون سنة، فتكون وفاته قد تأخرت عن ابن القَيِّم أخيه بحوالي ثماني عشرة سنة.
__________
1 الدرر الكامنة: (2/434) .
2 ولم أقف عليها.
3 انظر ترجمته فيما يأتي من كلام على شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله (ص 146) .
4 منادمة الأطلال: (ص91) .
5 الدرر الكامنة: (2/434) .
6 منادمة الأطلال: (ص91) .
(1/92)
أولادُه:
ولما كانت هذه الشجرة المباركة الطيبة، ثابتة الأصول ضاربة بجذورها الخيرة إلى أعماق بعيدة، فقد كانت دائمة الأُكُل، مستمرة العطاء.
فقد رزق الله ابن القَيِّم - رحمه الله - أولاداً صالحين، عالمين عاملين، فكانوا خير خلف لخير سلف.
وممن وقفت على تراجمهم وبعض أخبارهم من هؤلاء الأبناء:
1- عبد الله، الفقيه الفاضل الْمُحَصِّل، جمال الدين، ابن الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية.
مولده سنة (723) 1، وهي سنة وفاة جده أبي بكر.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "الشيخ ... الفاضل المحصل، جمال الدين عبد الله بن العلامة شمس الدين ... كانت لديه علوم جيدة، وذهنه حاضر خارق، أفتى ودَرَّسَ وأعاد وناظر، وحج مرات عديدة، رحمه الله وَبَلَّ بالرحمة ثراه"2.
وقال ابن حجر: " ... اشتغل على أبيه وغيره، وكان مفرط الذكاء، حفظ سورة الأعراف في يومين، ثم دَرَسَ (المحرر) في الفقه،
__________
1 الدرر الكامنة: (2/396) .
2 البداية والنهاية: (14/265) .
(1/93)
و (المحرر) في الحديث ... ومهر في العلم، وأفتى ودَرَّسَ، وحج مراراً ... قال ابن رجب: كان أعجوبة زمانه"1.
وقال ابن حجر أيضاً: "صلى بالقرآن سنة 731هـ"2. فيكون رحمه الله قد حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين.
وأما وظائفه العلمية التي شغلها: فإنه قد دَرَّسَ (بالصدرية) عقب وفاة أبيه، قال ابن كثير رحمه الله: "وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان - يعني من سنة 751هـ، بعد وفاة أبيه بشهر - ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية عوضاً عن أبيه رحمه الله، فأفاد وأجاد، وسرد طرفاً صالحاً في فضل العلم وأهله"3.
كما أنه - رحمه الله - قد اشتغل بالخطابة؛ قال الحافظ ابن كثير: "وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول أقيمت جمعة جديدة بمحلة الشاغور بمسجد هناك يقال له: مسجد المزار، وخطب فيه جمال الدين عبد الله بن الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية ... "4.
كما ذكر النعيمي في ترجمته أنه كان خطيباً في (جامع سليمان) وأنه أول من خطب به5.
__________
1 الدرر الكامنة: (2/396) .
2 المصدر السابق.
3 البداية والنهاية: (14/247) .
4 البداية والنهاية: (14/259) حوادث سنة (754هـ) .
5 الدارس في تاريخ المدارس: (2/90) .
(1/94)
توفي رحمه الله شاباً، وذلك سنة (756هـ) وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة. "وكانت جنازته حافلة" ودفن عند أبيه بالباب الصغير1، فرحمه الله رحمة واسعة.
2- إبراهيم، العالم الفقيه، برهان الدين، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن أبي بكر.
ذكر ابن رافع أن مولده سنة (716هـ) 2، ووافقه على ذلك: ابن حجر3 رحمه الله، وكذا قال الشيخ بكر أبو زيد4.
وذكر الحافظ الذهبي أن مولده سنة: "بضعة عشرة وسبعمائة"5.
وأما الحافظ ابن كثير، فقد ذكر عمره حين وفاته، فقال: "بلغ من العمر ثمانياً وأربعين سنة"6. وإذا اعتبرنا ذلك بتاريخ وفاته - الذي اتفقوا على أنه كان سنة 767هـ - فيكون وقت ولادته هو سنة (719هـ) ، وبه جزم صاحب (منادمة الأطلال) 7، ولعله استظهره من كلام ابن كثير رحمه الله، وهذا يعارض ما تقدم من أنه ولد سنة
__________
1 البداية والنهاية: (14/265) .
2 الوفيات: (2/304) .
3 الدرر الكامنة: (1/60) .
4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص23) .
5 المعجم المختص: (ص66) .
6 البداية والنهاية: (14/329) .
(ص240) .
(1/95)
(716هـ) ، ولعل الحافظ ابن كثير يكون أعرف به من غيره؛ إذ كان على صلة به ومعرفة، والله أعلم.
قال الذهبي رحمه الله: "قرأ الفقه والنحو على أبيه، وسمع وقرأ وتَنَبَّه وسَمَّعَه أبوه من الحجَّار"1.
وقال الحافظ ابن كثير: "كان بارعاً فاضلاً في النحو والفقه وفنون أخر على طريقة والده، رحمهما الله تعالى، وكان مدرساً بالصدرية، والتدمرية، وله تصدير2 بالجامع، وخطابة بجامع ابن صلحان"3.
وقال ابن رافع: "طلب الحديث وقتاً، وتَفَقَّه، واشتغل بالعربية، وشرح ألفية ابن مالك"4.
وقال ابن قاضي شهبة: "وكان له أجوبة مسكتة"5.
وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنه ولي تدريس الحنابلة في مشيخة دار الحديث التي فتحت بدرب القبلي، وذلك في جمادى الأولى من سنة (765هـ) 6.
__________
1 المعجم المختص: (ص66 - 67) .
2 التصدير: كلمة ترد بمعنى التدريس، لأن المدرس حينما يُكَلَّف بتدريس الطلبة يتصدر المجلس في الجامع أو المجلس لهذه الغاية. (معجم المصطلحات والألقاب التاريخية - مصطفى الخطيب: ص106) .
3 البداية والنهاية: (14/329) .
4 الوفيات: (2/304) .
5 الدارس في تاريخ المدارس: (2/89) .
6 البداية والنهاية: (14/321) .
(1/96)
وبعد عمر حافل بالجد والعطاء، وحياة علمية مزدهرة مشرقة، توفي هذا الإمام البارع، ابن الإمام العلامة، وذلك في يوم الجمعة مستهل صفر من سنة (767هـ) 1. "وحضر جنازته القضاة والأعيان، وخلق من التجار والعامة، وكانت جنازته حافلة"2.
وقد كان - مع هذا العلم والفضل - ذا مال ونعمة، فقد "ترك مالاً جزيلاً يقارب المائة ألف درهم"3. فرحمه الله رحمة واسعة.
ومن هذا العرض لأسرة ابن القَيِّم - رحمه الله - نعلم أن النشأة الأولى كانت طيبة، في جو تسوده الرعاية الدينية الصحيحة، والتربية الإسلامية القويمة، والقدوة الحسنة الرشيدة. فلا عجب إذن أن نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - ينشأ هذه النشأة السوية في هذه البيئة الطيبة المباركة.
ثم كانت البركة في أسرة ابن القَيِّم مستمرة، فكان أولاده من أهل العلم الأفاضل، الذين بذلوا في خدمته أعمارهم، فكانوا أعلاماً بارزين على طريق البذل والعطاء، كما كان أبوهم من قبلهم، فرحم الله هذه الأسرة الكريمة المباركة، وأسكنها فسيح الجنات، آمين.
__________
1 الوفيات لابن رافع: (2/303) .
2 البداية والنهاية: (14/329) .
3 المصدر السابق.
(1/97)
المبحث الثالث: أخلاقه وصفاته الشخصية
إن أول ما يلمسه المرء ويحسه - وبخاصة إذا كان ممن عَرَفَ ابن القَيِّم، وعاش مع تراثه الممتع النافع - أنه أمام عالم عامل، وداعية مخلص صادق، ومربٍ فاضل، أفنى عمره في محاربة كل شر ورذيلة، والدعوة إلى التخلق بكل خير وفضيلة.
فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - ممن يتكسبون بدعوتهم، أو يطلبون بها عرضاً زائلاً - كما كان حال البعض في عصره - وإنما كان صاحب رسالة سامية، عاش حياته مبلغاً لها ومنافحاً عنها.
فلا عجب إذن أن يكون على درجة عالية من الأخلاق الفاضلة، والخلال الحميدة، بشهادة كل من عايشه وسعد بصحبته، فقد كان (الغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة) كما وصفه بذلك تلميذه ابن كثير رحمه الله1.
كما لا يفوتنا التنبيه على أن هذه الأسرة الطيبة التي نشأ ابن القَيِّم بين أحضانها، وما لقيه منها من رعاية وحسن توجيه - وخاصة والده الذين قدمنا طرفاً من سيرته العطرة - كان لها أكبر الأثر في تحلي ابن القَيِّم - رحمه الله - بجميل العادات، ومحاسن الأخلاق، كما سبق التنبيه على ذلك.
ويمكن لنا أن نسجل بعض هذه الصفات التي كان متخلقاً بها،
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
(1/99)
وذلك من خلال شهادة تلاميذه، وأصحابه ومن عرفوه، وكذا من خلال ما يظهر من مطالعة سيرته ومؤلفاته، فلعل ذلك يكون باعثاً على التحلي بمثل أخلاق هذا الإمام الفاضل.
فمن هذه الصفات:
1ـ حسن العشرة، وكثرة التودد إلى الناس والتَّحَبُّب إليهم، لاسيما أهل الفضل والصلاح منهم، فكان الحافظ ابن كثير - مثلاً - من (أحب الناس إليه) كما حكى هو كذلك1.
2ـ كَفُّ الأذى عن الخلق، فكان - رحمه الله - "لا يحسد أحداً، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد". كما قال ذلك أصحب الناس له: ابن كثير2 رحمه الله.
هكذا كان ابن القَيِّم متحبباً إلى الناس متجملاً معهم، كَافّاً أذاه عنهم؛ لأنه - رحمه الله - كان يعلم أن حسن الخلق هو: (طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى) . فإنه قد نقل ذلك عن عبد الله بن المبارك رحمه الله، شارحاً به حسن الخلق وموضحاً معناه3. فرحم الله ابن القَيِّم: الذي عَلِمَ، فتخلق بهذا العلم وعمل به، ثم دعا إليه ونشره بين الناس.
3ـ شِدَّةُ محبته للعلم، وكتابته، ومطالعته. كما وصفه بذلك تلميذه ابن رجب4 رحمه الله.
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 المصدر السابق.
3 تهذيب السنن: (7/161) .
4 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
(1/100)
وكيف لا يكون شديد الحب للعلم، شديد التعلق به، وهو القائل: "النَّهْمَةُ1 في العلم، وعدم الشبع منه من لوازم الإيمان، وأوصاف المؤمنين"2.
4ـ جِدُّهُ واجتهاده - رحمه الله - في تحصيل ما نذر نفسه لتحصيله من هذا العلم الشريف، وإنفاق أيام العمر وسِنِيِّه في ذلك، بحيث وصف بـ "كثرة الطلب ليلاً ونهاراً"3.
5ـ جرأته - رحمه الله - وصلابته في دين الله، وصدعه بالحق؛ فلم يكن يحابي أحداً فيما يعتقد أنه الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، مع ما سببه ذلك له من محن وإيذاء كما سيأتي. قال الإمام الشوكاني في وصفه إياه: " ... صادعاً بالحق لا يحابي فيه أحداً"4.
6ـ تجرده - رحمه الله - في أبحاثه العلمية من كل هوًى نفسي، أو غرض ذاتي شخصي، وإنما كان يبتغي الوصول إلى الحق والصواب، ولو ظهر هذا الحق على لسان غيره.
فمن ذلك: أنه صوّب إثبات (الواو) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" ثم قال: "فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة، فمن وجد شيئاً فليلحقه بالهامش، فيشكر الله له، وعباده سعيه، فإن المقصود: الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل"5.
__________
1 النَّهْمَةُ: بلوغ الهمة في الشيء. وقد نُهِمَ بكذا نَهْمةً، فهو منهوم، أي مولعٌ به.
2 مفتاح دار السعادة: (1/74) .
3 البداية والنهاية: (14/246) .
4 البدر الطالع: (2/143-144) .
5 بدائع الفوائد: (2/177) .
(1/101)
7ـ تَوَاضُعُه وإنكاره لِذاتِهِ، واستصغاره لنفسه وعلمه، من ذلك: ما نجده في أكثر كتبه من تصريحه بقلة بضاعته في هذا الشأن، مع إسناده الصواب في ذلك إلى الله، وأن ذلك من فضله وتوفيقه، وإسناده الخطأ والنقص إلى نفسه1.
هذا ما يقوله، مع ما عرف عنه من جودة تصانيفه، وكثرة إفاداته، وغزارة علمه رحمه الله.
8 - صَبْرُهُ - رحمه الله - على الأذى والْمِحَن والابتلاء في ذات الله سبحانه، دون جزع أو ضَجَر، فكم عانى من ألم السجن ومرارة الحبس، فكان يقابل كل ذلك صابراً محتسباً، بل "كان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتَّدَبُّرِ والتَّفَكُّرِ، فَفُتِح عليه من ذلك خير كثير ... " كما يقول ابن رجب2 رحمه الله، فانقلبت بذلك محنته إلى منحة، وسجنه إلى خلوة للتعبد والمناجاة. وهذا - لا شك - دال على شجاعته رحمه الله، تلك الخصلة التي وصفها مرة بقوله: "الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل"3. ولما كانت الشجاعة - بهذا المعنى - "خلقاً كريماً من أخلاق النفس"4، فقد كان - رحمه الله - متخلقاً بها متحلياً بفضائلها.
وأخيراً، فإنه ليس بغريب على مثل ابن القَيِّم - رحمه الله - أن يجمع بين هذه الأخلاق الفاضلة، ويتحلى بكل هذه الخلال الحميدة، ذلك
__________
1 ينظر على سبيل المثال: حادي الأرواح: (ص30) ، والفروسية: (ص2) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
3 الفروسية: (ص129) .
4 الفروسية: (ص130) .
(1/102)
أن "الأخلاق الفاضلة تتلازم وتتصاحب غالباً"1 كما يقول ابن القَيِّم نفسه.
ومع ذلك، فإن ما ذكرناه هنا ما هو إلا طرف يسير مما يتحلى به هذا الإمام الفاضل، والمربي القدوة من أخلاق حسنة، ومن شاء أن يقف على المزيد من فضائله، ومكارم أخلاقه، ومحاسن طباعه: فعليه بمؤلفاته وكتبه، فإن ما رسمه فيها من منهج متكامل لما ينبغي أن يتخلق به المسلم الحق في دينه ودنياه، لم يكن إلا صورةً حقيقية، ومرآة صادقة لأخلاقه رحمه الله، فما من خلة حميدة أو خلق فاضل دعا إليه، إلا وهو متخلق به، عامل بمقتضاه كما تقدم بيان شيء من ذلك، وكما سيأتي في الكلام على زهده وعبادته رحمه الله.
__________
1 الفروسية: (ص129) .
(1/103)
المبحث الرابع: زهده زعبادته
...
المبحث الرابع: زهده وعبادته
إنَّ في حياة العلامة ابن القَيِّم وسلوكه جانباً آخر- غير ما سبق - وهو جانب: اجتهاده مع مولاه، وخوفه منه ورجائه إياه، وسعيه في تحصيل رضاه، واستعداده ليوم لقاه.
فإن (من يقرأ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - وبخاصة كتابه (مدارج السالكين) - يخرج بدلالة واضحة: على أن ابن القَيِّم –رحمه الله تعالى– كان لديه من عمارة قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية، والاضطرار، والإنابة إلى الله، الثروة الطائلة، والقدح الْمُعَلَّى في جَوِّ العلماء العاملين، الذين هم أهل الله وخاصته.
وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه - لا على منهج المتصوفة الغلاة، بل على طريق السلف الصالح - ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّر والعلن، ودوام ذِكْرِهِ، وأن العبادة حَلَّت منه محل الدواء والمعالجة، وترويض النفس"1.
فلقد عَمَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - ما بينه وبين الله سبحانه، بالاجتهاد في العبادات والطاعات، كما عَمَر ما بينه وبين الناس بحسن الخلق، والاتصاف بجميل العادات، فكان بذلك خير مثال للعلماء الصادقين، الذين جمعوا بين العلم والعمل.
__________
1 بهذه الكلمات المضيئة وصفه الشيخ بكر بن عبد الله أبو بزيد في كتابه: (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره) : (ص25) .
(1/105)
نعم، لقد شَمَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ساعد الجد في العبادة ليلاً ونهاراً، حتى قال عنه أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وأصحبهم له - وهو الحافظ ابن كثير -: "ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه"1.
وفيما يلي طرفٌ مما حكاه بعض من شاهد أحواله في ذلك:
1ـ طول صلاته وقيامه بين يدي الله سبحانه، وطول ركوعه وسجوده: فقد وُصِفَ –رحمه الله - بطول الصلاة "إلى الغاية القصوى"2.
وكانت طريقته - رحمه الله - في الصلاة: أنه (يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا يَنْزِع عن ذلك رحمه الله"3.
وكيف يَنْزِع عن ذلك، أو يُقْلِع عنه، وقد وجد راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، والأنس بمحبوبه في طول الوقوف بين يديه سبحانه، وكثرة المناجاة له؟ وكيف يُقْلِع عن ذلك وهو يرى أن (من لم تكن قرة عينه في الصلاة، ونعيمه وسروره ولذته فيها، وحياة قلبه وانشراح صدره"4، فأولى به أن يكون من السُّرَّاق في صلاتهم، الذين ينقرونها نقراً.
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
3 البداية والنهاية: (14/246) .
4 الصلاة: (ص 165 - 166) .
(1/106)
2ـ تهجده وقيامه الليل: فقد قال عنه ابن رجب رحمه الله: "كان ذا عبادة وتهجد"1.
وكيف بهذا العالم الرباني يغفل عن قيام الليل، أو يتوانى في ذلك، وقد علم أنه (وَقْتُ قَسْمِ الغَنَائم) 2، فأسهر ليله، ووقف بين يدي مولاه والناس نيام حتى يكون يوم القيامة من الآمنين، وفي الموقف من المطمئنين؛ فإن من "سَبَّح الله ليلاً طويلاً، لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه، بل كان أخفَّ شيء عليه"3. كما يقول هو رحمه الله.
ويقرر - رحمه الله - أن في قيام الليل الكثير من الفوائد التي تعود على المسلم بالخير في صحته وبدنه؛ فإن قيام الليل "من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب"4.
3ـ كثرة ابتهاله وتضرعه ودعائه: فقد وصفه ابن كثير - رحمه الله - بـ (كثير الابتهال) 5. وقد وُصِفَ أيضاً بـ "الافتقار إلى الله، والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته"6 بحيث لم يشاهد مثله في ذلك.
__________
1 ذيل الطبقات: (2/448) .
2 تحفة المودود: (ص 241) .
3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص37) .
4 زاد المعاد: (4/247-248) .
5 البداية والنهاية: (14/246) .
6 ذيل الطبقات: (2/448) .
(1/107)
4ـ ملازمته - رحمه الله - لذكر الله واستغفاره: بحيث كان ذا (لَهَجٍ1 بالذكر ... والإنابة والاستغفار"2.
ومما يذكر عنه في ذلك أيضاً: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله - تعالى - حتى يتعالى النهار جداً، وكان إذا سُئِل عن ذلك يقول: هذه غَدْوَتِي3، ولو لم أَتَغَدّ هذه الغدوة سقطت قواي4. وقد ذكر هو - رحمه الله - عن شيخه ابن تَيْمِيَّة مثل ذلك5 فلا مانع أن يكون هذا الفعل ثابتاً عنهما رحمهما الله.
وحريّ بمثل ابن القَيِّم أن يحرص على الذكر، ويكثر منه ولا يفارقه، ويجد فيه راحة قلبه؛ وذلك أنه عرف منزلة ذكر الله وفوائده الجمة، حتى أخبر - رحمه الله - أن (في الذكر أكثر من مائة فائدة"6. ثم ساق من هذه الفوائد نيفاً وتسعين فائدة7.
فرحم الله ابن القَيِّم، ذاك الذي كان مثلاً صادقاً للعلماء العاملين.
__________
1 اللَّهَجُ بالشيء: الولوع به. (مختار الصحاح: لهج) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
3 أي غدائي، ويقصد به الغداء المعنوي الروحي، فشبهه بالطعام الذي تقوم به القوى؛ لأن العبادة تقوى بها الروح وتسمو.
والغُدْوَةُ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس (مختار الصحاح، مادة غدا) .
4 الدرر الكامنة: (4/21) ، وابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (46) .
5 الوابل الصيب: (ص53) ، والرد الوافر: (ص69) .
6 الوابل الصيب: (ص52) .
7 الوابل الصيب: (ص52 - 120) .
(1/108)
5ـ قراءة القرآن بالتدبر والتفكر: فقد كان - رحمه الله - لا يفتر عن ذلك حتى في أوقاته الحرجة، ويصف تلميذه ابن رجب - رحمه الله - حاله في السجن، فيقول: "وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر"1.
ولأجل ما كان عليه في ذلك من التدبر والتفكر في كتاب الله، فإن تلميذه ابن رجب لم ير "أعرف بمعاني القرآن ... منه"2.
6ـ حرصه - رحمه الله - على أداء الحج مرات وكرات: فقد (حج مرات كثيرة، وجاور بمكة"3.
وفي أثناء مجاورته بمكة كان مشتغلاً بالعبادة لا يفتر، حتى إن أهل مكة كانوا "يذكرون عنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يُتَعَجَّب منه"4.
ويصف هو - رحمه الله - شيئاً من عبادته وخضوعه لربه أثناء مقامه بمكة، وذلك عند كلامه على تأليف كتابه (مفتاح دار السعادة) فيقول: "كان هذا من بعض النزل والتُّحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً"5.
__________
1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
2 المصدر السابق.
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
5 مفتاح دار السعادة: (1/47) .
(1/109)
وكيف لا يكثر ابن القَيِّم من أداء الحج وهو يصف تلبية الحجيج بأنها (إجابة محب لدعوة حبيبه ... وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى"1.
فلم يكن ابن القَيِّم في كثرة حجه، وزيارته لبيت الله الحرام، إلا مجيباً دعوة حبيبه ومولاه.
ومع كل هذا الذي كان عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من الجد في العبادة، وبلوغه في ذلك رتبة عَلِيّة، فقد كان يتهم نفسه بالتقصير في حق مولاه، ويشكو كثرة ذنوبه وخطاياه! وهذا من كمال تواضعه وشدة خوفه من الله.
وقد وصف شيئاً من ذلك في قصيدة2 له يُذَكِّر فيها نفسه، أولها:
بُنَيُّ أبي بكرٍ كثيرٌ ذُنُوبُهُ ... فَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ إِثْمُ
بُنَيُّ أبي بكر جَهُولٌ بِنَفْسِهِ ... جَهُولٌ بِأَمْرِ الله، أَنَّى له العِلْمُ؟!
بُنَيُّ أبي بكر غدا مُتَصَدِّرَاً ... يُعَلِّمُ عِلْمَاً وَهُو لَيْسَ ُلهُ عِلْمُ
بُنَيُّ أبي بكر غَدَا مُتَمَنِّيَاً ... وِصَالَ الْمَعَالِي وَالذُّنُوبُ له هَمُّ
إلى آخر هذه القصيدة التي تبين خوفه ورجاءه وتضرعه لربه، مع ما كان عليه من الجد في العبادة رحمه الله.
__________
1 مفتاح دار السعادة: (2/4) .
2 ذكرها عنه صلاح الدين الصَّفَدِي، وقد أنشده إياها من لفظه. الوافي بالوفيات: (2/272) .
(1/110)
وأما زهده: فقد وصف بأنه أزهد أصحاب شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله1.
ولعل مما يدل على زهده - رحمه الله - وتقلله من الدنيا، وعدم حرصه عليها ما ذكر في سبب تأليف كتابه (تحفة المودود) ، وهو: أن الله - عزوجل - قد رزق ابنه إبراهيم مولوداً، ولم يكن عند والده - ابن القَيِّم - في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: "أُتْحِفكُ بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك"2.
فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - في عبادته وزهده وخشوعه وانكساره وخوفه وإنابته إلى ربه سبحانه، كان في ذلك كله نِعْمَ القدوة، وأصدق المثلٍ للسائرين إلى ربهم والدار الآخرة، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وطَيَّبَ ثراه، وجعل الجنة داره ومثواه، آمين.
__________
1 الجوهر المنضد: (ص114) .
2 انظر مقدمة الأستاذ/ عبد القادر الأرنؤوط لكتاب (تحفة المودود) (ص: ج) .
(1/111)
المبحث الخامس: نُبْل أهدافه ونقاء آرائه
تَقَدَّمَ أن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان قد عاش في بيئة يسودها كثير من الفساد الديني والأخلاقي، وتنتشر فيها عادات اجتماعية متردية، وتروجُ فيها أفكارٌ ونِحَلٌ منحرفةٌ مع انتسابها - زُوراً - للإسلام.
وشاء الله سبحانه وتعالى - وله الحمد - أن يشرح صدر ابن القَيِّم للمنهج الحق، وأن يريه الطريق المستقيم، وأن يُحَبِّبَ إلى قلبه التمسك بالكتاب والسنة دون سواهما.
وكان من توفيق الله - عزوجل - أن هيَّأ له أستاذاً فاضلاً، وعلماً شامخاً، وعالماً نِحْرِيراً مجاهداً، وهو: شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، الذي كان سبقه إلى سلوك هذا السبيل، فكان له - بعد توفيق الله - خير القدوة، ونعم المرشد؛ فقد لازمه ابن القَيِّم - رحمه الله - منذ عودته من الديار المصرية إلى دمشق سنة (712هـ) ، إلى أن توفي الشيخ -رحمه الله- في سنة (728هـ) 1، حتى صار من أصحب الناس له، وألصقهم به ومن أخصِّ تلاميذه والْمُقَرِّبِين إليه، ولقد تَمَكَّنَت محبةُ الشيخ من قلب تلميذه ابن القَيِّم رحمه الله، فكان لا يفارقه أبداً، حتى إنه كان محبوساً معه في القلعة إلى أن مات الشيخ رحمه الله.
وهكذا كان لابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - أثرٌ كبيرٌ؛ بل أكبر الأثر في حياة ابن القَيِّم رحمه الله: توجيهاً وتعليماً، وتربيةً وإرشاداً؛ فقد أخذ عنه
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
(1/113)
عِلماً غزيراً، واستفاد منه منهجاً قويماً في حياته ودعوته - (مع ما سلف له من الاشتغال) 1، والتحصيل - حتى حَمَل الراية من بعده، وسار على الدَّرْبِ نفسه، داعياً للرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهديهما، وفتح الله عليه في ذلك الفتح المبين، فكان - ولا يزال - مِشْعَلَ خير ونور، هدى الله به الكثيرين إلى صراطه المستقيم2.
فلعلها (سرت إليه بركة ملازمته لشيخه ابن تَيْمِيَّة في السراء والضراء، والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه) 3. كما يقول الإمام الشوكاني رحمه الله.
كانت تلك إلماحة سريعة إلى أبرز العوامل التي هيأها الله - سبحانه - لابن القَيِّم في هذه البيئة المظلمة، فكانت أكبر عون له على الصمود في وجه تلك التحديات.
ولا بد لنا -بعد ذلك- أن نبرز الأهداف التي تَبَنَّاها ابن القَيِّم رحمه الله، وكان يسعى لتحقيقها، تلك الأهداف التي كانت محور دعوته، ولبَّ رسالته، التي عاش مجاهداً من أجل تحقيقها، حتى لقي الله - عزوجل- على ذلك، وهذه الأهداف وإن تنوعت وتعددت، فإنها تدور في مجملها حول محور واحد وغاية عظمى، ألا وهي: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ومحاربة البدعة.
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 وينظر حول اتصال ابن القَيِّم بابن تَيْمِيَّة، وعلاقته به، وأثره فيه، وأنه لم يكن نسخة من شيخه: (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره) : (ص78-97) .
3 البدر الطالع: (2/145) .
(1/114)
ومن أبرز تلك الأهداف النبيلة والآراء السديدة:
أولاً: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة، والعمل بهما، والتحاكم إليهما عند التنازع، ونبذ ما يخالف ذلك من الآراء والأقوال، فتجعل نصوص الوحي المنزل حكماً على ما سواها من آراء الرجال وأقوالهم.
وقد أولى - رحمه الله - هذا الجانب عناية خاصة، واجتهد في تقريره والدعوة إليه، وسخَّر جهده ووقته وقلمه في سبيل الله تحقيقه، بل أفرد لذلك المصنفات التي يردُّ فيها على الفلاسفة وأهل الكلام، وأتباعهم من المنتسبين إلى الإسلام.
فنراه - رحمه الله - يتبرأ من "جَعْلِ سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعة لآراء الرجال، منزلة عليها، مسوقة إليها"1.
وقال مرة: "ولسنا ممن يعرض الحق على آراء الخلق، فما وافقه منها قَبِلَهُ، وما خالفه رُدَّ، وإنما نحن ممن يعرض آراء الرجال وأقوالها على الدليل، فما وافقه منها اعتدَّ به وقبله، وما خالفه خالفه"2.
وسيأتي مزيد كلام له - رحمه الله - في ضرورة التمسك بالسنة، والتحذير من تركها لرأي أحد أو عمله كائناً من كان3.
ثانياً: الدعوة إلى اتِّباع السنة النبوية الصحيحة النقية، كما
__________
1 تهذيب السنن: (1/10) .
2 الفروسية: (ص 41) .
3 انظر ص: (329 - 332) .
(1/115)
جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير مما خالط ذلك من البدع الْمُحْدَثَات، التي تَدَيَّنَ بها كثير من الناس، معرضين - في الوقت نفسه - عن الثابت الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الصدد يقول عنه العلامة الشوكاني رحمه الله: "وبالجملة فهو أحد من قام بنشر السنة، وجعلها بينه وبين الآراء الْمُحْدَثة أعظم جُنَّةٍ، فرحمه الله، وجزاه عن المسلمين خيراً"1.
وقال ابن القَيِّم في بيان منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة: "فصاحب السنة حيُّ القلب مستنيره، وصاحب البدعة ميت القلب مظلمه"2.
وَبَيَّنَ مرةً فضل متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك، فقال: " ... وأكمل الخلق متابعة له: أكملهم انشراحاً ولذةً وقرة عين، وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه، ولذة روحه ما ينال"3.
وقد كان - رحمه الله - دائم التنبيه على البدع، وبيان الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم من الدخيل الْمُحْدَثِ، كلما وجد مناسبة لذلك، فمن ذلك:
قوله رحمه الله: "ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تَعْليَةُ القبور، ولا بناؤها بآجرٍّ ولا بحجر ولبن، ولا تشييدها ... فكل هذا بدعة مكروهة، مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم"4.
__________
1 البدر الطالع: (2/145) .
2 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص7) .
3 زاد المعاد: (2/28) .
4 زاد المعاد: (1/524) .
(1/116)
وقال عن حديث الاكتحال يوم عاشوراء والتطيب: " ... مِنْ وضع الكذَّابين، وقَابَلَهُم آخرون فاتخذوه يوم تَأَلَّمٍ وحزنٍ، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة، وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع"1.
وقال رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه أن يُجْتَمَعَ للعزاء، ويقرأ له القرآن، لا عند القبر ولا غيره، وكل ذلك بدعة حادثة مكروهة"2.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة لِذَمِّه - رحمه الله - البدع، وقيامه عليها وتنفيره منها.
ثالثاً: ذمُّ التقليد الأعمى، الذي يحمل المقلد على ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لقول مُقَلَّدِهِ، فلا يرى الحق إلا مع إمامه، ولا يقبل من الدين إلا ما جاء من طريقه.
ويصف ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا النوع من التقليد المذموم بأنه: "الإعراضُ عن القرآنِ والسننِ وآثارِ الصحابةِ، واتخاذُ رَجلٍ بعينه مِعْيَاراً على ذلك، وتركُ النصوص لقوله، وعرضها عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه"3.
ولا شك أن استيلاء التقليد على القلوب سببه: ما تقدم من
__________
1 المنار المنيف: (ص112 - 113) .
2 زاد المعاد: (1/527)
3 إعلام الموقعين: (2/250) .
(1/117)
الإعراض عن نصوص الكتاب والسنة، ونبذهما وراء الظهور، والالتفات - بدلاً من ذلك - إلى القيل والقال، وآراء الرجال؛ فإن الغالب على من كانت هذه حاله، أنه يكون أسيراً لأقوال إمامه، حبيساً في سجن آرائه، فتجد الواحد منهم قد "أَخْلَد إلى أرض التقليد، وقنع أن يكون عيالاً على أمثاله من العبيد"1.
ويُبَيِّن ابن القَيِّم - رحمه الله - شيئاً من حال الْمُقَلِّد، فيقول: "وعياذاً بالله من شر مقلد عَصَبِيّ، يرى العلم جهلاً، والإنصاف ظلماً، وترجيح الراجح على المرجوح عدواناً"2.
ويُخْرِجُ ابن القَيِّم المقلد من زمرة العلماء؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء قد وَرَّثُوا العلم، "وكيف يكون مِنْ وَرَثة الرسول صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء إلى قول مقلد ومتبوعه؟! "3
أقسام التقليد المحرم:
وقد بَيَّنَ - رحمه الله - أن التقليد المحرم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- الإعراض عمَّا أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاءً بتقليد الآباء.
2- تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهلٌ لأن يُؤْخذ عنه.
3- التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.
__________
1 تهذيب السنن: (1/6) .
2 تهذيب السنن: (3/251) .
3 إعلام الموقعين: (1/7) .
(1/118)
ثم بَيَّنَ حرمة هذه الأنواع كلها، وذمَّ الله - سبحانه - لها في كتابه، وذلك في بحث له طويل ممتع نفيس1.
رابعاً: ذمُّ التعصب المذهبي ومحاربته، وكشف عواره، والتحذير منه.
فالتعصب المذهبي خطره عظيم، وشره جسيم، وإنما هو ناشئٌ عن التقليد ولا يقل في خطورته عنه، بل إنه أشد ضرراً من التقليد؛ فإن المقلد قد يكون قانعاً بمجرد التقليد، لكن المتعصبين زادوا على ذلك: أنهم - مع تقليدهم - "قد جعلوا التعصب للمذهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون"2، وفي سبيلها يوالون ويعادون ويصلون ويقطعون، ويحبون ويبغضون، فقد "أشقاهم التعصب وأصَمَّهم وأعمى أبصارهم عن نور الوحيين: الكتاب والسنة، حتى بلغ بهم الهوس إلى المهاترات، ورد المذهب بمذهب آخر"3.
وقد سبقت الإشارة إلى شيوع التعصب المذهبي وانتشاره في المجتمع الذي عاش فيه ابن القَيِّم، وما كان يسببه ذلك من: فتن وصراعات، ومحن وخلافات4، الأمر الذي جعل ابن القَيِّم رحمه الله - وهو ابن هذه البيئة - يهبُّ في وجه هؤلاء المتعصبة، ويعلنها حرباً عليهم في كل مناسبة وحين، بل قد أعطى هذه القضية من وقته وجهده وكتاباته الكثير والكثير.
__________
1 انظر: إعلام الموقعين: (2/187 - 281) .
2 إعلام الموقعين: (1/7) .
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص44) .
4 انظر: (ص 49 - 50) .
(1/119)
ويبين ابن القَيِّم - رحمه الله - خطر التعصب، وعاقبة أمره، فيقول: "تالله إنها فتنة عمَّت فَأَعْمَت، ورمت القلوب فَأَصَمَّتْ، رَبَا عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، واتُّخِذ لأجلها القرآن مهجوراً ... "1.
ولقد صَبَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - في محاربته للتقليد والتعصب على كل ما نَالَهُ مِنَ الأذى، وكَانَ ثَابِتَاً كالجَبَلِ الرَّاسِي، لَمْ تُؤَثِّر فيه مؤامراتُ الحاقدين، ولا نَالَتْ من ثَبَاتِهِ سِهَامُ الْمُقَلِّدة المتعصبين، حتى آتت جهوده أطيب الثمار، "فَذَابَتْ العصبيةُ المذهبية في الطريقة الأَثَرِيَّة، فَصُحِّحَت المفاهيم، وأخذ يَدُبُّ في الناس روحُ الأخذِ بِالدليل معَ احترام الأئمة السالفين، بل هو مَسْلَكُهُم ومَنْهَجُهُم، وما زالَ هذا يَدُبُّ في كل عهدِ ومَهْد حتى أيامنا هذه، بل في هذه الأيام والأزمان الحاضرة لم يجد الناس بُدًّا من ذلك المنهج السَّويِّ، والْمَشْرَعِ الرويِّ؛ لأنه هو الذي يتمشى ووقائع العصر ونوازله، فعاد أعداء المدرسة الأثرية لها أصدقاء، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"2.
خامساً: محاربة الانحراف في العقيدة، والدعوة للرجوع إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة في باب العقيدة: فَهْماً وسلوكاً.
ولقد كان هذا هو هدف ابن القَيِّم الأهم، الذي أنفق في سبيله الكثير من جهده، وسطَّر من أجله العديد من مؤلفاته3.
__________
1 إعلام الموقعين: (1/7 - 8) .
2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص48)
3 ومن أهمها: (اجتماع الجيوش الإسلامية) ، و (الصواعق المرسلة) ، و (قصيدته النونية) العظيمة التي بلغت ستة آلاف بيت.
(1/120)
وذلك أنه قد انتشرت في عصره الأفكار الفلسفية، والمناهج الكلامية، وأدى ذلك إلى ظهور بدع التأويل لنصوص الصفات تأويلاً يُفْضي إلى تحريفها عن معناها، أو تعطيلها عن مضمونها ونفيها.
ولاشكَّ أن ذلك مخالف لما عليه سلف هذه الأمة من: إثبات ما وصف الله - سبحانه - به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتاً بلا تشبيه، وتنْزيهه عمَّا نزه عنه نفسه، ونَزَّهه عنه رسوله، تنْزيهاً بلا تعطيل1.
من أجل ذلك هبَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - للدفاع عن عقيدة السلف، والدعوة إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في فهم نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، فكان له جهد مشكور، وبلاء حسن في إحياء عقيدة السلف بعدمَا دَرَسَت، وتصحيح كثير من المفاهيم بعد ما تحرَّفت وانطمست، ولا تزال بركة دعوتِهِ - وشيخه من قبله - ساريةً إلى وقتنا هذا، بما تركاه من كتب نفيسة ومؤلفات نافعة مباركة، يعتصمُ بها طالبُ الحقِّ من الوقوع في الفتن، وينهل من مَعِينها كل راغب في اتباع خير سَنَنٍ.
سادساً: تقرير أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة لا يضربُ بعضُهَا بعضاً، وأنها تتفق ولا تفترق، وأنها كلٌّ لا يتجزأ، ولذا فإنه لا ينبغي أخذ بعضها وترك بعضها الآخر، فيأخذ أحدهم ما يناسبه، ويَطِّرِح ما يخالف هواه، بل لابد من تنْزيل كل نص من نصوصها منْزله، وحمله على ما وُضِعَ له.
__________
1 انظر: الصواعق المرسلة: (1/228 - 229) .
(1/121)
يقول ابن القَيِّم - رحمه الله - في معرض ذمِّه لأولئك الذين يأخذون أحاديث التخفيف في الصلاة، وَيَدَعُون الأخرى التي جاءت بتطويله صلى الله عليه وسلم الصلاة -: "فهو يميل من السنة إلى ما يناسبه، ويأخذ منها ما يوافقه، ويَتَلَطَّف لمن خشن في تأويل ما يخالفه، ودفعه بالتي هي أحسن، ونحن نبرأ إلى الله من سلوك هذه الطريقة، ونسأله أن يُعَافِيَنَا مما ابتلى به أربابها ... فليس الشأن في الأخذ ببعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها، بل الشأن في الأخذ بجملتها، وتنزيل كل شيء منها منزلته، ووضْعِهِ بموضعه"1.
وهذا منه - رحمه الله - تشخيص دقيق لداءٍ عضال، قد أصيب به كثير من الناس، يتلمسون من نصوص السنة ما يناسب أهواءهم، فيحملونها على غير مَحَامِلها لِتُنَاسب مقصودهم، ويَطِّرحُون - في الوقت نفسه - من النصوص النبوية ما يشق على نفوسهم اتباعه، وما لا توافقهم أهواؤهم على امتثاله.
تلك هي الطائفة التي تقول - كما يصورها ابن القَيِّم -: "حق الله مبني على المسامحة والمساهلة والعفو، وحق العباد مبني على الشح والضيق والاستقصاء، فقامت في خدمة المخلوقين كأنها على الفرش الوثيرة ... وقامت في خدمة ربها وفاطرها كأنها على الجمر المحرق، تعطيه الفضلة ... وتستوفي لأنفسها كمال الحظ"2.
فلله درُّ ابن القَيِّم؛ لقد وَضع يده على كثير من أمراض القلوب وأدوائها، فهبَّ يصف الدواء الناجع الذي فيه الشفاء لها.
__________
1 الصلاة: (ص166) .
2 الصلاة: (ص165) .
(1/122)
سابعاً: الحرص على توجيه العلماء والمفتين والمبلغين عن رب العالمين، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكونوا صادقين مخلصين، عالمين عاملين، صادعين بالحق لا يخافون.
وما ذلك إلا لعظمِ مكانةِ العلماء وخطورة شأنهم؛ فإنه لَمَّا كان قيام الإسلام إنما هو بطائفتي: العلماء والأمراء، كان صلاح الدنيا كلها بصلاحهما، وفسادها بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلا الْمُلُوُكُ ... وأحبارُ سُوءٍ وَرَهْبَانُهَا
ولاشكَّ أن خطر العلماء أشد، ومسؤوليتهم أعظم، فإنهم إن كانوا قائمين بالحق، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم، فإن الملوك سيهابونهم، ويعرفون لهم قدرهم. وأما إن كانوا - والعياذ بالله - علماء سوء، يعينون الحكام على ظلمهم، ويزيِّنون لهم باطلَهم، ولا يُخَوِّفُونهم الله في الناس، فإنهم يكونون شرّاً على الدين والدنيا معاً.
ولما أدرك ابن القَيِّم - رحمه الله - خطورة هذا لأمر، وقدره حق قدره، كان حريصاً على التنبيه عليه، والتحذير من التهاون فيه.
من شروط العلماء والمفتين:
قال رحمه الله: "ولما كان التبليغ عن الله - سبحانه - يعتمد: العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك: حسن الطريقة، مَرْضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر
(1/123)
والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ... ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه"1.
ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كعادته - ممتثلاً ذلك في نفسه أولاً، فكان خير مثل للعلماء العالمين العاملين، الصادقين المخلصين، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر بلسانه ويده، قائماً لله بحقه، فبارك الله له في دعوته، وألقى في القلوب مَحَبَّتِهُ.
ثامناً: محاربة الفساد والأوضاع الخاطئة في مجتمعه، وإنكار المنكرات السائدة فيه، والتحذير منها.
وقد سبقت الإشارة إلى شيء من مواقفه في ذلك، كموقفه من عادة التحليل، والغناء والسماع الذي عمَّت به البلوى في وقته، وغير ذلك من المنكرات التي انتشرت آنذاك، فوقف لها بالمرصاد: يفضح أمرها، ويبين خطرها وسوءَ عَاقِبَتِهَا.
فكان - رحمه الله - يُعدُّ بحق مُصلحاً اجتماعياً ناجحاً.
تلك هي أبرز الأهداف النبيلة التي كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يسعى لتحقيقها، والمبادئ التي كان ينادي بالتزامها والتحلِّي بها، والآراء السديدة التي كانت له، فجزاه الله خير الجزاء من عَالِمٍ صادق، وداعية مصلح، وإمامٍ ربانيِّ.
__________
1 إعلام الموقعين: (1/10-11) .
(1/124)
المبحث السادس: مِحَنُه وَوَفَاتُه
1- مِحَنُهُ:
لقد عشنا مع ابن القَيِّم - رحمه الله - في بيئته التي نشأ وترعرع فيها، وعرفنا أحوال عصره ومجتمعه وما كان يسوده من سلبيات ومفاسد دينية أخلاقية، ورأينا كيف كان ابن القَيِّم- في ظل هذه الأوضاع السيئة- صاحب رسالة سامية، وأهداف نبيلة، ومبادئ إصلاحية يهدف من ورائها: إلى الرجوع بالناس إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة من التمسك بالكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات والتقليد والتعصب.
لكن طريقه هذا الذي سار فيه لم يكن سهلاً ميسوراً، بل كان محفوفاً بالمشاقِّ، فنزلت به بسبب ذلك محن عديدة، وتعرَّض لإيذاء واضطهاد وفتن أثناء جهاده لنشر دعوته، وسعيه لإصلاح حال مجتمعه.
فلم يكن من السهل على هذا المجتمع الذي سيطرت عليه الأفكار الدخيلة، وسادته البدع المتوارثة، أن يستجيب لهذا المصلح المجاهد الذي بزغ نوره في هذا الظلام الحالك، وكيف يتم له ذلك ولهذه البدع حُرَّاسٌ وحماةٌ من أمراء البلاد وحُكَّامها، بل ومن بعض الْمُنْتَسِبين إلى العلم أنفسهم؟!
فقد كان الأمر صعباً إذاً، والمواجهة إلى أشدِّها، وظهر في الساحة أعداء لابن القَيِّم، يتربصون به الدوائر، ويحيكون ضده الدسائس والمؤامرات، كما فعلوا من قبل مع شيخه وأستاذه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله.
(1/125)
إنكاره شَدُّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل، ومحنته بسبب ذلك:
من البدع التي سادت المجتمع وقتئذ، وتقرب الناس بها إلى الله: بدعة شَدِّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل إبراهيم عليه السلام.
فقام ابن القَيِّم - رحمه الله - في وجه هذه البدعة منكراً لها، ومبيناً مخالفتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَدْيِه، فما كان من أعدائِه وشانئيه إلا أن قاموا ضِدَّه، وآذوه، ثم حُبِس بسبب ذلك.
قال الحافظ الذهبي: "وقد حبس مدة وأوذي لإنكاره شدَّ الرحل إلى قبر الخليل"1.
والظاهر أن هذه هي المرة التي حبس فيها مع شيخه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله؛ ذلك أنه في السادس عشر من شعبان سنة 726هـ اعْتُقِل الشيخ ابن تَيْمِيَّة في قلعة دمشق، وذلك بسبب ما أفتى به من المنع من شد الرحل إلى قبور الأنبياء، وبعد ذلك بأيام "أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم ... وعزَّرَ جماعة منهم على دواب ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية؛ فإنه حُبِس بالقلعة، وسكتت القضية"2.
ولعل في إطلاقهم كل رفاقه وإبقائه وحده في الحبس، ما يُبَيِّنُ لنا مدى الحِنْق الذي كان في نفوس أعدائه - من أهل البدع - ضده، ويبين لنا في الوقت نفسه، ما كان لابن القَيِّم من دور بارز، وتأثير بالغ في الناس آنذاك، مما جعل هؤلاء يخشونه على بدعهم، فرأوا أن يحجبوه في السجن.
__________
1 المعجم المختص: (ص296) .
2 البداية والنهاية: (14/128) .
(1/126)
ولكن شاء الله سبحانه أن يشاطر ابن القَيِّم شيخه محنته هذه، فَسُجن معه في القلعة، ولأجل التهمة نفسها، ولكنه كان (منفرداً عنه) 1.
ولقد كان للحاقدين على شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة وتلميذه ابن القَيِّم دورٌ قبيح في حبسهما، وتدبير الشر ضدهما، ذلك أنهم حرَّفوا فتوى ابن تَيْمِيَّة: بأنه يُحَرِّمُ زيارة قبور الأنبياء مطلقاً، ويعتبر ذلك معصية، مع أن الشيخ - وكذا تلميذه - " لم يمنع الزيارة الخالية عن شد الرحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك ... ولا قال إنها معصية ... ولا هو جاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:» زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة «. والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا تخفى عليه خافية"2.
ويَحكي المقريزي - رحمه الله - هذه الواقعة - مبيناً ملابساتها وظروفها - بأوسع من هذا، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد ضُرب في هذه المرة قبل أن يُحبس، فيقول: (وفي يوم الاثنين سادس شعبان - يعني سنة 726هـ - حُبِس تقي الدين أحمد بن تيمية، ومعه أخوه زين الدين عبد الرحمن بقلعة دمشق. وضُرِب شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قَيِّم الجوزية، وشُهِّرَ به على حمار بدمشق.
وسبب ذلك: أن ابن قَيِّم الجوزية تكلم بالقدس في مسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، وأنكر مجرد القصد للقبر الشريف دون قصد المسجد النبوي، فأنكر المقادسة عليه مسألة الزيارة، وكتبوا فيه إلى قاضي القضاة جلال الدين القزويني وغيره من قضاة دمشق.
__________
1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
2 البداية والنهاية: (14/129) .
(1/127)
وكان قد وقع من ابن تَيْمِيَّة كلام في مسألة الطلاق بالثلاث: (أنه لا يقع بلفظ واحد، فقام عليه فقهاء دمشق، فلما وصلت كتب الْمَقَادِسَة في ابن القَيِّم، كتبوا في ابن تَيْمِيَّة وصاحبه ابن القَيِّم إلى السلطان، فعرف شمس الدين الحريري - قاضي القضاة الحنفية بديار مصر- بذلك، فشَنَّع على ابن تَيْمِيَّة تشنيعاً فاحشاً، حتى كتب بحبسه، وضُرِبَ ابن القَيِّم) 1.
وقد ظل ابن القَيِّم محبوساً مدة، ولم يُفْرَج عنه إلا بعد وفاة شيخه بشهر؛ ذلك أن ابن تَيْمِيَّة قد توفي في محبسه بالقلعة في العشرين من ذي القعدة سنة (728هـ) ، (وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أُفرج عن الشيخ الإمام العالم العلامة أبي عبد الله شمس الدين بن قَيِّم الجوزية) 2.
وقد امتحن ابن القَيِّم - رحمه الله - غير هذه المرة أيضاً:
فتواه بجواز السباق بغير مُحَلِّل ومحنته بسبب ذلك:
كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يُفتي بجواز إجراء السباق بين الخيل بغير مُحَلِّل، وَصَّنف في ذلك كتابه: (بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال) أو: (بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل) 3. كما أنه تناول هذا الموضوع في بحث طويل مفيد ضمن كتابه (الفروسية) 4.
__________
1 السلوك: (2/1/273) .
2 البداية والنهاية: (14/145) .
3 تنظر مؤلفات ابن القَيِّم: ص (233) .
(ص 20 - 61) .
(1/128)
وقد أشار ابن حجر - رحمه الله - إلى محنته هذه، فقال: "وجرت له محن مع القضاة، منها: في ربيع الأول - يعني سنة 746هـ - طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير مُحَلِّل، فأنكر عليه وآل الأمر إلى أنه رجع عما كان يُفتي به من ذلك"1.
وحكى ابن كثير هذه الحادثة، ولكنه ذكر ما يفيد أن ابن القَيِّم كان يفتي في ذلك برأي شيخه، وصَنَّف هذا المصنف لنصرة رأي الشيخ، ثم صار يفتي به دون نسبته إلى شيخه، فظنوه قوله، فحصل له ما حصل، ثم (انفصل الحالُ على أن أظهر الشيخ شمس الدين ... الموافقة للجمهور) 2.
قال الشيخ بكر أبو زيد: "وقضية الرجوع محل نظر، فلابد من تثبيت ذلك، وأرجو من الله تعالى أن يمنَّ عليَّ بما يدل على ذلك، نفياً أو إثباتاً"3.
قلت: أما كتبه التي بين أيدينا، فليس فيها ما يدل على رجوعه، وبخاصة كتاب (الفروسية) ، ولكن ابن كثير - رحمه الله - يحكي ما شاهده بنفسه من إظهاره الموافقة للجمهور، فهل أظهر ابن القَيِّم ذلك دفعاً للشر عن نفسه دون أن يرجع حقيقة عن رأيه؟ الله أعلم.
والذي يهمنا في هذه القضية: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد امتحن من القضاة بسببها، وأوذي في سبيل ذلك.
__________
1 الدرر الكامنة: (4/23) .
2 البداية والنهاية: (14/227) .
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص43) .
(1/129)
فتواه في مسألة الطلاق الثلاث ومحنته بسبب ذلك:
وقد امتحن ابن القَيِّم مرة أخرى بسبب فتواه بأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع طلقة واحدة، وهو اختيار شيخه ابن تَيْمِيَّة أيضاً.
ويشير ابن كثير - رحمه الله - إلى ما وقع له بسبب ذلك، فيقول: "وقد كان متصدياً للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجرت بسببها فُصُولٌ يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره"1.
ولم يبين لنا ابن كثير ما وقع له بسب ذلك، لكن الظاهر أنه لم يُحْبَس إلا في المرة التي كان فيها مع شيخه ابن تَيْمِيَّة، وذلك بسبب فتوى شد الرحل، وأما مسألة الطلاق، وكذا مسألة المحلل في السباق، فيظهر أنه جرت له بسببهما فتن ومحن مع القضاة فحسب، وأنه لم يُسجن بسبب ذلك، وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد أنه سُجن بسبب هذه الفتاوى كلها2.
ولم أر ما يدل على ذلك، ولعل كلام ابن رجب صريح في أنه لم يُحبس إلا في تلك المرة مع الشيخ، فقد قال: "وقد امتُحن وأُوذي مرات، وحُبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة ... "3.
ومما يؤكد - أيضاً - أن فتواه في مسألة الطلاق قد سببت له
__________
1 البداية والنهاية: (14/246 - 247) .
2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص42) .
3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
(1/130)
مشكلات مع القضاة، ما حكاه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من الصلح الذي تم بين السبكي وابن القَيِّم، فقد ذكر في أحداث سنة 750هـ - قبل موت ابن القَيِّم بعام واحد - في السادس عشر من شهر جمادى الآخرة منها، أنه (حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وبين الشيخ شمس الدين بن قَيِّم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق) 1.
فالمقصود أنه - رحمه الله - ابتلي وأوذي وامتحن بسبب صدعه بالحق، وإعلانه رأيه وما يعتقده دون مجاملة أو خوف من أحد، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عما قَدَّم خير الجزاء.
2- وفاتُه:
وبعد هذه الحياة الحافلة بالجهاد المتصل لنشر منهج السلف، ومحاربة كثير من الانحرافات التي ابتدعها الخلف، وما لقيه من محن في سبيل ذلك، وبعد أن كَمُلَ له من العمر ستون سنة، توفي هذا الإمام العالم العلامة، وذلك في ليلة الخميس، ثالث عشر من شهر رجب، من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة (751هـ) وقت أذان العشاء2.
ووقع عند ابن رجب: (ثالث عشرين رجب) 3. ولعله تصحيف
__________
1 البداية والنهاية: (14/244) .
2 الوافي بالوفيات: (2/272) ، البداية والنهاية: (14/246) ، والدرر الكامنة: (4/23) .
3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .
(1/131)
طباعي، فتكون كلمة (من) تصحفت إلى (ين) ؟ وذلك لاتفاق المصادر على ما قدمناه من أنه كان في ثالث عشر؛ ولأن ابن رجب من تلاميذ ابن القَيِّم المقَرَّبين، فيبعد أن يخفى عليه يوم وفاته.
ووقع في (البدر الطالع) 1 أنه كان في (ثالث شهر رجب) ، وهذا خطأ أيضاً.
وقد صُلِّيَ عليه - رحمه الله - من الغد عقب صلاة الظهر بالجامع الأموي2، ثم بجامع جَرَّاح3.
ولأن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان قائماً لله بالحق، صادقاً في النصح للخلق فقد "كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون، من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه"4.
فقد "شَيَّعَه - رحمه الله - خلق كثير"5، "وكانت جنازته مشهودة"6،"وحافلة جداً"7.
نعم لقد كانت جنازته حافلة عامرة، شهدها كثير من الخلق، كما
__________
(2/145) .
2 البداية والنهاية: (14/246) .
3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .
4 البداية والنهاية: (14/247) .
5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .
6 الرد الوافر: (ص68) .
7 الدرر الكامنة: (4/23) .
(1/132)
كانت جنازة شيخه رحمه الله، التي لم يتخلف عنها من أهل دمشق سوى ثلاثة نفر، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز"1. كانت هذه جنازته - رحمه الله - مع ما كان له في قلوب الكثيرين من العداوات، ومع ما حِيَكَ ضده من المؤامرات.
وَدُفِنَ - رحمه الله - عند والدته بمقابر الباب الصغير2.
وقد رُؤِيَتْ له بعد موته "منامات كثيرة حسنة"3.
وكان هو - رحمه الله - "قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في النوم، وسأله عن منزلته؟ فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة رحمه الله"4.
فَرَحِم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خيراً، وأسكنه فسيح جناته، آمين.
__________
1 البداية والنهاية: (14/143) .
2 البداية والنهاية: (14/246) ، ذيل الطبقات: (2/450) .
وأفاد محقق (زاد المعاد) في المقدمة: (1/24) : أن قبره معروف إلى الآن، على يسار الداخل إلى المقبرة من الباب الجديد الذي وسع منذ أكثر من عشرين سنة، وقد أزيل القبر عن موضعه، وأبعد أكثر من مترين إلى الشرق.
3 ذيل الطبقات: (2/450) ، وانظر: الدرر الكامنة: (4/23) .
4 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450 - 451) .
(1/133)

==========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الفصل الثالث: سيرته العلمية
المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له، وثناؤهم عليه.
...
المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له وثناؤهم عليه.
تَقَدَّمَ - عند الكلام على أخلاقه وصفاته - ذكرُ طَرَفٍ من حاله في طلبه للعمل، وشدة محبته له، وجِدِّهِ واجتهاده في تحصيله ليلاً ونهاراً.
ولقد أثمر هذا الجهد المتواصل، وتلك المحبة الصادقة للعلم ودرسه، أطيب الثمار، فَنَبَغَ ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في علوم عديدة، حَتَّى ذَاعَ صِيتُهُ، وفاق في ذلك أَقْرانَهُ وأهلَ عصره، ولم يُر في وَقْتِهِ مِثْلُهُ.
ولقد شهد له تلاميذه ومعاصروه - بل وبعض شيوخه - بطول الباع، وعلو الشأن، وبلوغ الغاية في شتى العلوم وسائر الفنون، فلنذكر طرفاً من شهادات هؤلاء الأئمة وثنائهم عليه، ليعرف بذلك قدره، ومدى تقدمه وعلو شأنه، فمن ذلك:
1- قال القاضي برهان الدين الزُّرَعي1: "ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه"2.
2- وقال شيخه المزي: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه"3.
__________
1 هو: إبراهيم بن أحمد بن هلال بن بدر، الحنبلي، ولد سنة 688هـ، واشتغل على ابن تَيْمِيَّة وابن الزملكاني، ومهر وتقدم في الفتيا، ودرَّس في المدرسة الحنبلية عوضاً عن ابن تَيْمِيَّة لَمَّا سُجِن، توفي سنة (741هـ) . (الدرر الكامنة: 1/16) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
3 الرد الوافر: (ص68) .
(1/137)
وهذا القول من المزي - على جلالته - يطابق بشارة شيخه ابن تَيْمِيَّة له - لَمَّا رآه في المنام - بأنه في طبقة ابن خزيمة، وقد تقدم ذكر ذلك1.
3- وقال الحافظ الذهبي: "الفقيه، الإمام، المفتي، المتفنن، النحوي"2. وقال أيضاً: "عُني بالحديث متونه ورجاله، وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو وَيَدْرِيه، وفي الأصلين"3.
4- وقال الصَّلاح الصَّفَدِي: "الإمام العلامة"4. وقال أيضاً: "اشتغل كثيراً وناظر، واجتهد، وأكبَّ على الطلب، وصَنَّف، وصار من الأئمة الكبار في: علم التفسير، والحديث، والأصول: فقهاً وكلاماً، والفروع، والعربية، ولم يخلف الشيخ العلامة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة مثله"5.
5- وقال أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: "الشيخ، الإمام، العلامة، ذو الفنون ... أفتى، ودرَّس، وناظر، وصنف، وأفاد"6.
6- وقال الحافظ ابن كثير: "الإمام العلامة ... سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لاسيما: علم التفسير، والحديث، والأصلين. ولَمَّا عاد الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من الديار المصرية في سنة
__________
1 انظر: ص (133) .
2 المعجم المختص: (ص269) .
3 المصدر السابق.
4 الوافي بالوفيات: (2/270) .
5 الوافي بالوفيات: (2/271) .
6 ذيل العبر: (ص155) .
(1/138)
(712هـ) ، لازَمَه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جمَّاً، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة… وبالجملة: كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله"1.
7- وقال ابن رجب: "الفقيه، الأصولي، المفسر، النحوي، العارف ... تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ... وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى. والحديث ومعانيه، وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك. وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام، والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فنٍّ من هذه الفنون اليد الطولى"2.
وقال أيضاً: " ... ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرفَ بمعاني القرآن والسنة، وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله"3.
8- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "أحد المحققين، عَلَمُ المصنفين، نادرة المفسرين"4. وقال أيضاً: "كان ذا فنون من العلوم - وخاصة التفسير والأصول - من المنطوق والمفهوم"5.
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447 - 448) .
3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
4 الرد الوافر: (ص68)
5 المصدر السابق.
(1/139)
9- وقال تقي الدين المقريزي: "برع في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، وغير ذلك، ولزم شيخ الإسلام، وأخذ عنه علماً جَمًّا، فصار أحد أفراد الدنيا"1.
10- وقال الحافظ ابن حجر: "كان جرئ الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف"2. وقال أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر) -: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم مَنْزلته"3.
11- وقال ابن تَغْرِي بَرْدِي: "كان بارعاً في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، ونحو، وحديث، وأصول، وفروع، ولزم الشيخ تقي الدين بن تيمية ... وأخذ عنه علماً كثيراً، حتى صار أحد أفراد زمانه"4.
12- وقال السخاوي: "العلامة، الحجة، المتقدم في: سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان ... "5.
__________
1 السلوك: (2/3/834) .
2 الدرر الكامنة: (4/21) .
3 الرد الوافر: (ص146) .
4 النجوم الزاهرة: (10/249) .
5 التاج المكلل: (ص419) .
(1/140)
13- وقال السيوطي: "صنَّف، وناظر، واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير، والحديث، والفروع، والأصلين، والعربية"1.
14- وقال ابن العماد: "الفقيه الحنبلي- بل المجتهد المطلق - المفسر، النحو، الأصولي، المتكلم"2.
15- وقال الشوكاني: "العلامة الكبير، المجتهد المطلق، المصنف المشهور ... برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتَبَحَّر في معرفة مذاهب السلف"3.
16- وقال الشَطِّيُّ4: "الفقيه، الأصولي، المفسر، المحدث ... ذو اليد الطولى، الآخذ من كل علم بالنصيب الأوفى ... تَفَنَّن في علوم الإسلام، فكان إليه المنتهى في: التفسير، وأصول الدين، وكان في الحديث والاستنباط منه لا يُجَارى، وله اليد العليا في الفقه وأصوله، والعربية، وغير ذلك"5.
تلك هي أقوال هؤلاء الجهابذة، أئمة المسلمين، وأعلام الدين في الشهادة لابن القَيِّم، والثناء عليه، وبيان منزلته ودرجته في العلم، وتأكيد تقدمه وإمامته في سائر العلوم، وشتى الفنون.
__________
1 بغية الوعاة: (1/63) .
2 شذرات الذهب: (6/168) .
3 البدر الطالع: (2/143) .
4 هو: محمد بن جميل بن عمر بن محمد الشطي، فقيه، فرضي، مؤرخ، ناثر، ناظم، توفي سنة 1379هـ. (معجم المؤلفين: 9/161) .
5 مختصر طبقات الحنابلة: (ص61) .
(1/141)
وكثير من هؤلاء الأئمة قد عايشه وعرفه عن قرب، ومنهم من تتلمذ عليه وأخذ عنه، ولذلك فإن هذه الشهادات لها قيمة خاصة.
فإذا أضيف إلى ذلك: عِظَم مكانة هؤلاء الأئمة، وعلوِّ شأنهم، وذيوع صيتهم- كالذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وابن حجر، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم - علمنا القيمة الحقيقية لهذه الأقوال، وتلك الشهادات، وأنها تُعَبِّر تعبيراً صادقاً عن المكانة الحقيقية التي تبوَّأها ابن القَيِّم - رحمه الله - بين أهل العلم وأئمته.
على أنه لو لم تكن أمامنا هذه الشهادت، وتلك الأقوال، فإننا - ومعنا كل منصف، متجرد من هوى التعصب على أئمة الهدى وبقية السلف - نستطيع أن نجزم بأن مكانة ابن القَيِّم - رحمه الله - هي هذه التي وضعوه فيها وأعلى؛ وذلك عند النظر في آثاره، والاغتراف من غزير فوائده، والعيش بصدق مع علومه النافعة، وتوجيهاته المخلصة في كل مبحث من مباحثه.
وعند التأمل في أقوال هؤلاء الأئمة نلاحظ:
أنه يصعب على الباحث أن يجزم بتفوق ابن القَيِّم -رحمه الله- في فن على حساب الفنون الأخرى، فقد اتفقت كلمتهم - أو كادت - على تفوقه في فنون كثيرة، وجمعه بين علوم عديدة، مع التقدم والمهارة وعلو الشأن في ذلك كله.
(1/142)
فلقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله -: مُحَدِّثاً، فقيهاً، أصولياً، مفسراً، نحوياً، لغوياً، أديباً ... له في كل فن من هذه الفنون: القدح الْمُعلَّى، والرتبة الأعلى.
وإن كان ابن كثير - رحمه الله - يقدم من علومه: "التفسير، والحديث، والأصلين". ويوافقه ابن ناصر على "التفسير، والأصول".
قال الشيخ بكر أبو زيد: "وأما علومه التي تلقاها وبرع فيها: فهي تكاد تعم علوم الشريعة وعلوم الآلة، فقد دَرَسَ التوحيد، وعلم الكلام، والتفسير، والحديث، والفقه وأصوله، والفرائض، واللغة، والنحو، وغيرها ... وبرع هو فيها وعلا كعبه وفاق الأقران، ويكفي في الدلالة على علو منزلته: أن يكون هو وشيخه - شيخ الإسلام - كفرسَي رِهَان.
وهذه الجامعية المدهشة في البراعة والطلب نجدها محل اتفاق مسجل لدى تلاميذه الكبار، ومن بعدهم من ثقات النقلة الأبرار"1.
وبعد، فهذه هي علوم ابن القَيِّم رحمه الله، وتلك هي فنونه، مع التقدم والتفوق وعلو الشأن في ذلك كله.
ولم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - لينال هذه الدرجة الرفيعة إلا بعون الله تعالى، ثم بِهِمَّة عالية، وجهد متواصل، وصبر وجلد، مع ما آتاه الله - عزوجل - من: فهم، وذكاء، وقوة حفظ، فأتاح له كل ذلك - بعد توفيق الله - الوصول إلى تلك الدرجة، واحتلال هذه الرتبة، فرحمه الله ونفع بعلومه، آمين.
__________
1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص29) .
(1/143)
وابنُ القَيِّم وإن كان بَارِعاً في هذه العلوم كُلِّها، مَتَقَدِّماً في هذه الفنون بأسرها، إلا أن الذي يعنينا من ذلك: هو نُبُوغُهُ في الحديثِ وعلومِهِ على وجه الخصوص، وهو ما عقدنا أبوابَ هذه الرسالة وفصولَها لأجله، وسيرى النَّاظرُ في هذا الكتاب ما يؤكد له هذه الإمامة، وذلك التقدم والنبوغ في الحديث وعلومه إن شاء الله.
(1/144)
المبحث الثاني: شيوخه
إن من أهم العوامل التي تسهم بشكل كبير في التكوين العلمي للشخص: شيوخه الذين تلقى عنهم، واستفاد علومه منهم.
وقد يكون بعضهم أشدَّ تأثيراً في الطالب من البعض الأخر، وذلك بحسب نوع العلاقة القائمة بين الطالب وشيخه، ومدى ارتباطه به، وصحبته له، وغير ذلك من العوامل التي تميز شخصية الشيخ، وتؤثر بالتالي في الطالب الْمُتَلَقِّي.
وقد اعتنى أكثر الذين ترجموا لابن القَيِّم بسرد شيوخه على تفاوت بينهم في ذلك، فبينما حاول بعضهم استيعاب ذلك: كالصَّفَدِي مثلاً، نجد آخرين لم يذكروا له سوى شيخ واحد فقط، كابن كثير، واقتصر البعض على ذكر بعضهم.
وفي هذا المبحث أذكر شيوخ ابن القَيِّم الذين أخذ عنهم علومه وثقافته، مع إبراز دور كل واحد من هؤلاء الشيوخ في التكوين العلمي لابن القَيِّم، وذلك بمعرفة الفنِّ الذي أخذه عنه، أو الكتب التي قرأها عليه، مع التعريف بأولئك الذين كان ارتباط ابن القَيِّم بهم أكثر، وأثرهم فيه أكبر.
وأسوق هؤلاء الشيوخ على حسب الفنون التي تلقَّاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عنهم، فأذكر شيوخ كُلِّ فَنٍّ على حدة:
(1/145)
أولاً: شيوخه في الحديث:
1- الشِّهاب العابر: أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة، المقدسي، الحنبلي، شهاب الدين، أبو العباس، عابر الرؤيا.
مولده: سنة (628هـ) .
سمع الكثير، وروى الحديث، وتَفَقَّه وحَصَّل المذهب، ثم أقبل على علم الرؤيا فبرع فيه، وكان له في اليد الطولى، بحيث فاق في ذلك أهل زمانه، وله فيه تصنيف1.
توفي بدمشق في ذي القعدة، سنة: (697هـ) 2.
وقد ذكرت أكثر مصادر ترجمة ابن القَيِّم سماعه منه3.
وهو من أوائل الشيوخ الذين سمع منهم ابن القَيِّم، وقد "حَدَّث عن شيخه: التعبير وغيره"4.
وقد حَدَّثَ ابن القَيِّم - رحمه لله - عنه بتفسير بعض الرؤى في كتابه (زاد المعاد) 5، حيث قال - عند الكلام على تأويل لباس الحلي
__________
1 جاء في حاشية (زاد المعاد) : (3/614) تسميته بـ (البدر المنير) .
2 له ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (1/60) ، والبداية والنهاية: (13/374) ، والشذرات: (5/437) .
3 انظر من ذلك: المعجم المختص: (ص269) ، والوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، وطبقات المفسرين - للداودي (2/91) .
4 ذيل العبر - للحسيني: (ص155) .
(3/614 - 615) .
(1/146)
للرجل، وأنه يدل على نكد وألمٍ يلحقه - قال: "وأنبأني أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سرور المقدسي، المعروف بالشهاب العابر، قال: قال لي رجل: رأيت في رِجلي خَلْخَالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم. وكان كذلك".
ثم ساق عنه جملة في هذا الباب، ثم قال: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعت عليه عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه، لصغر السن، واخترام الْمَنَيَّة له"1.
ويُؤخذ من هذا النص: ابتداء ابن القَيِّم - رحمه الله - بالسماع والطلب في سنٍّ مبكرة؛ إذ إنه عند وفات هذا الشيخ كان قد تجاوز السادسة من عمره بأشهر قليلة.
وفي ذلك دلالة ظاهرة على ذكاء ابن القَيِّم الخارق، وإدراكه الْمُبَكِّر، واستعداده العلمي منذ الطفولة، بحيث كان ضابطاً لمسموعه في هذا السن، حتى أَدَّاه من حفظه بعد سنين عديدة.
كما أن في كلام ابن القَيِّم في مدح شيخه تأكيداً لما اتفقت عليه كلمة الأئمة: من براعة الشهاب وتمكنه في هذا العلم، فتضاف هذه الشهادة من ابن القَيِّم إلى شهادات أولئك الأئمة.
بقي التنبيه على ما وقع من وهمٍ للأستاذ حسن الحَجَّاجِي في دراسته لابن القَيِّم2، حيث ترجم الشهاب العابر بأنه: أيوب بن نعمة بن
__________
1 زاد المعاد: (3/615-616) .
2 الفكر التربوي عند ابن القَيِّم: (ص66) .
(1/147)
محمد ... الكحال (ت730هـ) ! والصحيح ما تقدم في اسمه، وهو الذي ترجمه به تلميذه ابن القَيِّم نفسه، وأما الكحال: فشيخ آخر لابن القَيِّم سيأتي ذكره.
2- ابن مكتوم: إسماعيل بن يوسف بن مكتوم بن أحمد بن سليم، صدر الدين، أبو الفداء، السويدي، ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ، الْمُسْنِد، المعمر.
مولده: سنة (623هـ) .
وكان له سماع في الحديث، وتفرد بسماع (الموطأ) من مكرم بن أبي الصقر بدمشق، وروى الكثير، وتفرد بأشياء. وتلا القرآن على السخاوي: لأبي عمرو، وعاصم، وابن كثير. فكان خاتمة أصحابه.
وكان حسن الخلق، وحج في آخر عمره سنة (711هـ) فَحَدَّثَ بالحرم. وكان له أملاك كثيرة وثروة.
توفي - رحمه الله - سنة (716هـ) 1.
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2، وابن حجر3.
3- أيوب بن نعمة بن محمد، زين الدين أبو العلاء، المقدسي، ثم الدمشقي، الكَحَّال.
مولده: سنة (640هـ) .
__________
1 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص44) ، ومعجم الشيوخ له: (1/181) ، والدرر الكامنة: (1/410) ، والدليل الشافي: (1/130) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
3 الدرر الكامنة: (4/21) .
(1/148)
حَدَّث عن: الرشد العراقي وغيره، وحَدَّث بالكثير، وتفرد في زمانه، وكان حَدَّث بمصر مدة، ثم تحول إلى دمشق بعد سنة 720هـ.
وأخذ صنعة الكُحْلِ عن طاهر الكحال، وبرع فيها، وتكسب بها سبعين سنة.
توفي - رحمه الله - في ذي الحجة سنة (730هـ) 1.
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2.
4- ابن عبد الدائم: أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة، المقدسي، المُعَمِّر، مُسْنِدِ الشام في وقته كأبيه.
مولده: سنة (625 أو 626هـ) .
سمع من: الناصح ابن الحنبلي، والحافظ الضياء المقدسي، وجماعة. وحَدَّث في حدود سنة 660هـ. وكان مليح الإصغاء، صحيح الفهم، انقطع بموته جملة من المرويات.
وكان - رحمه الله - ذا هِمَّة وجلادة، وذِكْر وعبادة، وسَعْي في طلب الرزق. وقد ذهب بصره، وثقل سمعه في الآخر، فَضَعُفَ.
توفي - رحمه الله - في رمضان سنة (718هـ) وعاش مثل أبيه: ثلاثاً وتسعين سنة3.
__________
1 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص89) ، ومعجم الشيوخ له: (1/186) ، والدرر الكامنة: (1/464) ، والشذرات: (6/93) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
3 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص50) ، ومعجم الشيوخ له: (2/402) ، والدليل الشافي: (2/813) ، والشذرات: (6/48) .
(1/149)
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه جماعة من مترجميه1.
5- الحاكم: سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن أبي عمر، تقي الدين، أبو الفضل وأبو الربيع، المقدسي، الحنبلي، القاضي بدمشق.
مولده: في رجب سنة (628هـ) .
سَمِعَ الحديث الكثير، وقرأ بنفسه، وحضر جميع (البخاري) على ابن الزبيدي، ورواه عنه. وروى عن الحافظ الضياء نحواً من خمسمائة جزء أو أكثر، وكان محباً للرواية واسِعَهَا، وكان بصيراً خبيراً بالمذهب وشرحه، تَخَرَّجَ به الفقهاء.
وكان - رحمه الله - مُهَذَّب الأخلاق، كَيِّساً، متواضعاً، ذكي النفس، خيِّراً، متعبداً، متهجداً، عديم الشر.
توفي - رحمه الله - فجأة في ذي القعدة سنة (715هـ) 2.
وقد ذكر جماعة من مترجمي ابن القَيِّم سماعه منه3.
6- علاء الدين الكِنْدِي الوَدَاعي: علي بن مظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله، أبو الحسن، الكندي، الإسكندراني، ثم
__________
1 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، وبغية الوعاة: (1/62) .
2 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص42) ، ومعجم الشيوخ له: (1/268) ، والبداية والنهاية: (14/77) ، والشذرات: (6/35-36) .
3 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، والوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، والرد الوافر: (68) .
(1/150)
الدمشقي، الأديب، المحدِّث المفيد، المقري، كاتب ابن وَدَاعة، وكان يعرف بـ "الوَدَاعِي".
مولده: على رأس سنة (640هـ) .
وكان كثير السماع، فسمع على أكثر من مائتي شيخ، وعني بالرواية، وقرأ "صحيح البخاري" عدة مرات، وأسمع الحديث. ثم تعانى الإنشاء، وَجَوَّدَ الخط، وتقدم في النظم والنثر، فنظم الشِّعْرَ الحسن الرائق الفائق. وجمع كتاباً في نحوٍ من خمسين مجلداً، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات، سماه: (التذكرة الكندية) ، وكانت (الحماسة) من بعض محفوظاته.
مات سنة (716هـ) ، ووقع عند ابن تغري بردي وحده: (710هـ) والصواب الأول1.
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2.
7- عيسى الْمُطَعِّم: شرف الدين، عيسى بن عبد الرحمن بن معالي ابن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك، المقدسي، مُسْنِدُ الوقت، المطعِّم3 في الأشجار، ثم السمسار في العقار، كما قال الذهبي.
سمع الكثير من مشائخ عدة، منهم: الضياء المقدسي، وكريمة، وسمع (صحيح البخاري) بِفَوْتٍ4 من ابن الزبيدي. وقد كان أُميّاً عاميّاً، كما قال الذهبي رحمه الله.
__________
1 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/58) ، وذكره في آخر التذكرة ضمن شيوخه: (4/1503) ، والبداية والنهاية: (14/80) ، والدليل الشافي: (1/485) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
3 أَطْعَمَ الغُصْنَ، وطَعَّمَه، إطعاماً: إذا وَصَلَ به غصناً من غير شجره، وقد أطعمته فَطَعِمَ، أي وصلته فقبِلَ الوَصْلَ. (لسان العرب، مادة: طعم) .
4 يعني: باستثناء مواضع منه فاته سماعها.
(1/151)
توفي في ذي الحجة سنة (719هـ) 1.
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه أكثر الذين ترجموه2.
8- البهاء بن عساكر: القاسم بن مُظَفَّر بن نجم الدين بن محمود ابن أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، بهاء الدين، أبو محمد، الدمشقي، المعبِّر، الطبيب.
مولده: في صفر سنة (629هـ) .
أخذ عن كثير من المشايخ سماعاً وحضوراً، وأجاز له خلق كثيرون، وروى ما لا يُوصَف كثرةً.
وخرَّج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة، وكذا غيره.
وكان حَسَنَ البِشْر، حلو المحاضرة، وكان قد اشتغل بالطبِّ، وكان يعالج الناس بغير أجرة، ثم لزم بيته بعدُ لإسماعِ الحديثِ، وتفرد بأشياء كثيرة. وَوَقَفَ على المحدثين أماكن، منها داره، وَقَفَهَا دار حديث. توفي - رحمه الله - في شعبان سنة (723هـ) 3.
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي4.
__________
1 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص55) ، والبداية والنهاية: (14/98) ، والشذرات: (6/52) .
2 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، والرد الوافر: (ص68، والدرر الكامنة: (4/21) .
3 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/117) ، والبداية والنهاية: (14/112) .
4 الوافي بالوفيات: (2/271) .
(1/152)
9- القاضي بدر الدين ابن جماعة: محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله الكناني، الحموي الأصل، أبو عبد الله.
مولده: في ربيع الآخر سنة (639هـ) بحماة.
سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وحصَّل علوماً متعددة، وتَقَدَّم وساد أقرانه، وصنف التصانيف الفائقة النافعة. وقد وَلِيَ القضاء مرات في: القدس، ثم مصر، ثم دمشق - مع الديانة، والصيانة، والورع، وكف الأذى - حتى كَبِرَ وَضَعُف وَأُضِرَّ، فاستقال فَأُقِيل.
توفي - رحمه الله - سنة (733هـ) بمصر1.
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2.
10- الحافظ الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، التركماني، ثم الدمشقي، أبو عبد الله، الحافظ، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين.
مولده: سنة (673هـ) .
طلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل، وَعُني بهذا الشأن، وتعب فيه، وَخَدَمَهُ، إلى أن رسخت فيه قَدَمُهُ. وقد شَرِبَ الحافظُ ابن حجر ماء زمزم ليصل إلى مرتبته في الحفظ.
__________
1 له ترجمة في: البداية والنهاية: (14/171) ، والدرر الكامنة: (3/367) ، وطبقات الشافعية - ابن قاضي شهبة: (2/369) ، ولحظ الألحاظ: (ص107) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
(1/153)
وشهرة هذا الإمام الجهبذ، والعلم النِحرير تُغْنِي عن الإطالة بذكر مناقبه1.
وقد توفي - رحمه الله - سنة (748هـ) 2.
أما عن سماع ابن القَيِّم منه، وتتلمذه عليه: فإنه لم يذكر ذلك أحدٌ ممن ترجموا لابن القَيِّم، ولكن وصف ابن القَيِّم الذهبي بأنه شيخه، وذلك في رسالته في الأحاديث الموضوعة - التي سيأتي الكلام عليها مفصلاً عند ذكر مؤلفات ابن القيم إن شاء الله - حيث قال: "سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن عثمان…"3. وقال مرة في الرسالة نفسها: "وسمعت الحافظ أبا عبد الله محمد بن عثمان ... "4.
وقد ذكره في مواضع أخرى من كتب له: فقال مرة في كتابه (جلاء الأفهام) 5 - ناقلاً كلام الذهبي في حديث -: "قال محمد بن عثمان الحافظ: هذا وَضَعَه العُمَرِي". ثم قال: "وهو كما قال؛ فإن هذا الإسناد لا يَحْتَمِلُ هذا الحديث".
وقال مرة في كتابه (زاد المعاد) 6 - متعقباً إيّاه في مسألة -:
__________
1 ومن أراد الوقوف على دراسة حياة الإمام الذهبي مستوفاة: فعليه بكتاب (الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام) للدكتور بشار عواد: (ص75-276) .
2 له ترجمة في: ذيل التذكرة - للحسيني: (ص34 - 38) ، والبداية والنهاية: (14/236) ، وطبقات الحفاظ: (ص521 - 523) .
3 رسالة الموضوعات: (ق42/أ) .
4 المصدر السابق: (ق4/أ) .
(ص18) .
(2/132) .
(1/154)
"وممن غَلِطَ في هذا أيضاً: محمد بن عثمان الذهبي في كتابه (الضعفاء) فقال: مطرف بن مصعب المدني ... ". يعني: وأن الصواب فيه: مطرف أبو مصعب.
فهكذا نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - في هاتين المرتين ينقل عن الذهبي: مرة مستفيداً منه، ومرة متعقباً إياه، بدون أن يصرح في أي من المرتين بأنه شيخه، أو أنه سمع منه.
ثم إن الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - لَمَّا وقف على نص (رسالة الموضوعات) وما جاء فيها من تصريح ابن القَيِّم بأن الذهبي شيخه، استبعد ذلك قائلاً: "والذهبِيُّ من تلامذة ابن القَيِّم، ولم أر ابن القَيِّم في شيء من كتبه المطبوعة يذكر الذهبي وينقل عنه"1. ثم حكم - بناء على ذلك - بغرابة أسلوب هذه الرسالة على مسلك ابن القَيِّم في التأليف، وَتَوَقَّفَ بالتالي في الحكم بنسبتها لابن القَيِّم2.
وأقول: إن كلام الشيخ بكر في نفي مشيخة الذهبي لابن القَيِّم فيه نظر؛ ويتضح ذلك بما يلي:
- أما قوله بأن الذهبي من تلامذة ابن القَيِّم: فإنه مما لا دليل عليه، وسيأتي التنبيه على ذلك عند الكلام على تلاميذ ابن القَيِّم، وبيان ضعف الدليل الذي اعتمده الشيخ في الحكم بذلك3.
__________
1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص178 - 179) .
2 وسيأتي تحقيق القول في ذلك إن شاء الله، عند الكلام على مصنفات ابن القَيِّم. انظر: (ص 313) .
3 انظر: (ص 200 - 202) .
(1/155)
- وأما كونه لم ير ابن القَيِّم في شيء من كتبه المطبوعة يذكر الذهبي وينقل عنه: فقد تقدم نقل نصين من كتابين مختلفين، ينقل فيهما ابن القَيِّم عن الذهبي.
- فإذا ثبت لدينا عدم انتهاض ما استدل به الشيخ بكر - سلمه الله - على نفي كون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم، فإن الواقع والقرائن يؤيدان الحكم بإثبات هذه المشيخة، ويؤكد هذا أمور:
أولاً: ذلك النص من ابن القَيِّم في رسالته في الأحاديث الموضوعة، والذي يقول فيه: "سمعت شيخنا"؛ فإنه صريح لا يحتمل تأويلاً، إلا أن يقال: هذا الكتاب لا تصح نسبته لابن القَيِّم، فالكلام ليس كلامه؟ ولا سبيل إلى القول بذلك؛ فإن الكتاب صحيح النسبة لابن القَيِّم بأدلة قوية، كما سيأتي.
وأما ما جاء في النصين الآخرين من نقله عن الذهبي دون تصريح بأنه شيخه: فإنه لا يلزم منه نفي كونه شيخه؛ إذ لا مانع من أن ينقل الإنسان عن شيخه دون وصفه بذلك، بل إن ذلك كثير في كلام الأئمة.
ثانياً: أن وجود ابن القَيِّم مع الذهبي في بلد واحد - وهو دمشق– ومعاصرة كل منهما للآخر، مع شهرة الذهبي وإمامته، وطول باعه في العلم، وحرص ابن القَيِّم على التحصيل على كبار الأئمة، كل ذلك يجعل القول بتتلمذ ابن القَيِّم على الذهبي غير بعيد، بل عدم سماعه منه وأخذه عنه هو البعيد الغريب.
(1/156)
ثالثاً: أن فارق السنِّ بينهما يدعم القول بمشيخة الذهبي لابن القَيِّم؛ فإن الذهبي - رحمه الله - ولد سنة (673هـ) ، ومولد ابن القَيِّم سنة (691هـ) ، وبذلك فإن الذهبي يكبره بثماني عشرة سنة، ففي السنة التي وُلِدَ فيها ابن القَيِّم - رحمه الله - شَرَعَ الذهبي في القراءة بالجمع الكبير على شيخين في آنٍ واحد، فما لبث "أن أصبح على معرفة جيدة بالقراءة وأصولها ومسائلها، وهو لم يزل فتىً لم يتعد العشرين من عمره"1.
ولبراعَةِ الذهبي وتميزه في ذلك: تَنَازَلَ له شَيْخُهُ شمس الدين الدمياطي عن حلقته بالجامع الأموي أوائل سنة (693هـ) 2، كل ذلك وابن القَيِّم لم يزل بعد في الثانية من عمره، فهل يبعدُ - مع هذا السبق في السِّنِّ والتَّلقِّي - أن يكون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم؟
رابعاً: ثم إنه ظهر لي - وأرجو أن أكون مخطئاً في ظني - أنه كانت هناك نفرةٌ بين ابن القَيِّم وشيخه الذهبي، ولعل ذلك يتضح من قول الذهبي في حق ابن القَيِّم: " ... ولَكِنَّهُ مُعْجَبٌ برأيه جرئ على الأمور، غفر الله له"3. فهذه كلمة - ولا شك - تشير إلى عدم انسجام واتفاق، فربما ترتب على ذلك قلة الاتصال بينهما؟ ومن ثم عدم إكثار ابن القَيِّم عنه، بخلاف شيخه المزي مثلاً، كما سيأتي.
وعلى كلِّ حال، فما دام ابن القَيِّم - رحمه الله - قد صَرَّح بأن الذهبي شيخه، وذلك في كتاب ثابت النسبة إليه، فإنه لا مجال لنفي ذلك إلا بِبَيِّنَةٍ ودليل قويٍّ.
__________
1 الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص83 - 84) .
2 المصدر السابق: (ص85) .
3 المعجم المختص: (ص269) .
(1/157)
وبعدُ، فقد طال بنا الكلام - شيئاً ما - في إثبات تلمذة ابن القَيِّم للذهبي، والآن نعود مرة أخرى إلى ما كنا بصدده من سرد شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله.
11- محمد بن أبي الفتح بن أبي سهل البَعْلَبَكِّيِّ، الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، الإمام، العلامة، المحدث.
مولده: سنة (645هـ) .
تحول إلى دمشق فاشتغل، وأتقَنَ الفقه، وسمع الكثير من: ابن عبد الدائم والكرماني وغيرهما، وعني بالرواية والأجزاء، وله اعتناء بالرجال، جيد الخبرة بألفاظ الحديث. وأتقن العربية، ولع معرفة تامة بالنحو، وأفاد ودَرَّسَ.
وكان - رحمه الله - حَسَنَ الْخُلُق، عابداً، متواضعاً، مع القناعة والاقتصاد، وكثرة المحاسن.
مات بالقاهرة بعد دخولها بأيام في المحرم سنة (709هـ) 1.
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2.
12- ابن الشِّيْرَازِي: محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله بن محمد ابن يحيى بن بُنْدار بن مَمِيل، شمس الدين، أبو نصر، الفارسي، الشِّيرازي الأصل، ثم الدمشقي، الْمِزِّي، المُسْنِد، الْمُعَمِّر.
مولده: سنة (629هـ) .
__________
1 له ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (2/324) ، وذكر ترجمته في آخر التذكرة ضمن شيوخه (4/1501) ، وبغية الوعاة: (1/207 - 208) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
(1/158)
سمع كثيراً، وأسمع، وأفاد، وتفرد في زمانه، وَرُحِلَ إليه. وكان - رحمه الله - عاقلاً، ساكناً، وقوراً، متواضعاً، خَيِّراً، وكان أُستاذاً في إذهاب المصاحف1.
توفي - رحمه الله - ليلة عرفة سنة (723هـ) 2.
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي3، وابن حجر4، والسيوطي5.
13- المزي: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، القُضَاعي، ثم الكَلْبِي، الدمشقي، الشافعي، أبو الحجاج، جمال الدين، الإمام، العلامة، الحافظ، محدث الشام.
مولده: بحلب سنة (654هـ) ونشأ بالْمِزَّة.
سمع: (المسند) ، و (الكتب الستة) ، و (معجم الطبراني) ، و (الأجزاء الطبرزدية) ، و (الكندية) ، و (صحيح مسلم) . وَرَحَل فسمع: بالحرمين، وحلب، وحماة، وبعلبك وغيرها.
وقد برع ومهر وتقدم في فنون كثيرة، ولاسيما في معرفة الرجال، فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها.
__________
1 أَذْهَبَ المصحف وذَهَّبَه: طلاه بالذهب، فهو مُذَهَّبٌ وَذَهِيبٌ (القاموس المحيط، مادة: ذهب) .
2 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/279) ، والبداية والنهاية: (14/113) .
3 الوافي بالوفيات: (2/271) .
4 الدرر الكامنة: (4/21) .
5 بغية الوعاة: (1/62) .
(1/159)
وكان - رحمه الله - ثقة، حجة، كثير العلم، حسن الأخلاق، كثير السكوت، قليل الكلام جداً، صادق اللهجة، مع التواضع والاقتصاد في المأكل والملبس. وقد ترافق هو وابن تَيْمِيَّة كثيراً في سماع الحديث.
توفي - رحمه الله - في صفر: سنة (742هـ)
ولم يذكره أحد ممن ترجم لابن القَيِّم ضمن شيوخه، ولكن ابن القَيِّم - رحمه الله - كثير النقل عنه في كتبه مع التصريح بأنه شيخه، وبخاصة فيما يتعلق بالرجال والأسانيد.
ويظهر عليه حبه الشديد له، واحترامه وتقديره إيَّاه، حتى كان يطلق عليه "شيخ الإسلام"2 كما كان يطلق ذلك على شيخه الأول: ابن تَيْمِيَّة.
يقول مرة ناقلاً عنه فائدة حول راوٍ: "وهكذا هو في (تهذيب الكمال) لشيخنا أبي الحجاج المزي"3.
وأحياناً لا يسميه، فيقول: "وقال شيخنا في التهذيب"4. أو: "وذكره شيخنا في التهذيب"5.
__________
1 له ترجمة في: تذكرة الحفاظ: (4/1498 - 1500) ، ومعجم الشيوخ - للذهبي: (2/389) ، والبداية والنهاية: (14/203) .
2 تهذيب السنن: (1/62) .
3 جلاء الأفهام: (ص12) .
4 جلاء الأفهام: (ص 34) .
5 جلاء الأفهام: (ص 35) .
(1/160)
ويعتمد رأيه كثيراً في الترجيح عند الاختلاف، فتراه يقول: "قال شيخنا أبو الحجاج المزي: والصواب رواية ... "1. وتارة يقول: "وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضاً"2.
وقد ينقل عنه في بعض المواضع مما سمعه منه، فيقول: "قال لي شيخنا أبو الحجاج الحافظ"3. ويقول أيضاً: "وسمعت أبا الحجاج الحافظ يقول ... "4.
ويظهر واضحاً من هذه النقول: مدى حب ابن القَيِّم لشيخه المزي، واحترامه له، ونقل إفاداته وعلومه في كثير من كتبه.
ثانياً: شيوخه في العربية:
لقد برع ابن القَيِّم في علوم متعددة، وكان على رأسها: النحو والعربية، حتى وصفه غير واحد من مترجميه بـ "النحوي"5، وأن له في العربية "اليد الطولى"6.
ولا عجب في ذلك؛ فقد أولى ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك الجانب عناية فائقة، وتلقاه على أكابر شيوخ عصره، ومن هؤلاء الشيوخ:
- محمد بن أبي الفتح البعلبكي الماضي ذكره.
__________
1 حادي الأرواح: (ص98) .
2 تهذيب السنن: (4/342) .
3 حادي الأرواح: (ص270) .
4 زاد المعاد: (4/252) .
5 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) .
6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) .
(1/161)
قال الصَّفَدِي: "قرأ عليه (الْمُلَخَّص) لأبي البقاء، ثم قرأ (الْجُرْجَانِيَّة) ثم قرأ (ألفية ابن مالك) ، وأكثر (الكافية الشافية) ، وبعض (التسهيل") 1.
ومن شيوخه في العربية أيضاً:
14- مجد الدين التونسي: أبو بكر بن القاسم، المرسي، ثم التونسي، نزيل دمشق، مجد الدين، شيخ القراءة والنحو.
مولده: سنة (656هـ) .
سمع من الفخر علي، وجماعة، ويتصدر للقراءة زماناً، وكان من أذكياء وقته، مع الدين والنَّزَاهة والوقار.
توفي - رحمه الله - في ذي القعدة سنة (718هـ) 2.
0وقد ذكره ضمن شيوخ ابن القَيِّم جماعة3، وذكر الصلاح الصَّفَدِي: أن ابن القَيِّم قرأ عليه قطعة من (المقرب) ، ونقل الشيخ بكر أبو زيد عن الصَّفَدِي: أنه (الْمُغْرب) 4.
__________
1 الوافي بالوفيات: (2/271) . وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص106) .
2 له ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (2/417) .
3 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، وبغية الوعاة: (1/62) .
4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص105) ، (والمغرب) معروف للمُطَرِّزي (ت610هـ) وأما (المقرب) : فلم أقف عليه، فلعله تصحف في كتاب الصَّفَدِي.
(1/162)
ثالثاً: شيوخه في الفقه:
أما الفقه: فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مشتغلاً به "ويجيد تقريره" كما مضى من كلام الذهبي رحمه الله.
وقد أخذ الفقه عن جماعة من أَجِلَّة عصره، منهم:
15- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر ... بن تيمية، الحرَّاني، ثم الدمشقي، الإمام، العالم، والفقيه، الحافظ، المفتي، شيخ الإسلام الذي أثنى عليه الموافق والمخالف.
مولده: سنة (661هـ) .
وشهرة الشيخ تغني عن الكلام عنه، وقد توفي - رحمه الله - سنة (728هـ) محبوساً بقلعة دمشق كما تقدم1.
وقد سبقت الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين ابن القَيِّم وأستاذه ابن تَيْمِيَّة2، فلقد توطدت العلاقة بين ابن القَيِّم وشيخه، حتى صار "من عيون أصحابه"3. بل كان "رئيس أصحاب ابن تَيْمِيَّة"4. حتى إنه لا يكاد يذكر ابن تَيْمِيَّة إلا ويذكر معه ابن القَيِّم رحمهما الله تعالى.
__________
1 ولابن تَيْمِيَّة ترجمة في: معجم شيوخ الذهبي: (1/56) ، والتذكرة: (4/1496) ، والبداية والنهاية: (14/141) ، والوافي بالوفيات: (7/15) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/387) ، والدرر الكامنة: (1/154) .
2 انظر: (ص 113) .
3 ذيل العبر: (ص155) .
4 كما قال السخاوي رحمه الله. (التاج المكلل: ص419) .
(1/163)
وقد نص على تفقه ابن القَيِّم بابن تَيْمِيَّة أكثر من ترجم له1.
وابن القَيِّم - رحمه الله - دائم الذكر لشيخه، كثير النقل عنه في كتبه، مع الإشادة به، وإظهار الحب والتقدير له2.
16- المجد الحرَّاني: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، مجد الدين، أبو محمود، الحرَّاني، الفراء، الحنبلي.
مولده بحران: سنة (645هـ) ، ثم انتقل إلى دمشق سنة 670 أو 671هـ. سمع الحديث بدمشق من الجمال ابن الصيرفي وغيره، فسمع (الكتب الستة) و (المسند) . وتفقه حتى برع في المذهب، وتَخَرَّج به عدة فقهاء وأئمة، ولم يُصَنِّف شيئاً.
وكان متواضعاً، كثير الصمت عما لا يعنيه، لا يغتاب بشراً، ولا يؤذي أحداً، ومن أكفِّ الناس عن الفتيا، فيه خير ورقَّةٌ.
توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (729هـ) 3.
__________
1 الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل العبر: (ص155) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، وبغية الوعاة: (1/62) .
2 تنظر أمثلة لنقل ابن القَيِّم عن شيخه ابن تَيْمِيَّة في: زاد المعاد: (1/434، 440، 456) ، وحادي الأرواح: (ص98) ، وجلاء الأفهام: (ص18) ، وتهذيب السنن: (1/62) ، وإعلام الموقعين: (2/344) ، ومواضع النقل كثيرة جداً يصعب حصرها.
3 له ترجمة في: معجم الشيوخ للذهبي: (1/79) ، وذيل العبر له: (ص86) ، والبداية والنهاية: (14/152) ، والدرر الكامنة: (1/403) .
(1/164)
وقد نص على تفقه ابن القَيِّم به: الصَّفَدِي1، وابن حجر2. ونص الصَّفَدِي على أنه قرأ عليه: (مختصر أبي القاسم الخرقي) ، و (المقنع) لابن قدامة، وكلاهما في الفقه الحنبلي.
17- شرف الدين بن تيمية: عبد الله بن عبد الحليم ... بن تيمية، شرف الدين، أبو محمد، الحراني، الحنبلي، أخو شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة.
مولده: سنة (666هـ) .
كان عارفاً بجمل نافعة من الحديث ورجاله، سمع (المسند) ، (والكتب الستة) وغيرهما، وكان عارفاً بالسيرة وأيام الناس، مُحْكِماً للفقه والعربية.
وكان كثير المحاسن، كبير القدر، مقتصداً في مأكله وملبسه. وكان أخوه يكرمه ويعظمه.
توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (727هـ) 3.
وقد نص على تفقه ابن القَيِّم به: الصَّفَدِي4، ونص ابن القَيِّم على أنه شيخه5.
وممن أخذ الفقه عنهم أيضاً:
- محمد بن أبي الفتح البعلبكي المتقدم ذكره.
__________
1 الوافي بالوفيات: (2/271) .
2 الدرر الكامنة: (4/21) .
3 له ترجمة في: معجم الشيوخ للذهبي: (1/323) ، وذيل العبر له: (ص81) ، والدرر الكامنة: (2/371) ، والشذرات: (6/76) .
4 الوافي بالوفيات: (2/271) .
5 الصواعق المرسلة: (1/320) .
(1/165)
رابعاً: شيوخه في الفرائض:
أما شيوخه في الفرائض فهم:
18- والده: أبو بكر بن أيوب، قَيِّم الجوزية. وقد تقدم أنه كان له في الفرائض اليد الطولى1، ولذلك فقد أخذها عنه ابن القَيِّم أولاً، نص على ذلك: الصَّفَدِي2، وابن حجر3، والشوكاني4.
ثم أخذها على:
- إسماعيل بن محمد الحراني الماضي ذكره5.
ثم على:
- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة6.
خامساً: شيوخه في أصول الفقه.
وقد أخذ أصول الفقه عن جماعة من العلماء، منهم:
19- صفي الدين الهندي: محمد بن عبد الرحيم بن محمد، أبو عبد الله، الأرموي، الشافعي، العَلاَّمة، الأصولي.
مولده: سنة (644هـ) بالهند.
__________
1 انظر ترجمته فيما تقدم: (ص 90) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
3 الدرر الكامنة: (4/21) .
4 البدر الطالع: (2/143) .
5 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) .
6 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وبغية الوعاة: (1/62) ، وطبقات المفسرين (2/91) .
(1/166)
خرج من دِهْلي سنة 667هـ فحجَّ وجاور بمكة أشهراً، ثم دخل اليمن، ثم مصر، ثم سافر إلى الروم، ثم قدم دمشق سنة 685هـ، فاستوطنها، واشتغل بالتدريس، وصنف في الأصول وعلم الكلام.
وكان ذا برٍّ وصلة، وله حظ من صلاة وتعبد.
توفي - رحمه الله - في صفر سنة (715هـ) وقد استوفى سبعين سنة وأشهراً1.
وقد ذكر أخذَ ابن القَيِّم الأصول عنه: الصَّفَدِي2، وابن حجر3، والسيوطي4.
وأخذ الأصول - أيضاً - عن:
- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، فَقَرَأ عليه قطعةً من (المحصول) 5، وقطعة من (الإحكام في أصول الأحكام) 6، كما ذكر ذلك الصَّفَدِي7.
وأخذ الأصول - أيضاً - عن:
- إسماعيل بن محمد الحراني المتقدم ذكره، فقرأ عليه أكثر
__________
1 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/216) ، والبداية والنهاية: (14/77) ، والدرر الكامنة: (4/132) .
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
3 الدرر الكامنة: (4/21) .
4 بغية الوعاة: (2/62) .
5 للفخر الرازي (ت678هـ) وهو مطبوع.
6 لسيف الدين الآمدي (ت631هـ) وهو مطبوع.
7 الوافي بالوفيات: (2/271) .
(1/167)
سادساً: شيوخه في التوحيد وأصول الدين:
قرأ في التوحيد على:
- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، قرأ عليه قطعة من (الأربعين) 3 وقطعة من (المحصل) 4. كما أفاد ذلك: الصَّفَدِي5.
وقرأ أصول الدين - أيضاً - على:
- الشيخ صفي الدين الأرموي المتقدم، قرأ عليه أكثر الكتابين - الأربعين والمحصل - كما أفاده الصَّفَدِي6.
سابعاً: شيوخ آخرون:
من هؤلاء الشيوخ:
20- ابن سَيِّد الناس: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى ... أبو الفتح، فتح الدين، ابن سيد الناس، الأندلسي الأصل، المصري، الإمام، الحافظ.
__________
1 وهي: (روضة الناظر وجنة المناظر) لموفق الدين ابن قدامة المقدسي (ت620هـ) . طبع مراراً.
2 الوافي بالوفيات: (2/271) .
3 لعل المقصود به: (الأربعين في أصول الدين) للرازي. (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: ص (101) .
4 لعل المراد به: (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين) للرازي أيضاً. (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: ص (101) .
5 الوافي بالوفيات: (2/271) .
6 المصدر السابق.
(1/168)
مولده: في سنة (671هـ) بالقاهرة.
سمع الكثير، وأخذ علم الحديث عن: والده، وابن جماعة، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وبرع في علوم شتى، وفاق أقرانه، ولم يكن بمصر في مجموعه1 مثله: في حفظ الأسانيد، والمتون، والعلل، وغير ذلك.
توفي فجأة في شعبان سنة (734هـ) 2.
ولم يذكره أحدٌ من مترجمي ابن القَيِّم ضمن شيوخه، لكن حَدَّث عنه ابن القَيِّم مرة، فقال - عند الكلام على سَرِيَّة الخبط -: "وكانت في رجب سنة ثمان، فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب (عيون الأثر) 3 له …"4.
وقد كان دخول ابن سيد الناس إلى دمشق سنة (690هـ) كما قال ابن كثير5، ولم يكن ابن القَيِّم قد ولد بعد، والظاهر أنه لم يمكث في دمشق كثيراً. فلعل ابن القَيِّم يحدِّث بهذا الكتاب إجازة، أو يكون قد قرأه عليه في إحدى سفراته إلى القاهرة؟ فالله أعلم.
ومن هؤلاء الشيوخ - أيضاً - ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد:
__________
1 يعني: فيما جمعه من علم.
2 له ترجمة في: التذكرة ضمن شيوخه: (4/1503) ، والبداية والنهاية: (14/178) ، وطبقات الشافعية - ابن قاضي شهبة: (2/390) .
3 هو كتاب: "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" مطبوع.
4 زاد المعاد: (3/389) .
5 البداية والنهاية: (14/178) .
(1/169)
21- ابن الزَّمْلَكَاني1: كمال الدين بن علي بن عبد الواحد، الأنصاري، الشافعي، شيخ الشافعية بالشام وغيرها.
مولده: سنة (666هـ) .
طلب الحديث وقتاً، وقرأ بنفسه، وهو أحد المتقدمين في الفتوى والتدريس.
توفي - رحمه الله - سنة (727هـ) 2.
ومنهم أيضاً:
22- ابن مفلح3: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، المقدسي، ثم الصالحي، الحنبلي، شمس الدين، أبوعبد الله، أحد الأئمة.
سمع من عيسى المطعم وغيره، وتَفَقَّه، وبرع، ودَرَّس، وأفتى، وناظر، وحدَّث، وأفاد.
وقال ابن القَيِّم لقاضي القضاة موفق الدين الحجاوي سنة 731هـ: "ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح". وكان أخبر الناس بمسائل ابن تَيْمِيَّة، حتى أن ابن القَيِّم كان يراجعه في مسائله4.
__________
1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص106) .
2 له ترجمة في: البداية والنهاية: (14/136) ، والدرر الكامنة: (4/192) ، وحسن المحاضرة: (1/320) .
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص107) .
4 شذرات الذهب: (6/199) .
(1/170)
توفي - رحمه الله - سنة (763هـ) 1.
ولم أر النص على تلمذة ابن القَيِّم له وأخذه عنه، فهل بنى الشيخ بكر - حفظه الله - ذلك على مراجعة ابن القَيِّم له في اختيارات شيخ الإسلام؟ وإذا كان هذا هو مستنده، فهل يكون ذلك كافياً للحكم بتلمذته له؟
23- فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر، البطائحي، البعلبكي، أم محمد.
مولدها: سنة (625هـ) .
وكانت امرأة صالحة، عابدة، محدِّثَة، مسندة، سمعت (صحيح البخاري) من ابن الزبيدي، وروته عنه مرات، وسمعت (صحيح مسلم) على أبي الثناء ابن الحصيري شيخ الحنفية، وهي آخر من روى عنه وفاة. وطال عمرها، وروت الكثير.
توفيت - رحمهما الله - في صفر سنة (711هـ) عن ست وثمانين سنة2.
وقد ذكر جماعة سماع ابن القَيِّم منها3، وبعضهم يسميها: "بنت البطائحي"، وهي المقصودة.
__________
1 له ترجمة في: الدرر الكامنة: (5/30) ، والشذرات: (6/199) .
2 لها ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (2/103) ، وذكرها في آخر التذكرة: (4/1495) في الوفيات، والدرر الكامنة: (3/301) ، والشذرات (6/28) .
3 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، وطبقات المفسرين: (2/91) .
(1/171)
وبعد، فهذا ما أمكن الوقوف عليه من شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله، الذين تتلمذ على أيديهم، واخذ العلم عنهم، وتَخَرَّج بهم.
ويمكن لنا عند النظر في هؤلاء الشيوخ أن نسجل بعض الملاحظات:
1- أن غالب هؤلاء الشيوخ - إن لم يكونوا جميعاً - أئمة جهابذة حفاظ، وعلماء أعلام، كانوا مقدمين في وقتهم في تلك الفنون التي تلقاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عن كل واحد منهم.
2- أن هؤلاء الأئمة - شيوخ ابن القَيِّم - كانوا - أيضاً - على درجة كبيرة من: الزهد، والورع، والتواضع، وحسن الخلق، والاجتهاد في العبادة، إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة، كما مضى.
3- أن كل هؤلاء الشيوخ من أهل دمشق: مولداً ونشأة، أو انتقالاً واستيطاناً، وحتى من لم يستوطنها منهم، فقد جلس فيها فترة. وهذا يؤكد - كما سيأتي ذكره -: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يرحل خارج بلده كثيراً لطلب العلم، وإنما حصَّل علومه كلها - أو أكثرها - على شيوخ بلده (دمشق) ، وما ذلك إلا لأهميتها العلمية آنذاك، وتوافد أهل العلم إليها على ما سبق بيانه.
فإذا أخذنا هذه الأمور كلها بعين الاعتبار، أمكن لنا أن نتصور إلى أي مدى كان تأثير هؤلاء الشيوخ في علم ابن القَيِّم، وأخلاقه، وتكوين شخصيته تأثيراً إيجابياً.
(1/172)
المبحث الثالث: اهتمامه باقتتناء الكتب، وذكر مكتبته
...
المبحث الثالث: اهتمامه باقتناء الكتب، وذكر مكتبته
إن من الأمور المهمة في حياة العالم، وطالب العلم: اقتناء أكبر قدرٍ ممكن من الكتب في سائر الفنون وشتى العلوم.
فلا شك أن وجود مكتبة متكاملة بين يدي طالب العلم يتيح له فرصةً أكبر للقراءة والاطلاع، ومن ثَمَّ يكون ذلك من أكبر العون له على الترقي في المعرفة والتقدم في التحصيل.
كما أن نوع المراجع التي تشتمل عليها هذه المكتبة، له أثر مهمٌ في تكوين الشخصية العلمية لصاحبها.
قال العلامة بدر الدين بن جماعة - عند ذكر آداب طالب العلم مع الكتب -:
"الأول: ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه، شراءً وإلا فإجارَةً أو عاريةً؛ لأنها آلة التحصيل"1.
ولكن ينبغي أن يُعلم أن مجرد جمع الكتب وتحصيلها ليس كافياً في حصول الرِّفْعَةِ والتقدم في العلم، بل لا بد أن يَضُمَّ إلى ذلك: الْجِدَّ والاجتهاد في الطلب، وكثرة المطالعة لها، وبذل الجهد والوقت في نظرها.
__________
1 تذكرة السامع والمتكلم: (ص164) .
(1/173)
قال الشيخ ابن جماعة:"ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظَّهُ من العلم، وجمعها نصيبه من الفهم، كما يفعله كثير من الْمُنْتَحِلِين للفقه والحديث، وقد أحسن القائل:
إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظَاً وَاعِيَاً ... فَجَمْعُكَ لِلكُتبِ لا يَنْفَعُ"1
وقد تحدَّثت مصادر ترجمة العلامة ابن القَيِّم عن اشتهاره بحب الكتب، وغرامه بجمع الكثير منها، حتى حصل له من ذلك ما لم يحصل لغيره.
ومن أقوال أصحابه ومترجميه في وصف ذلك:
قال ابن كثير رحمه الله: "واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْرِهِ، من كتب السلف والخلف"2.
وقال ابن رجب الحنبلي: "وكان شديد المحبة للعلم ... واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره"3.
وقال الحافظ ابن حجر: "وكان مُغْرىً بجمع الكتب، فَحَصَّل منها ما لا يُحْصَر ... "4.
فهكذا كان ابن القيم مغرماً بجمع الكتب، حريصاً على اقتنائها، ولم يكن حظه منها مجرد جمعها، بل جمع إلى ذلك: جِدًّا واجتهاداً في
__________
1 تذكرة السامع والمتكلم: (ص 164) .
2 البداية والنهاية: (14/264) .
3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
4 الدرر الكامنة: (4/22) .
(1/174)
درسها ونظرها، وإنفاقاً لليله ونهاره في مطالعتها، مع ما آتاه الله - سبحانه - من قوة الذكاء، وسعة الحفظ، ونور البصيرة، ومع ما وصف به من شدة الحب للعلم كما تقدم، فانتفع لأجل ذلك كله بهذه الكتب.
وربما يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد نَسَخَ جملةً من هذه الكتب بخطه، فقد قال ابن كثير رحمه الله: "وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً"1. وقال ابن رجب: "وكتب بخطه ما لا يُوصَف كَثْرَةً"2.
وقد يكون المراد بذلك: ما كتبه تصنيفاً، ولكن لا يمتنع - أيضاً - كتابته شيئاً من ذلك على سبيل النسخ، وبخاصة في مرحلة الطلب.
وعلى كل حال، فإن الذي يهمنا هو أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد حصَّل من الكتب ما لم يحصله غيره، ويظهر ذلك واضحاً عند النظر في قائمة المصادر التي اعتمدها في مؤلفاته، فقد كانت تلك المصادر غزيرةً وفيرةً، وكانت - في الوقت نفسه - قيِّمة ونفيسة، مع تنوعها واختلاف فنونها3.
وليس أدل على ضَخَامَةِ المكتبة التي خَلَّفَهَا ابنُ القَيِّم -رحمه الله-وكثرةِ كتبها، مما حكاه الحافظُ ابن حجر: من أن أولادَ ابن القَيِّم ظلُّوا "يبيعون منها بعد موته دهراً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم"4.
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
3 انظر ما سيأتي من الكلام على مصادر ابن القَيِّم في كتبه ص: (267) .
4 الدرر الكامنة: (4/22) .
(1/175)
وقد نَفَعَ الله بهذه المكتبة العامرة بعد موت ابن القَيِّم رحمه الله؛ ذلك أنها آلت إلى أولاده من بعده - وقد كانوا أهل علم وفضل كما مضى - فاصطفوا لأنفسهم جملةً كبيرةً منها كما مرَّ، واقتنى كتباً نفيسةً منها: ابن أخيه عماد الدين إسماعيل بن عبد الرحمن1،"وكان لا يبخل بعاريتها" كما قال ابن حجي2.
فرحم الله ابنَ القَيِّم، وأجزل له المثوبة، فلقد خَلَّف لأولاده خير زاد، وأفضل ذخيرة ليوم الْمَعَادِ، مع عموم الانتفاعِ بهذه الكتب بالإعارة وغيرها.
__________
1 ابن أبي بكر بن أيوب ... المعروف "بابن قَيِّم الجوزية" كَعَمِّه، وكان رجلاً حسناً، وقد اقتنى أكثر مكتبة عَمِّه شمس الدين ابن القَيِّم. توفي في رجب سنة 799هـ.
له ترجمة في: ذيل ابن عبد الهادي على طبقات ابن رجب: (ص21) ، والدارس في تاريخ المدارس: (2/91) .
2 الدارس في تاريخ المدارس: (2/91) .
(1/176)
المبحث الرابع: أَسْفَارُهُ وَرِحْلاتُهُ
إن مما ينبغي على طالب العلم أن يرحل عن وطنه إلى البلاد الأخرى، طلباً للعلم، وبحثاً عن الاستزادة منه، ورغبة في التحصيل والسماع من علماء البلدان الأخرى لما لم يسمعه في بلده، وقد كان هذا هو دأب السَّلف من علماء هذه الأمة، كما هو مُدَوَّن في أخبارهم.
فالمقصود من الرحلة - كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله - أمران:
"أحدهما: تحصيلُ علوِّ الإسناد، وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفَّاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة منهم".
قال رحمه الله: "فإذا كان الأمران موجودين في بلده، ومعدومين في غيره: فلا فائدة في الرحلة، أو موجودين في كل منهما: فَلْيُحَصِّل حديث بلده، ثم يرحل"1.
أمَّا الأمر الأول - وهو طلب علو الإسناد - فإنه كان مقصوداً أيام كان الاعتماد في الرواية على المشافهة والسَّمَاع، لِمَا للعلوِّ - في هذه الحالة - من فوائد جَمَّة، أما وقد دُوِّنَت الدواوين، وجُمِعت الأحاديث النبوية فيها، فإن الحاجة إلى طلب العلوِّ لم تعد مُلِحَّة، بل صار القصد من السماع والرواية في الأزمنة المتأخرة هو الْحِرْصُ على بقاء سلسلة الإسناد في الأمة.
__________
1 تدريب الراوي: (2/142) .
(1/177)
ولذلك، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يكن بحاجة إلى الرحلة طلباً لعلو الإسناد؛ إذ إنه قد عاش في عصر استقرار المدوَّنات الحديثية.
إذن فالرِّحلة في حق ابن القَيِّم لحصول الأمر الآخر، وهو: لقاء الأئمة والعلماء، والاجتماع بهم، ومذاكَرَتُهُم العلم، والاستفادة مما عندهم؛ فلا شك أن الرحلة لأجل تحقيق هذا الغرض مُهِمَّة، ولا يعدمُ صاحبها الفائدة، ولكن شريطةَ أن يفتقدَ ذلك في بلده؛ فإنْ وَجَدَ ذلك في بلده، اشتغل بالتحصيل على شيوخ بلده أولاً، كما سبق في كلام الخطيب رحمه الله.
فماذا عن ارتحال ابن القَيِّم - رحمه الله - في طلب العلم؟
لم تسجل لنا المصادر التي ترجمته شيئاً عن رحلته وخروجه من بلده في طلب العلم، ولكن وُجِدَ ما يدل على خروج ابن القَيِّم - رحمه الله - من بلده وبخاصة إلى مصر؛ فقد ذكر - رحمه الله - في كتابه (هداية الحيارى) 1 مناظرةً جرت له بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرِّيَاسَة. ومن ذلك أيضاً: ما أشار إليه الشيخ بكر أبو زيد2 من قول المقريزي: "وقدم القاهرة غير مرة"3.
ولكن لا سبيل إلى الجزم بأن ابن القَيِّم قد أَخَذَ عن أحدٍ من أهل العلم هناك في رحلاته تلك.
__________
(ص 87) .
2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثار: (ص32) .
3 وانظر السلوك: (2/3/834) .
(1/178)
كما قد سُجِّلَتْ لابن القَيِّم رحلاتٌ وأسفارٌ داخلية، تَنَقَّلَ خلالها بين بعض مدن الشَّام، وبخاصة بيت المقدس، وقد تَقَدَّمَ كلام المقريزي فيما جرى لابن القَيِّم مع المقادسة في بيت المقدس1.
ومن ذلك أيضاً: قوله - عند الكلام على من يولد من الناس مختوناً -: "وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي الْمُحَدِّث ببيتِ المقدس: أنه ولد كذلك ... "2.
وسافر أيضاً إلى بَعْلَبَك3؛ فقد قال مرة: "قال لي بعضُ أشياخنا في بعلبك"4.
كما أن ابن القَيِّم - إلى جانب تلك السفرات الماضي ذكرها - قد سَافَر للحجِّ مراراً، وجاور بمكة كما تقدَّم، وقد كان يقتنص فرصة وجودِهِ بالبيت الحرام، وفي رحاب الكعبة المشرفة، لإنجاز بعض الأعمال العلمية، كما سبقت الإشارة إلى تأليفه كتاب (مفتاح دار السعادة) في رحاب البيت الحرام.
__________
1 انظر ص: (127) .
2 زاد المعاد: (1/81) .
3 بَعْلَبَكّ: "مدينة قديمة، فيها أبنية عجيبة، وآثار عظيمة، وقصور على أساطين الرخام لا نظير لها في الدنيا، بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، وقيل: اثنا عشر فرسخاً من جهة الساحل". (معجم البلدان: 1/453) .
قلت: وهي الآن داخلة في لبنان، وتمثل إحدى مدن سهل البقاع المشهور، وتبعد عن العاصمة "بيروت " حوالي ستين كيلو متراً تقريباً.
4 بدائع الفوائد: (1/40) .
(1/179)
ولا يمتنع أيضاً: أن يكون سمع شيئاً، أو التقى بعض الشيوخ والعلماء في تلك الحَجَّات العديدة، فقد كان موسم الحج ملتقى لكثير من أهل العلم، من مختلف الأقطار وشتى البقاع، وقد سَجَّلَت لنا كتبُ التراجم الكثير من أقوال أهل العلم في ذكر ما سَمِعُوه أو أَسْمَعُوه في موسم الحج.
تلك بعضُ رحلات ابن القَيِّم وتنقلاته الداخلية، ولا يمتنع أن يكونَ قد سمع أو قرأ شيئاً على بعض الشيوخ في هذه الرحلات، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار: أن من شُيوخه من هو بعلبكي، ومنهم من هو مقدسي، كما مضى.
وقد تكون له رحلاتٌ أخرى لم تصل أخبارها إلى علمنا، فالله أعلم.
على أن عدمَ ارتحال ابن القَيِّم كثيراً، وقلة خروجِهِ من دمشق لطلب العلم ولقاءِ المشايخ في بلاد أخرى. له ما يسوِّغه؛ فالذي يظهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وَجَدَ بُغْيَتَه، وحصَّل حاجته على شيوخ بلده "دمشق"، بحيث لم يحتج - مع ذلك - إلى البحث عن المزيد من الشيوخ خارج بلده.
فقد تَقَدَّم كيف غَدْتْ الشَّام - وبخاصة دمشق - حاضرةً علميةً، تموج بألوان النشاط العلمي، والمؤسسات التعليمية، مع وجود نُخْبَة من أَجِلَّةِ أهل العلم وجهابذته فيها آنذاك، الذين لا زالت آثارهم باقية تشهد بإمامتهم وطول باعهم، ووفور علمهم، الأمر الذي لم يجد ابن القَيِّم معه حاجة إلى الارتحال خارج بلده، كيف وقد كانت بلده محطَّ رِحَالِ أهل العلم وطلابه من شتى بقاع الدنيا؟!
(1/180)
ولعلَّ من أوضحِ الأمثلة على انشغال ابن القَيِّم - رحمه الله - بالتحصيلِ على شيوخ بلده، ما مضى من مَلازَمَتِهِ لشيخهِ ابن تَيْمِيَّة ستة عشر عاماً (712-728هـ) ، وإيثاره صحبته إلى آخر حياته، فقد وجد في هذا الإمام العلاَّمة ما يشبعُ نَهْمَتَهُ، ويروي غُلَّتَه، وبخاصة إذا علمنا أن فترة ملازَمَتِهِ له تعدُّ أزهى فترات الطلب والتحصيل في حياة طالب العلم1.
تلك هي أبرز المسوِّغات التي يمكن اعتبارها مانعاً من كثرة خروج ابن القَيِّم وارتحاله عن بلده.
فالذي تَحَصَّل عندنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - وإن لم تُسَجِّل لنا مصادر ترجمته شيئاً من رحلاته العلمية، إلا أن الْمُتَقَرِّرَ أنه قد سافر ورحل وتَغَرَّبَ عن وطنه وأهله، كما يدلُّ على ذلك تصريحه بتأليف بعض كتبه حال السفر والغربة عن الأهل والأصحاب2، وأنه - رحمه الله - في خلال تلك الأسفار لم يكن ليقعد لحظة عن الاشتغال بالعلم سماعاً ومذاكرةً، وتأليفاً وتصنيفاً، فرحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عمَّا قَدَّم للإسلام خيرَ الجزاء.
__________
1 فقد بدأ ملازمته له وله من العمر تسع عشرة سنة، إلى أن توفي الشيخ ولابن القَيِّم من العمر سبع وثلاثون سنة تقريباً.
2 انظر: زاد المعاد: (1/70) ، وروضة المحبين: (ص28) .
(1/181)
المبحث الخامس: أَعْمَالُهُ العلمية ومَنَاصِبُهُ
تَقَدَّم أن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان صاحب رسالة سامية غالية، وأنه عاش حياته حاملاً أعباء تأدية هذه الرسالة على أتمِّ وجه.
فلا عجب إذن أن نجد ارتباطاً وثيقاً بين مهمة أداء هذه الرسالة والقيام بأعبائها من جهة، وبين الأعمال التي مارسها ابن القَيِّم والوظائف التي تقلدها من جهة ثانية؛ إذ إن هذه الوظائف هي مجال تنفيذ هذه المهمة، ووسيلة تحقيقها.
فقد كانت هذه الأعمال وتلك المناصب منحصرةً في دائرة تبليغ العلم ونشره لا تخرج عن ذلك بحالٍ؛ فقد عاش حياته - رحمه الله - متصدراً "للاشتغال ونشر العلم"1.
ويمكننا حصر الأعمال التي مارسها ابن القَيِّم رحمه الله، والوظائف التي كان يشغلها - في ضوء ما سَجَّلَتْهُ مصادرُ ترجمته - فيما يلي:
1- التدريس.
2- الإمامة.
3- الخطابة.
4- الإفتاء.
5- التأليف والتصنيف.
1- التَّدْرِيس:
سبقت الإشارة إلى أن انتشار المدارس في دمشق في عصر ابن القَيِّم وكثرتها، كان من أبرز مظاهر ازدهار الحركة العِلْمِيَّة آنذاك، وأنه كان يَتَقَلَّدُ
__________
1 المعجم المختص: (ص269) .
(1/183)
وظيفة التدريس بهذه المدارس أكابرُ علماء الوقت، فكانت المدارس - بهذه المثابة - تُشْبِه الجامعاتِ العِلْمِيَّةَ في وقتنا الحاضر، بل إنَّ نظام الدراسة في كثير من جامعاتنا اليوم يشبه إلى حدٍّ كبير نظام الدراسة قديماً.
ولَمَّا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - واحداً من جهابذة علماء ذلك العصر وأئمته المُقَدَّمين؛ فإنه قد شارك بجهده وعلمه في هذا الجانب المهم، ألا وهو التدريس.
وقد أشار بعض مترجميه إلى ممارسته هذه الوظيفة1.
أما عن الأماكن التي درَّس بها، فقد أجمعت المصادر التي ذكرت ممارسته للتدريس على ذكر تدريسه بالمدرسة "الصدرية"2، وقد سَبَقَ الكلام عليها3.
ويُحَدِّد الحافظ ابن كثير تاريخ تَوَلِّيهِ التدريس بهذه المدرسة، فيقول: "وفي يوم الخميس سادس صفر - يعني سنة 743هـ - درَّس بالصَّدْرِيَّةِ صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعِيّ"4.
ثم يشير - رحمه الله - إلى أن دَرْسَه كان حَافِلاً، حَضَرَهُ جمع من
__________
1 انظر: ذيل العبر: (ص155) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/449) ، والبدر الطالع: (2/143) .
2 انظر: ذيل الطبقات: (2/449) ، والبدر الطالع: (2/143) .
3 انظر ص: (72) .
4 البداية والنهاية: (14/214) .
(1/184)
الفضلاء، فيقول: "وَحَضَر عنده الشيخ عِزُّ الدين بن الْمُنَجَّا1 - الذي نزل له عنها - وجماعة من الفضلاء"2.
وقد اسْتَمَرَّ - رحمه الله - في التَّدْرِيسِ بـ "الصدرية" حتى آخر حياته، يدلُّ على ذلك ما حَكَاهُ ابن كثير - رحمه الله - من أنه "في يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان - يعني بعد وفاة ابن القَيِّم بشهر - ذكر الدَّرْسِ بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية، عوضاً عن أبيه رحمه الله"3. وبذلك تكون مدة تدريسه بها قريباً من ثمان سنين.
ولكن هل كانت بداية ابن القَيِّم مع التدريس بِتَوَلِّيه الصدرية سنة 743هـ، وأنه لم يشتغل بالتدريس قبل هذا التاريخ؟
الظاهر - والله أعلم - أنه بدأ التدريس قبل ذلك؛ إذ يبعدُ أن يبقى مثل ابن القَيِّم إلى ما بعد الخمسين من عمره دون أن يمارس وظيفة التدريس، التي كان يمارسها من هو دون ابن القَيِّم بكثير، ولعل ما يؤكد صدق ذلك: ما ذكره السخاوي - رحمه الله -: من أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد "دَرَّسَ بأماكن"4. ولكنه لم يحدد هذه الأماكن.
__________
1 هو: عز الدين، محمد بن أحمد بن محمد بن عثمان بن أسعد بن الْمُنَجَّا، التَنُّوخِي، الحنبلي، مُحْتَسبُ دمشق، وناظر الجامع. وكان رجلاً خيراً، كريم النفس، كثير المروءة، محباً لأهل العلم. توفي سنة (746هـ) .
له ترجمة في: ذيل العبر - للحسيني: (ص138) ، والوفيات - لابن رافع: (2/12) .
2 البداية والنهاية: (14/214) .
3 البداية والنهاية: (14/247) .
4 التاج المكلل: (ص419) .
(1/185)
وعلى كل حال، فإنَّ هذا ما وصل إلى علمنا من الأماكن التي درَّس فيها وتاريخ ذلك.
2- الإمَامَةُ:
إن وظيفة الإمامة لا يصلح لها كل أحد، بل لا بد أن يكون المتصدي لها عارفاً بالقراءة وأحكامها، مع أمور أخرى - في دينه وخُلُقِهِ - لابد من توافرها.
ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - "حَسَن القراءة" كما وصفه بذلك ابن كثير1، مع ما كان عليه: من القراءة بالتدبر والتفكر، والعلم بمعاني ما يقرأ، والخشوع والخضوع والتذلل والإنابة لله - عزوجل - على النحو الذي مضى وصفه.
كل ذلك يجعل ابن القَيِّم مؤهلاً غاية التأهل لشغل منصب الإمامة، بل إن ذلك يجعله من أحق الناس بها.
وقد كان ابن القَيِّم -رحمه الله- متولياً إمامة المدرسة "الجوزية" - التي كان أبوه قَيِّمَهَا - كما ذكر ذلك عنه جماعة2.
ويبدو أنه - رحمه الله - كان مشهوراً بذلك جداً، حتى إن بعض مترجميه يذكرونه بذلك في مقام التعريف به، فيقول الذهبي رحمه الله:
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 انظر: ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، والبدر الطالع: (2/143) .
(1/186)
" ... أبو عبد الله، الدمشقي، إمام الجوزية"1. ويقول ابن كثير رحمه الله: " ... إمام الجوزية، وابن قَيِّمها"2.
ولا تُعْرَفُ مُدَّةُ إمامته بـ "الجوزية"، إلا أن ابن رجب - رحمه الله - يقول: "أمَّ بالجوزية مدة طويلة"3.
3- الْخَطَابَةُ:
وإلى جانب التدريس والإمامة، فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مشتغلاً بالخطابة، فقد ذكر الحافظ ابن كثير في أحداث سنة 736هـ: أنه "في سَلْخِ رجب أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه نجم الدين بن خليخان، تجاه باب كيسان من القبلة4، وخطب فيه الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية"5.
ونقل النعيمي كلام ابن كثير هذا، ثم قال: "ورأيت بخط البرزالي في السنة المذكورة نحو ذلك، وزاد - يعني البرزالي -: وكان قد نودي
__________
1 المعجم المختص: (ص269) .
2 البداية والنهاية: (14/246) .
3 ذيل الطبقات: (2/449) .
4 ويعرف بالجامع "الخليخاني"، نسبة إلى بانيه، وباب كيسان: نقل ابن بدران عن ابن عساكر قوله: "ينسب إلى كيسان بن معاوية ... وهو الآن مسدود". قال ابن بدران: "ولم يزل مسدوداً إلى عهدنا هذا". (منادمة الأطلال: ص 40) .
أما عن الجامع، فيقول ابن بدران: "وقد أُدْخِل اليوم في بستان له، يقال له: بستان الأمير، ولم يبق من آثاره اليوم إلا بعض منارته، وقبرٌ إلى جانبها، وقد شاهدته ... بدمشق سنة 1333هـ". (منادمة الأطلال: ص376) .
5 البداية والنهاية: (14/183) .
(1/187)
في البلد لذلك، فحضر خَلْقٌ كثير من الأعيان وغيرهم"1.
وابن القَيِّم - رحمه الله - هو أول من خطب بهذا الجامع، كما هو ظاهر كلام ابن كثير الماضي، ونصَّ على ذلك ابن بدران، فقال: "وأول من خطب به: الإمام ابن القَيِّم"2. وذلك في سنة 736هـ تاريخ إقامة الجمعة في هذا الجامع.
ولا يمتنع - أيضاً - أن يكون ابن القَيِّم قد عَمِلَ بالخطابة قبل هذا التاريخ، والله أعلم.
4- الإِفْتَاءُ:
لا شكَّ أنَّ من كان مثل ابن القَيِّم: في سِعَةِ علمه، وعلوِّ شأنه في هذا العلم، وتَمَكُّنِه منه، وذيوعُ صِيته، مع الدِّيَانة والصِّيَانة؛ فإنه لابُدَّ أن يكون مقصوداً بالفتوى، وينتفعُ بِعِلْمِهِ القريبُ والبعيدُ.
فإذا انضمَّ إلى ذلك ما عَلِمْنَاه عن ابن القَيِّم من: رغبة قوية في نشر العلم وتبليغه، والصَّدْعِ بالحق وبيانه، والأخذ بيد الجاهل ليعلم أحكام دينه؛ فإن الانتصاب والتصدي للفتوى سيكون متأكَّداً فيه أكثر من غيره.
ولقد وصَفَ غير واحد من الأئمة ابن القَيِّم بأنه كان مشتغلاً بالفتوى، فقال الذهبي: "الإمام، المفتي، الْمُتَفَنِّن"3.
وقال الحسيني: "أفتى، ودرَّس ... "4.
__________
1 الدارس في تاريخ المدارس: (2/421) .
2 منادمة الأطلال: (ص376) .
3 المعجم المختص: (ص269) .
4 ذيل العبر: (ص155) .
(1/188)
وقال ابن رجب: "تفقه في المذهب، وبرع، وأفتى"1.
وقال ابن تَغْرِي بَرْدي: "تصدى للإقراء والإفتاء سنين، وانتفع به الناس قاطبة"2.
ولقد كان - رحمه الله - فيما يُفتي به: صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائمٍ، وقد تقدم ما جرى له من محنٍ وحبس بسبب بعض فتاويه، فرحمه الله وأجزل مثوبته.
كما كان رحمه الله - إلى جانب قيامه بأعباء الفتوى - كثيراً ما يعقد مناظرات بينه وبين خصوم السنة، وأعداء الإسلام - الذين كانوا كثيرين في عصره - فكان له معهم صَولاتٌ وجولاتٌ.
ولا شك أن الحاجة تدعو إلى مثل هذه المناظرات: لكبت المعاندين، ورد الخارجين إلى حظيرة أهل السنة، فإن ذلك: "يشبه الجهاد وقتال الكفار"، كما يقول ابن القَيِّم رحمه الله3.
وقد ذكر غير واحد من مترجميه قيامه بمثل هذه المناظرات4.
ومن المناظرات التي أشار إليها في كتبه: ما تقدم قريباً عند الكلام على رحلاته إلى مصر، وما جرى له من مناظرة مع رئيس اليهود هناك5.
__________
1 ذيل الطبقات: (2/448) .
2 النجوم الزاهرة: (10/249) .
3 الفروسية: (ص28) .
4 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل العبر: (ص155) ، وبغية الوعاة: (1/63) .
5 هداية الحيارى: (ص87) .
(1/189)
ولقد كان ابن القَيِّم - بما آتاه الله من قوة الحجة، ونور البصيرة، وسعة الفهم، وغزارة العلم، مع صدق القصد، والرغبة في نصرة الحق - كثيراً ما يقطع خصمه في المناظرة ويسكته، فنجده - مثلاً - في تلك المناظرة المذكورة يصف هذا الرئيس اليهوديّ، الْمُقَدَّم في قومه، بقوله: "فأمسك ولم يُحِرْ جواباً"1. أي لم يرد جواباً.
5- التأليف والتصنيف:
أما التأليف والتصنيف: فقد كان له فيه اليد الطولى، والصيت الذائع، والحلاوة الفائقة، والعبارة الرائقة، والفوائد الْجَمَّة، والقبول التام.
ولَمَّا كان جانب التأليف في حياة ابن القَيِّم على درجة كبيرة من الأهمية، فقد رأيت أن أرجئ الكلام عليه إلى حين الكلام على آثاره ومصنفاته2؛ فإن محله هناك أنسب.
وبعد، فهذه أبرز أعمال ابن القَيِّم ونشاطاته في خدمة هذا العلم الشريف وتبليغه، وتلك مناصبه التي تقَلَّدها وشغلها في سبيل تحقيق هذا الهدف، فكان - في ذلك كله - نعم القدوة، فجزاه الله خيراً، ورحمه رحمة واسعة.
__________
1 هداية الحيارى: (ص88) . وانظر هذه المناظرة في "الصواعق المرسلة": (1/327) .
2 انظر ص: (205) .
(1/190)
المبحث السادس: تلاميذه
إن أهم الثِّمَار التي تُجْنَى من جهد أولئك العلماء الجهابذة: تخريج التلاميذ والطلاب الذين يحملون راية الخير والهداية لمن بعدهم، امتداداً لجهود شيوخهم ونشاطهم، وحلقةً في سلسلة متصلة متماسكة لا تنقطع.
وكلما تبوَّأ هؤلاء الطلاب مكانتهم بين أهل العلم العاملين، وأئمته البارزين، وجهابذته المشهورين، كان ذلك تعبيراً حقيقياً عن مكانَةِ شيوخهم الذين خَرَّجُوهم، وعلمِهِم، وفَضْلِهِم؛ فالطالب النابغ إنما هو - بعد فضل الله وتوفيقه - ثمرة يانعة من ثمار جهد الأستاذ وعطائه المتواصل، ولعلَّ في قول الحافظ ابن حجر المتقدم في حق ابن القَيِّم وشيخه ابن تَيْمِيَّة، حين قال: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية … لكان غايةً في الدلالة على عظم منزلته"1. لعلَّ في هذه الكلمة من ابن حجر - رحمه الله - ما يؤكد لنا هذه الحقيقة الظاهرة؛ إذ جعل الطالب النابغ، العالم، الفاضل منقبة من مناقب شيخه، وحسنةً من حسناته.
ولقد أَثْمَرَ جُهْدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - ونشاطُهُ المتواصل، ودعوتُهُ الصادقة، ومجالسُ درسه وتعليمه، أثمر ذلك كله جملة من خيرة طُلاَّبِ العلم، الذين انتفعوا بابن القَيِّم - كما انتفعوا بغيره - فكانوا
__________
1 الرد الوافر: (ص146) .
(1/191)
مشاعلَ نورٍ، وعلماءَ صدقٍ، وذاع صِيتهُم، وارتفع شأنهم، وبقيت آثارهم بيننا خير دليل على مكانتهم العلمية، وجِدِّهم واجتهادهم، وذلك مثلماً بقيت بيننا آثار شيخهم وأستاذهم ابن القَيِّم رحمه الله.
ويشير الحافظ ابن رجب - رحمه الله - إلى أخذ الكثيرين من الفضلاء العلم عن ابن القَيِّم، وتتلمذهم على يديه، وانتفاعهم به فيقول: "وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه، وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاءُ يعظمونه ويتتلمذون له ... "1.
ولم تُحَدِّثْنَا مصادر ترجمة ابن القَيِّم - رحمه الله - عن أحد من هؤلاء التلاميذ، إلا ما جاء من ذلك عرضاً، ولكن أمكن الوقوف على أبرز هؤلاء التلاميذ وأشهرهم، وذلك من خلال تتبع كتب التراجم والتواريخ المتعلقة بتلك الفترة، وأشهر هؤلاء:
1- ولده: إبراهيم بن محمد ... برهان الدين، وقد تَقَدَّمَت ترجمته وذكر أخباره2، ومضى هناك قول الذهبي رحمه الله: "قرأ الفقه والنحو على أبيه، وسمع وقرأ وتَنَبَّهَ، وسَمَّعَه أبوه من الحجَّار"3.
ويتضح لنا مدى تأثر الولد التلميذ بأبيه الشيخ والأستاذ، وذلك من قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "كان بارعاً فاضلاً في النحو، والفقه، وفنون أُخَر، على طريقة والده رحمهما الله"4.
__________
1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
2 انظر: (ص 95) .
3 المعجم المختص: (ص66 - 67) .
4 البداية والنهاية: (14/329) .
(1/192)
2- الحافظ ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْء بن كثير، القرشيُّ، البُصْرَويّ، الدمشقيُّ، عماد الدين، أبو الفداء، الإمام، الْمُحَدِّث، المُفَسِّر، الحافظ، البارع.
مولده: سنة (701هـ) .
تَفَقَّه بالشيخ برهان الدين الفَزَاري وغيره، وسمع من ابن عساكر وخلق، ثم صَاهَر الحافظ الْمِزِّي، وَلَزِمَه، وتَخَرَّجَ به، وأقبلَ على حفظ المتون، ومعرفةِ الأسانيدِ والعللِ والرجال، والتاريخ، فَبَرَعَ في ذلك كله، وَأَفْتَى وَدَرَّسَ ونَاظَر.
وله التصانيف المشهورة النافعة السائرة، التي منها: (البداية والنهاية) ، و (التفسير) وغير ذلك.
وكانت له خصوصية بابن تَيْمِيَّة ومناضلة عنه، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، حتى إنه امتحن بسبب ذلك.
توفي - رحمه الله - في شعبان سنة (774هـ) 1.
قال الحافظ ابن كثير في ترجمته لابن القَيِّم: "وكنت من أصحب الناس له، وأحبِّ الناس إليه"2. ونصَّ الشيخ بكر أبو زيد على أنه من تلاميذ ابن القَيِّم3.
__________
1 له ترجمة في: طبقات الشافعية - لابن قاضي شهبة: (3/113) ، وذيل التذكرة - للحسيني: (ص57) ، وطبقات الحفاظ - للسيوطي: (ص533) .
2 البداية والنهاية: (14/246) .
3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص108) .
(1/193)
ولم أجد نصاً صريحاً - عن ابن كثير أو غيره - يفيد تلمذته لابن القَيِّم، ولكنه كان دائماً يذكره بـ "الإمام العلامة"، ويعَبِّر عنه بـ "صاحبنا"1. فلا يبعد انتفاعه به وأخذه عنه، وهو داخل في أولئك الفضلاء الذين كانوا "يعظمونه ويتتلمذون له" كما قال ابن رجب، فهو كثير التعظيم له والثناء عليه في كل مناسبة، كما أن ابن كثير عاش بعد ابن القَيِّم - رحمهما الله - أكثر من عشرين سنة.
3- الصَّفَدِي: خليل بن أَيْبَك بن عبد الله، الصَّفَدِي، صلاح الدين، العلامة، الأديب، البارع.
مولده: سنة (696هـ) .
سمع الكثير، وقرأ الحديث، وأخذ عن القاضي بدر الدين بن جماعة، وابن سيد الناس، والمِزِّي وغيرهم. وحصَّل الفقه، والأدب، والنحو. وكان مليح الخطِّ، كتب بخطه الكثير. وَوَلِيَ عدة وظائف، وتصدَّى للإفادة في الجامع الأموي. وصنف المصنفات النافعة، التي منها: (الوافي بالوفيات) .
توفي - رحمه الله - في شوال سنة (764هـ) 2.
وقد ذكر - رحمه الله - في ترجمته لابن القَيِّم ما يفيد سماعه منه، وأخْذِه عنه؛ وذلك أنه قال في آخر الترجمة: "وأنشدني من لفظه لنفسه…"3. فذكر القصيدة الميمية في التَّضَرُّع، وقد مضى ذكر بعضها.
__________
1 انظر: البداية والنهاية: (14/214،246) .
2 له ترجمة في: البداية والنهاية: (14/318) ، وطبقات الشافعية - لابن قاضي شهبة: (3/119) ، والدليل الشافي: (1/290) .
3 الوافي بالوفيات: (2/272) .
(1/194)
4- ابن رجب الحنبلي: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن عبد الرحمن، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، زين الدين، أبو الفرج.
مولده: سنة (736هـ) ببغداد.
سمع من أبي الفتح الميدومي وغيره، وأكثر الاشتغال حتى مَهَر وبرع في الحديث والعلل وغيرهما، ولع التصانيف النافعة، التي منها: (شرح علل الترمذي) ، و (ذيل طبقات الحنابلة) وغيرهما. وكان إماماً، زاهداً، ورعاً، له مجالس التذكير المفيدة.
توفي - رحمه الله - سنة (795هـ) 1.
وقد نصَّ هو - رحمه الله - على تلمذته لابن القَيِّم، وأنه شيخه، فقال في مطلع ترجمته لابن القَيِّم: " ... شمس الدين، أبو عبد الله، ابن قَيِّم الجوزية، شيخنا"2. وقال - أيضاً - في أثناء هذه الترجمة: "لازَمْتُ مَجَالِسَهُ قبل موته أزيد من سنة، وسمعت عليه (قصيدته النونية) الطويلة في السُّنَّة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها"3.
5- ولده: عبد الله بن محمد بن أبي بكر ... الذي تقدمت ترجمته، والكلام عليه4، ومضى هناك قول الحافظ ابن حجر: "اشتغل على أبيه وغيره"5.
__________
1 له ترجمة في: (لحظ الألحاظ: (ص180) ، وذيل التذكرة - للسيوطي: (ص367) ، وذيل ابن عبد الهادي عن طبقات ابن رجب: (ص36-41) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447) .
3 المصدر السابق: (2/448) .
4 انظر: ص (93) .
5 الدرر الكامنة: (2/396) .
(1/195)
6- علي بن الحسين بن علي بن عبد الله، الكناني، البغدادي، المقرئ، الحنبلي، زين الدين.
مولده: سنة (693هـ) .
وكان رجلاً صالحاً، كثير الخير والتلاوة والذكر، حجَّ مراراً وجاور بمكة. أفاد ذلك ابن رجب في (مشيخته) .
وقد ترجمه يوسف بن عبد الله في "ذيله على طبقات ابن رجب"1، وذكر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - أجاز له.
7- السُّبكي: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، الأنصاري، الخزرجي، تقي الدين، أبوالحسن.
مولده: سنة (683هـ) .
سمع الحديث من الجمِّ الغفير، ورحل كثيراً، واشتغل، وأَفْتَى، وَصَنَّفَ، ودَرَّسَ في أماكن عديدة، وتَفَقَّهَ به جماعة من الأئمة.
توفي - رحمه الله - سنة (756هـ) 2.
وقد نقل الشيخ بكر أبو زيد أن الحافظ ابن حجر ذكر في "الدرر الكامنة"3: أن السبكي أخذ عن ابن القَيِّم في رحلته إلى دمشق4.
__________
(ص57) وانظر: (الجوهر المنضد) : (ص84) .
2 له ترجمة في: ذيل التذكرة - للحسيني: (ص39) ، والبداية والنهاية: (14/264) ، وطبقات الشافعية - لابن قاضي شهبة: (3/47) .
(3/134) .
4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص108) .
(1/196)
8- ابن عبد الهادي: محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة، المقدسي، الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله.
مولده: سنة (705هـ) .
سمع الكثير، وتفَنَّنَ في الحديث، والنحو، والفقه، والتفسير، والأصلين، وغير ذلك، وحصَّل من العلوم ما لم يحصِّله الشيوخ الكبار.
وكان حافظاً جيداً لأسماء الرجال، وطرق الحديث، عارفاً بالجرح والتعديل، بصيراً بعلل الحديث.
توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (744هـ) 1.
وقد ذكر ابن رجب - رحمه الله - في ترجمته لابن القَيِّم تتلمذ ابن عبد الهادي على ابن القَيِّم، فقال: "وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له: كابن عبد الهادي وغيره"2.
9- محمد بن عبد القادر بن محيي الدين بن عثمان بن عبد الرحمن، الجعفري، النابلسي، الجنبلي.
مولده: بنابلس سنة (727هـ) .
كان فاضلاً، وله إلمام بالحديث، وكان خطه حسناً جداً، وله المصنفات المفيدة، منها: (مختصر العزلة) للخطابي.
__________
1 له ترجمة في: ذيل التذكرة - للحسيني: (ص49) ، والبداية والنهاية: (14/221) ، وطبقات الحفاظ - للسيوطي: (ص524) .
2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
(1/197)
توفي - رحمه الله - سنة (797هـ) 1.
قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن الْجَزَرِي في مشيخة الْجُنيد البلياني: صحبَ ابن القَيِّم، وتَفَقَّه به، وقرأ عليه أكثر تصانيفه"2.
10- محمد بن محمد بن محمد بن الخضر بن سمرى، الشمس، الزبيري، الغزي، الشافعي.
مولده: سنة (724هـ) بالقدس.
دخل دمشق "فأخذ بها عن: ابن كثير، والتَّقِىِّ السبكي، وابن القَيِّم وغيرهم"3.
توفي - رحمه الله - سنة (808هـ) .
11- المقري: محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر، القرشي، الْمُقْرِي، التلمساني. المتوفى سنة (759هـ) .
ذكره الشيخ بكر أبو زيد في تلاميذ ابن القَيِّم، ونقل عن صاحب (نفح الطيب) 4 - وهو حفيد المقري المذكور - أنه حكى عن جده قوله: "ثم أخذتُ على الشام، فلقيت بدمشق: شمس الدين بن قَيِّم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تَيْمِيَّة" وأنه سمع منه شيئاً5.
__________
1 له ترجمة في: الدرر الكامنة: (4/138 - 139) ، والشذرات: (6/349) .
2 الدرر الكامنة: (4/139) . وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص109) .
3 البدر الطالع: (2/254) . وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص110) .
(5/254) .
5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص110-111) .
(1/198)
12- الفيروزابادي: محمد بن يعقوب بن محمد، أبو الطاهر، الفيروزابادي، الشافعي، مجد الدين.
مولده: سنة (729هـ) بشيراز.
تفقَّهَ ببلاده، وطَلَب الحديث، وسمع من الشيوخ، ومَهَر في اللغة وهو شاب، ورحل كثيراً في سماع الحديث إلى: الشام، ومصر، ومكة. وكان كثيرَ الكتبِ لا يسافر إلا بها. وله التصانيف النافعة السائرة، التي منها: (القاموس المحيط) وغيره.
توفي - رحمه الله - سنة (817هـ) 1.
وقد ذكره الشيخ بكر أبو زيد ضمن تلاميذ ابن القَيِّم، ونقل عن الشوكاني قوله: "ارتحل إلى دمشق سنة 755هـ، فسمع من: التقي السبكي وجماعة، زيادة على مائة، كابن القَيِّم وطبقته"2.
وهذه العبارة لا تخلو من إشكال؛ إذ إن وفاة ابن القَيِّم - رحمه الله - كانت سنة 751هـ، وعلى هذا فإن دخول الفيروزابادي دمشق يكون بعد وفاته!.
ثم نظرت ترجمة الفيروزابادي عند غير الشوكاني، فوجدت عبارة ابن حجر في (إنباء الغمر) 3: "… ودخل الديار الشامية بعد الخمسين…". ثم قال بعد ذلك: "سمع الشيخ مجد الدين من ابن الخَبَّاز،
__________
1 له ترجمة في: إنباء الغمر: (7/159) ، وطبقات الشافعية –لابن قاضي شهبة: (4/79) ، والضوء اللامع: (10/79) ، وبغية الوعاة: (1/273) ، والبدر الطالع: (2/280) .
2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص110) . وانظر: البدر الطالع: (2/280) .
(7/160) .
(1/199)
وابن القَيِّم، وابن الحموي… وغيرهم بدمشق في سنة نيف وخمسين"1. وقال ابن قاضي شُهبة: "وقدم الشام بعد الخمسين - إما سنة خمس، أو في السنة التي بعدها - وسمع بها الحديث"2. وجزم السخاوي بأن دخوله كان سنة (755هـ) 3.
وعند النظر إلى هذه الأقوال، نلاحظ اتفاقاً على أن دخوله إلى دمشق كان بعد الخمسين، إلا أنه لم يقع الجزم بسنة دخوله تحديداً، يتضح ذلك من قول ابن حجر: "… سنة نيف وخمسين"، وترددِ ابن قاضي شهبة بين (755) و (756هـ) كما مضى، إلا أن الذين نصّوا على سنة الدخول جعلوها سنة 755هـ، وحتى ابن قاضي شُهبة - مع تردده - لم يجعلها دون ذلك. فلم يبق إلا كلمة الحافظ ابن حجر رحمه الله، فلو اعتبرنا أن (النَّيِّف) من واحدة إلا ثلاث على التحقيق4، لاحتمل إدراكه لابن القَيِّم سنة وفاته وهي (751هـ) .
بقي أمرٌ آخر يلزم التنبيه عليه، وهو أن الشيخ بكر أبا زيد - حفظه الله - قد ذكر الحافظ الذهبي ضمن تلاميذ ابن القَيِّم، ثم قال: "ترجم لابن القَيِّم في كتابه (المعجم المختص) لشيوخه، ومن هنا حَصَلتْ الاستفادة بأنه من شيوخه، وهو بَلَدِيُّه، والله أعلم"5.
__________
1 إنباء الغمر: (7/162) .
2 طبقات الشافعية: (4/80) .
3 الضوء اللامع: (10/80) .
4 انظر: لسان العرب: (ص4580) مادة: نوف.
5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص109) .
(1/200)
وأكد الشيخ ذلك في مواضع عديدة من كتابه1، واستبعد - بحسب حكمه هذا - أن يكون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم، كما مضى مناقشة ذلك.
ولم أر - بعد البحث والنظر - دليلاً صريحاً يفيد تلمذة الذهبي لابن القَيِّم، بل إن الأدلة تؤيد كون ابن القَيِّم تلميذاً للذهبي كما مضى2.
أما الذهبي، فلم يرد عنه ما يفيد أخْذه عن ابن القَيِّم أو استفادته منه، وعادته في (المعجم المختص) وغيره: أن يشير في ترجمة الشيخ إلى أنه قد سمع منه أو أخذ شيئاً عنه، حتى ولو كان من تلاميذه، ولكنه في ترجمة ابن القَيِّم، نجده يقول: "سمع معي من جماعة"3.
وأما اعتماد الشيخ بكر أبي زيد على كون الذهبي قد ترجم ابن القَيِّم في (المعجم المختص) ، وأنه خاص بشيوخه: ففيه نظر؛ إذ إنه لم يقل أحدٌ بذلك، بل قال الذهبي نفسه في مقدمته: "… فهذا معجمٌ مختصٌّ بذكر من جالسته من المُحَدِّثين، أو أجاز لي مروياته من طلبة الحديث". وقال في (التذكرة) 4: "وقد أَلَّفت معجماً لي، يختص بمن طلب هذا الشأن - يعني الحديث - من شيوخي ورفاقي، فاستوعبت من له أدنى عمل".
__________
1 انظر منها: (ص 39، 40، 178) .
2 انظر: ص (153 - 157) .
3 المعجم المختص: (ص269) .
(4/1500) .
(1/201)
ومن هذا يتبين: أن هذا المعجم ليس خاصاً بشيوخ الذهبي وحدهم، بل أدخل فيه كل من عُرِفَ بطلب الحديث والعناية به، وهو الواضح من عنوانه: (المعجم المختص بالمحدثين) .
وأكد هذا المعنى الدكتور بشار عواد في دراسته القيمة للحافظ الذهبي، فقال: "وهذا الكتاب ليس معجماً لشيوخ الذهبي، بل هو معجم مختصٌّ لطلبة العلم في عصره، فقد ذكر الذهبي فيه حتى صغار الطلبة آنذاك"1.
ثم إن ابن القَيِّم لو كان شيخاً للذهبي، لأدخله في (معجم شيوخه) ، الذي ترجم فيه لما يزيد على ألف شيخ، ومنهم من هو دون ابن القَيِّم.
فالذي أراه - والله أعلم - أنه لا يُحْكَم بتلمذة الذهبي لابن القَيِّم لمجرد إدخاله إياه في (المعجم المختص) ، فإن وُجِدَ دليل أصرح من ذلك، وإلا فالأمر محل توقف.
__________
1 الذهبي ومنهجه في كتابة تاريخ الإسلام: (ص186) .
(1/202)

==========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الفصل الرابع: مؤلفات ابن القيم
المبحث الأول: منهج ابن القيم في التأليف وخصائص مؤلفاته.
...
تمهيد:
إن الحديث عن مؤلفات ابن القَيِّم يمس أهم جانب من جوانب النشاط العلمي في حياة هذا الإمام العالم العلامة، وذلك لما تَمَيَّزَت به مؤلفاتهُ من جوانب كثيرة مشرقة، فقد كان له فيها "من حُسْنِ التَّصَرُّفِ، مع العُذُوبَةِ الزَّائِدَة، وحُسْنِ السِّيَاق، ما لا يَقْدِرُ عليه غَالِبُ الْمُصَنِّفِيْنَ، بحيث تَعْشَقُ الأفهامُ كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتُحِبُّهُ القلوب"1.
هذا إلى جانب الأهمية البالغة للموضوعات التي تناولها -رحمه الله- في مؤلفاته: من ترقيق للقلوب، ودعوة للعودة إلى صراط الله المستقيم ودينه الخالص، إلى غير ذلك من أهدافه السامية النبيلة التي احتوت عليها كُتُبُه.
ولأجل ذلك كله، كتب الله لمؤلفاته الذُّيُوعَ والانتشارَ، في سائر الأمصار والأقطار، واستمرار ذلك على مدى السنين والأعصار، مع محبة القلوب لها، وعِشْقِها لمطالعتها، بحيث لا ينفر منها إلا مقلد عصبي، أو مُبْتَدِع خُرَافِيٌّ.
ولعل خير ما يدل على مكانة مؤلفاته رحمه الله، ويؤكد أهميتها وانتشارها وكثرتها: تلك الشهادات التي سُجِّلَت بأقلام مترجميه، من معاصريه فمن بعدهم إلى أيامنا هذه، فمن تلك الأقوال:
1- قال أبو المحاسن الدمشقي: "ومصنفاته سائرة مشهورة"2.
__________
1 البدر الطالع: (2/144) .
2 ذيل العبر: (ص155) .
(1/205)
2- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وله من التصانيف - الكبار والصغار - شيءٌ كثير"1. وقال عند ترجمته لوالده: "وهو والد العلامة شمس الدين صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية"2.
3- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم"3.
4- وقال زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي (ت835هـ) في تقريظه لكتاب (الرد الوافر) : "ابن قَيِّم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق"4.
5- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "له التصانيفُ الأنيقةُ، والتآليفُ التي في علوم الشريعة والحقيقة"5.
6- وقال المقريزي: " ... وتصانيفه كثيرة"6.
7- وقال الحافظ ابن حجر: "وكلُّ تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف"7. وقال - أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر) : "صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف"8.
__________
1 البداية والنهاية: (14/246) .
2 البداية والنهاية: (14/114) .
3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .
4 الرد الوافر: (ص152) .
5 الرد الوافر: (ص68) .
6 السلوك: (2/3/834) .
7 الدرر الكامنة: (4/22) .
8 الرد الوافر: (ص146) .
(1/206)
8- وقال السخاوي: " ... صاحب التصانيف السائرة"1.
9- ووصف الشوكاني مصنفاته بأنها: "التصانيف الحسنة المقبولة"2.
10- وقال الشطي: "صاحب التصانيف العديدة المشهورة شرقاً وغرباً، والتآليف المفيدة المقبولة عجماً وعرباً"3.
11- وقال الشيخ محمد بهجة البيطار: "صاحب الآثار الكثيرة الْمُحَرَّرَة"4.
تلك بعض أقوال الأئمة في الثناء على مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله، والإشادة بها، وبيان عِظَمِ شأنها وكبير فائدتها.
__________
1 التاج المكلل: (ص419) .
2 البدر الطالع: (2/143) .
3 مختصر طبقات الحنابلة: (ص61) .
4 حياة شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: (ص31) .
(1/207)
المبحث الأول: منهجُ ابن القَيِّم في التأليف، وخصائص مُؤَلَّفَاتِهِ
إن هذه الشهرة التي حققتها مصنفات ابن القَيِّم - بموجب شهادات أهل العلم التي سبق ذكرها- وهذه المكانة المرموقة التي تبوأتها، وهذا الثناء العاطر الذي نَالَتْهُ من الموافق والمخالف على السواء، إن ذلك كله لم يأت عفواً، وإنما كان نتيجة لخصائص وميزات اتسم بها منهجه - رحمه الله - في هذه المؤلفات، وجهدٍ جادٍّ مخلص في سبيل تحبيرها، وعناية فائقة في تحريرها.
ومن هذه الخصائص التي ظهرت لي ولم أقف على من نبّه على الكثير منها:
أولاً: التَّعَدُّدُ والتنوع الموضوعي في مؤلفاته:
لقد سبق الكلام على تضَلُّع ابن القَيِّم - رحمه الله - في فنون عديدة، وإتقانه علوم كثيرة، بحيث يصعبُ على الدارس أن يَحْكَمَ بتفوقه في جانب من العلوم دون بقيتها، فقد شُهِد له بالإمامة في كلِّ فنٍّ من هذه الفنون1.
ولعلَّ هذا الشمول الذي تَمَيَّزَ به ابن القَيِّم في معارفه قد ظَهَرَ جَلِيًّا في المنهج التأليفي عنده، ولذلك فقد عَالَجَتْ مؤلفاته فنون متعددة، وعلوم كثيرة: من فقه، وتفسير، وتوحيد، ولغة، وغير ذلك، فلم يكن نشاطُهُ التأليفي قاصراً على فن واحد.
__________
1 انظر: ما تقدم في ص: (137 - 141) .
(1/209)
ثم إن هذا التعدد في الموضوعات والفنون عند ابن القَيِّم ربما كان سمة مُمَيَّزَةً للكتاب الواحد من كتبه، فكتاب (زاد المعاد) - على سبيل المثال - يعد موسوعة شاملة لفنون عديدة: من سيرة، وفقه، وحديث، وغير ذلك.
ومع ذلك، فإن الغالب على المصنف الواحد من مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله: اتصافه بالوحدة الموضوعية، فنجد كتاب: (الصلاة) ، و (الروح) ، و (حادي الرواح) ، و (الطرق الحكمية) ، و (الصواعق المرسلة) وغيرها، نجدها يعالج كل منها موضوعاً واحداً، وقد يَرِدُ في أثناء الكتاب كلام خارجٌ عن الموضوع، فيكون ذلك من باب الاستطراد الذي يقتضيه المقام.
ثانياً: أهميَّةُ الموضوعات التي تَنَاوَلَهَا ابنُ القَيِّم بالتأليفِ، وَعِظَمُ قيمَتِهَا.
وقد كان ذلك نتيجةً حتميةً للأهداف التي نَذَر ابن القَيِّم نفسه لتحقيقها، والأوضاع التي عاش مجاهداً لتصحيح الخاطئ منها، فجاءت مؤلفاته - لأجل هذه الأهمية - لا غنى لطالب الحق عنها، ولا مناص للقلوب السليمة من مَحَبَّتِهَا.
فجاء كتابُهُ: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلة) ، وكذا (اجتماع الجيوش الإسلامية) لتفنيد كثير من العقائد المنحرفة والمذاهب الفاسدة، وبيانِ المنهجِ الصحيح الذي كان عليه سلفُ هذه الأمة في باب العقائد.
وجاء كتابه: (حادي الأرواح) واصفاً الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين، مُشَوِّقاً لقارئه إلى السعي بجدٍّ لنيلها، والاجتهاد ليكون من أهلها.
(1/210)
وجاء كتاب: (الوابل الصيب) ليضع منهجاً متكاملاً للذكر والدعاء في حياة المسلم، الذي به حياة القلوب، وراحة النفوس.
وجاء كتابه: (الطُّرقُ الْحُكْمِيَّة) يُمَثِّلُ منهجاً فريداً للقاضي والحاكم فيما ينبغي مراعاته عند الحكم من القرائن والأَمَارَاتِ، وما يتعلق بذلك من الفِرَاسَة المَرْضِيَّة.
وهكذا بقية كتبه ومؤلفاته، ما منها كتابٌ إلا وهو يتناول من الموضوعات الْمُهِمَّة ما يحصل به سعادة العبد في دنياه وأُخْرَاه.
ثالثاً: وجود علاقة وثيقة بين الموضوعات التي تناولها بالتأليف، وبين أوضاع مجتمعه ومشاكل عصره.
فقد عاش ابن القَيِّم - كما مضى بيانه - متأثراً بأحداث عصره ومتيقظاً لواجبه تجاهها، ومن ثَمَّ جاءت أكثر مؤلفاته تعالج تلك المشاكل، وتضع الحلول لكثير من الأدواء الْمُسْتَحْكِمَة في المجتمع.
فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يُصَنِّفُ كُتُبَهُ يعيش بِمَعْزِلٍ عن أوضاع مجتمعه وقضاياه المهمة، مما جعل لكتبه أهمية خاصة بالنسبة لكثير من الناس.
رابعاً: اعتماده في الاستدلال لمسائله وقضاياه على الأدلة النَّقْلِيَّة من الكتاب والسنة.
فقد كان - رحمه الله - مُلْتَزماً ذلك في كل كتاباته، يستدل للمسألة التي يوردها من كتاب الله العزيز، ونصوص الحديث النبوي الصحيح، الذي "لا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة، والإذعان
(1/211)
والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، وكل الخيرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه مَنْ بَيْنَ المشرق والمغرب"1.
وقد مضى ذكر طرف من أقواله في وجوب اتباع نصوص الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما دون ما سواهما2.
خامساً: الاعتماد في الاستدلال على العقل الصريح إلى جانب النقل الصحيح.
فمع اعتماده - رحمه الله - في المقام الأول على نصوص الكتاب والسنة، فإنه لم ير مانعاً من الاعتماد على العقل الصحيح السوي، فإنه يرى "أن ما عُلِم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء، لا يُتَصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه"3.
ولذلك فإنه كثيراً ما يؤكد ضرورة الاستدلال بالعقل السويّ إلى جانب النقل، فيقول عند الاستدلال على أن الروح قائمة بذاتها: "ولا يمكن جواب هذه المسألة إلى على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة القرآن، والسنة، والآثار، والاعتبار، والعقل"4.
وقال جواباً عن شُبَه القائلين بنفي الحكمة والتعليل: "الجواب الثاني عشر: أن يقال: العقل الصريح يقضي بأن من لا حِكْمَةَ لفعله، ولا غاية يَقْصِدُهَا به أَوْلَى بالنقصِ ... "5.
__________
1 الروح: (ص183) .
2 انظر ص: (115) .
3 الصواعق المرسلة: (3/829) .
4 الروح: (ص50 - 51) .
5 شفاء العليل: (ص351) .
(1/212)
سادساً: التَّدَرُّجَ في سِيَاقِ الأدلَّةِ النقلية، وتَرْتِيبُهَا حَسْبَ مَكَانَتِهَا وَأَهَمِّيَتِهَا:
فنجده - رحمه الله - في كثير من كتبه: يبدأ في الاستدلال للمسألة بسياق نصوص القرآن، ثم يُتْبِعها بنصوص السنة، ثم أقوال الصحابة، وهكذا.
ولعل أبرز مثالٍ على تطبيقه لهذا المنهج هو كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية) ؛ فقد بناه كله على هذه الطريقة، فأخذ في الاستدلال على استواء الله سبحانه:
- بنصوص القرآن أولاً.
- ثم بالأحاديث الصحيحة الثابتة.
- ثم بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم.
- ثم بأقوال التابعين.
- ثم بأقوال أتباع التابعين، إلى الأئمة الأربعة فمن بعدهم.
سابعاً: التَّحَرُّرُ في تَآلِيفِهِ مِن التَّبَعِيَّةِ لِمَذْهَبٍ أو رأيٍ مُعَيَّنٍ يخالفُ الكتاب والسنة.
ولعلَّ فيما تقدم من كلام على شدة تمسكه بالدليل، والدعوة إلى الاحتكام إليه دون غيره ما يؤكد هذا المعنى.
فابن القَيِّم وإن دَرَسَ المذهب الحنبلي وبَرَعَ فيه، إلا أنه لم يكن بالذي يَتَقَيَّدُ بمذهب إمامه على حساب الدليل، كيف وقد كان حَرْبَاً على التقليد والتعصب المذهبي؟
(1/213)
وقد أحسن الإمام الشوكاني - رحمه الله - وصفه بقوله: "وليس له على غير الدليل مُعَوَّلٌ في الغالب، وقد يميل نادراً إلى مذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يَتَجَاسَر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة، كما يفعله غيره من الْمُتَمَذْهِبِيْنَ، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميل مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال"1.
ولقد حَذَّرَ هو - رحمه الله - من خطورة الفتوى وفق مذهب يعلم المفتي أن دليل غيره أرجح من مذهبه الذي أفتى به، وَعَدَّ ذلك خيانة لله ورسوله، وغِشَّاً في الدين، فقال - رحمه الله - عند ذكره فوائد وإرشادات للمفتين:
"ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه: أن يُفتي السائل بمذهبه الذي يُقَلِّدُه، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً ... فيكون خائناً لله ورسوله وللسائل، وغاشاً له".
ثم يؤكد - رحمه الله - هذا المعنى مبيناً التزامه ذلك في نفسه، فيقول: "وكثيراً ما تَرِدُ المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يُؤْخَذَ به"2.
ومن تَصَفَّحَ كتب ابن القَيِّم وَجَدَ له جملةً من الاختيارات على غير مذهب الحنابلة، ومناقشته له في بعض القضايا، مُرَجِّحَاً غيره عليه بالدليل.
__________
1 البدر الطالع: (2/144 - 145) .
2 إعلام الموقعين: (4/177) .
(1/214)
ثامناً: طولُ النَّفَسِ فيما يكتب، والتَّوَسُّعُ في استقصاء جوانب البحث واستيفاء مقاصده.
وهذه السِّمَة من أهمِّ ما يلفت النظر ويسترعي الانتباه في مؤلفات ابن القَيِّم، وذلك من تمام نصحه، وكمال حرصه على تبليغ الخير ما استطاع، فَيُبَالِغُ في البسط والبيان، وهو دالٌّ في الوقت نفسه على ما تقدم بيانه: من طول باعه في العلم، ورسوخ قدمه فيه، وعمق معرفته، وصبره في سبيل إيصال الفكرة، وتثبيت الحجة، وإقرار الصواب والحق.
ويُصَوِّرُ الحافظ ابن حجر هذه الميزة في مؤلفات ابن القَيِّم، فيقول: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يَتَعَانَى الإيضاح جُهْدَهُ، ويسهب جداً"1.
وقال الإمام الشوكاني واصفاً ذلك: "وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وَطَوَّلَ ذُيَولهُ أتى بما لم يأت به غيره"2.
ولنذكر مثالاً على ذلك: عند سياقه - رحمه الله - حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم على صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، واختار القول بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً، وأخذ في تقرير ذلك، وسياق الأدلة عليه، والرد على المخالفين وتفنيد حججهم، فاستغرق ذلك أربعين صفحة، ثم قال: "ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم ... "3.
__________
1 الدرر الكامنة: (4/22) .
2 البدر الطالع: (2/145) .
3 زاد المعاد: (2/107 - 158) .
(1/215)
ولا أجدني محتاجاً إلى إيراد المزيد من الأمثلة في هذا الصدد؛ فإن ذلك كثير في مؤلفاته رحمه الله لا يكاد ينحصر.
تاسعاً: حُسْنُ الترتيبِ والتبويبِ والعَرْضِ للمعلومات التي يُضَمِّنُهَا كتبه وتواليفه:
تمتازُ مصنفاتُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الكثير الغالبِ - بحسن الترتيبِ والتقسيمِ للمادة التي تحتويها، الأمر الذي يجعلُ لمؤلفاته جَاذِبِيَّةً خاصةً، يشعر بها القارئ وهو يتنقل من باب إلى باب، ومن فصل إلى فصل.
وليُنظَرْ على سبيل المثال: كتابه (حادي الأرواح) ، فقد قسمه إلى سبعين باباً، مرتباً إياها ترتيباً بديعاً، مع الترابط والتجانس بينها، بحيث يُسْلِمُكَ كل باب إلى الذي بعده في تسلسل ممتع، هذا عدا الفصول التي تشتمل عليها بعض الأبواب.
عاشراً: حلاوةُ الأسلوبِ، وجمالُ العبارةِ، وعذوبةُ الْمَنْطِقِ، وحسنُ البيان.
وهذه ميزة أخرى تُزَيِّن مؤلفات ابن القَيِّم، فتُبْهرُ العقول، وتأخذ بمجامع القلوب. ولعل ذلك هو ما عبَّر عنه الشوكاني - رحمه الله - بقوله: "وله من حسن التصرفِ، مع العذوبةِ الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالبُ الْمُصنِّفِين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب"1.
__________
1 البدر الطالع: (2/144) .
(1/216)
وهذا الجمال الأخَّاذُ، وتلك العذوبة الزائدة إذا اجتمع إليهما: عُمْقُ الفكرة، ونبلُ الهدف، وصدق الرغبة في إيصال الخير للخلق، عُرِفَ سر هذا الْحُبِّ الْمُتَمَكِّنِ من القلوب لمؤلفاته رحمه الله.
حادي عشر: الاعتماد كثيراً على الأحداث والوقائع التاريخية، مع قوة الاستحضار لها، وبراعة الاستشهاد بها.
فلم يكن ابن القَيِّم - وهو يكتب - بمعزل عن وقائع التاريخ الإسلامي وأحداثه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومَنْ بَعْدَهُم، بل كان يستحضر من ذلك الشيء الكثير، ويحشد منها القدر الكبير، تأييداً لفكرة، أو تأكيداً لمعنى يريد تقريره.
تكلم مرة عن الشجاعة، والفرق بينها وبين القوة، وأن الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أشجع الأمة - بهذا المفهوم - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال - رحمه الله - في بيان ذلك: "ولو لم يكن إلا ثباتُ قَلْبِهِ يومَ الغار وليلتِهِ، وثباتُ قلبه يوم بدر وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُك ربك، فإنه منجز لك ما وَعَدَك، وثباتُ قلبه يوم أحد وقد صَرَخَ الشيطان في الناس بأن محمداً قد قُتِلَ ... وثبات قلبه يوم الحديبية وقد قَلِقَ فارس الإسلام عمر بن الخطاب حتى إن الصديق لَيُثَبِّتُهُ، وَيُسَكِّنُهُ، وَيُطَيِّبُهُ،
(1/217)
وثبات قلبه يوم حنين حين فرَّ الناس وهو لم يفر، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع، وكادت تزلزل لها الجبال، وعقرت لها أقدام الأبطال ... وخرج الناس بها من دين الله أفواجاً ... وطمع عدو الله أن يعيد الناس إلى عبادة الأصنام ... فَشَمَّرَ الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خَوَّار ... فَثَبَّتَ الله بذلك القلب - الذي لو وُزِنَ بِقُلوب الأمة لرجحها - جيوش الإسلام، وَأَذَلَّ بها المنافقين والمرتدين"1.
والأمثلة على استشهاده بالوقائع والحوادث الماضية - بهذا التسلسل الشيق، والعرض الممتع - كثيرة جداً بين ثنايا كتبه.
ثاني عشر: الاستعانةُ بالتجاربِ الخاصَّةِ، والخبرةِ الشخصية في دَعْمِ أَفْكَارِهِ، وتأييدِ آرائِهِ.
فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يُسَجِّلُ تجاربه الخاصة وخبرته الشخصية في أثناء كتاباته، وذلك تأييداً لفكرة ما، وزيادة في إيضاحها، وتوفيراً لأكبر قَدْرٍ من اليقين لناظِرِهَا ومُطَالِعِهَا.
يقول - رحمه الله - عند كلامه على تَمَكُّنِ الأرواح الشيطانية من الأجسام في حالات معينة، وأنها تُدفَع بالأذكار، والأدعية، والابتهال الذي يستجلب من الأرواح الْمَلَكِيَّةِ مَا تَقْهَرُ به هذه الأرواح الخبيثة، قال: "وقد جَرَّبْنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قُرْبِهَا تأثيراً عظيماً ... "2.
__________
1 الفروسية: (ص129) .
2 زاد المعاد: (4/40) .
(1/218)
وقال عند كلامه على الاستشفاء بماء زمزم: "وقد جَرَّبْتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمرض، فبرأتُ بإذن الله"1.
ثالث عشر: التَّواضُعُ الجَمُّ، وهضمُ الذَّاتِ، وإسنادُ ما يُفْتَحُ به عليه من فوائد إلى فضلِ الله وتوفيقه وتأييده.
وقد مضى ذكر شيء من الأمثلة لذلك عند الكلام على أخلاقه2، ويُلاحِظُ ذلك كل من يطالع كتبه.
رابع عشر: تَحَرِّي الدِّقَّةِ في النقل عن الآخرين، وبخاصة ما كان من ذلك مشافهة.
فنجده - رحمه الله - يحرص على توثيق هذا النقل بما لا يدع في نفس القارئ أدنى شك في صدق ناقله.
فيقول مرة: "ولقد أخبر بعض الصادقين ... "3. وقال في مناسبة أخرى: "وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن مساب السلاهي - وكان من خيار عبادالله، وكان يَتَحَرَّى الصدق - قال ... "4.
__________
1 زاد المعاد: (4/393) .
2 انظر ص: (102) .
3 الروح: (ص88) .
4 الروح: (ص92) .
(1/219)
خامس عشر: الحرصُ على تحرِيرِ القول في المسائلِ المختلف فيها، وبيان الراجحِ من ذلك.
فقد جرت عادة ابن القَيِّم - رحمه الله - في أكثر مؤلفاته: أن يَعْرِضَ آراءَ كلِّ فريقٍ في المسائل الْمُخْتَلفِ فيها، مع ذكر أدلة كل فريق، وتحليل ذلك كله ومناقشته، وبيان الراجح من المرجوح، والصواب من الخطأ. ويكون ترجيحه - رحمه الله - لما تدعمه الأدلة، وتؤيده البراهين.
يقول - رحمه الله - في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تكون كالصلاة على إبراهيم عليه السلام1، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم؟ قال: "ونحن نذكر ما قاله الناس في هذا، وما فيه من صحيح وفاسد"2.
ويقول في مسألة الهوي إلى السجود - بعد أن ذكر أقوال الفريقين وأدلتهم -: "والراجح البداءة بالركبتين لوجوه ... "3.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
سادس عشر: التَّلَطُّفُ مع الْخَصْمِ، والحرصُ على إيصالِ الخير إليه، وحصولُ الهدايةِ والانتفاعِ له.
فقد عُلِمَ كثرة الخصوم ابن القَيِّم - رحمه الله - من أعداء السنة، والحاقدين على أهلها، ومع ذلك فإن ابن القَيِّم كان حريصاً في كتاباته
__________
1 يعني في قولنا: " ... كما صليت على إبراهيم".
2 جلاء الأفهام: (ص150) .
3 تهذيب السنن: (1/400) .
(1/220)
على الأخذ بيد الضال منهم، وإرشاده إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.
ويَوَضِّحُ - رحمه الله - هذا الحرص في مقدمة كتابه (شفاء العليل) 1 فيقول: "فيا أيها المتأمل له، الواقف عليه: لك غُنْمُه وعلى مؤلفه غُرْمُه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تَعْجَل بإنكارِ ما لم يَتَقَدَّم لك أسبابُ معرفَتِهِ، ولا يَحْمِلَنَّكَ شنآنُ مؤلِفِهِ وأصحابه على أن تُحْرَمَ ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تَظْفَرُ بها في كتاب، ولعلَّ أكبر من تُعَظِّمُهُ ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها".
فانظر إلى حرصه - رحمه الله - على إيصال نور الهداية إلى مَبْغِضِه وإلى كل من لعله في نفسه شيء عليه.
ومن هذا أيضاً: ما تَقَدَّمَت الإشارة إليه من مناظراته لبعض أهل الكتاب، وما كان من دعوتهم في آخر هذه المناظرات إلى الدخول في الإسلام، دين الهداية والرشاد.
سابع عشر: دِقَّتُهُ - رحمه الله - في اختيار الأسماء والعناوين لكتبه، ومراعاة التطابق بين الاسم والمضمون.
وهذا يلاحظه كل من نظر كتبه وتأملها، وطابق بين اسمها وما بداخلها، مع تَفَنُّنِهِ - رحمه الله - في اقتناء هذه الأسماء: قوةً ورقةً، ترهيباً وترغيباً إلى غير ذلك.
__________
(ص: 9) .
(1/221)
فنجده يختار اسماً رقيقاً جميلاً عندما يريد الكلامَ عن الجنة ونعيمها، والترغيب فيها، وإثارة الشوق إليها، وشحذ الهمم للاستعداد لها، فيقول: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) .
وقد نصَّ - رحمه الله - على مطابقة اسمه لمضمونه، فقال في مقدمته: "وسميته: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فإنه اسم يطابق مُسَمَّاه، ولفظٌ وافق معناه"1. وقريب من ذلك: (روضة المحبين) .
بينما نجد لَهْجَتَهُ تشتدُّ - وقد أعلنَ الحربَ على أتباع الفلاسِفَةِ والْمُتَكَلِّمِينَ، من أهلِ التأويل والتعطيل - فيختارُ لذلك عنواناً قوياً مُدَوِّيَاً، يُوحي بتوجيه ضربات موجعة إلى أعداء عقيدة السلف، فيقول: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلَة على الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلَةِ) ، ويقول أيضاً: (اجتماعُ الجيوش الإسلامية على غزوِ المعطلة والجهمية) .
وهكذا نجد هذا التناسب بين الاسم والْمُسَمَّى هو الغالب على سائر كتبه، مع الجمال والبلاغة في غالب هذه الأسماء.
ثامن عشر: وقوعُ التِّكْرار في مؤلفاته.
يلاحظ الناظر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - تكرار الكلام على الموضوع الواحد في أكثر من كتاب من كتبه، وقد يكون تكرار ذلك بلفظه وحروفه، وقد يكون بالمعنى دون الاتفاق في اللفظ والعبارة.
وستأتي عند دراسة الأحاديث التي تكلم عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة لذلك، فكان يُكَرِّرُ الكلام على الحديث في مناسبات
__________
1 حادي الأرواح: (ص30) .
(1/222)
عديدة1، وكذا كان شأنه في كثير من القضايا الفقهية، والتفسيرية وغير ذلك.
يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: "انتقد بعض الكاتبين ظاهرة التكرار في مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله تعالى ... ولكن عند الفحص الدقيق والنظر العميق يتبين للناظر أن هذا ليس من مواضع النقد ولا من مواطن العتب، بل هي ميزة هامة وظاهرة محمودة"2.
ثم ذكر - حفظه الله - قضية التكرار في الكتاب والسنة ومؤلفات سلف الأمة، وَحِكَمَ ذَلِكَ وَأَسْرَارَهُ وفوائِدَهُ.
وابن القَيِّم - رحمه الله - يلجأ للتكرار لأسباب عديدة وفوائد كثيرة، وعلى رأس هذه الأسباب وتلك الفوائد ما يلي:
1- خطورة الموضوع الذي يتناوله ابن القَيِّم، وأهميته البالغة، فتجده يكرر الكلام فيه كلما وجد لذلك مناسبة، ومن أمثلة القضايا التي كرر الكلام فيها لشعوره بأهميتها وعظيم خطرها:
- قضية تحريم سماع الغناء وأضرار هذا المرض الشيطاني3.
- قضية الطلاق الثلاث بلفظ واحد4.
__________
1 انظر على سبيل الله المثال الأحاديث رقم: (45، 81، 84، 86، 89، 90، 100، 138، 145، 150) .
2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص122 - 123) .
3 انظر: إغاثة اللهفان: (1/224 - 268) ، وتهذيب السنن: (5/270 - 272) ، وروضة المحبين: (147 - 148) ، وكتابه المفرد في هذا الموضوع: (الكلام على مسألة السماع) .
4 انظر: زاد المعاد: (5/247 - 271) ، وإغاثة اللهفان: (1/283 - 329) ، وتهذيب السنن: (3/128 - 129) .
(1/223)
- الحِيَل وأحكامها، وبيان الِمُحَرَّم منها1.
إلى غير ذلك من القضايا التي كررها لأهميتها، وشدة الحاجة إليها.
2- وقد يقع التكرار منه استطراداً لفائدة عارضة؛ فقد كان الاستطراد من عادته رحمه الله، فَرُبَّمَا دَخَلَ في موضوع آخر غير موضوع البحث وتوسَّعَ في الكلام عليه جوداً منه بالعلم، وحرصاً على عدم تضييع الفائدة على القارئ والمتعلم.
3- وقد تدعوه الحاجة إلى ذكر موضوع كان قد ذكره في موضع آخر، فيُكَرِّرُهُ على سبيل الاختصار لِمَا أَفَاضَ فيه في ذلك الموضع، فنجده مرة يقول في كتابه (بدائع الفوائد) 2 في مبحث له في الحب: "ولنقطع الكلام في هذه المسألة، فمن لم يشبع من هذه الكلمات، ففي كتاب (التحفة الْمَكِّيَّة) أضعاف ذلك".
ويقول - أيضاً - عند كلامه على الكيمياء في كتابه (مفتاح دار السعادة) 3: "وقد ذَكَرْنَا بُطْلانَهَا وبيان فسادها من أربعين وجهاً في رسالة مفردة".
تلك أبرز العوامل التي قد تَحْمِلُه - رحمه الله - على التكرار لبعض الفوائد والمباحث، ولا شكَّ أن في ذلك التكرار - بهذه الصفة -
__________
1 انظر: إغاثة اللهفان: (1/338 - 391) ، (2/1 - 121) ، وإعلام الموقعين: (3/159 - 403) .
(2/89) .
(ص 241) .
(1/224)
فوائد عديدة، أهمها: أن من لم يقف على ذلك البحث الْمُكَرَّرِ في كتاب لابن القَيِّم، فإنه لا يَفُوتُهُ في غيره من الكتب التي تكرر فيها.
وبعد، فهذه أبرز الخصائص وأهم السمات التي تميز بها أسلوب ابن القَيِّم - رحمه الله - ومنهجه في البحث والتأليف.
(1/225)

==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...