الجمعة، 7 يناير 2022

21-ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القيم في الجرح والتعديل ثم بعده بمشيئة الله


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القيم في الجرح والتعديل

المطلب الأول: في مكانة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نقد الرجال
...
المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القَيِّم في الجرح والتعديل
والغرض من هذا المبحث: إبرازُ الناحية العملية التطبيقية في الجرح والتعديل عند ابن القَيِّم، مع بيان ما اتَّسَم به منهجه في هذا الباب، ودراسة بعض عباراته في الحكم على الرجال، مع محاولة عَرْضِ نماذج من الرجال الذين تكلم فيهم بجرح أو تعديل من سائر كتبه التي وقفت عليها ونظرت فيها.
وقد رأيت أن يكون الكلام في هذا المبحث مشتملاً على عدة مطالب:
المطلب الأول: في مكانة ابن القَيِّم -رحمه الله - في نقد الرجال.
المطلب الثاني: في منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال.
المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل.
المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد المتفرقة في الرجال.
(1/573)
المطلب الأول: مكانةُ ابن القَيِّم في نقدِ الرِّجَال
لقد خاضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - غمار هذا الفن بعد أن استقرت قواعده، وَدُوِّنَت أقوال الجهابذة النقاد في الرجال جرحاً وتعديلاً، فلم يبق أمام من جاء بعد: إلا النظر في أقوال المتقدمين، والاعتماد عليها في الحكم على الرواة.
وبذلك بقيت جهود المتأخرين - ممن صَنَّفَ في الرجال - محصورة في: تهذيب هذه المؤلفات السابقة واختصارها، أو الجمع بينها، ونحو ذلك من فنون التصنيف وأغراضه المختلفة.
ولكن ذلك لا يمنع من القول: بأنه قد بَرَزَتْ - أيضاً - جهود لبعض الجهابذة النقاد، الذين كان لهم أثرٌ واضحٌ في تحرير وتنقيح الكثير من قواعد هذا الفن، ووضع كل راو في مرتبته اللائقة به، والترجيح بين الأقوال المختلفة في الراوي، إلى غير ذلك من الجهود الموفقة في هذا الباب. وكان على رأس هؤلاء الأئمة: الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى.
وعلى الرغم من قيام هذه المحاولات العديدة في زمن ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه لم يضع كتاباً في الرجال، وإنما جاءت أقواله وإفاداته منثورة في أثناء كتبه، عند كلامه على الأحاديث.
ولكن عدم وجود مُصَنَّفٍ لابن القَيِّم في هذا الباب لا يَنْفِي أن له فيه مشاركة فعالة، فقد كانت له شخصيته الواضحة المتميزة، وإسهاماته
(1/574)
العديدة في الكلام على الرجال جرحاً وتعديلاً، بحيث لو جُمِعَت أقواله المنثورة في أثناء كتبه، لأعطت صورة حقيقية عن جهد ابن القَيِّم وإفاداته في هذا الباب، ولجاءت مرجعاً لا يُستهان به في هذا الفن.
والذي يَهُمُّنَا في هذا المقام: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بالرغم من وجود هذا القدر الهائل من المؤلفات في الرجال، واطِّلاعه عليها، وإفادته منها، لم يكن مجرَّد ناقلٍ لأقوال غيره فحسب، وإنما كانت له شخصيته النقدية المتميزة، الأمر الذي أعطى لأحكامه النقدية قِيمة حقيقية، وفائدة لا يمكن إغفالها.
وتتلخص أهمية أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل وأحكامه فيما يلي:
1- اجتهاد ابن القَيِّم - رحمه الله - في شأن بعض الرواة المختلف فيهم جرحاً وتعديلاً، بحيث أعطى لنا - بعد الدراسة والنظر - حُكْماً في هؤلاء: إما بترجيح أحد الأقوال على غيره، أو بالجمع بين تلك الأقوال المتعارضة.
فمن أمثلة ما قام فيه بالترجيح:
ما جاء في كلامه على "زيد بن الحواري"، فإنه نقل فيه اختلاف العلماء، ثم رجح جانب التعديل، فقال: "وحسبه رواية شعبة عنه"1.
وقال عن "سعد بن سعيد الأنصاري" مرجحاً تعديله:"ثقة
__________
1 حادي الأرواح: (ص272) .
(1/575)
صدوق روى له مسلم، وروى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان ابن بلال. وهؤلاء أئمة هذا الشأن"1.
ويرجح - رحمه الله - جانب توثيق "عمرو بن شعيب"، فيقول عند كلامه على حديث سقوط الحضانة بالتزويج: "وقد صَرَّح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو - يعني في الحديث المذكور -، فبطل قول من يقول: لعله محمد والد شعيب، فيكون الحديث مرسلاً. وقد صحَّ سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، فبطل قول من قال: إنه منقطع، وقد احتجَّ به البخاري خارج "صحيحه" ونصَّ على صحة حديثه، وقال: كان عبد الله بن الزبير الحميديُّ، وأحمد، وإسحاق، وعلي بن عبد الله يحتجون بحديثه، فمن الناس بعدهم؟! "2.
وقال عن عكرمة: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه"3.
2- بيان ابن القَيِّم - رحمه الله - مرتبة كثير من الرواة في عبارة موجزة جامعة، وقد يكون ذلك: بكلمة أو كلمتين أو أكثر، وذلك نتيجة دراسته لأقوال العلماء ونظره فيها، ثم الخروج بهذا الحكم المختصر الجامع.
ولاشكَّ أن لذلك فائدةً كبيرة، وبخاصة لمن يريد الحكم في الراوي
__________
1 تهذيب السنن: (3/311) .
2 زاد المعاد: (5/ 434) .
3 إغاثة اللهفان: (1/296) ، وسيأتي مزيد كلام على ذلك عند منهجه في الجرح والتعديل.
(1/576)
خالصاً، دون الدخول إلى تلك الكتب المطولة، والبحث فيها.
وهذه الأحكام المختصرة المعتصرة تُمَثِّل جانباً كبيراً من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومن أمثلة ذلك: قوله في الراوي: "ثقة"1، أو: "ضعيف"2، أو: "لا يحتج به"3. أو: "متروك"4، إلى غير ذلك من الأحكام التي صاغها - رحمه الله - بعد دراسة الرجل، مختصراً بذلك تلك الأقوال المتعددة التي قيلت فيه.
3- اعتماد بعض الأئمة الحفاظ على أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل؛ كالحافظ ابن حجر رحمه الله، فقد نقل عنه في (لسان الميزان) 5 في ترجمة "العلاء بن إسماعيل العطار"، حيث قال فيه: "مجهول". ونقل عنه أيضاً في: (تهذيب التهذيب) 6، في ترجمة عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، فقال: "قال أبو عبد الله بن القَيِّم في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم": مجهول لا يعرف في غير هذا الحديث، ولم يذكره أحد من المتقدمين".
ولا شك أن نقل مثل ابن حجر - مع سعة اطلاعه، وطول باعه في هذا الفن - عن ابن القَيِّم رحمه الله، لَيُعَدُّ دليلاً على القِيمة العلمية لإسهامات ابن القَيِّم وأقواله في نقد الرجال.
__________
1 زاد المعاد: (5/511) .
2 تهذيب السنن: (1/59) ، (3/217) .
3 زاد المعاد: (2/417) .
4 زاد المعاد: (1/197) ، تهذيب السنن: (1/209) .
(4/182) .
(6/201) .
(1/577)
4- العبارات القوية والفريدة التي أطلقها ابن القَيِّم على بعض الرواة، ومنها ما لم يستعمله أحد - فيما أعلم - قبله. ولاشك أن هذه العبارات تمثل إضافات جديدة - لها قيمتها - إلى قاموس ألفاظ الجرح والتعديل1.
5- تعقبات ابن القَيِّم واستدراكاته على بعض الأئمة، والتنبيه على بعض الأوهام التي وقعت لبعضهم في الجرح والتعديل.
فمن ذلك: أن ابن حزم - رحمه الله - حكَم على مُطَرِّف بن مصعب - في سند حديث عند ابن ماجه - بالجهالة، فَتَعَقَّبَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - قائلاً:"ليس هو بمجهول، ولكنه ابن أخت مالك، روى عنه البخاري، وبشر بن موسى، وجماعة. قال أبو حاتم: صدوق مضطرب الحديث ... وكأن أبا محمد بن حزم رأى في النسخة: مطرف بن مصعب فَجَهَّلَهُ، وإنما هو: مطرف أبو مصعب، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار"2.
ومن ذلك أيضاً: أن الحاكم أبا عبد الله قال في عاصم بن كليب: "لم يخرج حديثه في الصحيح". فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وليس كما قال، فقد احتج به مسلم، إلا أنه ليس في الحفظ كابن شهاب وأمثاله"3.
__________
1 وسيأتي التنبيه على بعض هذه الألفاظ عند دراسة عباراته في الجرح والتعديل. (انظر ص: 593) .
2 زاد المعاد: (2/132) .
3 تهذيب السنن: (1/368) .
(1/578)
ورد على ابن حزم تضعيفه "الحارث بن أبي أسامة" بقوله: "فإنما اعتمد في ذلك على كلام أبي الفتح الأزدي، ولا يلتفت لذلك"1. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة.
تلك أبرز الفوائد التي اشتمل عليها كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، والتي يمكن أن تعطينا تصوراً عاماً عن أهمية ما جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في نقد الرجال وبيان مراتبهم.
وأخيراً أستطيع القول: إن ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه المشاركات الفعالة في الجرح والتعديل، يُعَدُّ واحداً من نُقَّادِ هذا الفنِّ المعتبرين الذين لا ينبغي إغفال جهدهم في هذا المجال.
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 187) .
(1/579)
المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال
تقدَّم أن كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على الرواة لم يأت نتيجة عمل مخصص لهذا الغرض، بمعنى: أننا لم نجد كلام ابن القَيِّم على الرجال مجموعاً مفرداً في مُؤَلَّف، حتى نتمكن من الوقوف على منهجه وأسلوبه من خلال ذلك، وإنما وُجِدَت أقواله في الرجال منثورة في أثناء كتبه، في أماكن متفرقة ومناسبات شتى، وذلك تبعاً لظروف دراسة كل حديث والحكم عليه.
ومع ذلك، فإنه يمكننا أن نُحَدِّد المنهج العام الذي التزمه، والخصائص الْمُمَيِّزَة لعمله في هذا الباب، وذلك من خلال استعراض النقاط التالية:
أولاً: لم يلتزم ابن القَيِّم - رحمه الله - طريقة واحدة في الحكم على الراوي. فتارة ينقل أقوال العلماء في الرجل، وتارة يحكم عليه هو بنفسه، وذلك بكلمة أو كلمتين، أو أكثر، وذلك بحسب ظروف كل راو، وما يقتضيه المقام.
ثانياً: قد يختلف حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الرجل الواحد من مكان لآخر ومن مناسبة لأخرى. وليس ذلك من التناقض، ولكن يحصل ذلك لاختلاف الظروف والمناسبات، فكل حكم من هذه الأحكام يكون خاضعاً لتلك الظروف التي صَدَرَ فيها.
ومن أمثلة ذلك: كلامه في الحجاج بن أرطاة، فبينما هو يضعفه
(1/580)
في مواطن عدة1 - وذلك حيث ينفرد أو يخالف غيره - نجده يُقَوِّي أمره في مواطن أخرى، وذلك عندما يروي ما رواه الناس، ولا ينفرد بما يُنْكَرُ عليه.
فقد قال رحمه الله في حديث جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً": "فيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات"2.
وقال - رحمه الله - في الحديث نفسه في موضع آخر: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وعيب عليه التدليس، وقلَّ من سلم منه ... وقال أبو حاتم: إذا قال: حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه"3.
فهكذا نجده يقبله في الشواهد والمتابعات، ويثني عليه، ويقوِّي حاله، ويضعفه حيث ينفرد ولا يُتَابَع.
ثالثاً: قد يلجأ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الترجيح بين أقوال الأئمة عند التعارض. ويكون اختياره وترجيحه في الغالب مطابقاً لما يدعمه الدليل، وتؤيده قواعد الفن.
__________
1 انظر مثلاً: تحفة المودود: (ص 175-176) .، وزاد المعاد: (1/50، 438) ، والفروسية: (ص45) .
2 زاد المعاد: (2/111) .
3 زاد المعاد: (2/147) .
(1/581)
ومن أمثلة ذلك: قوله في صالح مولى التوأمة: "للحفاظ في صالح هذا ثلاثة أقوال، ثالثها أحسنها، وهو: أنه ثقةٌ في نفسه ولكنه تَغَيَّرَ بآخرته، فمن سمع منه قديماً فسماعه صحيح، ومن سمع منه أخيراً ففي سماعه شيء. فمن سمع منه قديماً: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وأدركه مالك، والثوري بعد اختلاطه"1.
ورجَّحَ جانبَ التعديل في عكرمة قائلاً: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصَحَّحَ أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْحِ من قَدَحَ فيه"2.
ورجَّح توثيق عمرو بن شعيب على تضعيفه، فقال: "الجمهور يحتجون به ... واحتج به الأئمة كلهم في الديات"3. وقال مرة مؤكداً هذا الاختيار: "ونحن نحتج بعمرو بن شعيب"4.
وكذا اختار توثيق محمد بن إسحاق، إمام المغازي، فقال: "وثناء الأئمة على ابن إسحاق، وشهادتهم له بالإمامة، والحفظ، والصدق، أضعاف أضعاف القدح فيه"5.
رابعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم إلى الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض في الرجل المختلف فيه. بحيث يحمل كل قول منها على وجه
__________
1 جلاء الأفهام: (ص15) .
2 إغاثة اللهفان: (1/296) .
3 تهذيب السنن: (6/374) .
4 زاد المعاد: (5/ 429) .
5 أحكام أهل الذمة: (1/332) .
(1/582)
يحتمله، فيخرج من هذه الأقوال بحكم يمثل "قولاً وسطاً" في هذا الراوي، فلا هو يضعف مطلقاً، ولا يُوَثَّقُ مطلقًا.
فمن ذلك: قوله في عبد الله بن لهيعة: "وحديثُ ابن لهيعة يُحْتَجُّ منه بما رواه عنه العبادلة: كعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ"1.
ويقول في محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثقةٌ حافظٌ جليلٌ، ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شيء ما في حفظه يُتَّقَى منه ما خَالَفَ فيه الأثبات، وما تفرد به عن الناس"2.
فَبَيَّن - رحمه الله - أنه يعتبر به إذا وافق غيره، ولم يأت بما ينكر عليه، وأنه يترك من حديثه ما خالف فيه أو انفرد عن الناس، فلا يكون حجة في ذلك.
ويقول في سفيان بن حسين: "في الزهري: ضعيف"3.
ثم يُبَيِّن وجه الجمع بين قول من وَثقَهُ وقول من ضَعَّفَهُ، فيقول: "ولا تنافي بين قول من ضعفه وقول من وثقه؛ لأن من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه"4.
فهكذا يبين - رحمه الله - أن بعض الرواة لا يعارضُ تضعيفُهُم
__________
1 إعلام الموقعين: (2/406-407) .
2 زاد المعاد: (5/150) .
3 تهذيب السنن: (3/ 344) .
4 الفروسية: (ص44) .
(1/583)
توثيقَهُم؛ إذ كل منهما له وجه ومحمل، فإذا أخذ ذلك في الاعتبار أمكن الجمع بين الأقوال المتعارضة في الرجل، وهذا يحتاج إلى إحاطة كاملة ومعرفة تامة بمقاصد العلماء فيما يطلقونه من أقوال في الرواة ووجه كل قول منها، وبخاصة عند الاختلاف في الراوي، وقد مضى كلام ابن القَيِّم في التنبيه على ذلك.
خامساً: غالباً ما يقوم ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدفاع عن الراوي الذي يرى أنه قد ضُعِّفَ تعنتاً، وأن من جرحه لم يأت بما يقدح فيه.
فيجتهد - رحمه الله - في الذَّبِّ عنه، وإثبات ثقته، وله في ذلك أسلوبه المتميز، وعباراته القوية التي تتسم بوضوح الْحُجَّة وقوةِ الدليل.
فمن ذلك: قوله في الردِّ على من ضعف ابن إسحاق: "إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلمِ والأمانة ... قال علي بن المديني: لم أجد له سوى حديثين منكرين. وهذا في غاية الثناء والمدح، إذ لم يجد له - على كثرة ما روى - إلا حديثين منكرين"1. وقال أيضاً: "ثقة لم يجرح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... "2.
وقال - رحمه الله - في الدفاع عن المنهال بن عمرو - وقد حاول بعضهم جَرْحَهُ بسماع صوت طنبور من بيته -: "وليس في شيء من هذا ما يقدح فيه"3. وقال مرة - بعد أن نقل توثيقه عن الأئمة -:
__________
1 تهذيب السنن: (7/ 94- 95) .
2 جلاء الأفهام: (ص6) .
3 تهذيب السنن: (1/ 92) .
(1/584)
"وبالجملة: فلا يرد حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.
ويقول مدافعاً عن عكرمة مولى ابن عباس: "وإن قَدَحْتُم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جَاءَكُم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به - أنتم وأئمة الحديث - من روايته، وارتضاء البخاري إدخال حديثه في صحيحه"2. ويقول أيضاً: "وطَعَنَ - يعني: بعضهم - في عكرمة، ولم يصنع شيئاً"3.
ويقول عن عبد الملك بن أبي سليمان - وقد ضعفوه بحديث الشفعة -: "وتلك شكاة ظاهر عنه عارها"4.
وقال عن إبراهيم بن طهمان - وقد ضعفه ابن حزم -: "لله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم، وهو من الحفاظ الأثبات الثقات ... "5.
وكذلك نجده - رحمه الله - عندما يُعَارَضُ الثقة بشخص ضعيف، فإنه يرد ذلك بشدة، مؤكداً ضعف هذا المعارض، ومن أقواله في ذلك:
قوله في عَطَّاف بن خالد - وقد خالف الثقات فزاد في الإسناد
__________
1 تهذيب السنن: (7/ 140) .
2 زاد المعاد: (5/ 264) .
3 زاد المعاد: (2/ 434) .
4 زاد المعاد: (2/ 146) . وهذه العبارة شطر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:
وعَيَّرَهَا الواشون أَنِّي أُحِبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عَنْكَ عارُها
يقال: ظهر عني هذا العيب، إذا لم يعلق بي ونبا عني. (لسان العرب: ظهر) .
5 زاد المعاد: (5/ 708) .
(1/585)
رجلاً -: "فأما عطاف: فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه، ولا هو ممن يُعَارض به الثقات الأثبات ... "1.
وقال في أبي شيخ الهنائي - وقد روى عن معاوية النهي عن أن يُقْرن بين الحج والعمرة -: "وأبو شيخ: شيخ لا يحتج به، فضلاً عن أن يُقَدَّم على الثقات الحفاظ الأعلام ... "2.
سادساً: الشمول، والإحاطة، وغزارة المعلومات في عباراته التي يطلقها على الرواة. بحيث تشتمل عبارة واحدة - مثلاً - على معلومات متكاملة عن الراوي، وبذلك يكون لهذه العبارات أثر كبير في تجلية صورة الراوي وتوضيحها.
فيقول - رحمه الله - في إبراهيم بن طهمان: "من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثهم، واتفق أصحاب الصحيح - وفيهم الشيخان - على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمة بالثقة والصدق، ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحْفَظُ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه، ولا تضعيفه به"3.
فهذه الجملة - على وجازتها - قد أحاطت بأحوال الْمُتَرْجَم وبَيَّنت مرتبته، وأعطت صورة كاملة عنه، فهو:
1- من الحفاظ الأثبات الثقات المشهود لهم بالثقة والصدق.
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 363) .
2 زاد المعاد: (2/ 138) .
3 زاد المعاد: (5/ 708) .
(1/586)
2- أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
3- احتج به الشيخان في (صحيحيهما) .
4- لم يُحْفظ عن أحد من الأئمة فيه خدش ولا قدح.
5- ولا ضَعَّفَ أحد من الأئمة حَديثاً رواه، ولا أعله به.
ومثل ذلك: قوله في "بقية بن الوليد": "ثقة في نفسه، صدوقٌ حافظٌ، وإِنَّمَا نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صَرَّح بالسماع فهو حجة"1.
وقال في "حميد بن صخر": "ضَعَّفَهُ النسائي، ويحيى بن معين. ووثقه آخرون. وأنكر عليه بعض حديثه. وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد"2.
فقد أفادت هذه العبارة أن حميداً هذا:
__________
1- اخْتُلِفَ فيه، فوثقه جماعة وضعفه آخرون.
2- وأنه أنكرت عليه أحاديث.
3- والخلاصة في أمره: أنه لا يحتج بما ينفرد به.
وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه فيما يتعلق بالخطوط العامة للمنهج الذي سار عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقد الرجال والحكم عليهم، ولعل ذلك يُسْهِم في تقديم صورة واقعية للناحية النقدية عند ابن القَيِّم، ويلقي الضوء على شخصيته المتميزة في هذا الجانب المهم من
1 تهذيب السنن: (1/ 129) .
2 زاد المعاد: (1/ 359) .
(1/587)
مباحث علوم الحديث، والذي يمثل الأساس المتين للحكم على المرويات ونقدها وتمحيصها.
وبعد هذا العرض العام لمنهجه - رحمه الله - في ذلك، يمكن استخلاص أبرزِ السِّمَات والخصائص التي اتسمت بها شخصيته النقدية، وأقوالُهُ في الرجال، فمن ذلك:
1- سعَةُ اطِّلاعه على أقوال الأئمة، وإلمامه بما قيل في الراوي، فنجده - مثلاً - يقول في "حبيب بن أبي حبيب": "كَذَّاب وضَّاع باتفاق أهل الجرح والتعديل"1. وقد يكون قصده بذلك جمهورهم وأكثرهم، ولكن هذا لا ينفي ما قدمنا.
ومثله ما تقدم من قوله في "إبراهيم بن طهمان": "لم يُحْفَظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش"2.
2- كثرة مصادره في الرجال، فنجده - رحمه الله - ينظرُ في الرجل الواحد عدة مصادر، فمن ذلك: أنه قال في رجل - وقد اختلف في اسمه -: "وهكذا هو في: "تاريخ البخاري"، "وكتاب ابن أبي حاتم"، "والثقات" لابن حبان، "وتهذيب الكمال" لشيخنا أبي الحجاج المزي"3.
3- تَمَيُّزُ شخصيته - رحمه الله - في نقد الرواة؛ فلم يكن مجرد ناقل لأحكام غيره، بل كان له أثر بارزٌ في تمحيص هذه الأقوال ونقدها، وقد مرت أمثلة لذلك.
__________
1 مختصر الصواعق: (2/391) .
2 زاد المعاد: (5/708) .
3 جلاء الأفهام: (ص12) .
(1/588)
4- مَعْرِفَتُهُ - رحمه الله - بكثير من ضوابط الجرح والتعديل، وإعماله هذه الضوابط أثناء حكمه على الرواة، ومن هذه القواعد والضوابط:
أ - أنَّ الْجَرْحَ غير القادح لا أثر له في رد الرواية.
ب - الوَهْمُ اليسير لا يؤثر على ثقة الراوي وإتقانه؛ إذ إن ذلك لا يسلم منه أحد.
ج - عدم قبول رواية الْمُبْتَدِع إذا روى ما ينصر بدعته.
د - عدمُ قبول الجَرْحِ إلا مفسراً، وبِخَاصة في الراوي الْمُخْتَلَفِ فيه.
وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط وذكر أمثلة لها في المبحث الماضي.
5- معرفته - رحمه الله - بكثير من دقائق هذا الفن وأموره التي لا غنى عنها للناقد والْمُتَكَلِّمِ في الرجال، فمن ذلك:
أ - معرفته بأوطان الرواة وبلدانهم، فيقول مثلاً: "هذا إسناد شامي"1.
ب - معرفته بطبقات الرواة، واستفادته من ذلك في أحكامه على الرجال، والأمن من الخلط بين المشتبهين، فمن ذلك: أن ابن الجوزي اشتبه عليه عبد الله بن وهب الإمام، بعبد الله بن وهب النسوي الوضاع، فَغَلَّطَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ذلك، مستدلاً بأن الحديث من رواية:
__________
1 تهذيب السنن: (1/169) .
(1/589)
أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهما من أصحاب عبد الله بن وهب الإمام. وأما النسوي: فهو متأخر، فإنه من طبقة يحيى بن صاعد1.
ج - معرفته - رحمه الله - بمراتب الرواة، ودرجاتهم في الحفظ، وَمَنِ الْمُقَدَّم منهم عند الاختلاف، فمن ذلك: قوله في أصحاب شعبة: "وغندر أصحُّ الناس حديثاً في شعبة"2. ويقول في أصحاب قتادة: "وهشام - يعني الدستوائي - وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه"3.
__________
1 انظر: تهذيب السنن: (5/251-252) .
2 تهذيب السنن: (3/312) .
3 تهذيب السنن: (3/404) .
(1/590)
المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل
لم يقتصر ابن القَيِّم في حكمه على الرواة على مجرد التصريح بعبارات التوثيق والتضعيف، وإنما كانت له - إلى جانب ذلك - أساليب أخرى.
ويمكن إيجاز بعض تلك الأساليب فيما يلي:
1- الاكتفاء بالإشارة إلى وجود الراوي - المراد جرحه أو تعديله - في الحديث أو الإسناد.
قال في شعبة: "ولكنه حديث فيه شعبة"1. يريد بذلك مدحه وتوثيقه.
وقال - رحمه الله - في تضعيف الحجاج بن أرطأة: "ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة"2.
وقال في حديث: "رواه الترمذي، ولكن دَرَّاجاً أبا السمح بالطريق"3.
وفي مثل ذلك يُعرف مراده رحمه الله - من جرح أو تعديل - بالقرائن المحيطة بذلك الراوي.
وهذه الطريقة استعملها ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في الجرح
__________
1 حادي الأرواح: (ص274) .
2 زاد المعاد: (2/287) .
3 حادي الأرواح: (ص 270) . وقوله: "بالطريق" أي هو في إسناد هذا الحديث، ففيه إشارة لتضعيفه بهذا الراوي، مع كون الترمذي رواه.
(1/591)
والتعديل على السواء، ولكن هناك بعض الأساليب ورد استعمال ابن القَيِّم لها في التعديل خاصة، فمن ذلك:
2- تكرار اسم الشخص، إشارة إلى ثقته وإمامته وإتقانه. فقد قال في شعبة: "وشعبة هو شعبة"1. وقال في حديث: "فإذا رجحنا بالحفظ والإتقان، فشعبة شعبة"2. وقال عن الإمام مالك رحمه الله: "ومالك مالك"3.
3- التعبير عن ثقة الراوي بإخراج الشيخين أو أحدهما له. وقد استعمل - رحمه الله - هذا الأسلوب في مناسبات عدة، فمن ذلك قوله في عمرو بن أبي سلمة التنِّيسي: "محتجٌّ به في الصحيحين"4. وقال في سليمان بن كثير: "اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه"5.
4- التعبير عن ثقة الراوي برواية الأئمة المشهورين - أو أحدهم - عنه. فقد قال - رحمه الله - في مَغْرَاء العبدي: "روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"6. وقال مرة في تقوية شأن حجاج بن أرطاة: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أطارة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق"7.
__________
1 تهذيب السنن: (5/407) .
2 إعلام الموقعين: (2/ 369) .
3 تهذيب السنن: (2/330) .
4 زاد المعاد: (5/283) .
5 الفروسية: (ص52) .
6 الصلاة: (ص119) .
7 زاد المعاد: (2/147) .
(1/592)
فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم - رحمه الله - في التعبير عن جرح الرواة أو تعديلهم، وذلك إلى جانب من صرح فيهم بلفظ التوثيق أو التجريح.
التنبيه على بعض العبارات الخاصة بابن القَيِّم رحمه الله.
ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على بعض العبارات التي استعملها ابن القَيِّم، مما يغلب على الظن أنها مما تميز - رحمه الله - بها، وأنه لم يُسبق إليها.
ولاشك أن ذلك يُلْقِي المزيدَ من الضوء على أهمية كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومدى ما له من جهد وإسهام بارز في هذا الفن المهم، فمن هذه العبارات:
1- قوله: "فلانٌ من الحُفَّاظ الثقاتِ الذين لم تُغْمَزْ قَنَاتُهُم".
وأصل الغمز: العصر باليد. والقناة: هي قناة الرمح، أي خشبته. ورمح غير مغموز القناة: إشارة إلى استقامته، ونفيٌ لاعوجاجه ولينه1.
فقول ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الرواة "لم تغمز قناتهم": نفي لضعفهم ولينهم، وإثبات لثقتهم وقوتهم.
فهي من عبارات التعديل عنده، فقد قالها - رحمه الله - في رجل حاول البعض إعلال حديث بتفرده به، وهو: جعفر بن إياس2، فقصد
__________
1 انظر: (لسان العرب) : (ص 3296) مادة: غمز. "والمغرب": (2/112-113) . مادة: غمز. (بتصرف) .
2 تهذيب السنن: (3/425) .
(1/593)
ابن القَيِّم بعبارته: أن هذا الراوي على درجة من الثقة والتثبت لا يضر معها تفرده، وإنما يضر تفرد من كان مجروحاً، وليس هذا كذلك.
2- قوله: "ما سَوَّى اللهُ ولا حُفَّاظُ دينه بين فلانٍ وفلانٍ".
قال ذلك في المقارنة بين راويين لبيان أن أحدهما ثقة، والآخر ضعيف، فلا يمكن مقارنته بهذا الضعيف وتشبيهه به.
فقد قال ابن حبان في شأن داود بن الحصين، وزيد بن جبير - وقد وقعا في حديث -: "يجب تجنب رواية زيد وداود جميعاً". فَرَدَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك بقوله: "ما سَوَّى الله ولا حفاظُ دينه بين زيد ابن جبير وداود بن الحصين". ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق داود ابن الحصين، ثم قال بعد ذلك: "وأما زيد بن جبير: فقال البخاري وغيره: متروك ... " وسرد أقوال الأئمة في تضعيفه1.
3- قوله: "ارْتَقَى مِنْ حَدِّ الضَّعْفِ إلى حَدِّ التَّرْكِ".
وَصَفَ بذلك الجارودَ بن يزيد2، وقد كَذَّبَه جماعة، وحكم آخرون بأنه متروك3، وكانت كلمات بعضهم توحي بمجرد ضَعْفِه.
وقد قال فيه ابن القَيِّم هذه الكلمة بمناسبة روايته حديثاً في عدم وقوع الطلاق إذا استثنى الْمُطَلِّق، فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد أن يؤكد بكلمته هذه: أن مجيئه بمثل هذه الطامات مما يعزز الحكم بكونه
__________
1 رسالة الموضوعات: (ق48) .
2 إعلام الموقعين: (4/69) .
3 انظر: الميزان: (1/384) .
(1/594)
"متروكاً" لا يحل الاحتجاج به، وأن كلمة "ضعيف" قليلة في حقه.
كما أن هذه العبارة من ابن القَيِّم - رحمه الله - تحملُ نوعاً من السخرية والتهكم؛ إذ إن التَّرقي عادة يكون إلى الأحسن والأعلى.
4- قوله: "لم يُسْفِرْ1 صباحُ صِدْقِهِ في الرواية".
قال هذه العبارة في عمر بن صبح2 كناية عن كذبه، والتصاق هذا الوصف به، وإقامته على ذلك.
وهذا من الأساليب البلاغية التي استعملها - رحمه الله - في نقد الرواة، حيث لجأ إلى الطِّباق والتورية للتعبير عن جرح هذا الرجل.
5- قوله: "كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"3.
قالها في "العرزمي عن الكلبي"4، وفي "سليمان بن عيسى السجزي عن عبد الرحيم العمي"5.
وهاتان الكلمتان مأخوذتان من مَثَلٍ عربيٍّ قديم، وهو قولهم: "عُوَيْرٌ وكُسَيْرٌ، وكلٌّ غَيْرُ خَيْر". وهو من الأمثال التي تُعَبِّرُ عن الخلة غير المحمودة، كما قال أبو عبيد البكري6، ثم ذكر قصة هذا المثل ومناسبته.
__________
1 أسفر الصبح: أضاء. (مختار الصحاح: ص301) .
2 تهذيب السنن: (6/ 324) .
3 وهما تصغير: "مكسور"، و "أعور".
4 تهذيب السنن: (5/ 409) .
5 جلاء الأفهام: (ص 237) .
6 فصل المقام في شرح كتاب الأمثال: (ص378) .
(1/595)
وقال الجوهري: "يقال في الخصلتين المكروهتين: كُسَير وعوير، وكل غير خير"1.
وقد تَبَيَّن من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - استعمال هاتين الكلمتين للجرح الشديد، ولاسيما في حق من كان متهماً بالكذب.
وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه من ألفاظ الجرح والتعديل التي يغلب على الظن: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انفرد بها، والله أعلم.
__________
1 انظر: لسان العرب: (ص 3164) مادة: عور.
(1/596)
المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد الْمُتَفَرِّقَةِ في الكلام على الرواة
وقد رأيت أن أختمَ هذا الفصل ببعض الفوائد المتفرقة، مما يتعلق بكلامه - رحمه الله - في ضبط بعض الأسماء الْمُشْكِلَة، أو تقييد بعض ما جاء من ذلك مُهْمَلاً، إلى غير ذلك من الفوائد الْمُهِمَّات في هذا الباب، فمن ذلك:
الفائدة الأولى: في ذكر جماعة من الرواة ينسبون إلى أمهاتهم.
وهذه الفائدة - وما سيأتي بعدها - ذكرها في كتابه "بدائع الفوائد"1 في بحث عارض.
أما الذين نسبوا إلى أمهاتهم:
أولاً: من الصحابة:
1- بلال بن حمامة2، وأبوه: رباح.
2- ابن أم مكتوم3، وأبوه: عمرو.
__________
1 انظر: بدائع الفوائد: (2/221-222) .
2 أبو عبد الله، مولى أبي بكر، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/141) ، سير أعلام النبلاء: (1/347) ، تهذيب التهذيب: (1/502) ، الإصابة: (1/165) .
3 عمرو - وقيل: عبد الله - بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة، القرشي، المؤذن. وكان ضريراً.
له ترجمة في: الإصابة: (2/ 308، 351) ، وسير أعلام النبلاء: (1/360) .
(1/597)
3- بشير بن الخصاصية1، وأبوه: معبد.
4- الحارث بن البرصاء2، وأبوه: مالك.
5- خفاف بن ندية3، وأبوه: عمير.
6- شرحبيل بن حسنة4، وأبوه: عبد الله.
7- مالك بن نميلة5، وأبوه: ثابت.
8 - معاذ ومعوذ ابنا عفراء6، وأبوهما: الحارث.
9 - يعلى بن مُنَيَّة7، وأبوه: أمية.
__________
1 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/150) ، الإصابة: (1/ 159) ، تهذيب التهذيب: (1/467) .
2 هو الحارث بن مالك بن قيس الليثي.
له ترجمة في: الاستيعاب: (1/295) ، الإصابة: (1/289) ، تهذيب التهذيب: (2/155) .
3 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 434) ، الإصابة: (1/ 452) .
4 هو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو بن كندة، حليف بني زهرة. وجزم غير واحد بأن "حسنة" أمه. وقيل: بل تبنته وليس بابن لها.
له ترجمة في: الاستيعاب: (1/139) ، الإصابة: (2/143) ، تهذيب التهذيب: (4/324) .
5 هو مالك بن ثابت المزني، حليف بني معاوية بن عوف بن مالك. يعد في الأنصار، قتل يوم أحد.
له ترجمة في: الاستيعاب: (3/ 375) ، الإصابة: (3/357) .
6 وأبوهما: الحارث بن رفاعة بن سواد.
ترجمة معاذ في: الاستيعاب: (3/363) ، والإصابة: (3/ 428) . ومعوذ ترجمته في: الإصابة: (3/ 450) .
7 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام الحنظلي، حليف قريش.
له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 661) ، الإصابة: (1/668) ، تهذيب التهذيب: (11/399) .
(1/598)
10 - عبد الله بن بحينة1، وأبوه: مالك.
ثانياً: من غير الصحابة، وهم:
11- إسماعيل بن علية2، وأبوه: إبراهيم.
12- منصور بن صفية3، وأبوه: عبد الرحمن.
13- محمد بن عائشة4، وأبوه: حفص.
14- إبراهيم بن هراسة5، وأبوه: سلمة.
15- محمد بن عثمة6، وأبوه: خالد.
__________
1 هو: عبد الله بن مالك بن القشب، أبو محمد الأزدي.
له ترجمة في: الإصابة: (1/364) ، تهذيب التهذيب: (5/381) .
2 هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم.
له ترجمة في: سير أعلام النبلاء: (9/107) ، الميزان: (1/216) ، تهذيب التهذيب: (1/275-279) .
3 هو: منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث القرشي العبدري. وأمه: صفية بنت شيبة.
له ترجمة في: ثقات ابن حبان: (7/ 476) ، تهذيب التهذيب: (10/310) .
4 له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/236) ، ثقات ابن حبان (9/62) .
5 أبو إسحاق الشيباني الكوفي. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/143) ، الضعفاء الصغير للبخاري: (ص30) ، الضعفاء المتروكين - للنسائي: (ص13) ، الميزان: (1/72) .
6 الحنفي البصري. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/243) ، تهذيب التهذيب: (9/142) .
(1/599)
الفائدة الثانية: في تقييد بعض الأسماء المهملة، ممن يشتركون في الاسم.
وفائدة معرفة ذلك: الأمن من الوقوع في الاشتباه، خاصة إذا كانوا ممن يروون عن شيخ واحد.
وممن ذكرهم ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذا الصنف1:
1- جماعة يروون عن أبي هريرة ممن يسمون بـ"عطاء":
* عطاء، عن أبي هريرة: "في كل صلاة قراءة".
* وعطاء، عنه مرفوعاً: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن". فذكر الخلفاء الأربعة.
* وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا أُقِيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة".
* وعطاء، عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في: اقرأ باسم ربك".
* وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا مضى ثلث الليل، يقول الله تعالى: ألا داع ... ".
قال رحمه الله:
فالأول: ابن أبي رباح2.
والثاني: الخراساني3.
__________
1 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
2 انظر ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/330) ، ثقات ابن حبان: (5/198) ، الميزان: (3/70) ، تهذيب التهذيب: (7/199) .
3 وهو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، نزيل الشام.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/1/334) ، المجروحين: (2/ 130) ، الميزان: (3/73) ، تهذيب التهذيب: (7/212) .
(1/600)
والثالث: ابن يسار1.
والرابع: ابن ميناء2.
والخامس: مولى أم صبية3.
2- عدة نساء يروين عن عائشة ممن يسمين: "عَمْرَة"4:
عمرة: أنها دخلت مع أمها على عائشة، فسألتها: ما سمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: "كالفرار من الزحف".
وعمرة قالت: خرجتُ مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة، ورأينا المصحف الذي قتل وهو في حجره، فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] . قالت عمرة: فما مات منهم رجل سَوِيًّا.
__________
1 الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ترجمته في: جزء من اسمه عطاء - للطبراني: (ص12) ، الجرح والتعديل: (3/1/338) ، سير أعلام النبلاء: (4/448) ، تهذيب التهذيب: (7/217) .
2 المدني، وقيل: البصري، الدوسي، أبو معاذ.
له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/336) ، ثقات ابن حبان: (5/ 200) ، تهذيب التهذيب: (7/216) .
3 المدني، الجهني.
له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/339) ، ثقات ابن حبان: (5/202) ، الميزان: (3/78) ، تهذيب التهذيب: (7/221) .
4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
(1/601)
وعمرة عن عائشة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال".
قال رحمه الله: الأولى: بنت عبد الرحمن1.
الثانية: بنت قيس العدوية2.
الثالثة: بنت أرطأة3.
الرابعة: يقال لها: الصحاحية4.
3- ذكر جماعة رووا عن ثابت، عن أنس ممن يسمون بـ"حماد"5.
حماد، عن ثابت، عن أنس: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم في النخل صوتاً ... " الحديث.
حماد، عن ثابت، عن أنس: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن صفرة ... " الحديث.
__________
1 ابن أسعد بن زرارة الأنصارية المدنية.
لها ترجمة في: ثقات ابن حبان: (5/288) ، وسير أعلام النبلاء: (4/507) ، تهذيب التهذيب: (12/438) .
2 لها ترجمة في: تهذيب التهذيب: (12/440) .
3 لم أقف عليها.
4 كذا ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - رابعة، والمتقدم ذكرهن ثلاثة فقط، فلعل حديثها سقط في الطباعة، والله أعلم.
5 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
(1/602)
حماد، عن ثابت، عن أنس يرفعه: "مثل أمتي كالمطر".
قال ابن القَيِّم رحمه الله:
الأول: ابن سلمة1.
الثاني: ابن زيد2.
الثالث: الأبح3.
الفائدة الثالثة: من روى عن شيخين متفقي الاسم: أحدهما ثقة، والآخر ضعيف4.
فمن هؤلاء:
1- قتادة5:
يروي عن عكرمة مولى ابن عباس6.
__________
1 هو حماد بن سلمة بن دينار البصري.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/ 140) ، والميزان: (1/590) ، وتهذيب التهذيب: (3/11) .
2 هو: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/176) ، سير أعلام النبلاء: (7/456) ، تهذيب التهذيب: (3/9) .
3 هو: حماد بن يحيى الأبح، أبو بكر السلمي.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/151) ، الميزان: (1/601) ، تهذيب التهذيب: (3/21) .
4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
5 ابن دعامة السدوسي.
6 يعني: وهو ثقة.
(1/603)
وعن عكرمة بن خالد1: ضعيف2.
2- وكيع3:
يروى عن النضر بن عربي4: ثقة.
وعن النضر بن عبد الرحمن5: ضعيف.
3- حفص بن غياث:
يروى عن أشعث بن عبد الرحمن6: ثقة.
وعن أشعث بن سوار7: ضعيف.
وبعد، فهذه بعض الفوائد المتعلقة بالرجال مما وجد في كلام ابن القَيِّم رحمه الله تعالى.
__________
1 ابن العاص بن هشام المخزومي، ثقة خ م د ت س. (التقريب: 396) .
2 كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولكن الأمر على خلاف ذلك؛ فإن في الرواة آخر يسمى: عكرمة بن خالد أيضاً، وهو: عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي وهذا هو الضعيف، وهو قريب للأول. وقد وهم بعضهم فَضَعَّفَ الثقة ظاناً أنه هو هذا الضعيف، وهذا الثقة هو الذي يروى عنه قتادة. انظر: الميزان: (3/90) ، تهذيب التهذيب: (7/258-259) .
3 هو: ابن الجراح بن مليح.
4 الباهلي مولاهم، أبو روح، الحراني، لا بأس به، مات سنة 168 هـ- /د ت (التقريب: 562) .
5 أبو عمر الخزاز، متروك/ ت. (التقريب: 562) .
6 لم يتبين لي من هو؟ وحفص بن غياث يروي عن ثلاثة يسمون أشعث وهم: ابن سوار، وابن عبد الله الحداني، وابن عبد الملك الحمراني. انظر: تهذيب الكمال: (7/56 - 57) .
7 الكندي، النجار، الأثرم، قاضي الأهواز.
(1/604)

=========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القيم في الجرح والتعديل
المطلب الأول: في مكانة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نقد الرجال
...
المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القَيِّم في الجرح والتعديل
والغرض من هذا المبحث: إبرازُ الناحية العملية التطبيقية في الجرح والتعديل عند ابن القَيِّم، مع بيان ما اتَّسَم به منهجه في هذا الباب، ودراسة بعض عباراته في الحكم على الرجال، مع محاولة عَرْضِ نماذج من الرجال الذين تكلم فيهم بجرح أو تعديل من سائر كتبه التي وقفت عليها ونظرت فيها.
وقد رأيت أن يكون الكلام في هذا المبحث مشتملاً على عدة مطالب:
المطلب الأول: في مكانة ابن القَيِّم -رحمه الله - في نقد الرجال.
المطلب الثاني: في منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال.
المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل.
المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد المتفرقة في الرجال.
(1/573)
المطلب الأول: مكانةُ ابن القَيِّم في نقدِ الرِّجَال
لقد خاضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - غمار هذا الفن بعد أن استقرت قواعده، وَدُوِّنَت أقوال الجهابذة النقاد في الرجال جرحاً وتعديلاً، فلم يبق أمام من جاء بعد: إلا النظر في أقوال المتقدمين، والاعتماد عليها في الحكم على الرواة.
وبذلك بقيت جهود المتأخرين - ممن صَنَّفَ في الرجال - محصورة في: تهذيب هذه المؤلفات السابقة واختصارها، أو الجمع بينها، ونحو ذلك من فنون التصنيف وأغراضه المختلفة.
ولكن ذلك لا يمنع من القول: بأنه قد بَرَزَتْ - أيضاً - جهود لبعض الجهابذة النقاد، الذين كان لهم أثرٌ واضحٌ في تحرير وتنقيح الكثير من قواعد هذا الفن، ووضع كل راو في مرتبته اللائقة به، والترجيح بين الأقوال المختلفة في الراوي، إلى غير ذلك من الجهود الموفقة في هذا الباب. وكان على رأس هؤلاء الأئمة: الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى.
وعلى الرغم من قيام هذه المحاولات العديدة في زمن ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه لم يضع كتاباً في الرجال، وإنما جاءت أقواله وإفاداته منثورة في أثناء كتبه، عند كلامه على الأحاديث.
ولكن عدم وجود مُصَنَّفٍ لابن القَيِّم في هذا الباب لا يَنْفِي أن له فيه مشاركة فعالة، فقد كانت له شخصيته الواضحة المتميزة، وإسهاماته
(1/574)
العديدة في الكلام على الرجال جرحاً وتعديلاً، بحيث لو جُمِعَت أقواله المنثورة في أثناء كتبه، لأعطت صورة حقيقية عن جهد ابن القَيِّم وإفاداته في هذا الباب، ولجاءت مرجعاً لا يُستهان به في هذا الفن.
والذي يَهُمُّنَا في هذا المقام: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بالرغم من وجود هذا القدر الهائل من المؤلفات في الرجال، واطِّلاعه عليها، وإفادته منها، لم يكن مجرَّد ناقلٍ لأقوال غيره فحسب، وإنما كانت له شخصيته النقدية المتميزة، الأمر الذي أعطى لأحكامه النقدية قِيمة حقيقية، وفائدة لا يمكن إغفالها.
وتتلخص أهمية أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل وأحكامه فيما يلي:
1- اجتهاد ابن القَيِّم - رحمه الله - في شأن بعض الرواة المختلف فيهم جرحاً وتعديلاً، بحيث أعطى لنا - بعد الدراسة والنظر - حُكْماً في هؤلاء: إما بترجيح أحد الأقوال على غيره، أو بالجمع بين تلك الأقوال المتعارضة.
فمن أمثلة ما قام فيه بالترجيح:
ما جاء في كلامه على "زيد بن الحواري"، فإنه نقل فيه اختلاف العلماء، ثم رجح جانب التعديل، فقال: "وحسبه رواية شعبة عنه"1.
وقال عن "سعد بن سعيد الأنصاري" مرجحاً تعديله:"ثقة
__________
1 حادي الأرواح: (ص272) .
(1/575)
صدوق روى له مسلم، وروى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان ابن بلال. وهؤلاء أئمة هذا الشأن"1.
ويرجح - رحمه الله - جانب توثيق "عمرو بن شعيب"، فيقول عند كلامه على حديث سقوط الحضانة بالتزويج: "وقد صَرَّح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو - يعني في الحديث المذكور -، فبطل قول من يقول: لعله محمد والد شعيب، فيكون الحديث مرسلاً. وقد صحَّ سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، فبطل قول من قال: إنه منقطع، وقد احتجَّ به البخاري خارج "صحيحه" ونصَّ على صحة حديثه، وقال: كان عبد الله بن الزبير الحميديُّ، وأحمد، وإسحاق، وعلي بن عبد الله يحتجون بحديثه، فمن الناس بعدهم؟! "2.
وقال عن عكرمة: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه"3.
2- بيان ابن القَيِّم - رحمه الله - مرتبة كثير من الرواة في عبارة موجزة جامعة، وقد يكون ذلك: بكلمة أو كلمتين أو أكثر، وذلك نتيجة دراسته لأقوال العلماء ونظره فيها، ثم الخروج بهذا الحكم المختصر الجامع.
ولاشكَّ أن لذلك فائدةً كبيرة، وبخاصة لمن يريد الحكم في الراوي
__________
1 تهذيب السنن: (3/311) .
2 زاد المعاد: (5/ 434) .
3 إغاثة اللهفان: (1/296) ، وسيأتي مزيد كلام على ذلك عند منهجه في الجرح والتعديل.
(1/576)
خالصاً، دون الدخول إلى تلك الكتب المطولة، والبحث فيها.
وهذه الأحكام المختصرة المعتصرة تُمَثِّل جانباً كبيراً من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومن أمثلة ذلك: قوله في الراوي: "ثقة"1، أو: "ضعيف"2، أو: "لا يحتج به"3. أو: "متروك"4، إلى غير ذلك من الأحكام التي صاغها - رحمه الله - بعد دراسة الرجل، مختصراً بذلك تلك الأقوال المتعددة التي قيلت فيه.
3- اعتماد بعض الأئمة الحفاظ على أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل؛ كالحافظ ابن حجر رحمه الله، فقد نقل عنه في (لسان الميزان) 5 في ترجمة "العلاء بن إسماعيل العطار"، حيث قال فيه: "مجهول". ونقل عنه أيضاً في: (تهذيب التهذيب) 6، في ترجمة عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، فقال: "قال أبو عبد الله بن القَيِّم في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم": مجهول لا يعرف في غير هذا الحديث، ولم يذكره أحد من المتقدمين".
ولا شك أن نقل مثل ابن حجر - مع سعة اطلاعه، وطول باعه في هذا الفن - عن ابن القَيِّم رحمه الله، لَيُعَدُّ دليلاً على القِيمة العلمية لإسهامات ابن القَيِّم وأقواله في نقد الرجال.
__________
1 زاد المعاد: (5/511) .
2 تهذيب السنن: (1/59) ، (3/217) .
3 زاد المعاد: (2/417) .
4 زاد المعاد: (1/197) ، تهذيب السنن: (1/209) .
(4/182) .
(6/201) .
(1/577)
4- العبارات القوية والفريدة التي أطلقها ابن القَيِّم على بعض الرواة، ومنها ما لم يستعمله أحد - فيما أعلم - قبله. ولاشك أن هذه العبارات تمثل إضافات جديدة - لها قيمتها - إلى قاموس ألفاظ الجرح والتعديل1.
5- تعقبات ابن القَيِّم واستدراكاته على بعض الأئمة، والتنبيه على بعض الأوهام التي وقعت لبعضهم في الجرح والتعديل.
فمن ذلك: أن ابن حزم - رحمه الله - حكَم على مُطَرِّف بن مصعب - في سند حديث عند ابن ماجه - بالجهالة، فَتَعَقَّبَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - قائلاً:"ليس هو بمجهول، ولكنه ابن أخت مالك، روى عنه البخاري، وبشر بن موسى، وجماعة. قال أبو حاتم: صدوق مضطرب الحديث ... وكأن أبا محمد بن حزم رأى في النسخة: مطرف بن مصعب فَجَهَّلَهُ، وإنما هو: مطرف أبو مصعب، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار"2.
ومن ذلك أيضاً: أن الحاكم أبا عبد الله قال في عاصم بن كليب: "لم يخرج حديثه في الصحيح". فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وليس كما قال، فقد احتج به مسلم، إلا أنه ليس في الحفظ كابن شهاب وأمثاله"3.
__________
1 وسيأتي التنبيه على بعض هذه الألفاظ عند دراسة عباراته في الجرح والتعديل. (انظر ص: 593) .
2 زاد المعاد: (2/132) .
3 تهذيب السنن: (1/368) .
(1/578)
ورد على ابن حزم تضعيفه "الحارث بن أبي أسامة" بقوله: "فإنما اعتمد في ذلك على كلام أبي الفتح الأزدي، ولا يلتفت لذلك"1. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة.
تلك أبرز الفوائد التي اشتمل عليها كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، والتي يمكن أن تعطينا تصوراً عاماً عن أهمية ما جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في نقد الرجال وبيان مراتبهم.
وأخيراً أستطيع القول: إن ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه المشاركات الفعالة في الجرح والتعديل، يُعَدُّ واحداً من نُقَّادِ هذا الفنِّ المعتبرين الذين لا ينبغي إغفال جهدهم في هذا المجال.
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 187) .
(1/579)
المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال
تقدَّم أن كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على الرواة لم يأت نتيجة عمل مخصص لهذا الغرض، بمعنى: أننا لم نجد كلام ابن القَيِّم على الرجال مجموعاً مفرداً في مُؤَلَّف، حتى نتمكن من الوقوف على منهجه وأسلوبه من خلال ذلك، وإنما وُجِدَت أقواله في الرجال منثورة في أثناء كتبه، في أماكن متفرقة ومناسبات شتى، وذلك تبعاً لظروف دراسة كل حديث والحكم عليه.
ومع ذلك، فإنه يمكننا أن نُحَدِّد المنهج العام الذي التزمه، والخصائص الْمُمَيِّزَة لعمله في هذا الباب، وذلك من خلال استعراض النقاط التالية:
أولاً: لم يلتزم ابن القَيِّم - رحمه الله - طريقة واحدة في الحكم على الراوي. فتارة ينقل أقوال العلماء في الرجل، وتارة يحكم عليه هو بنفسه، وذلك بكلمة أو كلمتين، أو أكثر، وذلك بحسب ظروف كل راو، وما يقتضيه المقام.
ثانياً: قد يختلف حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الرجل الواحد من مكان لآخر ومن مناسبة لأخرى. وليس ذلك من التناقض، ولكن يحصل ذلك لاختلاف الظروف والمناسبات، فكل حكم من هذه الأحكام يكون خاضعاً لتلك الظروف التي صَدَرَ فيها.
ومن أمثلة ذلك: كلامه في الحجاج بن أرطاة، فبينما هو يضعفه
(1/580)
في مواطن عدة1 - وذلك حيث ينفرد أو يخالف غيره - نجده يُقَوِّي أمره في مواطن أخرى، وذلك عندما يروي ما رواه الناس، ولا ينفرد بما يُنْكَرُ عليه.
فقد قال رحمه الله في حديث جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً": "فيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات"2.
وقال - رحمه الله - في الحديث نفسه في موضع آخر: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وعيب عليه التدليس، وقلَّ من سلم منه ... وقال أبو حاتم: إذا قال: حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه"3.
فهكذا نجده يقبله في الشواهد والمتابعات، ويثني عليه، ويقوِّي حاله، ويضعفه حيث ينفرد ولا يُتَابَع.
ثالثاً: قد يلجأ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الترجيح بين أقوال الأئمة عند التعارض. ويكون اختياره وترجيحه في الغالب مطابقاً لما يدعمه الدليل، وتؤيده قواعد الفن.
__________
1 انظر مثلاً: تحفة المودود: (ص 175-176) .، وزاد المعاد: (1/50، 438) ، والفروسية: (ص45) .
2 زاد المعاد: (2/111) .
3 زاد المعاد: (2/147) .
(1/581)
ومن أمثلة ذلك: قوله في صالح مولى التوأمة: "للحفاظ في صالح هذا ثلاثة أقوال، ثالثها أحسنها، وهو: أنه ثقةٌ في نفسه ولكنه تَغَيَّرَ بآخرته، فمن سمع منه قديماً فسماعه صحيح، ومن سمع منه أخيراً ففي سماعه شيء. فمن سمع منه قديماً: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وأدركه مالك، والثوري بعد اختلاطه"1.
ورجَّحَ جانبَ التعديل في عكرمة قائلاً: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصَحَّحَ أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْحِ من قَدَحَ فيه"2.
ورجَّح توثيق عمرو بن شعيب على تضعيفه، فقال: "الجمهور يحتجون به ... واحتج به الأئمة كلهم في الديات"3. وقال مرة مؤكداً هذا الاختيار: "ونحن نحتج بعمرو بن شعيب"4.
وكذا اختار توثيق محمد بن إسحاق، إمام المغازي، فقال: "وثناء الأئمة على ابن إسحاق، وشهادتهم له بالإمامة، والحفظ، والصدق، أضعاف أضعاف القدح فيه"5.
رابعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم إلى الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض في الرجل المختلف فيه. بحيث يحمل كل قول منها على وجه
__________
1 جلاء الأفهام: (ص15) .
2 إغاثة اللهفان: (1/296) .
3 تهذيب السنن: (6/374) .
4 زاد المعاد: (5/ 429) .
5 أحكام أهل الذمة: (1/332) .
(1/582)
يحتمله، فيخرج من هذه الأقوال بحكم يمثل "قولاً وسطاً" في هذا الراوي، فلا هو يضعف مطلقاً، ولا يُوَثَّقُ مطلقًا.
فمن ذلك: قوله في عبد الله بن لهيعة: "وحديثُ ابن لهيعة يُحْتَجُّ منه بما رواه عنه العبادلة: كعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ"1.
ويقول في محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثقةٌ حافظٌ جليلٌ، ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شيء ما في حفظه يُتَّقَى منه ما خَالَفَ فيه الأثبات، وما تفرد به عن الناس"2.
فَبَيَّن - رحمه الله - أنه يعتبر به إذا وافق غيره، ولم يأت بما ينكر عليه، وأنه يترك من حديثه ما خالف فيه أو انفرد عن الناس، فلا يكون حجة في ذلك.
ويقول في سفيان بن حسين: "في الزهري: ضعيف"3.
ثم يُبَيِّن وجه الجمع بين قول من وَثقَهُ وقول من ضَعَّفَهُ، فيقول: "ولا تنافي بين قول من ضعفه وقول من وثقه؛ لأن من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه"4.
فهكذا يبين - رحمه الله - أن بعض الرواة لا يعارضُ تضعيفُهُم
__________
1 إعلام الموقعين: (2/406-407) .
2 زاد المعاد: (5/150) .
3 تهذيب السنن: (3/ 344) .
4 الفروسية: (ص44) .
(1/583)
توثيقَهُم؛ إذ كل منهما له وجه ومحمل، فإذا أخذ ذلك في الاعتبار أمكن الجمع بين الأقوال المتعارضة في الرجل، وهذا يحتاج إلى إحاطة كاملة ومعرفة تامة بمقاصد العلماء فيما يطلقونه من أقوال في الرواة ووجه كل قول منها، وبخاصة عند الاختلاف في الراوي، وقد مضى كلام ابن القَيِّم في التنبيه على ذلك.
خامساً: غالباً ما يقوم ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدفاع عن الراوي الذي يرى أنه قد ضُعِّفَ تعنتاً، وأن من جرحه لم يأت بما يقدح فيه.
فيجتهد - رحمه الله - في الذَّبِّ عنه، وإثبات ثقته، وله في ذلك أسلوبه المتميز، وعباراته القوية التي تتسم بوضوح الْحُجَّة وقوةِ الدليل.
فمن ذلك: قوله في الردِّ على من ضعف ابن إسحاق: "إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلمِ والأمانة ... قال علي بن المديني: لم أجد له سوى حديثين منكرين. وهذا في غاية الثناء والمدح، إذ لم يجد له - على كثرة ما روى - إلا حديثين منكرين"1. وقال أيضاً: "ثقة لم يجرح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... "2.
وقال - رحمه الله - في الدفاع عن المنهال بن عمرو - وقد حاول بعضهم جَرْحَهُ بسماع صوت طنبور من بيته -: "وليس في شيء من هذا ما يقدح فيه"3. وقال مرة - بعد أن نقل توثيقه عن الأئمة -:
__________
1 تهذيب السنن: (7/ 94- 95) .
2 جلاء الأفهام: (ص6) .
3 تهذيب السنن: (1/ 92) .
(1/584)
"وبالجملة: فلا يرد حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.
ويقول مدافعاً عن عكرمة مولى ابن عباس: "وإن قَدَحْتُم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جَاءَكُم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به - أنتم وأئمة الحديث - من روايته، وارتضاء البخاري إدخال حديثه في صحيحه"2. ويقول أيضاً: "وطَعَنَ - يعني: بعضهم - في عكرمة، ولم يصنع شيئاً"3.
ويقول عن عبد الملك بن أبي سليمان - وقد ضعفوه بحديث الشفعة -: "وتلك شكاة ظاهر عنه عارها"4.
وقال عن إبراهيم بن طهمان - وقد ضعفه ابن حزم -: "لله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم، وهو من الحفاظ الأثبات الثقات ... "5.
وكذلك نجده - رحمه الله - عندما يُعَارَضُ الثقة بشخص ضعيف، فإنه يرد ذلك بشدة، مؤكداً ضعف هذا المعارض، ومن أقواله في ذلك:
قوله في عَطَّاف بن خالد - وقد خالف الثقات فزاد في الإسناد
__________
1 تهذيب السنن: (7/ 140) .
2 زاد المعاد: (5/ 264) .
3 زاد المعاد: (2/ 434) .
4 زاد المعاد: (2/ 146) . وهذه العبارة شطر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:
وعَيَّرَهَا الواشون أَنِّي أُحِبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عَنْكَ عارُها
يقال: ظهر عني هذا العيب، إذا لم يعلق بي ونبا عني. (لسان العرب: ظهر) .
5 زاد المعاد: (5/ 708) .
(1/585)
رجلاً -: "فأما عطاف: فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه، ولا هو ممن يُعَارض به الثقات الأثبات ... "1.
وقال في أبي شيخ الهنائي - وقد روى عن معاوية النهي عن أن يُقْرن بين الحج والعمرة -: "وأبو شيخ: شيخ لا يحتج به، فضلاً عن أن يُقَدَّم على الثقات الحفاظ الأعلام ... "2.
سادساً: الشمول، والإحاطة، وغزارة المعلومات في عباراته التي يطلقها على الرواة. بحيث تشتمل عبارة واحدة - مثلاً - على معلومات متكاملة عن الراوي، وبذلك يكون لهذه العبارات أثر كبير في تجلية صورة الراوي وتوضيحها.
فيقول - رحمه الله - في إبراهيم بن طهمان: "من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثهم، واتفق أصحاب الصحيح - وفيهم الشيخان - على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمة بالثقة والصدق، ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحْفَظُ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه، ولا تضعيفه به"3.
فهذه الجملة - على وجازتها - قد أحاطت بأحوال الْمُتَرْجَم وبَيَّنت مرتبته، وأعطت صورة كاملة عنه، فهو:
1- من الحفاظ الأثبات الثقات المشهود لهم بالثقة والصدق.
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 363) .
2 زاد المعاد: (2/ 138) .
3 زاد المعاد: (5/ 708) .
(1/586)
2- أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
3- احتج به الشيخان في (صحيحيهما) .
4- لم يُحْفظ عن أحد من الأئمة فيه خدش ولا قدح.
5- ولا ضَعَّفَ أحد من الأئمة حَديثاً رواه، ولا أعله به.
ومثل ذلك: قوله في "بقية بن الوليد": "ثقة في نفسه، صدوقٌ حافظٌ، وإِنَّمَا نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صَرَّح بالسماع فهو حجة"1.
وقال في "حميد بن صخر": "ضَعَّفَهُ النسائي، ويحيى بن معين. ووثقه آخرون. وأنكر عليه بعض حديثه. وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد"2.
فقد أفادت هذه العبارة أن حميداً هذا:
__________
1- اخْتُلِفَ فيه، فوثقه جماعة وضعفه آخرون.
2- وأنه أنكرت عليه أحاديث.
3- والخلاصة في أمره: أنه لا يحتج بما ينفرد به.
وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه فيما يتعلق بالخطوط العامة للمنهج الذي سار عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقد الرجال والحكم عليهم، ولعل ذلك يُسْهِم في تقديم صورة واقعية للناحية النقدية عند ابن القَيِّم، ويلقي الضوء على شخصيته المتميزة في هذا الجانب المهم من
1 تهذيب السنن: (1/ 129) .
2 زاد المعاد: (1/ 359) .
(1/587)
مباحث علوم الحديث، والذي يمثل الأساس المتين للحكم على المرويات ونقدها وتمحيصها.
وبعد هذا العرض العام لمنهجه - رحمه الله - في ذلك، يمكن استخلاص أبرزِ السِّمَات والخصائص التي اتسمت بها شخصيته النقدية، وأقوالُهُ في الرجال، فمن ذلك:
1- سعَةُ اطِّلاعه على أقوال الأئمة، وإلمامه بما قيل في الراوي، فنجده - مثلاً - يقول في "حبيب بن أبي حبيب": "كَذَّاب وضَّاع باتفاق أهل الجرح والتعديل"1. وقد يكون قصده بذلك جمهورهم وأكثرهم، ولكن هذا لا ينفي ما قدمنا.
ومثله ما تقدم من قوله في "إبراهيم بن طهمان": "لم يُحْفَظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش"2.
2- كثرة مصادره في الرجال، فنجده - رحمه الله - ينظرُ في الرجل الواحد عدة مصادر، فمن ذلك: أنه قال في رجل - وقد اختلف في اسمه -: "وهكذا هو في: "تاريخ البخاري"، "وكتاب ابن أبي حاتم"، "والثقات" لابن حبان، "وتهذيب الكمال" لشيخنا أبي الحجاج المزي"3.
3- تَمَيُّزُ شخصيته - رحمه الله - في نقد الرواة؛ فلم يكن مجرد ناقل لأحكام غيره، بل كان له أثر بارزٌ في تمحيص هذه الأقوال ونقدها، وقد مرت أمثلة لذلك.
__________
1 مختصر الصواعق: (2/391) .
2 زاد المعاد: (5/708) .
3 جلاء الأفهام: (ص12) .
(1/588)
4- مَعْرِفَتُهُ - رحمه الله - بكثير من ضوابط الجرح والتعديل، وإعماله هذه الضوابط أثناء حكمه على الرواة، ومن هذه القواعد والضوابط:
أ - أنَّ الْجَرْحَ غير القادح لا أثر له في رد الرواية.
ب - الوَهْمُ اليسير لا يؤثر على ثقة الراوي وإتقانه؛ إذ إن ذلك لا يسلم منه أحد.
ج - عدم قبول رواية الْمُبْتَدِع إذا روى ما ينصر بدعته.
د - عدمُ قبول الجَرْحِ إلا مفسراً، وبِخَاصة في الراوي الْمُخْتَلَفِ فيه.
وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط وذكر أمثلة لها في المبحث الماضي.
5- معرفته - رحمه الله - بكثير من دقائق هذا الفن وأموره التي لا غنى عنها للناقد والْمُتَكَلِّمِ في الرجال، فمن ذلك:
أ - معرفته بأوطان الرواة وبلدانهم، فيقول مثلاً: "هذا إسناد شامي"1.
ب - معرفته بطبقات الرواة، واستفادته من ذلك في أحكامه على الرجال، والأمن من الخلط بين المشتبهين، فمن ذلك: أن ابن الجوزي اشتبه عليه عبد الله بن وهب الإمام، بعبد الله بن وهب النسوي الوضاع، فَغَلَّطَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ذلك، مستدلاً بأن الحديث من رواية:
__________
1 تهذيب السنن: (1/169) .
(1/589)
أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهما من أصحاب عبد الله بن وهب الإمام. وأما النسوي: فهو متأخر، فإنه من طبقة يحيى بن صاعد1.
ج - معرفته - رحمه الله - بمراتب الرواة، ودرجاتهم في الحفظ، وَمَنِ الْمُقَدَّم منهم عند الاختلاف، فمن ذلك: قوله في أصحاب شعبة: "وغندر أصحُّ الناس حديثاً في شعبة"2. ويقول في أصحاب قتادة: "وهشام - يعني الدستوائي - وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه"3.
__________
1 انظر: تهذيب السنن: (5/251-252) .
2 تهذيب السنن: (3/312) .
3 تهذيب السنن: (3/404) .
(1/590)
المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل
لم يقتصر ابن القَيِّم في حكمه على الرواة على مجرد التصريح بعبارات التوثيق والتضعيف، وإنما كانت له - إلى جانب ذلك - أساليب أخرى.
ويمكن إيجاز بعض تلك الأساليب فيما يلي:
1- الاكتفاء بالإشارة إلى وجود الراوي - المراد جرحه أو تعديله - في الحديث أو الإسناد.
قال في شعبة: "ولكنه حديث فيه شعبة"1. يريد بذلك مدحه وتوثيقه.
وقال - رحمه الله - في تضعيف الحجاج بن أرطأة: "ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة"2.
وقال في حديث: "رواه الترمذي، ولكن دَرَّاجاً أبا السمح بالطريق"3.
وفي مثل ذلك يُعرف مراده رحمه الله - من جرح أو تعديل - بالقرائن المحيطة بذلك الراوي.
وهذه الطريقة استعملها ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في الجرح
__________
1 حادي الأرواح: (ص274) .
2 زاد المعاد: (2/287) .
3 حادي الأرواح: (ص 270) . وقوله: "بالطريق" أي هو في إسناد هذا الحديث، ففيه إشارة لتضعيفه بهذا الراوي، مع كون الترمذي رواه.
(1/591)
والتعديل على السواء، ولكن هناك بعض الأساليب ورد استعمال ابن القَيِّم لها في التعديل خاصة، فمن ذلك:
2- تكرار اسم الشخص، إشارة إلى ثقته وإمامته وإتقانه. فقد قال في شعبة: "وشعبة هو شعبة"1. وقال في حديث: "فإذا رجحنا بالحفظ والإتقان، فشعبة شعبة"2. وقال عن الإمام مالك رحمه الله: "ومالك مالك"3.
3- التعبير عن ثقة الراوي بإخراج الشيخين أو أحدهما له. وقد استعمل - رحمه الله - هذا الأسلوب في مناسبات عدة، فمن ذلك قوله في عمرو بن أبي سلمة التنِّيسي: "محتجٌّ به في الصحيحين"4. وقال في سليمان بن كثير: "اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه"5.
4- التعبير عن ثقة الراوي برواية الأئمة المشهورين - أو أحدهم - عنه. فقد قال - رحمه الله - في مَغْرَاء العبدي: "روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"6. وقال مرة في تقوية شأن حجاج بن أرطاة: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أطارة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق"7.
__________
1 تهذيب السنن: (5/407) .
2 إعلام الموقعين: (2/ 369) .
3 تهذيب السنن: (2/330) .
4 زاد المعاد: (5/283) .
5 الفروسية: (ص52) .
6 الصلاة: (ص119) .
7 زاد المعاد: (2/147) .
(1/592)
فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم - رحمه الله - في التعبير عن جرح الرواة أو تعديلهم، وذلك إلى جانب من صرح فيهم بلفظ التوثيق أو التجريح.
التنبيه على بعض العبارات الخاصة بابن القَيِّم رحمه الله.
ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على بعض العبارات التي استعملها ابن القَيِّم، مما يغلب على الظن أنها مما تميز - رحمه الله - بها، وأنه لم يُسبق إليها.
ولاشك أن ذلك يُلْقِي المزيدَ من الضوء على أهمية كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومدى ما له من جهد وإسهام بارز في هذا الفن المهم، فمن هذه العبارات:
1- قوله: "فلانٌ من الحُفَّاظ الثقاتِ الذين لم تُغْمَزْ قَنَاتُهُم".
وأصل الغمز: العصر باليد. والقناة: هي قناة الرمح، أي خشبته. ورمح غير مغموز القناة: إشارة إلى استقامته، ونفيٌ لاعوجاجه ولينه1.
فقول ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الرواة "لم تغمز قناتهم": نفي لضعفهم ولينهم، وإثبات لثقتهم وقوتهم.
فهي من عبارات التعديل عنده، فقد قالها - رحمه الله - في رجل حاول البعض إعلال حديث بتفرده به، وهو: جعفر بن إياس2، فقصد
__________
1 انظر: (لسان العرب) : (ص 3296) مادة: غمز. "والمغرب": (2/112-113) . مادة: غمز. (بتصرف) .
2 تهذيب السنن: (3/425) .
(1/593)
ابن القَيِّم بعبارته: أن هذا الراوي على درجة من الثقة والتثبت لا يضر معها تفرده، وإنما يضر تفرد من كان مجروحاً، وليس هذا كذلك.
2- قوله: "ما سَوَّى اللهُ ولا حُفَّاظُ دينه بين فلانٍ وفلانٍ".
قال ذلك في المقارنة بين راويين لبيان أن أحدهما ثقة، والآخر ضعيف، فلا يمكن مقارنته بهذا الضعيف وتشبيهه به.
فقد قال ابن حبان في شأن داود بن الحصين، وزيد بن جبير - وقد وقعا في حديث -: "يجب تجنب رواية زيد وداود جميعاً". فَرَدَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك بقوله: "ما سَوَّى الله ولا حفاظُ دينه بين زيد ابن جبير وداود بن الحصين". ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق داود ابن الحصين، ثم قال بعد ذلك: "وأما زيد بن جبير: فقال البخاري وغيره: متروك ... " وسرد أقوال الأئمة في تضعيفه1.
3- قوله: "ارْتَقَى مِنْ حَدِّ الضَّعْفِ إلى حَدِّ التَّرْكِ".
وَصَفَ بذلك الجارودَ بن يزيد2، وقد كَذَّبَه جماعة، وحكم آخرون بأنه متروك3، وكانت كلمات بعضهم توحي بمجرد ضَعْفِه.
وقد قال فيه ابن القَيِّم هذه الكلمة بمناسبة روايته حديثاً في عدم وقوع الطلاق إذا استثنى الْمُطَلِّق، فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد أن يؤكد بكلمته هذه: أن مجيئه بمثل هذه الطامات مما يعزز الحكم بكونه
__________
1 رسالة الموضوعات: (ق48) .
2 إعلام الموقعين: (4/69) .
3 انظر: الميزان: (1/384) .
(1/594)
"متروكاً" لا يحل الاحتجاج به، وأن كلمة "ضعيف" قليلة في حقه.
كما أن هذه العبارة من ابن القَيِّم - رحمه الله - تحملُ نوعاً من السخرية والتهكم؛ إذ إن التَّرقي عادة يكون إلى الأحسن والأعلى.
4- قوله: "لم يُسْفِرْ1 صباحُ صِدْقِهِ في الرواية".
قال هذه العبارة في عمر بن صبح2 كناية عن كذبه، والتصاق هذا الوصف به، وإقامته على ذلك.
وهذا من الأساليب البلاغية التي استعملها - رحمه الله - في نقد الرواة، حيث لجأ إلى الطِّباق والتورية للتعبير عن جرح هذا الرجل.
5- قوله: "كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"3.
قالها في "العرزمي عن الكلبي"4، وفي "سليمان بن عيسى السجزي عن عبد الرحيم العمي"5.
وهاتان الكلمتان مأخوذتان من مَثَلٍ عربيٍّ قديم، وهو قولهم: "عُوَيْرٌ وكُسَيْرٌ، وكلٌّ غَيْرُ خَيْر". وهو من الأمثال التي تُعَبِّرُ عن الخلة غير المحمودة، كما قال أبو عبيد البكري6، ثم ذكر قصة هذا المثل ومناسبته.
__________
1 أسفر الصبح: أضاء. (مختار الصحاح: ص301) .
2 تهذيب السنن: (6/ 324) .
3 وهما تصغير: "مكسور"، و "أعور".
4 تهذيب السنن: (5/ 409) .
5 جلاء الأفهام: (ص 237) .
6 فصل المقام في شرح كتاب الأمثال: (ص378) .
(1/595)
وقال الجوهري: "يقال في الخصلتين المكروهتين: كُسَير وعوير، وكل غير خير"1.
وقد تَبَيَّن من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - استعمال هاتين الكلمتين للجرح الشديد، ولاسيما في حق من كان متهماً بالكذب.
وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه من ألفاظ الجرح والتعديل التي يغلب على الظن: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انفرد بها، والله أعلم.
__________
1 انظر: لسان العرب: (ص 3164) مادة: عور.
(1/596)
المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد الْمُتَفَرِّقَةِ في الكلام على الرواة
وقد رأيت أن أختمَ هذا الفصل ببعض الفوائد المتفرقة، مما يتعلق بكلامه - رحمه الله - في ضبط بعض الأسماء الْمُشْكِلَة، أو تقييد بعض ما جاء من ذلك مُهْمَلاً، إلى غير ذلك من الفوائد الْمُهِمَّات في هذا الباب، فمن ذلك:
الفائدة الأولى: في ذكر جماعة من الرواة ينسبون إلى أمهاتهم.
وهذه الفائدة - وما سيأتي بعدها - ذكرها في كتابه "بدائع الفوائد"1 في بحث عارض.
أما الذين نسبوا إلى أمهاتهم:
أولاً: من الصحابة:
1- بلال بن حمامة2، وأبوه: رباح.
2- ابن أم مكتوم3، وأبوه: عمرو.
__________
1 انظر: بدائع الفوائد: (2/221-222) .
2 أبو عبد الله، مولى أبي بكر، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/141) ، سير أعلام النبلاء: (1/347) ، تهذيب التهذيب: (1/502) ، الإصابة: (1/165) .
3 عمرو - وقيل: عبد الله - بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة، القرشي، المؤذن. وكان ضريراً.
له ترجمة في: الإصابة: (2/ 308، 351) ، وسير أعلام النبلاء: (1/360) .
(1/597)
3- بشير بن الخصاصية1، وأبوه: معبد.
4- الحارث بن البرصاء2، وأبوه: مالك.
5- خفاف بن ندية3، وأبوه: عمير.
6- شرحبيل بن حسنة4، وأبوه: عبد الله.
7- مالك بن نميلة5، وأبوه: ثابت.
8 - معاذ ومعوذ ابنا عفراء6، وأبوهما: الحارث.
9 - يعلى بن مُنَيَّة7، وأبوه: أمية.
__________
1 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/150) ، الإصابة: (1/ 159) ، تهذيب التهذيب: (1/467) .
2 هو الحارث بن مالك بن قيس الليثي.
له ترجمة في: الاستيعاب: (1/295) ، الإصابة: (1/289) ، تهذيب التهذيب: (2/155) .
3 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 434) ، الإصابة: (1/ 452) .
4 هو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو بن كندة، حليف بني زهرة. وجزم غير واحد بأن "حسنة" أمه. وقيل: بل تبنته وليس بابن لها.
له ترجمة في: الاستيعاب: (1/139) ، الإصابة: (2/143) ، تهذيب التهذيب: (4/324) .
5 هو مالك بن ثابت المزني، حليف بني معاوية بن عوف بن مالك. يعد في الأنصار، قتل يوم أحد.
له ترجمة في: الاستيعاب: (3/ 375) ، الإصابة: (3/357) .
6 وأبوهما: الحارث بن رفاعة بن سواد.
ترجمة معاذ في: الاستيعاب: (3/363) ، والإصابة: (3/ 428) . ومعوذ ترجمته في: الإصابة: (3/ 450) .
7 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام الحنظلي، حليف قريش.
له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 661) ، الإصابة: (1/668) ، تهذيب التهذيب: (11/399) .
(1/598)
10 - عبد الله بن بحينة1، وأبوه: مالك.
ثانياً: من غير الصحابة، وهم:
11- إسماعيل بن علية2، وأبوه: إبراهيم.
12- منصور بن صفية3، وأبوه: عبد الرحمن.
13- محمد بن عائشة4، وأبوه: حفص.
14- إبراهيم بن هراسة5، وأبوه: سلمة.
15- محمد بن عثمة6، وأبوه: خالد.
__________
1 هو: عبد الله بن مالك بن القشب، أبو محمد الأزدي.
له ترجمة في: الإصابة: (1/364) ، تهذيب التهذيب: (5/381) .
2 هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم.
له ترجمة في: سير أعلام النبلاء: (9/107) ، الميزان: (1/216) ، تهذيب التهذيب: (1/275-279) .
3 هو: منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث القرشي العبدري. وأمه: صفية بنت شيبة.
له ترجمة في: ثقات ابن حبان: (7/ 476) ، تهذيب التهذيب: (10/310) .
4 له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/236) ، ثقات ابن حبان (9/62) .
5 أبو إسحاق الشيباني الكوفي. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/143) ، الضعفاء الصغير للبخاري: (ص30) ، الضعفاء المتروكين - للنسائي: (ص13) ، الميزان: (1/72) .
6 الحنفي البصري. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/243) ، تهذيب التهذيب: (9/142) .
(1/599)
الفائدة الثانية: في تقييد بعض الأسماء المهملة، ممن يشتركون في الاسم.
وفائدة معرفة ذلك: الأمن من الوقوع في الاشتباه، خاصة إذا كانوا ممن يروون عن شيخ واحد.
وممن ذكرهم ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذا الصنف1:
1- جماعة يروون عن أبي هريرة ممن يسمون بـ"عطاء":
* عطاء، عن أبي هريرة: "في كل صلاة قراءة".
* وعطاء، عنه مرفوعاً: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن". فذكر الخلفاء الأربعة.
* وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا أُقِيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة".
* وعطاء، عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في: اقرأ باسم ربك".
* وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا مضى ثلث الليل، يقول الله تعالى: ألا داع ... ".
قال رحمه الله:
فالأول: ابن أبي رباح2.
والثاني: الخراساني3.
__________
1 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
2 انظر ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/330) ، ثقات ابن حبان: (5/198) ، الميزان: (3/70) ، تهذيب التهذيب: (7/199) .
3 وهو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، نزيل الشام.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/1/334) ، المجروحين: (2/ 130) ، الميزان: (3/73) ، تهذيب التهذيب: (7/212) .
(1/600)
والثالث: ابن يسار1.
والرابع: ابن ميناء2.
والخامس: مولى أم صبية3.
2- عدة نساء يروين عن عائشة ممن يسمين: "عَمْرَة"4:
عمرة: أنها دخلت مع أمها على عائشة، فسألتها: ما سمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: "كالفرار من الزحف".
وعمرة قالت: خرجتُ مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة، ورأينا المصحف الذي قتل وهو في حجره، فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] . قالت عمرة: فما مات منهم رجل سَوِيًّا.
__________
1 الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ترجمته في: جزء من اسمه عطاء - للطبراني: (ص12) ، الجرح والتعديل: (3/1/338) ، سير أعلام النبلاء: (4/448) ، تهذيب التهذيب: (7/217) .
2 المدني، وقيل: البصري، الدوسي، أبو معاذ.
له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/336) ، ثقات ابن حبان: (5/ 200) ، تهذيب التهذيب: (7/216) .
3 المدني، الجهني.
له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/339) ، ثقات ابن حبان: (5/202) ، الميزان: (3/78) ، تهذيب التهذيب: (7/221) .
4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
(1/601)
وعمرة عن عائشة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال".
قال رحمه الله: الأولى: بنت عبد الرحمن1.
الثانية: بنت قيس العدوية2.
الثالثة: بنت أرطأة3.
الرابعة: يقال لها: الصحاحية4.
3- ذكر جماعة رووا عن ثابت، عن أنس ممن يسمون بـ"حماد"5.
حماد، عن ثابت، عن أنس: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم في النخل صوتاً ... " الحديث.
حماد، عن ثابت، عن أنس: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن صفرة ... " الحديث.
__________
1 ابن أسعد بن زرارة الأنصارية المدنية.
لها ترجمة في: ثقات ابن حبان: (5/288) ، وسير أعلام النبلاء: (4/507) ، تهذيب التهذيب: (12/438) .
2 لها ترجمة في: تهذيب التهذيب: (12/440) .
3 لم أقف عليها.
4 كذا ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - رابعة، والمتقدم ذكرهن ثلاثة فقط، فلعل حديثها سقط في الطباعة، والله أعلم.
5 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
(1/602)
حماد، عن ثابت، عن أنس يرفعه: "مثل أمتي كالمطر".
قال ابن القَيِّم رحمه الله:
الأول: ابن سلمة1.
الثاني: ابن زيد2.
الثالث: الأبح3.
الفائدة الثالثة: من روى عن شيخين متفقي الاسم: أحدهما ثقة، والآخر ضعيف4.
فمن هؤلاء:
1- قتادة5:
يروي عن عكرمة مولى ابن عباس6.
__________
1 هو حماد بن سلمة بن دينار البصري.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/ 140) ، والميزان: (1/590) ، وتهذيب التهذيب: (3/11) .
2 هو: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/176) ، سير أعلام النبلاء: (7/456) ، تهذيب التهذيب: (3/9) .
3 هو: حماد بن يحيى الأبح، أبو بكر السلمي.
له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/151) ، الميزان: (1/601) ، تهذيب التهذيب: (3/21) .
4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .
5 ابن دعامة السدوسي.
6 يعني: وهو ثقة.
(1/603)
وعن عكرمة بن خالد1: ضعيف2.
2- وكيع3:
يروى عن النضر بن عربي4: ثقة.
وعن النضر بن عبد الرحمن5: ضعيف.
3- حفص بن غياث:
يروى عن أشعث بن عبد الرحمن6: ثقة.
وعن أشعث بن سوار7: ضعيف.
وبعد، فهذه بعض الفوائد المتعلقة بالرجال مما وجد في كلام ابن القَيِّم رحمه الله تعالى.
__________
1 ابن العاص بن هشام المخزومي، ثقة خ م د ت س. (التقريب: 396) .
2 كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولكن الأمر على خلاف ذلك؛ فإن في الرواة آخر يسمى: عكرمة بن خالد أيضاً، وهو: عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي وهذا هو الضعيف، وهو قريب للأول. وقد وهم بعضهم فَضَعَّفَ الثقة ظاناً أنه هو هذا الضعيف، وهذا الثقة هو الذي يروى عنه قتادة. انظر: الميزان: (3/90) ، تهذيب التهذيب: (7/258-259) .
3 هو: ابن الجراح بن مليح.
4 الباهلي مولاهم، أبو روح، الحراني، لا بأس به، مات سنة 168 هـ- /د ت (التقريب: 562) .
5 أبو عمر الخزاز، متروك/ ت. (التقريب: 562) .
6 لم يتبين لي من هو؟ وحفص بن غياث يروي عن ثلاثة يسمون أشعث وهم: ابن سوار، وابن عبد الله الحداني، وابن عبد الملك الحمراني. انظر: تهذيب الكمال: (7/56 - 57) .
7 الكندي، النجار، الأثرم، قاضي الأهواز.
(1/604)

========


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها
الفصل الربع: منهج ابن القيم في شرح الحديث، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه
المبحث الأول: منهجه في شرح الحديث، وبيان معانيه.
...
الفصل الرابع: مَنْهَج ابن القَيِّم في شَرْحِ الحديث، وبيانِ معانيهِ، واسْتِخْرَاجِ أَحْكَامِهِ، وَطُرُقِ اسْتِدْلالِهِ بِهِ، وَمَا يَلْحَقُ بِذلِك
لقد اتَّسَمَتْ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله - وأبحاثُهُ باشتمالها على معالجة النصوص الحديثية، والكلامِ عليها، وذلك من خلال: بيان معانيها، وشرح غريبها، واستخراج أحكامها وفوائدها، واستنباط الفقه منها، والكَشْفِ عن وجه دلالة تلك النصوص على الحكم الشرعي، إلى غير ذلك من الأمور الْمُهِمَّاتِ التي لا غِنَى عنها للَّناظرِ في الأحاديث النبوية والمطالع لها.
ويمكننا أن نُمَيِّزَ المنهجَ الذي سار عليه ابن القَيِّم في ذلك كُلِّهِ من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: منهجه في شرحِ الحديثِ، وبيان معانيه.
المبحث الثاني: منهجه في بيان غريب الحديث.
المبحث الثالث: منهجه في التعريف بالأماكن والبقاع.
المبحث الرابع: منهجه في الاستدلال بالنصوص الحديثية على آرائه.
المبحث الخامس: منهجه في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض.
(2/45)
المبحث الأول: مَنْهَجُهُ فِي شَرْحِ الحديثِ وبَيَانِ مَعَانِيه
إن النَّاظِر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - والمطالع لها يلاحظُ أنَّ الشَّرْحَ الكُلِّي الْمُتَكَامِل، وعلى وجه التفصيل، لم يحتل رقعةً واسعةً ضمن أبحاثه، وذلك أَنَّ ابن القَيِّم رحمه الله - في الكثير الغالب - يُوردُ النصوص الحديثية:
- مستدلاً بها على رأي يراه، أو مبدأٍ يقرره.
- أو رَادًّا بها على الرأي المخالف، فيبرهنُ على أَنَّ النصوص على خلاف هذا الرأي.
- أو مُبَيِّنَاً وجه دلالة النَّصِّ على مذهبٍ ما.
- أو مُوَضِّحِاً بها حديثاً آخر ومؤكداً إياه، فيسرد الأحاديثَ الموافقةَ له في الباب.
إلى غير ذلك من المقاصد التي اشتملت عليها مؤلفاته رحمه الله.
ولذلك فَإِنَّ إفراد النصوص الحديثية بالشرحِ والبيانِ على وجه التفصيل، لم يكن شُغل ابن القَيِّم الأول، وأنه وإنِ اشتملت أبحاثه - في الغالب - على مقاصد الشرح وعناصرِه الأساسية - كما سيأتي ضمن موضوعات هذا المبحث - إلا أن تلك العناصر لم تكن تجتمعُ وتتكاملُ في الحديث الواحد إلا في القليل؛ إذ كان - رحمه الله - يتناول كل حديث بما يناسب حاله، وبما يقتضيه المقام: من بيان فائدة، أو تنبيه على حكم، أو تعقب لرأي.
(2/47)
نماذج من شروح ابن القَيِّم للأحاديث النبوية:
ويمكننا أن نستعرضَ في هذا المقام بعض الأمثلة من شرحِ ابنِ القَيِّم لبعض الأحاديث التي تَكَامَلَ فيها شرحه، وذلك للوقوفِ على العناصر الأساسية التي تُمَيِّزُ منهجه في ذلك، فمن ذلك:
- حديث: "مِفْتَاحُ الصَّلاة الطُّهور، وتَحْرِيْمُهَا التكبيرُ، وَتَحْلِيلُهُا التَّسْلِيم".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: " اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام:
الحكم الأول: أن مِفْتَاحَ الصلاة الطهور.
والمفتاح: ما يُفْتَحُ به الشيء المغلق، فيكونُ فاتحاً له، ومنه: "مِفْتَاح الجنة: لا إله إلا الله".
وقوله: "مِفْتَاح الصَّلاة الطُّهور" يفيد الحَصْرَ، وأنه لا مفتاحَ لها سواهُ، من طريقين:
- أحدهما: حصرُ المبتدأ في الخبر إذا كانا معرفتين، فَإِنَّ الخَبَرَ لابُدَّ أن يكون مساوياً للمبتدأ أو أَعَمَّ منه… فإذا كان المبتدأُ مُعَرَّفًا بما يقتضي عمومه -كاللام، وكل ونحوهما - ثم أخبر عنه بخبر، اقتضى صحةُ الإخبار أن يكونَ إخباراً عن جميع أفراد المبتدأ؛ فإنه لا فردَ من أفراده إلا والخبرُ حاصل له.
وإذا عُرِفَ هذا، لَزِمَ الحصرُ، وأنه لا فردَ من أفراد ما يُفتتح به الصلاة إلا وهو الطهور…
(2/48)
- والثاني: أن المبتدأَ مضافٌ إلى الصلاة، والإضافة تَعُمُّ، فكأنَّه قيل: جميعُ مفتاح الصلاة هو الطهور. وإذا كان الطهور هو جميع ما يُفْتَحُ به، لم يكن لها مفتاح غيره ….
وإذا عرف هذا، ثَبَتَ أن الصلاة لا يمكنُ الدخولُ فيها إلا بالطهور.
وهذا أدل على الاشتراط من قوله: "لا يقبلُ الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَثَ حتى يتوضأ" من وجهين:
- أحدهما: أن نفي القبولِ قد يكونُ لفواتِ الشرط وعدمه، وقد يكونُ لمقارنة مُحَرَّمٍ يمنعُ من القبول: كالإباق، وتصديق العَرَّاف، وشربِ الخمر ... ونحوه.
- الثاني: أن عَدَمَ الافتتاح بالمفتاح يقتضي أنه لم يحصل له الدخول فيها، وأنه مصدود عنها ... وأما عدم القبول فمعناه: عدم الاعتداد بها، وأنه لم يرتبْ عليها أثرها المطلوب منها، بل هي مردودة عليه…
فإن قيل: فهل في هذا الحديث حجةٌ لمن قال: إن عادم الطَّهورين لا يُصَلِّي حتى يقدر على أحدهما؛ لأن صَلاتَهُ غيرُ مفتتحة بمفاتحها، فلا تقبلُ منه؟
قيل: قد اسْتَدَلَّ به من يرى ذلك، ولا حجةَ فيه.
ولابُدَّ من تمهيد قاعدة يتبين بها مقصود الحديث، وهي: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الله - تعالى - ورسوله، أو جَعَلَهُ شرطاً للعبادة، أو رُكْنَاً فيها، أو وَقَفَ صِحَّتَهَا عليه: هو مُقَيَّدٌ بحال القدرة؛ لأنها الحالُ التي يُؤْمَرُ فيها به.
(2/49)
وأما في حال العجز فغيرُ مقدورٍ ولا مأمورٍ، فلا تَتَوقفُ صحةُ العبادة عليه. وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة، وسقوط ذلك بالعجز. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". ولو تَعَذَّرَ عليها الخمارُ صَلَّتْ بدونه، وَصَحَّتْ صلاتها ... ونظائره كثيرة، فيكون "الطهور مفتاح الصلاة" هو من هذا …
وفي الحديث دليلٌ على اعتبار النِّيَّةِ في الطهارة بوجهٍ بديعٍ؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم جَعَل الطهور مفتاح الصلاة التي لا تُفْتتح ويُدْخَل فيها إلا بِهِ، وما كان مفتاحاً للشيء كان قد وُضِعَ لأجله وأُعِدَّ له. فَدَلَّ على أن كونه مفتاحاً للصلاة هو جهة كونه طهوراً، فإنه إنما شُرِعَ للصلاة، وجُعِلَ مفتاحاً لها، ومن المعلوم: أن ما شُرِع للشيء ووضع لأجله لابد أن يكون الآتي به قاصداً ما جُعِلَ مفتاحاً له ومُدْخِلاً إليه، هذا هو المعروف حِسَّاً، كما هو ثابت شرعاً. ومن المعلوم أن من سَقَطَ في ماء - وهو لا يريد التطهر - لم يأتْ بما هو مفتاح الصلاة، فلا تفتح له الصلاة، وصار هذا كمن حكى عن غيره أنه قال: لا إله إلا الله. وهو غير قاصد لقولها، فإنها لا تكون مفتاحاً للجنة منه، لأنه لم يقصدها… فهكذا هذا يجب أن لا يكونَ مُتَطَهِّرَاً، وهذا بحمد الله بَيِّنٌ.
فصل
الحكم الثاني: قوله: "وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيرُ".
وفي هذا من حصرِ التحريمِ في التَّكْبِير نظيرُ ما تَقَدَّمَ في حصرِ مفتاحِ الصلاة في الطهور من الوجهين. وهو دليل بَيِّنٌ أنه لا تحريم لها إلا
(2/50)
التكبير. وهذا قول الجمهور وعَامَّةِ أهل العلم قديماً وحديثاً. وقال أبو حنيفة: ينعقدُ بكلِّ لفظٍ يدلُّ على التعظيم، فاحتج الجمهور عليه بهذا الحديث.
ثم اختلفوا، فقال أحمد ومالك وأكثر السلف: يتعينُ لفظ "الله أكبر" وحدها، وقال الشافعي: يتعين أحد اللفظين: "الله أكبر" و"الله الأكبر" …
والصحيح قول الأكثرين، وَأَنَّه يتعين "الله أكبر" لخمس حجج:
- إحداها: قوله: "تحريمها التكبير"، واللامُ هنا للعهد، فهي كاللامِ في قوله: "مفتاح الصلاة الطهور" ... وهكذا التكبير هنا: هو التكبير المعهود، الذي نقلته الأمة نقلاً ضرورياً خلفاً عن سلف عن نبيها صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقوله في كل صلاة، لا يقولُ غيره ولا مرةً واحدةً ... وهذا حُجَّة على من جوز "الله الأكبر" و "الله الكبير"؛ فإنه وإن سُمِّيَ تكبيراً، لكنه ليس التكبير المعهود المراد بالحديث".
ثم ذَكَر بقية الحجج الخمس، ثم قال:
"وفي افتتاحِ الصلاةِ بهذا اللفظ، المقصود منه استحضار هذا المعنى وتصوره: سِرٌّ عظيمٌ يعرفُهُ أهل الحضور، الْمُصَلُّونَ بقلوبهم وأبدانهم؛ فإنَّ العَبْدَ إذا وَقَفَ بين يدي الله - عز وجل - وقد عَلِمَ أنه لا شيء أكبر منه، وَتَحَقَّقَ قلبه ذلك، وَأُشْرِبُهُ سِرُّه، استحيى من الله، وَمَنَعَهُ وقاره وكبرياؤه أن يشغلَ قَلْبَهُ بغيره. وما لم يستحضر هذا المعنى واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوَسَاوِسَ والخَطَرَاتِ، وبالله المستعان، فلو
(2/51)
كان الله أكبرُ من كلِّ شيءٍ في قلب هذا، لما اشتغل عنه، وَصَرَفَ كُلَّيَةَ قلبه إلى غيره …
فصل
الحكم الثالث: قوله: "وتحليلها التسليم".
والكلام في إفادَتِهِ الحصر كالكلام في الجملتين قبله.
والكلام في التسليم على قسمين:
- أحدهما: أنه لا يَنْصَرِفُ من الصلاة إلا بالتسليم. وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ. وقال أبو حنيفة: لا يتعيَّنُ التسليم، بل يخرجُ منها بالْمُنَافِي لَهَا، من حَدَثِ أو عملٍ مبطلٍ ونحوه".
ثم ذَكَرَ حجج أبي حنيفة على قوله هذا، وجواب الجمهور عنها، ثم قال:
فصل
وقد دَلَّ هذا الحديث على أَنَّ كُلَّ ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم، فمفتاحه الطهور، فيدخل في هذا: الوترُ بركعة، خلافاً لبعضهم… ويدخل في الحديث أيضاً: صلاةُ الجنازة؛ لأنَّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ...
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مِفْتَاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" هو فصل الخطاب في هذه المسائل وغيرها، طرداً وعكساً، فكل ما كان تحريِمُهُ التكبيرُ وتحليله التسليم، فلا بُدَّ من افتتاحه بالطهارة".
(2/52)
ثم أَخَذَ - رحمه الله - في ذكر بعض العبادات الأخرى، وبيان اندراجها تحت هذا الأصل، وعلاقتها به، فذكر من ذلك:
- الطواف بالبيت.
- وسجود التلاوة والشكر1.
وبعد عرض هذا المثال، يمكن استخلاص المنهج العامِّ لابن القيِّم في شرح الحديث، والجوانب التي اشتمل عليها شرحه، وذلك فيما يلي:
1- شرحُ المفردات اللغوية التي تحتاج إلى بيانٍ.
2- بيانُ بعض الأوجه النحوية التي لها علاقة بالشرح، وتوجيه بعض العبارات في هذا الباب.
3- بيانُ الأحكام الفقهية التي يشتملُ عليها الحديث.
4- الاستشهاد - أثناء الشرح - ببعض النصوص الحديثية التي تَدْعَمُ كَلامَهُ، وَتُوَضِّحُ مراده.
5- بيانُ مذاهبِ الأئمة في الأحكام التي يشتملُ عليها الحديث، مع بيان الراجح منها.
6- بيان الأدلة التي يستندُ عليها في ترجيح الرَّاجِحِ من هذه المذاهب.
__________
1 تهذيب السنن: (1/ 45 - 56) .
(2/53)
7- بيانُ بعض القواعد التي تُعِينُ على فهمِ الحديث، وَتُبَيِّن مرادَ الشارعِ منه، ومدى انطباق هذه القواعد على ما شَابَهَ ذلك من النصوص.
8- قَد يستطردُ أثناء الشرح فيوردُ بعض القضايا التي تتعلق بالحديث، مع مناقشتها، وبيان الراجح فيها عند الخلاف.
تلك أبرزُ النقاط، وأهمُ الخطوات التي سَارَ عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في شرحِ الحديث، وهي وإن كانت مُسْتَخْلَصَةً من خلال مثال واحدٍ، إلا أنَّ هذا المنهجَ هو الغالب عليه في كلامه على الأحاديث وشرحها.
ويمكن أن تنظر مزيد من الأمثلة على هذا المنهج في كلامه على الأحاديث الآتية:
- حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: "من أَسْلَفَ في شيء فلا يصرفه إلى غيره" 1.
- وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "لا يَحِلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطان في بيع ... " 2الحديث.
- وحديث الحارث الأشعري مرفوعاً: "إِنَّ الله - سبحانه - أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها…" 3. الحديث بطوله.
__________
1 تهذيب السنن: (5/ 111 - 118) .
2 تهذيب السنن: (5 / 144 - 158) .
3 الوابل الصيب: (ص 21 -52) .
(2/54)
- وحديث: "كفى ببارقةِ السيوف على رأسه فتنة" 1. يعني: الشهيد.
- وحديث قدومِ وفد بني المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم2.
هذا فيما يتعلق بشرحه الحديث على وجه التفصيلِ والشمولِ والإحاطة، وبيان المعاني التي اشتمل عليها، والأحكام التي تَضَمَّنَهَا، والفوائدِ المستخرجة منه. ويمكنُ الوقوف على قسطٍ كبير من هذا الكلام المبسوط، والشرحِ المستوفى في كتابه (تهذيب السنن) على وجه الخصوص، ولعله - رحمه الله - قد أشار إلى ذلك في مقدمة هذا الكتاب حين قال:
"وبسطت الكلام على مواضع جليلة، لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرةٌ بأن تُثْنَى عليها الخناصرُ، ويُعَضَّ عليها بالنواجذ"3.
أما الأحاديث التي شَرَحَهَا شَرْحَاً مجملاً مختصراً، أو بالغ في إبراز معنىً فيها بعينه وتوضيحه، فمن أمثلتها:
- حديث: "أحبُّ الدين إلى الله: الحنيفية السمحة".
قال رحمه الله: "فهي حنيفية في التوحيد وعدمِ الشرك، سَمْحَةٌ في العمل وعدم الآصارِ والأغلالِ بتحريمهم من الطيبات الحلال. فَيُعْبَدُ
__________
1 الروح: (ص 107، 109 - 110) .
2 زاد المعاد: (3 / 673 - 686) .
3 تهذيب السنن: (1/ 9-10) .
(2/55)
سبحانه بما أَحَبَّهُ، ويستعانُ على عبادته بما أَحَلَّهُ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . وهذا هو الذي فَطَرَ الله عليه خَلْقَهُ، وهو محبوبٌ لكلِّ أحدٍ، مستقر سنته في كل فطرة؛ فإنه يتضمن التوحيد، وإخلاص القصد، والحب لله وحده، وعبادته وحده بما يحب أن يعبد به ... "1.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة2.
ومما يَحْسُنُ التنبيهُ عليه ونحن بصدد الكلام على منهجه في شرح الحديث:
اهْتِمَامُهُ بذكرِ الفوائد والنُّكَتِ التي تشتمل عليها الأحاديث، فإنه في كثير من الأحيان -بعد أن يسوقَ الحديث في المسألة - يذكر ما تَضَمَّنَهُ من فوائد وأحكام، فمن ذلك:
- أنه ذكر النصوصَ الواردةَ في غزوة تبوك، ثم أشارَ إلى الفوائد المستنبطة منها، فذكر من ذلك ما يزيد على أربعين فائدة3.
- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاة" ذَكَرَ - رحمه الله - جملةً
__________
1 شفاء العليل: (ص500) .
2 انظر منها: شفاء العليل: (ص63، 472) ، وروضة المحبين: (ص53-54، 173) ، والروح: (ص318) ، وجلاء الأفهام: (ص144، 156، 235) ، وزاد المعاد: (1/316-317) ، (2/407، 443، 462) ، (4/28، 35، 42، 92، 218) ، والصلاة: (21، 177) ، وإعلام الموقعين: (1/243) .
3 زاد المعاد: (3/558-592) .
(2/56)
كبيرةً من الفوائد والأحكام التي يشتملُ عليها هذا القول1.
- وفي قصة الْمُحْرِم الذي سَقَطَ عن راحلته فمات ... , قال: "وفي هذه القصة اثنا عشر حكماً ... "2فَسَرَدَهَا.
والأمثلة في هذا الباب كثيرة3.
__________
1 تهذيب السنن: (2/434-435) .
2 زاد المعاد: (2/238-246) .
3 انظر منها: زاد المعاد: (2/77، 437) ، (4/48-61) ، (5/53، 135، 193، 358) ، وحادي الأرواح: (ص48) ، وتهذيب السنن: (1/45، 344) .
(2/57)
المبحث الثاني: مَنْهَجُهُ في بَيَانِ غَرِيبِ الحَدِيثِ
لقد كان ابنُ القَيِّم في كثير من الأحيان يقفُ عند الألفاظ الغريبةِ الغامضةِ التي تَمُرُّ في النصوص الحديثية، فيكشفُ غموضها ويوضح معناها.
أما عن المنهج الذي سَلَكَهُ في بيان الألفاظ الغريبة، فقد كان على النحو التالي:
1- تنوع طريقة ابن القَيِّم - رحمه الله - من حيث البسط والاختصار؛ فتارةً يشرحُ اللفظةَ الغريبةَ بكلمةٍ أو كلمتين أو جملة قصيرة:
- فيقول في حديث: "إذا بايعت فقل: لا خِلابة": "أي: لا خديعة"1.
- ويقول في حديث: "كلُّ خطبة ليس فيها تَشَهُّدٌ، فهي كاليد الجذماء": "اليد الجذماء: المقطوعة"2.
- وقال في حديث عائشة رضي الله عنها: "وكانَ إِذَا تَعَرَّقْتُ عَرْقَاً3 أَخَذَهُ فَوَضَعَ فمه موضع فمها": "العَرْق: العظم الذي عليه لحم"4.
__________
1 روضة المحبين: (ص49) .
2 جلاء الأفهام: (ص207) .
3 العَرْقُ: - بالسكون - العظم إذا أُخِذَ عنه معظمُ اللحم، وجمعه: عُرَاق. وتَعَرَّقَهُ: إذا أخذ عنه اللحم بأسنانه. (النهاية 3/220، عرق) .
4 زاد المعاد: (1/152) .
(2/59)
- وقال في حديث احتجامه صلى الله عليه وسلم في الأخدعين والكاهل: "والكَاهِلُ: هو ما بين الكتفين"1.
إلى غير ذلك من الأمثلة على بيانه الغريب بإيجازٍ واختصار2.
وتارةً أخرى يطيلُ النَّفَسَ في ذكر معنى الكلمة، وبيان وجوهها، ومن ذلك:
- حديث: "الْمُهَجِّرُ إلى الجمعة كالمُهْدي بدنة" فقد أفاض-رحمه الله- في شرح معنى التهجير، واشتقاقِ هذه الكلمة ومعانيها، وَطَوَّلَ في نقل أقوال العلماء في ذلك3.
وهو إنما يلجأ إلى ذلك لحاجة وضرورة تدعوه إلى مثل هذه الإطالة؛ فإن قوماً حملوا هذا الحديث على أن المراد به: الذهابُ في الهاجرة، وهو وقت الزَّوَال، فأرادَ أن يُثْبِتَ أن المراد بالتهجير: التبكير والمبادرة إلى كلِّ شيء.
- وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في قسمة الضحايا، وقوله: فبقي عتود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ضَحِّ به أنت". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "العَتُودُ من ولدِ المَعْزِ: ما قَوِيَ وَرَعَى، وأتى عليه حولٌ، قاله الجوهري". ثم نَقَلَ أقوالاً أخرى في معنى ما قاله الجوهري، ثم قال: "فيكون هو الثَّنِيُّ
__________
1 زاد المعاد: (1/ 164) .
2 وانظر أيضاً: حادي الأرواح: (ص 245) ، وزاد المعاد: (1/ 347، 484) .
3 زاد المعاد: (1/ 403 - 406) .
(2/60)
من المعز، فتجوز الضَّحِيَّةُ به"1.
فنجده قد استقصى الأقوال في معنى هذه الكلمة لَمَّا أراد أن يثبتَ هذا الحكم، وهو جواز التضحية بالعتود.
- وسلك الطريقة نفسها في شرح معنى "الإهاب" في حديث الدِّبَاغ2.
فهكذا نجده يشرح الكلمة الغريبة بإيجاز واختصارٍ تارةً، وتارة يُفَصِّلُ ويتوسعُ في بيان معناها حين يقتضي المقامُ ذلك.
2- قيامه بضبط الكلمة الغريبة وتقييدِهَا بالحروف، وذلك حينما يخشى من التباسها بغيرها:
- فيقول في كلامه على حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَبَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ بِالغِسْلِ- وهو بالغين المعجمة، على وزن: كِفْل - وهو: ما يُغْسَلُ بِهِ الرأس من خِطْمِيٍّ ونحوه، ويُلَبَّدُ به الشعرُ حَتَّى لا ينتشر"3.
- ويقول في حديث وفد بني المنتفق: "الشَّرَبة - بفتح الراء -: الحوض الذي يجتمع فيه الماء، وبالسكون والياء: الحنظلة"4.
3- اعتماده في شرح الغريب على أئمة اللغة وأرباب الشأن،
__________
1 تهذيب السنن: (4/ 103) .
2 انظر: تهذيب السنن: (6/ 67- 68) .
3 زاد المعاد: (2/ 158) .
4 زاد المعاد: (3/ 678) .
(2/61)
سواء منهم من عُرِفَ بالتصنيف في (غريب الحديث) : كأبي عبيد1، وابن الأثير2. أو غيرهم من أئمة اللغة الذين لم يُصَنِّفُوا فيه: كالجوهري في (صحاحه) 3، والأزهري في (تهذيب اللغة) 4، وغيرهم.
ولكنه في الكثير الغالب يشرحُ الكلمة بنفسه، دون نقلٍ عن أحد، أو قد يكون ناقلا عن غيره دون تصريح5.
4- التنبيه على ما يقع من غلطٍ في ضبطِ كلمةٍ غريبةٍ في الحديث، وبيان وجهَ الصواب فيها، فمن ذلك:
- ما جاء في الحديث: " ... كيف تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وقد أَرِمْتَ" - يعني: بَلِيتَ -، فقد بَيَّنَ - رحمه الله - أن بعضهم غَلِطَ في لفظ الحديث، فقال: " ... فقالوا اللفظ به: أَرَمَّتَ، بفتح الراء، وتشديد الميم وفتحها، وفتح التاء ... "، ثم أَخَذَ في بيان خطأ هذا القول، ووجه الصواب في ذلك6.
__________
1 انظر: حادي الأرواح: (ص 233، 248) .
2 انظر: زاد المعاد: (1/ 161) .
3 انظر: حادي الأرواح: (ص 253) ، وزاد المعاد: (4/ 37) .
4 انظر: زاد المعاد: (1/ 404) .
5 وانظر مزيداً من الأمثلة على شرحه الغريب في: زاد المعاد: (2/247) ، (4/37، 113) ، وروضة المحبين: (ص 57، 84، 365) ، وحادي الأرواح: (ص 180، 204، 231) ، وإغاثة اللهفان: (1/ 262) .
6 تهذيب السنن: (2/ 154) .
(2/62)
المبحث الثالث: مَنْهَجُهُ في التعريفِ ببعضِ الأماكنِ والبقاعِ التي تَرِدُ في النصوص الحديثية، وضبط ذلك
اهْتَمَّ ابن القَيِّم رحمه الله - في ضمن كلامه على الحديث - بضبط أسماء الأماكن والمواضع التي تردُ في النصوص الحديثية، مع تحديد وبيان موقعها والدلالة عليها.
وكان ربما اكتفى بتحديد الموضع فقط:
- كقوله في (حُنَين) و (أوطاس) : "وهما موضعان بين مكة والطائف"1.
- وقوله: "أن وادي وجّ - وهو وادٍ بالطائف - حَرَمٌ يحرم صيده"2.
إلا أَنَّهُ في مناسبات أخرى قد يقومُ بضبطِ اسمِ المكان عندما يَخْشَى التباسُهُ بغيره، أو لغير ذلك من الأسباب:
- فقال في حديث جابر رضي الله عنه: "آجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش ... ": "قال في النهاية: جُرَش - بضم الجيم وفتح الراء -: من مخاليف اليمن، وهو بفتحهما: بلد بالشام.
__________
1 زاد المعاد: (3/ 465) .
2 زاد المعاد: (3/ 508) .
(2/63)
قلت: إن صحَّ الحديث، فإنما هو المفتوح الذي بالشام"1.
وَإِنَّمَا قَامَ بِضَبْطِ ذلك وتحريره: لِيُبَيِّنَ أن المقصود في هذا الحديث "جَرَش" الشام؛ وذلك لأنَّه كان بصدد الكلام عن سَفَرِ النبي صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة إليها، فَنَبَّهَ على ذلك حتى لا تلتبس بـ "جُرَش" المضمومة التي باليمن.
- وقال عند كلامه على غزوة دُومة الجندل: "وهي بضم الدَّال، وأما دَومة - بالفتح - فمكانٌ آخر"2.
- وقال عن "ذات السلاسل": "وهي وراء وادي القرى، بضم السِّين الأولى وفتحها، لغتان، وبينها وبين المدينة عشرة أيام"3.
فهكذا يقوم - رحمه الله - بضبط اسم المكان عند خشية التباسه بغيره، أو عندما يكون في ضبطه أكثر من لغة.
__________
1 زاد المعاد: (1/ 161) .
2 زاد المعاد: (3/ 255) .
3 زاد المعاد: (3/ 386) .
(2/64)
المبحث الرابع: مَنهَجُهُ في الاستدلالِ بِالنُّصُوصِ الْحَدِيْثِيَّةِ عَلَى آرَائِهِ واخْتِيَارَاتِه
لقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - في بحوثهِ وآرائهِ وتقريراتهِ، يعتمد اعتماداً كبيراً - مع القرآن - على النصوصِ الحديثية، يستدل بها على ما يذهب إليه ويراه صواباً، ويردُّ بها على المخالفين ويدحض بها دعاواهم.
وكان من أهم السمات التي ميزت منهجه في سياق الأدلة، والاستنباط منها، وبيان أوجه الدلالة فيها، ما يلي:
1- كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يعرضُ القضيةَ التي يريدُ تقريرها، أو الرأيَ الذي يختاره ويذهب إليه، ثم يسوقُ الأدلة على ذلك:
- فيقول مثلاً: "وكان هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في ابتداء السلام أن يقول: السَّلام عليكم ورحمة الله. وكان يَكْرَهُ أن يقولَ المبتدئ: عليك السلام. قال أبو جُزَيّ الهُجَيمِي: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليكَ السَّلام يا رسول الله. فقال: "لا تَقُلْ عَلَيك السَّلام؛ فإن عَليك السلام تحية الموتى" 1.
- وقال: "للصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظِ الجوارحِ الظاهرةِ، والقوى الباطنة ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصَّوم جُنَّة" 2.
- وقال مرة: "وبالجملة: فَتَنْبيهُ الشَّارع وحكمته يقتضي أن الفِطْرَ لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، وَنَبَّهَ
__________
1 زاد المعاد: (2/420) .
2 زاد المعاد: (2/29) .
(2/65)
عليها، وَصَرَّحَ بِحُكْمِهَا، وَعَزَمَ عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويَدُلُّ عليه: ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة: "إِنَّهَ يَومُ قِتَال فَأَفْطِرُوا "1.
ففي هذه الأمثلة وغيرها: نرى أَنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّرُ المسألة، أو يضعُ القاعدة، أو يُبَوِّبُ الباب، ثم يسوقُ لذلك الأدلة من الأحاديث النبوية.
2- ومع ذلك، فإنه - في مواطن أخرى - يقومُ بإيراد الحديث في مطلع كلامه، ثم يَتَكَلَّمُ عن أحكامه، وفقهه، ووجه الاستدلال منه، فمن ذلك:
- أَنَّه عند كلامه على حكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حضانة الولد: ساقَ جملة أحاديث في الباب، ثم بدأَ في الكلامِ على الأحكام التي تشتمل عليها هذه الأحاديث2.
- وعند كلامه على أحكام الرضاعة، وما يحرمُ بها: ذكر أحاديث عِدَّة، ثم قال: "فَتَضَمَّنَتْ هَذِه السُّنَنُ الثَّابِتَة أَحْكَامَاً عديدة ... "3 ثم أَخَذَ في بيان هذه الأحكام.
__________
1 زاد المعاد: (2/ 54) .
2 زاد المعاد: (5 / 432 - 465) فما بعدها.
3 زاد المعاد: (5/ 552 - 556) .
(2/66)
- وَكَذَا صَنَع في الكلام على حكم استبراءِ المرأة من السبي قبل وطئها1.
3- ومما تميز به ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب: الإكثار من الأدلة التي يوردها للمسألة الواحدة:
- فعند كلامه على صِفَةِ حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه أَحْرَمَ قَارِنًا لبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك"2.ثم أَخَذَ في سَرْدِهَا.
- وأورد ثمانية عشر حديثاً في إثبات عذاب القبر3.
- وَسَاق في بيان فضل السِّواك وتأكيده ثَمَانِيَة عشر حديثاً أيضاً4. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
فهكذا كان رحمه الله: إذا تناول مسألةً، فَإِنَّهُ يورد في الاستدلالِ عليها قدراً كبيراً من الأحاديث النبوية على وجه الخصوص؛ إذ اعتماده في ذلك على النصوص في المقام الأول.
4- لم يكتف ابن القَيِّم بِمُجَرَّدِ سَوْق النصوصِ الحديثية في معرض الاستدلال، بل إنه - في بعض الأحيان - يُبَيِّنُ وجه الاستدلال من النص
__________
1 زاد المعاد: (5/ 711 - 745) .
2 زاد المعاد: (2/ 107 - 115) .
3 تهذيب السنن: (7/ 142 - 146) .
4 المنار المنيف: (ص 23 - 28) .
(2/67)
للمسألة المستدل لها، وبخاصة إذا لم تكن دلالة النص صريحة:
- فيقول مثلاً: عِنْد سِيَاقِه أَدِلَّة كفر تارك الصلاة -: "الدليلُ العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا: فَهُوَ المسلم ... " قال: "ووجه الدلالة فيه من وجهين ... "1 فذكرهما.
وعلى ذلك أمثلة أخرى2.
5- التَّدَرُّجُ في سياقِ الأدلةِ حسب قوتها وأهميتها، وقد مضى الكلام على ذلك عند عرض منهجه - رحمه الله - في التأليف3.
__________
1 الصلاة: (ص 48) .
2 انظر مثلاً: الصلاة: (ص 19، 120، 121، 125) .
3 انظر (1/213) .
(2/68)
المبحث الخامس: مَنْهَجُهُ في التوفيقِ والجمعِ بينَ الأحاديث التي ظَاهِرُهَا التَّعَارض
تَقَدَّمَتْ الإشارة - عند الكلام على "مختلف الحديث" - إلى كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - ورأيه في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وذكرنا هناك جملة من المرجحات التي استعملها في الترجيح عند التعارض1.
وأنبه هنا على بعض المعالم الرئيسة لمنهج ابن القَيِّم في الجمع والتوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، مع ذكر بعض الأمثلة من كلامه.
- فقد كان - رحمه الله - حريصاً على التأليف بين الأحاديث المتعارضة، ونفي التضادِّ عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مُقَرِّراً أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يَضْرِبُ بعضُهَا بعضاً، وإِنَّمَا تتفقُ وتتآلف.
- وبالرغم من أن التعارضَ لا يكون مُعْتَبَراً إلا بَين حديثين صحيحين، إلا أَنَّ ابن القَيِّم كان رُبَّمَا قَامَ بالجمع بين خبرين أحدهما ضعيف، أو لا يُقَاِوم الآخر في الصحة.
ويكون هذا - في الغالب - من باب التَنَزُّلِ منه، فيقررُ عدم صحة الْمُعَارِض، ثم يقول: بأنه على فرض ثبوته، أو على القول بتسليم صحته، فإن الجمع بينه وبين معارضه ممكن على نحو كذا وكذا، أو يجعل
__________
1 انظر: (1/502 - 508) .
(2/69)
الجمع والتأويل معلقاً على ثبوته، فيقول مثلاً: إن صَحَّ الخبر فتأويله كذا، أو: وجهه كذا1.
ومن أمثلة الأحاديث التي قام بالتأليف والتوفيق بين ما ظَاهِرُهُ التعارض منها:
1- أحاديث الإذن في الرُّقْيَة، كحديث عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تَسْتَرْقِي من العين". وحديث جابر رضي الله عنه: "رَخَّصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحَيَّة". وغير ذلك من الأحاديث.
وما جاء في النهي عن ذلك، كما في حديث جابر رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الرُّقَى".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فهذا لا يعارضُ هذه الأحاديث؛ فَإِنَّه إنما نَهَى عن الرُّقى التي تتضمنُ الشِّرْكَ، وتعظيمَ غيرِ الله سبحانه، كغالبِ رُقَى أهل الشرك.
والدليل على هذا: ما رواه مسلم في (صحيحه) 2 من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليَّ رُقَاكُم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك" …
__________
1 انظر مثلا: تهذيب السنن: (5/ 361 -362) ، والفروسية: (ص 101) .
(4/ 1727) ح64 (2200) ك السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك.
(2/70)
وهذا المسلك في هذه الأحاديث وأمثالِهَا: فيما يكون الْمَنْهِيُّ عنه نوعاً، والمأذون فيه نوعاً آخر، وكلاهما داخلٌ تحت اسمٍ واحدٍ، من تَفَطَّنَ له زال عنه اضطرابٌ كثيرٌ، يَظُنُّهُ من لم يُحِطْ عِلماً بحقيقة الْمَنْهِيِّ عنه من ذلك الجنس، والمأذون فيه: متعارضاً، ثم يسلكُ مسلك النسخ، أو تضعيف أحد الأحاديث"1.
2- الأحاديث الواردة في أكل الْمُحْرِم لحمَ الصيد، وما جاء من المنع من ذلك.، قال رحمه الله:
قال رحمه الله: "فَحَيْثُ أَكَلَ: ُعُلِمَ أَنَّهُ لم يُصَدْ لأجلهِ، وحيث امتنع: عُلِمَ أنه صيد لأجله. فهذا فعله، وقوله في حديث جابر يدل على الأمرين، فلا تعارض بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم بحال"2.
وحديث جابر الذي أشار إليه: هو ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3 عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: "صَيْد البَرِّ لَكُم حلالٌ ما لم تصيدُوه، أو يُصَادُ لكم".
3- حديث: "من كان له شَعْرٌ فليكرمه" وحديث: "النَّهْي عن التَّرَجُّلِ إلا غِبّاً".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "والصَّواب: أنه لا تعارض بينهما بحال، فإن العبدَ مأمورٌ بإكرامِ شعره، وَمَنْهِيٌّ عن المبالغةِ والزيادةِ في الرفاهية والتنعيم، فيكرم شعره ولا يتخذُ الرَّفَاهِية والتنعيم ديدنه، بل يترجل غباً.
__________
1 تهذيب السنن: (5/ 367) .
2 تهذيب السنن: (2/ 365) .
(2/ 427) ح 1851 ك الحج، باب لحم الصيد للمحرم.
(2/71)
هذا أولى ما حمل عليه الحديثان، وبالله التوفيق"1.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب2.
وبعدُ، فهذه أبرزُ المسائل المتعلقة بكلام ابن القَيِّم - رحمه الله - على الحديث: شرحاً، واستدلالاً، واستنباطاً، وجمعاً وتوجيهاً عند التعارض، وغير ذلك، مع بيان منهجه في كل مسألة من تلك المسائل، والله أعلم.
__________
1 تهذيب السنن: (6/ 85) .
2 انظر منها: زاد المعاد: (1/208، 275 - 285) ، إعلام الموقعين: (2/334 -335) ، تهذيب السنن: (1/137- 138) ، بدائع الفوائد: (2/ 222 - 223) ، مفتاح دار السعادة: (2/ 264-269) .
(2/72)
الباب الثالث: دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القيم
المدخل
...
الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم
ويتضمن هذا الباب أحاديث منتقاة من:
1- كتاب الطهارة.
2- كتاب الحيض.
3- كتاب الصلاة.
4- كتاب الزكاة.
5- كتاب الصوم.
6- كتاب الحج.
7- كتاب الجهاد
8- كتاب الجنائز.
9- كتاب النكاح.
10- كتاب الطلاق.
11- كتاب البيوع.
12- كتاب الأطعمة والصيد والذبائح.
13- كتاب الأيمان والنذور.
14- كتاب العتق.
15- كتاب الحدود والديات.
16- كتاب الأدب.
17- كتاب الفرائض.
18 - كتاب الأذكار.
19- كتاب الفضائل.
20- كتاب التفسير.
21- كتاب التوحيد والأسماء والصفات.
(2/75) 
================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...