الجمعة، 7 يناير 2022

20- ج5-منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل الفصل الثاني الألفاظ الدالة على الخطأ والوهم والاختلاف


منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
الفصل الثاني
الألفاظ الدالة على الخطأ والوهم والاختلاف

وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ألفاظ الخطأ والوهم ومدلولهما عند الإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الخطأ والوهم لغةً.
المطلب الثاني: لفظا الخطأ والوهم عند الدارقطني في العلل.
المبحث الثاني: ألفاظ المخالفة والنَّكارة ومدلولهما عند المحدثين والإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف المخالفة لغة.
المطلب الثاني: مفهوم المخالفة عند المحدثين والإمام الدارقطني.
المطلب الثالث: ألفاظ المخالفة التي استعملها الإمام الدارقطني لبيان العلل.
المطلب الرابع: تعريف النَّكارة لغة.
المطلب الخامس: مفهوم النَّكارة وألفاظها عند المحدثين والإمام الدارقطني.
(1/245)
الفصل الثاني
الألفاظ الدالة على الخطأ والوهم والاختلاف
سنتعرض في هذا الفصل للألفاظ التي تدل على الخطأ والوهم والاختلاف في الرواية أو الخبر عند الإمام الدارقطني، ولقد تنوعت ألفاظ الحكم على الخطأ والوهم والاختلاف، وذلك تباعاً للعلة التي طرأت على الخبر من زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال راوٍ براوٍ، أو كلمة بكلمة، أو إسنادٍ في إسناد، أو تصحيف أو تحريف، أو رواية بالمعنى أفسدت معنى الحديث أو غير ذلك من الأسباب، ولتوضيح ذلك سوف نضرب بعض الأمثلة التي استعملها النُّقاد والدارقطني لهذه الألفاظ للدلالة على الخطأ والوهم.
المبحث الأول: ألفاظ الخطأ والوهم ومدلولهما عند الإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الخطأ والوهم لغةً.
أولاً: تعريف الخطأ لغةً.
وهو خلاف الصواب والصحيح، قال ابن منظور في لسان العرب: " (خطأ) الخَطَأُ والخَطاءُ ضدُّ الصواب، وقد أَخْطَأَ، وفي التنزيل: {وَلَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ} (1)، عدَّاه بالباء؛ لأَنَّه في معنى عَثَرْتُم أَو غَلِطْتُم وقول رؤْبة:
يا رَبِّ إِنْ أَخْطَاتُ أَو نَسِيتُ ... فأَنتَ لا تَنْسَى ولا تمُوتُ
معناه أَي إِنْ أَخْطَاتُ أَو نسِيتُ فاعْفُ عني لنَقْصِي وفَضْلِك وقد يُمدُّ الخَطَأُ، وقُرئَ بهما قوله تعالى: {ومَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} (2)، وأَخْطَأَ وتَخَطَّأَ بمعنى، ولا تقل أَخْطَيْتُ وبعضهم يقوله وأَخْطَأَه ...
والخَطَأُ ما لم يُتَعَمَّدْ ... ، هو ضد العَمْد، وهو أَن تَقْتُلَ إنساناً بفعلك من غير أَنْ تَقْصِدَ قَتْلَه، أَو لا تَقْصِد ضرْبه بما قَتَلْتَه به، وقد تكرّر ذكر الخَطَإِ والخَطِيئةِ في الحديث.
_________
(1) سورة الأحزاب، آية رقم (5).
(2) سورة النساء، آية رقم (92).
(1/247)
وأَخْطَأَ يُخْطِئُ إِذا سَلَكَ سَبيلَ الخَطَإِ عَمْداً وسَهْواً ويقال خَطِئَ بمعنى أَخْطَأَ ... ، والخاطِئُ من تعمَّد لما لا ينبغي، وتقول لأَن تُخْطِئ في العلم أَيسَرُ من أَن تُخْطِئ في الدِّين ويقال قد خَطِئْتُ إِذا أَثِمْت فأَنا أَخْطَأُ وأَنا خاطِئٌ، قال المُنْذِري: سمعتُ أَبا الهَيْثَم يقول: خَطِئْتُ لما صَنَعه عَمْداً وهو الذَّنْب، وأَخْطَاتُ لما صَنعه خَطَأً غير عمد، قال: والخَطَأُ مهموز مقصور اسم من أَخْطَاتُ خَطَأً وإِخْطاءً، قال وخَطِئتُ خِطْأً بكسر الخاء مقصور إِذا أَثِمْت وأَنشد: عِبادُك يَخْطَؤنَ وأَنتَ رَبٌّ ... كَرِيمٌ لا تَلِيقُ بِكَ الذُّمُومُ " (1).
ثانياً: تعريف الوهم لغةً.
وهو ما التبس من الأمر فذهل عنه الذهن، فأخطأ فيه المرء وجه الصواب، والخطأ السهو كذلك، وفي حديث عبدالله بن مسعود موقوفاً عند النسائي: ((مَنْ أَوْهَمَ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ وَهُوَ جَالِسٌ)) (2).
وقال ابن منظور في لسان العرب: " (وهم) الوَهْمُ من خَطَراتِ القلب والجمع أَوْهامٌ وللقلب وَهْمٌ وتَوَهَّمَ الشيءَ تخيَّله وتمثَّلَه كان في الوجود أَو لم يكن، وقال تَوهَّمْتُ الشيءَ وتفَرَّسْتُه وتَوسَّمْتُه وتَبَيَّنْتُه بمعنى واحد قال زهير في معنى التوَهُّم:
فَلاياً عَرَفْتُ الدار بعدَ تَوهُّمِ.
ويقال تَوَهَّمْت فيَّ كذا وكذا، وأَوْهَمْت الشيء إذا أَغفَلْته، ويقال وَهِمْتُ في كذا وكذا أي غلِطْتُ، وأَوْهَمْتُ الشيءَ تركتُه كلَّه أُوهِمُ ... ، قال الأَصمعي: أَوْهَمَ إذا أَسقَط وَوَهِمَ إذا غَلِط ... ، الأَصلُ أَوْهَمُ بالفتح والواوِ فكُسِرت الهمزةُ لأَنَّ قوماً من العرب يكسِرون مُسْتقبَل فَعِل، فيقولون: اعْلَمُ وتَعْلَم فلمَّا كسر همزة أوْهَمُ انقلبت الواوُ ياءً ووَهَمَ إليه يَهِمُ وَهْماً ذَهب وهْمُه إليه ووَهَمَ في الصلاة وَهْماً ووهِمَ كلاهما سَهَا ووَهِمْتُ في الصلاة سَهَوْتُ " (3).
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج1/ص65)، مادة (خطأ) بتصريف يسير.
(2) أخرجه النَّسائي: في السنن، كتاب السهو، بَابُ التَّحَرِّي، (ج3/ص 34)، برقم (1244).
(3) ابن منظور: لسان العرب (ج12/ص643)، مادة (وهم)، بتصريف يسير.
(1/248)
ونرى من تعريف الخطأ وتعريف الوهم التقارب بين اللفظين، أو الترادف بينهما وقد استعملهما النُّقاد المحدثين بمعنى واحد، فقد جمع الخطيب البغدادي بينهما فقال: " باب ترك الاحتجاج بمن كثر غلطه وكان الوهم غالبا على روايته " (1).
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة إسحاق بن الصباح الكندي: " ضعفه يحيى والدارقطني وغيرهما، وقال ابن حبان: كان كثير الوهم فاحش الخطأ " (2).
المطلب الثاني: ألفاظ الخطأ والوهم عند الدارقطني في العلل.
أولاً: لفظتا " الخطأ والوهم مجتمعة ":
وقد ذكر الإمام الدارقطني هذين اللفظين في حديثٍ واحدٍ لما سُئل عن حديث نهار العبدي، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ؟!، فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُكَ وَفَرِقْتُ مِنَ النَّاسِ)) (3).
فقال- الدارقطني -: " يرويه عنه أبو طوالة، عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر بن حزم حدث به عنه سليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، وهشام بن سعد، وإسماعيل بن عياش وأبو عمير الحارث بن عمير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، واختلف عنه: فرواه عبد الوهاب الثقفي، وابن عيينة (عنه)، عن أبي طوالة، عن نهار عن أبي سعيد.
وحدث به الباغندي (4)، عن عبدالله بن محمد الزهري، عن ابن عيينة، عن يحيى بن
_________
(1) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، (ص143).
(2) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج12/ص643).
(3) أخرجه على الوجه الصحيح ابن ماجه: في السنن، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: {يَأيُّهَا الْذِّينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، (ج2/ص 1332)، رقم (4017).
(4) هو أبو ذر أحمد بن أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان بن الباغندي (ت: 326هـ)، ثقة حافظ. قاله الذهبي: في سير أعلام النبلاء (15/ 269 - 268).
(1/249)
سعيد، فقال: عن أبي طوالة، عن أبيه، عن أبي سعيد، ووهم في قوله، والصواب حديث نهار العبدي. وأحسب أنَّ الوهم من الباغندي لا ممن فوقه؛ لأنَّ شيخ الباغندي من الثقات قليل الخطأ " (1).
ثانياً: لفظة " الخطأ ":
وقد استعمل هذه اللفظة النُّقاد والإمام الدارقطني بكثرة، نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عروة بن الزبير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -: ((أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري، واختلف عنه: فرواه عبدالأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن حسان بن ثابت وأبي هريرة.
ورواه شعيب بن أبي حمزة وصالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وحسان بن ثابت. ورواه ابن عيينة عن الزهري وحسان.
ورواه إسماعيل بن أمية، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وحده، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي آخره قال ابن شهاب: وقال حسان لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم فصار الزهري، عن أبي هريرة مرسل، وحديث عبدالأعلى (3)، عن
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص317)، سؤال رقم (2307).
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، (ج6/ ص345 - 346)، برقم (3212)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (ج8/ ص283)، برقم (2485)، كلاهما من طريق الزهري عن سعيد يعني ابن المسيب عن أبي هريرة نحواً منه.
(3) وهو عبدالأعلى بن عبدالأعلى بن محمد، وقيل ابن شراحيل، القرشي البصري السامي، أبو محمد، (ت: 189 هـ)، ثقة من الطبقة الثامنة الوسطى من أتباع التابعين، أخرج له الستة، كما في تقريب التهذيب (ج1/ص551).
(1/250)
معمر خطأ، وهو محفوظ، عن الزهري، عن سعيد، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة " (1).
قلتُ: والعلة المشار إليها هي خطأ عبدالأعلى، وهو أبو همام ابن عبدالأعلى البصري في إسناد الحديث، حيث أدخل في الإسناد عروة بين الزهري، وحسان بن ثابت، وأبي هريرة رضي الله عنهما، والمحفوظ الصحيح خلاف ذلك، فهو عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كما رواه الشيخان تماماً، فظهر أنَّ دلالة لفظة: " خطأ " عند الدارقطني يقصد بها ما هو خلاف الصواب، أي أنَّ لها نفس المعني اللغوي عند أهل اللغة كما أوضحنا من قبل في هذا البحث.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسُئل - الدارقطني - عن حديث عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري عنه واختلف عنه: فرواه يونس، وإسحاق بن راشد وصفوان بن سليم، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن أبي سعيد.
ورواه الأوزاعي، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، وعطاء بن يزيد، عن أبي سعيد.
قال ذلك الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي، وقال عمر بن عبدالواحد: عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد مرسلاً. والصحيح حديث عبيدالله بن عبدالله.
وقال معمر: عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري، وقال ابن عيينة: عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن أبي سعيد، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقيل لسفيان: إنَّ معمراً يقوله عن عطاء بن يزيد، فقال: أخطأ معمر، قال ذلك الحميدي عن ابن عيينة " (3).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص111 - 113)، سؤال رقم (2155).
(2) أخرجه البخاري على الوجه الصحيح في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الأشربة، باب اختناث الأسقية (ج10/ ص102)، برقم (5625)، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: " اِخْتِنَاث: وَهُوَ الانْطِوَاء وَالتَّكَسُّر وَالانْثِنَاء ". أي كسرها، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، (ج7/ ص209)، برقم (2023).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص283 - 285)، سؤال رقم (2286).
(1/251)
وقد استعمل النُّقاد غير الدارقطني لفظة الخطأ بكثرة في مصنفات العلل؛ للدلالة على نفس المعنى الذي قصده الدارقطني وسوف نضرب بعض الأمثلة لبعض النُّقاد المحدثين في مصنفاتهم العلل لإثبات ذلك:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " سأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ مِحْجَلٍ أَوْ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ الصَّعِيدَ كَافِيكَ وَلَوْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سَنِينَ، فَإِذَا أَصَبْتَ الْمَاءَ فَأَصِبْهُ بَشَرَتَكَ)) (1).
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هَذَا خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ قَبِيصَةُ، إِنَّمَا هُوَ أَبُو قِلابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " (2).
وقد وافق أبو زُرْعَةَ الرَّازي الإمام الدارقطني في حكمه على هذا الحديث، فقال لما سُئِلَ عن حديث عمرو بن بُجْدَانَ، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التَّيَمُّمُ طُهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَو إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ، وَأَمَرَهُ بَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ الْجَنَابَةِ)) (3).
فقال - الدارقطني -: "يرويه أبو قلابة، عن عمرو بن بُجْدَانَ واختلف عنه:
فرواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بُجْدَانَ، عن أبي ذر، ولم يختلف أصحاب خالد عنه. ورواه أبو أيوب السختياني، عن أبي قلابة.
واختلف عنه فرواه: مخلد بن يزيد، عن الثوري، عن أيوب وخالد، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بُجْدَانَ، عن أبي ذر، وأحسبه حمل حديث أيوب على حديث خالد؛ لأنَّ أيوب يرويه
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد: في المسند، (ج5/ص146)، برقم (21342)، من طريق أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر حديث طويل في آخره: " ((إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورٌ مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّ بَشَرَتَكَ)) "، بإسناد ضعيف، لوجود رجل مبهم.
(2) ابن أبي حاتم: كتاب العلل، (ص185)، مسألة رقم (1).
(3) سبق تخريجه فيما سبق، في هامش الصفحة السابقة رقم (2).
(1/252)
عن أبي قلابة عن رجل لم يسمه عن أبي ذر.
ورواه عبدالرزاق، عن الثوري عنهما فضبطه وبين قول كل واحد منهما من صاحبه وأتى بالصواب، وتابعه على ذلك إبراهيم بن خالد، عن الثوري، عن أيوب وخالد وبين قول كل واحد على الصواب، ورواه أبو أحمد الزبيري، وعبدالغفار بن الحسن جميعاً عن الثوري، عن أيوب، عن أبي قلابة عن أبي ذر مرسلاً " (1).
المثال الثاني: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: سئل أبي عن حديث الفريابي، عن إسرائيل، عن زيد بن جبير الجشمي قال: حدثني عروة بن جميل، عن أبيه.
قال أبي: هو خطأ إنما هو جروة بن جميل، وقال وكيع قال: إسرائيل جروة بن جميل قال وكيع: وقال شريك: جروة بن جميل وهو الصحيح (2).
المثال الثالث: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " حدثني أبي قال: حدثنا وكيع عن سلمة، عن الضحاك، قال: المكاء التصفيق، والتصدية الصفير.
حدثنا أبي قال: حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا سلمة بن نبيط، عن أبيه، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المكاء الصفير. قال أبي أخطأ وكيع وأصاب أبو نعيم " (3)
قلتُ: والعلة المشار إليها هي خطأ وكيع، وهو ابن الجراح بن مليح الكوفي في تفسير قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}، فقال: المكاء التصفيق، وخالفه أبو نعيم وهو الفضل بن دُكَين أحد الحفاظ الأعلام (4)، فقال:
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ ص252 - 254)، سؤال رقم (1113).
(2) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال رواية عبدالله بن أحمد، طبعة المكتب الإسلامي، الرياض سنة 1408هـ، تحقيق: وصي الله عباس، (ج3/ ص57)، سؤال رقم (4155).
(3) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج2/ ص77 - 78)، رقم (1602، 1603).
(4) ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب، (ج2/ص11)، الآية في سورة الأنفال رقم (35).
(1/253)
المكاء الصفير. فظهر مقصود النُّقاد والدارقطني من لفظة الخطأ كما أوضحنا.
ثالثاً: لفظة " الوهم ":
وقد استعمل النُّقاد والإمام الدارقطني هذه اللفظة، كثيراً في مصنفاتهم العلل نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث ربعي عن علي - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: حدث به عبدالرحمن بن أبي حماد المقري، واسم أبي حماد شكيل وهو من كبار أصحاب حمزة، وأبي بكر بن عياش في القراءة، عن شريك عن منصور، ووهم فيه، والصواب عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود الأنصاري.
وقال: إبراهيم بن سعد، عن الثوري عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة.
ووهم أيضا وقال: أبو مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، وحديث أبي مسعود هو الصواب " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: الوهم الذي وقع فيه كُلٌّ من عبدالرحمن ابن أبي حماد المقري، وإبراهيم بن سعد، وهو ابن أبي وقاص، الزهري القرشي (3)، فأما الأول فأدخل في الإسناد شريك، وهو ابن عبدالله بن أبي شريك الكوفي، وأما الثاني فعجل الحديث
_________
(1) أخرجه البخاري على الوجه الصحيح في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الأدب، باب إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، (ج10/ ص589)، برقم (6129).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص ج3/ص198)، سؤال رقم (358).
(3) وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني، (ت: بعد المائة هـ)، ثقة، من الطبقة الثالثة، الوسطى من التابعين، أخرج له الشيخان، والنَّسائي، وابن ماجه، تقريب التهذيب (ج1/ص56).
(1/254)
من مسند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وإنَّما هو من مسند أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، ورجّح الدارقطني أنَّ الصواب ما رواه أبو مالك الأشجعي (1) لأنَّه أثبت من الاثنين، فظهر معنى الوهم عند الدارقطني أنَّه الخطأ، وعدم التثبت من الرواية.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي رافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَابَّةً وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، واختلف عنه: فروي عن محمد بن عبدالله الرازي، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن قتادة، عن خلاس عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
وخالفهما علي بن المديني، فرواه عن خالد بن الحارث، عن سعيد عن قتادة، وهو الصواب. ورواه إسماعيل بن سعيد الكسائي، عن روح، عن شعبة، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي هريرة، لم أر فيه أبا رافع. وهو وهم في موضعين في تركه أبا رافع وفي قوله: شعبة وإنَّما رواه روح، عن سعيد. وكذلك رواه يزيد بن زريع، وعمرو بن محمد بن أبي رزين، وإسحاق الأزرق، وعباد بن وهيب، عن سعيد، وهو الصحيح " (3)
_________
(1) وهو سعد بن طارق بن أشيم، أبو مالك الأشجعى الكوفى، (ت: 140 هـ تقريبا)، ثقة، من الطبقة الرابعة، الطبقة التي تلي الوسطي من التابعين، أخرج له الجماعة إلا البخاري تعليقاً، تقريب التهذيب (ج1/ص 344).
(2) أخرجه أبو داود على الوجه الصحيح: في السنن، كتاب الأقضية، باب الرجلين يَدَّعِيَانِ شيئاً وليست لهما بَيِّنَةٌ (ج2/ص 335)، برقم (3618)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الأحكام باب الرجلان يَدَّعِيَانِ (ج2/ص 780)، برقم (2329)، كلاهما من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة نحواً منه.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ح11/ص206 - 207)، سؤال رقم (2225).
(1/255)
وقد استعمل النُّقاد غير الدارقطني لفظة الوهم بكثرة في مصنفاتهم العلل، للدلالة على نفس المعنى الذي قصده الدارقطني وسوف نضرب بعض الأمثلة من مصنفات النُّقاد المحدثين في مصنفاتهم العلل لإثبات ذلك:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثٍ، رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَسْتَكْ)) " (1)
فَقَالا - يعني أَبَا حَاتِمٍ وَأَبَا زُرْعَةَ -: هَذَا وَهْمٌ، إِنَّمَا هُوَ الأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفٌ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ... ، قُلْتُ لَهُمَا: فَالْوَهْمُ مِمَّنْ هُوَ؟ قَالا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا.
قُلْتُ - ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -: يَعْنِيَانِ إِمَّا مِنْ عُثْمَانَ، وَإِمَّا مِنْ شَرِيك " (2).
المثال الثاني: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " سألت أبي عن حديث عمَّار بن محمد بن أخت سفيان، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء - رضي الله عنه - في قوله عز وجل: {انظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (3)، قال نضجه حين ينضج.
قال أبي: ليس هذا من حديث أبي إسحاق، هذا يأكل! كأنَّه أنكره من حديث عمَّار أنَّه وهم، والحديث حدثنا به إبراهيم الهروي (4).
المثال الثالث: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: سألت أبي عن حديث حدثناه الفضل بن زياد، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة على الوجه الصحيح موقوفاً: في المصنف، (ج1/ص 196) برقم (18)، من طريق أبو معاوية، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي به.
(2) ابن أبي حاتم: كتاب العلل، (ص208 - 209)، مسألة رقم (32).
(3) سورة الأنعام، آية رقم (99).
(4) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج3/ ص387)، رقم (5704، 5705).
(1/256)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاً يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ)) (1)
فقال أبي: هذا باطل أنكره على إسماعيل بن عياش، يعني أنَّه وهم من إسماعيل بن عياش (2).
قلتُ: ووجه العلة التي ذكرها الإمام أحمد أنَّ إسماعيل بن عياش قد وهم في هذا الحديث أي أنَّه أخطأ فيه، وذلك بسبب أنَّ إسماعيل بن عياش ضعيف في غير الشاميين، وموسى ابن عقبة مدني، وبقية الإسناد: "نافع عن ابن عمر" مدني كذلك.
المبحث الثاني: ألفاظ المخالفة والنَّكارة ومدلولهما عند المحدثين والإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف المخالفة لغة.
المخالفة، والخلاف، والاختلاف في اللغة بمعنى واحد وهو المُضادّةُ، ويُخالِفُ كثيرُ الخِلافِ، ومنه قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (3)، ومنه العصيان ومخالفة الأمر، قال ابن منظور في لسان العرب: " وخالفه إلى الشيء عَصاه إليه أَو قصَده بعدما نهاه عنه وهو من ذلك، وفي التنزيل العزيز: {ومَا أُريدُ أَن أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (4)، قال الأَصمعي: خَلَفَ فلان بعَقِبي وذلك إذا ما فارَقَه على أَمْر ثم جاء من ورائه فجعَل شيئاً آخر بعد فِراقِه.
_________
(1) أخرجه الترمذي على الوجه المعلول: في السنن، كتاب الطهارة، باب الجنب والحائض أنهما لا يقرأن القرآن، (ج1/ص 236) برقم (131)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، (ج1/ص 196) برقم (596) كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، وقال الترمذي " حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش ". قلت: وهو حديث ضعيف معلول؛ لأنَّ إسماعيل بن عياش كما ذكرنا ضعيف في غير الشاميين، والإسناد هنا مدني.
(2) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج3/ص381)، رقم (5675).
(3) سورة يونس، آية رقم (19).
(4) سورة هود، آية رقم (88).
(1/257)
وقال الكسائي: هما خِلْفَتانِ وحكي لها ولَدانِ خِلْفانِ وخِلْفتانِ وله عَبدان خِلْفان إذا كان أَحدهما طويلاً والآخر قصيراً، أَو كان أَحدهما أَبيضَ والآخر أَسود، وله أَمتان خِلْفان والجمع من كل ذلك أَخْلافٌ وخِلْفةٌ " (1).
المطلب الثاني: مفهوم المخالفة عند المحدثين والإمام الدارقطني.
ومفهوم المخالفة من أهم مفاهيم النقد عند المحدثين، وقد استعمله النُّقاد بكثرة مما يدل على أهمية اللفظ عندهم، وسوف نحاول في هذا المطلب تقريب هذا المفهوم؛ كي يسهل على الباحثين إدراك وفهم المسائل في مصنفات العلل.
والمخالفة عند المحدثين هي التغير الذي يطرأ على الإسناد أو المتن من قبل رواة الحديث، ولها أنواع كثيرة حصرها المحققون من الأئمة، وكل نوع من المخالفة يطرأ على الإسناد أو المتن يختلف به الحكم على الحديث تبعاً لنوع المخالفة التي في الإسناد أو المتن.
وتنشأ المخالفة عندما يروي راوٍ حديثاً عن شيخه، ثم يرويه راوٍ غيره فيخالفه في الإسناد أو يخالفه في المتن عن شيخه كذلك، فإن كان الراوي الأول أحفظ وأتقن من الثاني لم تضره المخالفة، إن كان ممن لم يبلغ في الحفظ والإتقان هذه المكانة، وكانت المخالفة مما يؤثر في الرواية، ترجح لدى النُّقاد جانب الراوي المخالف، وتصبح المخالفة قادحة في روايته ويحكم عليها بأنها مُعلَّة بهذه المخالفة.
ولقد أجمل الحافظ ابن حجر العسقلاني في "نخبة الفكر" أنواع المخالفة وبين مفهوم كل نوع فقال: " ثم المخالفة إن كانت بتغيير السياق: فمدرج الإسناد، أو بدمج موقوف بمرفوع: فمدرج المتن، أو بتقديم أو تأخير: فالمقلوب، أو بزيادة راو: فالمزيد في متصل الأسانيد.
أو بإبداله ولا مرجح: فالمضطرب - وقد يقع الإبدال عمدا امتحاناً -، أو بتغيير مع بقاء السياق: فالمصحف والمحرف، ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج9/ص83)، مادة (خلف).
(1/258)
بما يحيل المعاني " (1).
ثم قام بشرح هذه الأنواع شرحاً وافياً في " نزهة النظر " غاية في الدقة والبيان فأحببت أن أثبتها هنا لما لها من فائدة عظيمة، فقال: " ثمَّ المُخالفَةُ إِنْ كانتْ واقعةً بسببِ تَغْييرِ السِّياقِ أي: سياقِ الإسنادِ فالواقعُ فيهِ ذلك التَّغييرُ هو مُدْرَجُ الإِسْنادِ، وهو أَقسامٌ:
الأوَّلُ: أَنْ يَرْوِيَ جماعةٌ الحديثَ بأَسانيدَ مُختلفةٍ، فيرويهِ عنهُم راوٍ، فيَجْمَعُ الكُلَّ على إِسنادٍ واحِدٍ مِن تلكَ الأسانيدِ، ولا يُبَيِّنُ الاختلافَ.
والثَّاني: أَنْ يكونَ المتنُ عندَ راوٍ إِلاَّ طَرفاً منهُ، فإِنَّه عندَه بإِسنادٍ آخَرَ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بالإِسنادِ الأوَّلِ.
ومنهُ أَنْ يسمَعَ الحديثَ مِن شيخِهِ إِلاَّ طرفاً منهُ فيسمَعَهُ عَن شيخِهِ بواسطةٍ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بحَذْفِ الواسِطةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ عندَ الرَّاوي متْنانِ مُخْتَلِفان بإِسنادينِ مختلفينِ، فيرويهِما راوٍ عنهُ مُقتَصِراً على أَحدِ الإِسنادينِ، أَو يروي أَحَدَ الحَديثينِ بإِسنادِهِ الخاصِّ بهِ، لكنْ يزيدُ فيهِ مِن المَتْنِ الآخَرِ ما ليسَ في المَتْنِ الأوَّلِ.
الرَّابعُ: أَنْ يسوقَ الرَّاوي الإِسنادَ، فيَعْرِضُ لهُ عارِضٌ، فيقولُ له كلاماً مِن قِبَلِ نفسِهِ فيظنُّ بعضُ مَن سَمِعَهُ أَنَّ ذلكَ الكلامَ هُو متنُ ذلكَ الإسنادِ، فيَرويهِ عنهُ كذلك. هذهِ أَقسامُ مُدْرَجِ الإِسنادِ.
وأَمَّا مُدْرَجُ المَتْنِ، فهُو أَنْ يَقَعَ في المتنِ كلامٌ ليسَ منهُ، فتارةً يكونُ في أَوَّلِه، وتارةً يكون في أَثنائِه، وتارةً يكون في آخِرِهِ وهو الأكثرُ؛ لأنَّهُ يقعُ بعطفِ جُملةٍ على جُملةٍ، أو بِدَمْجِ مَوْقوفٍ مِن كلامِ الصَّحابةِ أَو مَنْ بعْدَهُم بِمَرْفوعٍ مِن كلامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن غيرِ فصلٍ، فهذا هُو مُدْرَجُ المَتْنِ. ويُدْرَكُ الإِدراجُ: بوُرودِ روايةٍ مُفَصِّلةٍ للقَدْرِ المُدْرَجِ مِمَّا أُدْرِجَ فيهِ. أَو بالتَّنصيصِ على ذلك مِن
_________
(1) ابن حجر العسقلاني: متن نخبة الفكر (مع نزهة النظر) (ص72).
(1/259)
الرَّاوي، أَو مِن بعضِ الأئمَّةِ المُطَّلعينَ. أو باستحالَةِ كونِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ ذلك.
وقد صنَّفَ الخَطيبُ في المُدْرَجِ كتاباً، ولخَّصْتُهُ وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذكَرَ مرَّتينِ أَو أَكثرَ وللهِ الحمدُ. أَوْ إِنْ كانَتِ المُخالفةُ بِتَقْدِيمٍ أَو تَاخيرٍ؛ أي: في الأسماءِ كَمُرَّةَ بنِ كعبٍ، وكَعبِ بنِ مُرَّةَ؛ لأنَّ اسمَ أَحدِهِما اسمُ أَبي الآخَرِ؛ فهذا هو المَقْلوبُ، وللخطيبِ فيهِ كتابُ يُسمى رافعِ الارْتِيابِ في المقلوب من الأسماء والأنساب.
وقد يَقَعُ القلبُ في المتنِ أَيضاً؛ ويصير كحديثِ أَبي هُريرةَ رضي الله تعالى عنه عندَ مُسلمٍ في السَّبعةِ الَّذينَ يُظِلُّهُم اللهُ تحتَ ظلِّ عَرْشِهِ، ففيهِ: ((رَجلٌ تصدَّقَ بصدَقةٍ أَخْفاها حتَّى لا تَعْلَمَ يمينُهُ ما تُنْفِقُ شِمالُهُ))، فهذا ممَّا انْقَلَبَ على أَحدِ الرُّواةِ، وإِنَّما هو: ... ((حتَّى لا تعْلَمَ شِمالُه ما تُنْفِقُ يمينُهُ))؛ كما في الصَّحيحينِ.
أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بِزيادةِ راوٍ في أَثناءِ الإِسنادِ، ومَن لم يَزِدْها أَتقَنُ ممَّن زادَها، فهذا هُو المَزيدُ في مُتَّصِلِ الأَسانِيدِ. وشرطُهُ أَنْ يقعَ التَّصريحُ بالسَّماعِ في مَوْضِعِ الزِّيادةِ وإِلاَّ فمتى كانَ مُعَنْعَناً - مثلاً - ترجَّحَتِ الزِّيادةُ.
أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بِإِبْدَالِهِ؛ أي: الراوي، ولا مُرَجِّحَ لإِحدى الرِّوايتينِ على الأخرى فهذا هو المُضْطَرِبُ، وهو يقعُ في الإِسنادِ غالباً، وقد يقعُ في المتْن.
لكنْ قلَّ أَنْ يَحْكُمَ المحدِّثُ على الحديثِ بالاضطرابِ بالنِّسبةِ إلى الاختلافِ في المَتْنِ دونَ الإِسنادِ.
وقد يَقَعُ الإِبدالُ عَمْداً لمَن يُرادُ اخْتِبارُ حِفْظِهِ امتحاناً مِن فاعِلِهِ كما وقعَ للبُخاريِّ والعُقَيْليِّ وغيرِهِما، وشَرْطهُ أَنْ لا يُستمرَّ عليهِ، بل ينتهي بانْتهاءِ الحاجةِ.
فلو وَقَعَ الإِبدالُ عمداً لا لمصلحةٍ بل للإِغرابِ مثلاً فهو مِن أَقسامِ الموضوعِ، ولو وقعَ غَلَطاً فهُو مِن المقلوبِ أو المُعَلَّلِ.
أَوْ إِنْ كانتِ المُخالفةُ بتَغْييرِ حرفٍ أَو حُروفٍ مَعَ بَقاءِ صورةِ الخَطِّ في السِّياقِ. فإِنْ كانَ ذلك بالنِّسبةِ إِلى النَّقْطِ فالمُصَحَّفُ. وَإِنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ فالمُحَرَّفُ، ومعرفةُ هذا النَّوعِ
(1/260)
مُهمَّةٌ. وقد صنَّف فيهِ: العَسْكَريُّ، والدَّارَقُطنِيُّ، وغيرُهما. وأَكثرُ ما يقعُ في المُتونِ، وقد يقعُ في الأسماءِ الَّتي في الأسانيدِ.
ولا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْييرِ صورَةِ المَتْنِ مُطلقاً، ولا الاختصارُ منه بالنَّقْصِ ولا إِبْدالُ اللَّفْظِ المُرادِفِ باللَّفْظِ والمُرادِفِ لهُ إِلاَّ لِعالمٍ بمَدْلولاتِ الألْفاظِ وبِما يُحيلُ المَعاني " (1).
المطلب الثالث: ألفاظ المخالفة التي استعملها الإمام الدارقطني لبيان العلل.
سنحاول في هذا المطلب بيان بعض الألفاظ التي كان يطلقها الدارقطني لتحديد أنواع المخالفة التي قد تطرأ على الإسناد أو المتن، وبالتالي الحكم على الحديث بالعلة التي رجحت أنَّه معلول بسبب هذه المخالفة.
أولاً: لفظة " خالفه الثقات الحفاظ في إسناده ":
المثال: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي الأسود الديلي عن عمر - رضي الله عنه -، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا رجُلٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِيرَانِه بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ)) (2).
فقال - الدارقطني -: هو حديث رواه عبدالله بن بريدة واختلف عنه: فرواه داود بن أبي الفرات وهو ثقة، عن ابن بريدة، واختلف عن داود، فقال: يعقوب الحضرمي عنه عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، ووهم في ذكر يحيى بن يعمر في إسناده لكثرة من خالفه من الثقات الحفاظ، عن داود منهم عفان بن مسلم، وعبدالصمد بن عبدالوارث، وزيد بن الحباب، ويونس بن محمد المؤدب، وأبو عبدالرحمن المقري، وأبو الوليد الطيالسي، وشيبان بن فروخ وغيرهم، فإنَّهم رووه عن داود عن ابن بريدة، عن أبي الأسود لم يذكروا بينهما أحدا. وكذلك رواه سعيد بن رزين، عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود، كرواية
_________
(1) ابن حجر العسقلاني: نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَر في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر، طبعة المكتبة العصرية، بيروت 1421هـ، تحقيق عبدالكريم الفضيلي (ص72 - 75).
(2) سبق تخريجه في صفحة (93) من الدراسة.
(1/261)
الجماعة عن داود، ورواه عمر ابن الوليد الشني، عن عبدالله بن بريدة مرسلاً، عن عمر لم يذكر بينهما أحدا " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي المخالفة التي من نوع: " مدرج الإسناد "، وهو النوع الأول الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تعريف المخالفة.
ثانياً: لفظة " خالفه فأدرج في متن الحديث ":
مثاله: قد ذكره الدارقطني في حديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " ((مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصَاً لَهُ مِنْ عَبْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثَمَنٍ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ))، فقال: " وأما الخلاف في متنه: فإنَّ سعيد بن أبي عروبة، وحجاج بن حجاج، وأبان العطار، وجرير بن حازم، وحجاج بن أرطاة اتفقوا في متنه وجعلوا الاستسعاء مدرجاً في حديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلم، وأما شعبة وهشام فلم يذكرا فيه الاستسعاء بوجه.
وأما همام فتابع شعبة وهشاما على متنه، وجعل الاستسعاء من قول قتادة، وفصل بين كلام النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويشبه أن يكون همام قد حفظه قال ذلك أبو عبدالرحمن المقرئ، وهو من الثقات عن همام. ورواه محمد بن كثير، وعمرو بن عاصم، عن همام فتابعه شعبة على إسناده ومتنه، ولم يذكر فيه الاستسعاء بوجه. " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هنا هي المخالفة التي من نوع: " مدرج المتن " وهو النوع الثاني الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تعريف المخالفة.
ثالثاً: لفظة " اختلف عنه: ووهم في ذلك إنَّما أراد كذا، بدل كذا ":
ومثاله: قد ذكره الدارقطني في حديث أبي سلمة وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث ابن هشام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص247 - 248)، سؤال رقم (247).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ ص313 - 317)، سؤال رقم (2031).
(1/262)
يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُولُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا. الحديث، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: " يرويه الزهري واختلف عنه: فرواه محمد بن أبي عتيق، وشعيب، وعبيدالله بن أبي زياد، وإسحاق بن راشد، والنعمان بن راشد، والموقري، عن الزهري، عن أبي بكر، وأبي سلمة، عن أبي هريرة ...
ورواه مالك في الموطأ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال محمد بن مصعب القرقساني (2)، عن مالك، عن الزهري، عن أبى سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِذَا افْتَتَحَ الْصَلاةَ))، ووهم في هذا القول وإنَّما أراد أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلم كان يكبر" (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي المخالفة التي من نوع: " المقلوب "، وهو النوع الثالث الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تعريف المخالفة، أي أنَّه انقلب على الراوي اللفظ فقال: " كَانَ يَرْفَعُ يَدَهُ "، بدلاً من " كَانَ يُكَبِّرُ "، ويسمى هذا مقلوب المتن، وأما التقديم أو التأخير في السند يسمى مقلوب الإسناد، والله أعلم.
رابعاً: لفظة " خالفه فزاد زيادة الثقة ":
المثال: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي الصديق الناجي عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما قَالَ: ((رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الذَّيْلِ شِبْرًا ثُمَّ
_________
(1) سبق تخريجه في صفحة (194) من الدراسة.
(2) هو محمد بن مصعب بن صدقة القرقسانى، أبو عبد الله (ت: 208 هـ)، صدوق من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، أخرج له الترمذي وابن ماجه، تهذيب التهذيب (ج9/ص 405).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص257 - 259)، سؤال رقم (1745)، وقد سبق التعليق على السؤال وتخريج الحديث في صفحة (185 - 186) من الدراسة.
(1/263)
اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا ...)) (1). الحديث
فقال - الدارقطني -: هو الحديث رواه مسعود بن سعد الجعفي، عن مطرف، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر، عن عمر.
وتابعه سابق الرقي، عن مطرف، وخالفهما شريك القاضي فرواه، عن مطرف وأسنده عن ابن عمر، ولم يذكر عمر وتابعه سفيان الثوري فرواه، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. ولم يذكر فيه عمر، وكذلك روي عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن ابن عمر، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
ومطرف من الاثبات، وقد اتفق عنه رجلان ثقتان فأسنده عن عمر، ولولا أنَّ الثوري خالفه فرواه عن زيد العمي، فلم يذكر فيه عمر، لكان القول قول من أسند عن عمر؛ لأنَّه زاد وزيادة الثقة مقبولة، والله أعلم " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي المخالفة التي من نوع: " المزيد في متصل الأسانيد "، وهو النوع الرابع الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تعريف المخالفة.
وقد استعمل النُّقاد المحدِّثون غير الدارقطني لفظة المخالفة في مصنفات العلل؛ للدلالة على نفس المعنى الذي قصده الدارقطني، إلا أنَّ الدارقطني كان يستعملها أكثر، وسوف نضرب بعض الأمثلة لبعض النُّقاد المحدثين في مصنفاتهم العلل لإثبات ذلك:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ حَاتِمُ ابْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ
_________
(1) أخرجه أبو داود: في السنن، كتاب اللباس، باب في قدر الذيل، (ج 2/ص 463) برقم (4119)، من طريق سفيان أخبرني زَيْدٌ الْعَمِّيُّ عن أبي الصديق الناجي عن ابن عمر رضى الله عنه بمثله، بإسناد ضعيف لضعف زَيْدَ الْعَمِّيُّ، كما في تهذيب التهذيب (ج3/ص 352).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص75)، سؤال رقم (120).
(1/264)
فَلْيُعِدْ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وَانْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا)). قَالَ أَبِي: الْكَلامُ الأَوَّلُ تَابَعَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَقِصَّةُ ذَبْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْكَبْشَيْنِ الأَمْلَحَيْنِ، فَإِنَّ عَبْدَالْوَهَّابِ الثَّقَفَيَّ خَالَفَهُ، فَقَالَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَأَيُّهُمَا أَشْبَهُ؟
قَالَ: حَدِيثُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1).
المثال الثاني: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: "وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثٍ: اخْتُلِفَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ فِيهِ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ ابْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَحُجْرَتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ)).
وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ)).
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: حَدِيثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ أَصَحُّ عِنْدِي " (2).
المثال الثالث: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبدالحميد بن جعفر، قال حدثني: يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس عن معاوية بن حديج، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قال: رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
((إنَّه لَيسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِي إِلاَ يُؤْذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْرٍ، يَدْعُو بَدَعْوتَينِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَوَّلَتَني مَنْ خَوَّلَتَني مِنْ بَنِي آدَمَ فَاجْعَلْنِي مِنْ أَحَبِ أَهْلِهِ إِلَيهِ أَوْ أَحْبِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيهِ)).
سمعت أبي يقول: خالفه عمرو بن الحارث فقال: عن يزيد، عن عبدالرحمن بن شماسة، قال أبي وقال الليث، عن بن شماسة أيضاً " (3).
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص1125 - 1126)، سؤال رقم (1602).
(2) المصدر السابق: (ص1753)، سؤال رقم (2694).
(3) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج3/ص404)، مسألة رقم (5777).
(1/265)
المطلب الرابع: تعريف النَّكارة لغة.
والنَّكارة من النكرة وهي ضد المعرفة، أو أمرٌ خلاف ما هو معروف من الصحة في الشيء، قال تعالى: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}] سورة يوسف آية (58) [، أو ما كان مستقبحاً من الشرع، أو قبح بين الناس، كما في قوله تعالى: {وَلَتكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}] سورة آل عمرآن آية (104) [، فدل على أنَّ المنكر في لغة العرب الشيء المجهول الذي لا يعرف، وكذلك الشيء المستقبح شرعاً أو عرفاً، وقد ذكر أهل اللغة هذه المعاني.
فقال ابن منظور في لسان العرب: " والنَّكِرَةُ إِنكارك الشيء وهو نقيض المعرفة والنَّكِرَةُ خلاف المعرفة، ونَكِرَ الأَمرَ نَكِيراً وأَنْكَرَه إِنْكاراً، ونُكْراً جهله، قال ابن سيده والصحيح أَنَّ الإِنكار المصدر والنُّكْر الاسم، ويقال أَنْكَرْتُ الشيء، وأَنا أُنْكِرُه إِنكاراً، ونَكِرْتُه مثله قال الأَعشى:
وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادثِ إِلا الشَّيْبَ والصَّلَعا
وفي التنزيل العزيز: {نَكِرَهُمْ وأَوْجَسَ منهم خِيفَةً}] سورة هود آية (70) [، ولا يستعمل نَكِرَ في غابر ولا أَمْرٍ ولا نهي، نَكِرْتُ الرجلَ بالكسر نُكْراً ونُكُوراً وأَنْكَرْتُه واسْتَنْكَرْتُه كله بمعنى ابن سيده واسْتَنْكَرَه وتَناكَرَه كلاهما كنَكِرَه.
والإِنْكارُ الاستفهام عما يُنْكِرُه، وذلك إِذا أَنْكَرْتَ أَن تُثْبِتَ رَايَ السائل على ما ذَكَرَ أَو تُنْكِرَ أَن يكون رايه على خلاف ما ذكر، والاسْتِنْكارُ استفهامك أَمراً تُنْكِرُه، واللازمُ من فعْلِ النُّكْرِ المُنْكَرِ نَكُرَ نَكارَةً والمُنْكَرُ من الأَمر خلاف المعروف، وقد تكرر في الحديث الإِنْكارُ والمُنْكَرُ وهو ضد المعروف، وكلُّ ما قبحه الشرع، وحَرَّمَهُ وكرهه فهو مُنْكَرٌ ونَكِرَه يَنْكرُه نَكَراً فهو مَنْكُورٌ، واسْتَنْكَرَه فهو مُسْتَنْكَرٌ، والجمع مَناكِيرُ عن سيبويه، قال: وإِنَّما أَذكُرُ مثل هذا الجمع لأَن حكم مثله أَن الجمع بالواو والنون في المذكر وبالأَلف والتاء في المؤنث والنُّكْرُ والنَّكْراءُ ممدود المُنْكَرُ وفي التنزيل العزيز: {لَقَدْ جِئْتَ شَيئَاً نُكْراً} " (1).
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج5/ص232)، مادة (نكر).
(1/266)
المطلب الخامس: مفهوم النَّكارة وألفاظها عند المحدثين والإمام الدارقطني.
ومفهوم المنكر في مصطلح المحدثين هو المفهوم نفسه في اللغة، إذ يعني كل خبر غير معروف عند الحفاظ الأثبات، مستنكر ومستقبح لديهم، وهذا قد يكون لعدة أسباب في الخبر مثل: كونه خطأ غير صواب، أو أنَّه وهم، أو كذب مختلق كل ذلك منكر عندهم، ولكن لفظة المنكر من الألفاظ التي أطلقت على أنواع عديدة من العلل منها ما رواه الضعيف، وما أخطأ فيه الثقة، وغير ذلك مثل علة الشذوذ، فهل هذا يصح، ويدخل في معناه أم لا؟.
وللجواب عن ذلك سوف نذكر أقوال أهل الحديث ومناقشة أقوالهم، وبيان الراجح منه. نقول بعون الله: أنّه قد فرَّق قوم بين المنكر والشاذ، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في نزهة النظر: " فإِنْ خُولِفَ أي الراوي بأرْجَحَ منهُ؛ لمزيدِ ضَبْطٍ أَوْ كثرةِ عدَدٍ أَو غيرِ ذلك مِن وُجوهِ التَّرجيحاتِ، فالرَّاجِحُ يقالُ لهُ: المَحْفوظُ. ومُقابِلُهُ - وهو المرجوحُ - يُقالُ لهُ: الشَّاذُّ.
مثالُ ذلك: ما رواهُ التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ، وابنُ ماجَه مِن طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ عن عَمْرو بنِ دينارٍ، عن عَوْسَجة، عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رجُلاً تُوُفِّي في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أَعتقَهُ ... الحديثَ.
وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُريجٍ وغيرُه. وخالفَهُم حمَّادُ بنُ زَيْدٍ، فرواهُ عَنْ عَمْرو ابنِ دينارٍ، عَن عَوْسَجَةَ ولم يَذْكُرِ حديث ابنَ عباسٍ.
قال أبو حاتمٍ: المَحفوظُ حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ. أهـ كلامُه.
حمَّادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك رجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَن هُم أَكثرُ عدداً منهُ. وعُرِفَ مِن هذا التَّقريرِ أَنَّ: الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَوْلَى مِنهُ.
وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريفِ الشاذِّ بحَسَبِ الاصْطِلاحِ.
وَإِنْ وَقَعَتِ المُخالفةُ لهُ معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ يُقالُ لهُ: المَعْروفُ، ومُقابِلُهُ يُقالُ لهُ: المُنْكَرُ. مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ مِن طريقِ حُبَيِّبِ بنِ حَبيبٍ - وهو أَخو حَمزَةَ بنِ حَبيبٍ الزَّيَّاتِ المُقرئِ - عن أَبي إِسحاقَ، عن العَيْزارِ بنِ حُريثٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النَّبي صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ،
(1/267)
قالَ: ((مَن أَقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ وحَجَّ البيتَ وصامَ وقَرَى الضَّيْفَ؛ دَخَلَ الجنَّةَ)).
قالَ أَبو حاتمٍ: وهُو مُنْكَرٌ؛ لأَنَّ غيرَه مِن الثِّقاتِ رواهُ عن أَبي إِسحاقَ مَوقوفاً، وهُو المَعروفُ.
وعُرِفَ بهذا أَنَّ بينَ الشَّاذِّ والمُنْكَرِ عُموماً وخُصوصاً مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ بينَهُما اجْتِماعاً في اشْتِراطِ المُخالفَةِ، وافْتراقاً في أَنَّ الشَّاذَّ راويهِ ثقةٌ أو صدوقٌ، والمُنْكَرَ رَاويهِ ضعيفٌ. وقد غَفَلَ مَن سَوَّى بينَهُما، واللهُ أَعلمُ " (1).
وقال السيوطي في تدريب الراوي: " قد علم مما تقدم بل من تصريح كلام ابن الصلاح أن الشاذ والمنكر بمعنى، وقال شيخ الإسلام: إنَّ الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة، ويفترقان في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق والمنكر راويه ضعيف، قال: وقد غفل من سَوَّى بينهما.
ثم مثل المنكر بما رواه ابن أبي حاتم من طريق حُبَيّبٍ (بضم الحاء المهملة وتشديد التحتية بين موحدتين أولاهما مفتوحة)، ابن حَبِيب (بفتح المهملة بوزن كَرِيم) أخى حمزة الزَّيات عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: ((مَنْ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَحَّجَ، وَصَامَ وَقَرَى الْضَيفَ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
قال أبو حاتم: هو منكر؛ لأنَّ غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفاً. وهو المعروف فحينئذ فالحديث لا مخالفة فيه، وراويه متهم بالكذب بأن لا يروي إلا من جهته وهو مخالف للقواعد المعلومة أو عرف به في غير الحديث النَّبوي " (2).
قلتُ: ونرى أنَّ المنكر عند المتقدمين يطلق على كل ما هو مستنكر من الأخبار سواء كانت من رواية ضعيف، أو من رواية متروك الحديث فيما يرويه من الأحاديث الواهية،
كما أنَّهم أحياناً يطلقون ذلك على المستنكر من الخطأ أو الوهم مما قد يقع فيه الثقات.
_________
(1) ابن حجر العسقلاني: نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَر في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر، (ص51 - 53).
(2) السيوطي: تدريب الراوي (ج1/ص 240).
(1/268)
نماذج من الضعفاء الذين استنكر النُّقاد والإمام الدارقطني رواياتهم:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الْحُجَّاجُ، وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ، إِنْ سَأَلُوا أُعْطُوا، وَإِنْ دَعَوْا أُجِيبُوا وَإِنْ أَنْفَقُوا أُخْلِفَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ مَا أَهَلَّ مِنْ مُهِلٍّ، وَلا كَبَّرَ مِنْ مُكَبِّرٍ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ، إِلا أَهَلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَبَّرَ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ مِنْهُمَا الصَّوْتُ))، فَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ " (1).
قلتُ: قد أنكر الإمام أبي حاتم هذا الحديث وهو من رواية مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ (2) وقد ضعفه الأئمة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: " قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: "أحاديثه مناكير"، وقال الدُّوري عن ابن معين: "ضعيف ليس حديثه بشيء"، وقال الجوزجاني: "واهي الحديث ضعيف"، وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال النَّسائي:
"ليس بثقة"، وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث" (3)، ولذا أُطلق عليه حديث منكر.
المثال الثاني: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " سمعت أبي يقول حدثنا بحديث الشُّفعة حديث عبدالملك عن عطاء عن جابر عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. وقال هذا حديث منكر " (4).
قلتُ: قد أنكر الإمام أحمد بن حنبل هذا الحديث، كما أنكره شعبة بن الحجاج بن الورد، وهو من رواية عبدالملك وهو ابن أبي سليمان العَرْزمي ضعيف، وقد ترجمنا له من قبل (5)،
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص716)، سؤال رقم (894).
(2) هو محمد بن أبى حميد إبراهيم الأنصاري الزرقي، أبو إبراهيم المدنى (ت:؟)، ضعيف من كبار أتباع التابعين، أخرج له الترمذي وابن ماجه، تهذيب التهذيب (ج9/ص116).
(3) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج9/ص116).
(4) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج2/ص281)، مسألة رقم (2256).
(5) سبق تخريجه في صفحة (213) من الدراسة.
(1/269)
والحديث خطأ؛ لذا حكم الإمام أحمد بن حنبل عليه بالنَّكارة.
المثال الثالث: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يُؤَذِّنْ لَكُمْ مَنْ يُدْغِمُ الهَا)).
فقال - الدارقطني -: يرويه علي بن جميل، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش كذلك قال: وعلي بن جميل ضعيف، ويقال إنَّ الصحيح من ذلك أنَّه من قول الأعمش، حدثناه عبدالله بن سليمان بن الاشعث، ثنا علي بن جميل الرقي، قال: كنا نمشي مع عيسى بن يونس فجاء رجل ظننت أنَّه كان حايكاً، فأذن فقال: " الا أكبر"، فقال عيسى بن يونس، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا يؤذّن لكم من يدغمُ الها، قلنا فكيف يقول؟ قال يقول أشهد أن لا إله إلا اللا أشهد أنَّ محمدا رسول" اللا "))، قال أبو بكر بن أبي داود: هذا حديث منكر، وإنَّما مر الأعمش برجل يؤذن يدغم الها، فقال: لا يؤذّن لكم من يدغمُ الها " (1).
نماذج من الثقات الذين استنكر النُّقاد والإمام الدارقطني رواياتهم:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو (2)، عَنِ ابْن شِهَابٍ الزُّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: إِذَا رَأَيْتِ الدَّمَ الأَسْوَدَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلاةِ، وَإِذَا كَانَ الأَحْمَرَ فَتَوَضَّئِي)) (3).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص175)، سؤال رقم (1492).
(2) وهو محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي المدني (ت:؟)، ثقة من الطبقة السادسة من الذين عاصروا صغارالتابعين، أخرج له الشيخان وأبو داود والنّسائي، تهذيب التهذيب (ج9/ص 330).
(3) أخرجه أبو داود على الوجه المعلول: في السنن، كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، (ج1 /ص 125) برقم (286)، من طريق محمد بن أبي عدي عن محمد يعني ابن عمرو قال حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش به بتمامه.
(1/270)
فَقَالَ أَبِي: لَمْ يُتَابَعْ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ " (1).
قلتُ: قد أنكر الإمام أبي حاتم هذا الحديث على مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وهو ابن حلحلة الديلي، ثقة قد أخرج له الشيخان، وعلى الرغم من ذلك، فقد وُصِفَت روايته بأنها مُنكرة، أي أنَّه أخطأ في هذه الرواية ولم يُتَابعه أحدٌ عليها فصارت مُنكرة.
المثال الثاني: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي، وَأَبَا زُرْعَةَ، عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ (2)، عَنْ عَثَّامٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((كَانَ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)).
قَالا: هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا رَوَاهُ جَرِيرٌ هَكَذَا
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ مُنْكَرٌ (3).
قلتُ: قد أنكر الإمام أبو زُرْعَةَ هذا الحديث، وهو من رواية يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، ثقة أخرج له البخاري في صحيحه، وعلى الرغم من ذلك فقد وُصِفَت روايته بأنها منكرة، أي إنها غلط فحكم عليها بالضعف والنَّكارة لذلك، والله أعلم.
المثال الثالث: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " حدثني أبي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري قال: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَومَ الفِطْرِ فَيُكَبِّرَ مِنْ حِينِ يَخْرُجَ مِنْ بَيتِهِ حَتَى يَاتِي الْمُصَلَّى، فَإِذَا قَضَى الصَّلاَةَ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، قَالَ: وَأَمَّا الأضْحَى فَكَانَ
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص266)، سؤال رقم (117).
(2) وهو يوسف بن عدي بن زريق بن إسماعيل ويقال ابن الصلت بن بسطام التيمي، ثقة من الطبقة العاشرة الآخذين عن تبع الأتباع، أخرج له البخاري والنَّسائي، تهذيب التهذيب (ج11/ص 367).
(3) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص317)، سؤال رقم (197).
(1/271)
يُكَبِّرَ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ يَوَمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)) (1).
قال أبي هذا حديث منكر، ثم قال: دخل شعبة على ابن أبي ذئب فنهاه أن يحدث به وقال: لا تحدث بهذا وأنكره شعبة " (2).
قلتُ: قد أنكر الإمام أحمد بن حنبل هذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب وهو محمد ابن عبدالرحمن بن المغيرة (3)، وهو ثقة أحد الأعلام، تبعاً لإنكار شعبة عليه هذا الحديث، ونهي ابن أبي ذئب عن أن يحدث به؛ لأنَّه خطأ، وهذا الحديث لم يخرجه أحد من الكتب الستة، فدل ذلك على أنَّ القوم كانوا يطلقون لفظة المنكر على الأحاديث التي أخطأ فيها الثقات كذلك.
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة على الوجه المعلول: في المصنف (ج2/ص71)، من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الزهري به، ولاشك أنَّه ضعيف مقطوع، وذكره الإمام مالك مختصراً في الموطأ (رواية يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ) (ج1/ص 329)، برقم (1204)، فقال: "الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ وَأَوَّلُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ دُبُرَ صَلاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَآخِرُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ دُبُرَ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ ".
(2) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج2/ص 310)، مسألة رقم (2376).
(3) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبى ذئب القرشي العامري، أبو الحارث المدني (ت: 158 هـ)، ثقة فقيه فاضل، من الطبقة السابعة من كبار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج9/ص 270).
(1/272)
نتائج هامة:
- أنَّ أئمة النقد قد يتبين لهم في الحديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنَّه ضعيف وفي الحديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنَّه صحيح.
- استعمل النُّقادُ المحدِّثون غير الدارقطني لفظة المخالفة في مصنفات العلل، للدلالة على نفس المعنى الذي قصده الدارقطني، إلا أنَّ الدارقطني كان أكثر استعمالاً لها.
- أنَّ لفظة المنكر عند النُّقاد المتقدمين من الألفاظ التي أطلقت على أنواع عديدة من العلل منها ما رواه الضعيف، وما أخطأ فيه الثقة، وغير ذلك من علل المخالفة.
- يوجد فرق واضح بين قول النُّقاد والدارقطني في الراوي أنه: " روى المناكير " وبين قولهم " أحاديثه مناكير "، فإنَّ اللفظ الأول لا يعني أنَّ صاحبه ضعيف بل قد يكون ثقة وروى عن الضعفاء، والثاني يعني أنَّ صاحبه قد يكون ضعيفاً.
- أنَّ مفهوم النَّكارة عند المتقدمين يختلف عن المتأخرين، فإنَّهم يعتبرون الحديث المنكر هو الذي رواه الضعيف مخالفاً للثقة، وأمَّا إذا خالف الثقة غيره من الثقات فهو شاذ عندهم، وهذا بخلاف النُّقاد المتقدمين، فإنهم يطلقون النَّكارة على كل ما هو مستنكر من الأخبار سواء كانت من رواية ضعيف، أو متروك الحديث فيما يرويه من الأحاديث الواهية، كما أنَّهم أحياناً يطلقون ذلك على المستنكر من الخطأ أو الوهم مما قد يقع فيه الثقات.
(1/273)


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
الفصل الثالث
الألفاظ الدالة على الغرابة والتفرد والترجيح
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الغرابة والتفرد ومدلولهما عند النُّقاد والإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الغرابة والتفرد لغةً.
المطلب الثاني: لفظا الغرابة والتفرد عند النُّقاد والدارقطني في العلل.
المبحث الثاني: ألفاظ الترجيح ومدلولاتها عند النُّقاد والإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الترجيح لغةً.
المطلب الثاني: ألفاظ الترجيح عند النُّقاد والدارقطني في العلل.
(1/275)
الفصل الثالث
الألفاظ الدالة على الغرابة والتفرد والترجيح
سنتعرض في هذا الفصل للألفاظ التي تدل على: الغرابة والتفرد والترجيح بين الرِّوايات المختلفة، ولقد تنوعت ألفاظ الغرابة والتفرد والترجيح، تبعاً للعلة التي قد تطرأ على الخبر مثل تفرد الراوي بحديث شيخه دون غيره من الأقران، وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي للعلة، ولتوضيح ذلك سوف نضرب بعض الأمثلة التي استعملها النُّقاد والدارقطني لهذه الألفاظ؛ للدَّلالة على الغرابة والتفرد والترجيح.
المبحث الأول: الغرابة والتفرد ومدلولهما عند النُّقاد والإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الغرابة والتفرد لغةً.
أولاً: تعريف الغرابة لغةً.
الغرابة والاغتراب بمعنى البعد، والبعد أصله من الإشارة إلى الجهة البعيدة المغرب، ويقال على الذي سافر فأبعد السفر غريب، وجمعه غُربَاء، وقال ابن منظور في لسان العرب: " غَرْبةٌ نائِيَةٌ وأَغْرَبَ القومُ انْتَوَوْا وشَاوٌ مُغَرِّبٌ ومُغَرَّبٌ بفتح الراءِ بعيد، قال الكميت:
عَهْدَك من أُولَى الشَّبِيبةِ تَطْلُبُ ... على دُبُرٍ هيهاتَ شَاوٌ مُغَرِّب
ويقال اغْرُبْ عني أَي تباعَدْ، ومنه الحديث أَنه أَمَرَ بتَغْريبِ الزاني التغريبُ النفيُ عن البلد الذي وَقَعَتِ الجِنايةُ فيه، يقال أَغرَبْتُه وغَرَّبْتُه إِذا نَحَّيْتَه وأَبْعَدْتَه والتَّغَرُّبُ البُعْدُ. وفي الحديث: ((أَن رَجُلاً قال له إِنَّ امرأَتي لا تَرُدُّ يَدَ لامِس، فقال: غرِّبْها))، أَي أَبْعِدْها يريدُ الطلاق وغَرَّبَت الكلابُ أَمْعَنَتْ في طلب الصيد وغَرَّبه وغَرَّبَ عليه تَرَكه بُعْداً والغُرْبةُ والغُرْب النُّزوحُ عن الوَطَن والاغْتِرابُ قال المُتَلَمِّسُ:
أَلا أَبْلِغا أَفناءَ سَعدِ بن مالكٍ ... رِسالةَ مَن قد صار في الغُرْبِ جانِبُهْ
(1/277)
والاغْتِرابُ والتغرُّب كذلك تقول منه تَغَرَّبَ واغْتَرَبَ، وقد غَرَّبه الدهرُ ورجل غُرُب بضم الغين والراء، وغريبٌ بعيد عن وَطَنِه الجمع غُرَباء والأُنثى غَريبة قال:
إِذا كَوْكَبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرةٍ ... سُهَيْلٌ أَذاعَتْ غَزْلَها في الغَرائبِ
أَي فَرَّقَتْه بينهنّ وذلك أَن أَكثر من يَغْزِل بالأُجرة إِنَّما هي غريبةٌ، وفي الحديث أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: سُئِلَ عن الغُرباء، فقال: الذين يُحْيُونَ ما أَماتَ الناسُ من سُنَّتِي، وفي حديث آخر: ((كَمَا بَدأَ فطوبَى للغُرباءِ))، أَي إِنَّه كان في أَوّلِ أَمْرِه كالغريبِ الوحيدِ الذي لا أَهل له عنده لقلة المسلمين يومئذ وسيعودُ غريباً كما كان أَي يَقِلُّ المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغُرباء فطُوبى للغُرَباء أَي الجنةُ لأُولئك المسلمين الذين كانوا في أَوّل الإِسلام ويكونون في آخره، وإِنَّما خَصَّهم بها لصبْرهم على أَذى الكفار أَوَّلاً وآخِراً ولُزومهم دينَ الإِسلام.
وفي حديث آخر ((أُمَّتِي كالمطر لا يُدْرَى أَوَّلُها خير أَو آخِرُها))، قال: وليس شيءٌ من هذه الأُحاديث مخالفاً للآخر، وإِنَّما أَراد أَن أَهلَ الإِسلام حين بَدأَ كانوا قليلاً وهم في آخر الزمان يَقِلُّون إِلاَّ أَنهم خيارٌ " (1).
ثانياً: تعريف التفرد لغةً.
والتفرد من الفرد وهو الله عز وجل الفرد الصمد، تفرد بالخلق والأمر، قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2)، الفرد الواحد وجمعه أفراد وفرادى، وقال ابن منظور في لسان العرب: " والفرد أَيضاً الذي لا نظير له، والجمع أَفراد يقال شيء فَرْدٌ وفَرَدٌ وفَرِدٌ وفُرُدٌ وفارِدٌ والمُفْرَدُ ثورُ الوَحْشِ، وفي قصيدة كعب: تَرْمِي الغُيوبَ بَعَيْنَي مُفْرَدٍ لَهِقٍ، المفرد ثور الوحش شبَّه به الناقة، وثور فُرُدٌ وفارِدٌ وفَرَدٌ وفَرِدٌ وفَرِيد كله بمعنى مُنْفَرِدٍ وسِدْرَةٌ فارِدَةٌ انفردت عن سائر السِّدْر، وفي الحديث ((لا تُعَدُّ فارِدَتُكُم))، يعني الزائدة على الفريضة أَي لا تضم إِلى غيرها فتعد معها وتُحْسَب، وفي حديث أَبي بكر فمنكم المُزْدَلِفُ
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج1/ص635 - 637)، مادة (غرب).
(2) سورة الأعراف آية رقم (54).
(1/278)
صاحِب العِمامة الفَرْدَة، إِنما قيل له ذلك لأَنه كان إِذا ركب لم يَعْتَمّ معه غيرُه إِجلالاً له، وفي الحديث ((جاءه رجل يشكو رجلاً من الأَنصار شَجَّه فقال: يا خَيْرَ مَنْ يَمْشي بِنَعْلٍ فَرْدِ أَوْهَبَه لِنَهْدَةٍ ونَهْدِ)) " (1).
المطلب الثاني: لفظا الغرابة والتفرد عند النُّقاد والدارقطني في العلل.
ومفهوم الغرابة والتفرد في مصطلح أهل الحديث المتقدمين قريب من المعنى اللغوي إلى حد بعيد، فهم يطلقون الغرابة على الحديث الذي أبعد به الراوي عن بقية الأقران، فلم يشاركهم فيه، فأتى بما لم يسمعوا من شيوخهم، ويرجع قبول النُّقاد للتفرد أو الغرابة تبعاً لطبقة الراوي ومقدار تفرده: فكلما تأخرت طبقة الراوي لا يقبل منه التفرد، فالتفرد في طبقة التابعين أقرب للقبول، وممكن حدوثه كذلك في طبقة أتباع التابعين، وفي هذه الطبقة أقل من التي قبلها، وإمكانية التفرد في طبقة أتباع الأتباع أقل، وأما طبقة غيرهم فلا يكاد يُقبل تفرد أحد فيها عند النُّقاد المتقدمين.
والغريب قد يطلق عندهم على الصحيح، والحسن، والضعيف، والكذب الموضوع، فإنهم كانوا يطلقون الغريب على الأحاديث التي ليست لها أصل أو ليس لها إسناد، أو أنّه غلط، قال الخطيب البَغدَادِي في الكفاية: " عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون غريب الكلام وغريب الحديث " (2)، وقال أيضاً: "قال أحمد بن حنبل: إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب، أو فائدة فاعلم أنَّه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان، فإذا سمعتهم يقولون هذا لا شيء فاعلم أنَّه حديث صحيح " (3).
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج3/ص331)، مادة (فرد).
(2) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية (ص 141).
(3) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية (ص 142).
(1/279)
وقال الإمام أبو داود: " والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه الناس، والفخر بها أنه مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم " (1).
وكما أنَّهم كانوا يطلقون الغريب على الصحيح، كما فعل الإمام الترمذي في كتابه "السنن"، وهو مشهور عنه تقسيم الغريب إلى صحيح وحسن وضعيف، وقال الخليل بن عبدالله بن أحمد الخليلي: " حديث عمرو بن دينار في الرقية روى عنه أقرانه، والكبار من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: ((قُلْتُ يَا رسُول اللهِ إنَّ بَنِي جَعْفَرَ تُصِيبُهُم الْعَينُ فَاسْتَرْقِي لَهُم، فَقَالَ: نَعَم))، وهذا مما يتفرد به عمرو وهو صحيح غريب " (2).
وقال الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح: " قوله وينقسم الغريب أيضاً من وجه آخر فمنه ما هو غريب متناً وإسناداً، ومنه ما هو غريب إسناداً لا متناً، ثم قال: ولا أرى هذا النوع ينعكس، فلا يوجد إذاً ما هو غريب متناً وليس غريباً إسناداً، إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به فرواه عنه عدد كثيرون، فإنَّهُ يصير غريبا مشهوراً، وغريباً متناً، وغير غريب إسناداً، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد فإنَّ إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول متصف بالشهرة في طرفه الآخر كحديث: ((إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ)).
استبعد المصنف وجود حديث غريب متناً لا إسناداً إلا بالنسبة إلى طرفي الإسناد وأثبت أبو الفتح اليعمري هذا القسم مطلقاً من غير حمل له على ما ذكره المصنف فقال في شرح الترمذى: " الغريب على أقسام: غريب سنداً ومتناً، ومتناً لا سنداً، وسنداً لا متناً وغريب بعض السند فقط، وغريب بعض المتن فقط.
_________
(1) سليمان بن الأشعث أبو داود: رسالة أبي داود إلى أهل مكة وغيرهم في وصف سننه، طبعة دار العربية، بيروت، تحقيق: محمد الصباغ، (ص29).
(2) الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي: الإرشاد في معرفة علماء الحديث (ج1/ص 329).
(1/280)
ثم أشار إلى أنه أخذ ذلك من كلام محمد بن طاهر المقدسى فإنَّه قَسَّم الغرايب والأفراد إلى خمسة أنواع خامسها أسانيد ومتون ينفرد بها أهل بلد لا توجد إلا من روايتهم، وسنن يتفرد بالعمل بها أهل مصر لا يعمل بها في غير مصرهم " (1).
فهذه النصوص السالفة الذكر تبين مفهوم الغريب والفرد عند النُّقاد المتقدمين وعلى رأسهم الدارقطني، فإنَّ مفهومه للحديث الغريب لا يختلف عنهم، وسوف نضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح بعض ألفاظ التفرد والغرابة عند النُّقاد والدارقطني:
أولا: لفظة " تفرد به فلان ".
لقد أكثر الدارقطني من هذه اللفظة؛ للدلالة على علة التفرد أو الغرابة، وغالباً ما تكون الإشارة إلى الإسناد دون المتن.
وقد أطلق الدارقطني هذه اللفظة في العلل على ما تفرد به الضعيف والمتروك، كما أطلقها على المستور والصدوق والثقة، وذلك في حوالي مئة وسبعة (107) موضعاً في كتابه العلل، وسوف نضرب بعض الأمثلة منها:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عثمان بن عفان، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَنَّهُ سَأَلَهُ مَا نَجَاةُ هَذَا الأَمْرِ؟)) (2).
فقال - الدارقطني -: وروى هذا الحديث زيد بن أبي أنيسة (3)، بإسناد متصل، عن عثمان فرواه عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن أبان بن عثمان، عن عثمان، عن أبي بكر، تفرد به زيد بن
_________
(1) العراقي: التقييد والإيضاح (ص273).
(2) أخرجه أحمد: في المسند (ج1/ص6)، برقم (20)، من طريق الزهري قال أخبرني رجل من الأنصار من أهل الفقه أنه سمع عثمان بن عفان عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم بتمامه نحواً منه.
(3) زيد بن أبى أنيسة: زيد الجزرى، أبو أسامة الرهاوي الغنوي (كوفى الأصل)، (ت: 119 هـ، وقيل 124 هـ)، من الطبقة السادسة من الذين عاصروا صغار التابعين، ثقة له أفراد، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج3/ص 343).
(1/281)
أبي أنيسة عن ابن عقيل، ولا نعلم حدث به عن زيد بن أبي أنيسة غير أبي عبدالرحيم خالد بن أبي يزيد، وهو إسناد متصل حسن، إلا أنَّ ابن عقيل ليس بالقوي " (1).
قلتُ: قد أعلَّ الإمام الدارقطني هذا الحديث بعلتين التفرد، وضعف عبدالله بن محمد ابن عقيل (2)، أما علة التفرد فهي بسبب أنَّ زيد بن أبي أنيسة كثير التفرد، وهو من الطبقة السادسة، والتي لا يحتمل كثرة التفرد فيها، والله أعلم.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهم - أنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)) (3).
فقال - الدارقطني -: تفرد به همام (4)، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه -، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهو الصواب، وعند أبي سلمة بن عبدالرحمن، فهذه أحاديث منها هذا ومنها ما رواه الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنه - ((أنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ)) ".
ومنها ما يرويه محمد بن عمرو أيضا، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ((أنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نهى عن الدباء والحنتم والنقير، وقال: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ))، وكلها محفوظة عن أبي سلمة ومن أحاديث ابن عباس، عن عمر، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - " (5).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج1/ص174)، سؤال رقم (7).
(2) الذهبي: ميزان الاعتدال (ج2/ص484).
(3) أخرجه أحمد: في المسند (ج2/ص104)، برقم (5820)، من طريق همام حدثنا محمد بن عمرو، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن ابن عمر - رضي الله عنه - حدثه به بتمامه، وهو حديث صحيح.
(4) همام بن يحيى بن دينار العوذي المحلمي، أبو عبدالله (ت: 164 أو 165 هـ)، من الطبقة السابعة من كبار أتباع التابعين، ثقة ربما وهم، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج11/ص 60).
(5) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص77)، سؤال رقم (121).
(1/282)
قلتُ: قد أشار الإمام الدارقطني في هذا الحديث إلى أنَّ تفرد همام وهو ابن يحيى بن دينار العوذي، لم تضر بل روايته هي الصواب من حديث محمد بن عمرو.
وذلك للشواهد الصحيحة له، والتي ذكرها بعد ذلك، ثم قال وكلها محفوظة عن أبي سلمة، فدل ذلك أنَّ التفرد لا يعني بالضرورة الضعف بل قد يعني الصحة، والله أعلم.
وقد استعمل النُّقاد المتقدمون لفظة التفرد للدلالة على الغرابة في الأخبار، ولكنهم لم يطلقوها إلا على أحاديث قليلة بخلاف الدارقطني فإنَّه قد أكثر من إطلاقها، وسوف نضرب بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَمِعْتُ أَبِي، وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: ((قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ تَنْزِلُ بِالْخِيفِ؟، قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مَنْزِلا؟)).
فَقَالَ أَبِي: قَدْ تَفَرَّدَ الزُّهْرِيُّ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ " (1).
قلتُ: قد أطلق أبو حاتم لفظة التفرد وعنى بها الغرابة في أربع مواضع (2)، لا خامس لها في كتاب العلل، فدل على قلة استعماله للفظ.
المثال الثاني: قَالَ الإمام الترمذي في العلل الكبير: " فسألتُ مُحمداً - يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: حديث أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أصح ما جاء في كراهية بيع الولاء وهبته.
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص701)، سؤال رقم (860).
(2) المصدر السابق: انظر إلى أرقام السؤالات:} (860)، (1073)، (1258)، (2611) {.
(1/283)
حدثنا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيدالله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ)) (1).
قال أبو عيسى: والصحيح، عن عبدالله بن دينار، وعبدالله بن دينار قد تفرد بهذا الحديث عن ابن عمر، ويحيى بن سليم أخطأ في حديثه " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها البخاري في هذا الحديث هي غايةٌ في الدقةِ والإتقان، فإنَّه قال عن هذا الحديث: " أصح ما جاء في كراهية بيع الولاء وهبته"، وهذا يعني أنَّ جميع أسانيد هذا الحديث ضعيفة إذا كان مخرجها أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أو غيرها، ثم أفصح الترمذي عن مراد البخاري في إعلال الحديث، وهو أنَّ جميع الأسانيد لهذا الحديث ضعيفة إلا إسناد واحد فقط صحيح، وهو ما كان من طريق عبدالله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، ومما يؤيد ذلك أنَّ الإمام مسلم قال عقب إخراجه لهذا الحديث: " النَّاسُ كُلُّهُمْ عِيَالٌ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " (3)، فدل ذلك على أنَّ الحديث لا يصح إلا من طريق عبدالله بن دينار فقط.
وقد أطلق الترمذي لفظة التفرد وعنى بها الغرابة في خمس مواضع في كتابه العلل الكبير.
_________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب العتق، بَاب بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ، (ج5/ ص187)، برقم (2535)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب العتق، بَاب النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ، (ج5/ ص407)، برقم (1506)، كلاهما على الوجه الصحيح من طريق عبدالله بن دينار سمعت ابن عمر رضي الله عنهما به.
(2) الترمذي: ترتيب العلل الكبير (أبو طالب القاضي) (ج1/ص66).
(3) الإمام مسلم: الجامع الصحيح (بشرح النووي)، (ج5/ ص407)، برقم (1506).
(1/284)
ثانيا: لفظة " غريب ".
لقد أطلق الدارقطني هذه اللفظة على عدد قليل في كتاب العلل، وقد أَحْصَيتُه فوجدته في حوالي سبعةَ عَشر (17) موضعاً لا غير (1)، وقصد بها الدلالة على علة التفرد أو الغرابة، وكل ما أشار إليه كان في غرابة الإسناد وليس المتن، وسنضرب بعض الأمثلة لتوضيح ذلك:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث مسروق عن عبدالله عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ مِنَّا مِنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجيُوبَ)) (2)
فقال - الدارقطني -: يرويه الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن مسروق حدث به عنه شعبة، وزائدة، وأبو عوانة، وعلي بن مسهر، وعبدالله بن إدريس، وأبو معاوية، ووكيع، وعيسى بن يونس، وأبو أسامة، وجرير، وعبدالله بن داود، ومحمد بن ربيعة وحبان بن علي، وأسباط بن محمد، ومحمد بن عبيد، وابن نمير، وجعفر بن عون ...
وروى هذا الحديث أيضا موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن مسروق وهو غريب عنه تفرد به محمد بن جعفر بن أبي كثير عنه " (3).
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَ {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ})) (4).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل: انظر إلى أرقام السؤالات:} (13)، (96)، (124)، (309) (385)، (393)، (494)، (501)، (682)، (857)، (868)، (1010)، (1431)، (1533)، (1555)، (1646)، (2293) ... . {
(2) أخرجه أحمد: في المسند (ج1/ص465)، برقم (3658)، من طريق محمد بن جعفر ثنا شعبة عن سليمان قال سمعت عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه به.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص 248)، سؤال رقم (857).
(4) أخرجه أحمد على الوجه الصحيح: في المسند (ج2/ص655)، برقم (9939)، من طريق سفيان - يعني ابن عيينة- عن أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة به، بإسناد صحيح.
(1/285)
فقال - الدارقطني -: يرويه عمر بن عبدالعزيز واختلف عنه: فرواه ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبدالعزيز، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة. وكذلك روي عن الثوري وهو غريب عنه، قاله أحمد بن عُبيد، عن أبي أحمد الزبيري عنه، وكذلك روي عن مالك، عن يحيى قاله أبو يحيى بن أبي ميسرة، عن محمد بن حرب، عن مالك. ورواه محمد بن قيس القاضي، عن عمر بن عبدالعزيز، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة " (1).
وقد استعمل النُّقاد المتقدمون لفظة الغرابة كذلك للدلالة على التفرد، وقد أطلقوها على أحاديث قليلة أيضاً، وسوف نضرب بعض الأمثلة من مصنفاتهم التي توضح ذلك:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ (2)، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ((أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ)) (3).
فَقَالَ أَبِي -يعني أَبِي حَاتِمٍ-: هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ حَسَنِ ابْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ يَزِيدَ الرِّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبِي: هَذَا الصَّحِيحُ، وَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ غَرِيبٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا عِلَّتُهُ: تَرَكَ مِنَ الإِسْنَادِ نَفْسَيْنِ، وَجَعَلَ مُوسَى، عَنْ أَنَسٍ " (4).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ص66)، سؤال رقم (1646).
(2) هو مروان بن محمد بن حسان (ت: 210 هـ)، ثقة، تهذيب التهذيب (ج1/ص142).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة على الوجه المعلول: في المصنف (ج8/ص422)، من طريق حسن بن صالح عن موسى بن أبي عائشة، عن رجل، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، بدون ذكر زيادة: " بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ "، ولا شك أنه بهذا الإسناد ضعيف لوجود رجل مبهم بالإسناد.
(4) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص244)، سؤال رقم (84).
(1/286)
قلتُ: وقول الإمام أبي حاتم: " هَذَا الصَّحِيحُ "، لا يعني أنَّ الإسناد صحيح بل قصده أنَّ الإسناد محفوظ على هذا السياق الثاني، وليس على السياق الأول، والذي ظنَّ أبو حاتم أنَّه غريب، ثم تبين له العلة فيه، والخطأ محمول على مَرْوَان الطَّاطَرِي، وقد أشار إلى ذلك الإمام أبي حاتم في العلل (1)، فتبين أنَّ الغرابة قد تعني عندهم عدم استقامة الحديث، فإنِّه من غير المعقول رواية مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَنَسٍ، فإنَّ بينهما مفاوز فمُوسَى ابْنِ أَبِي عَائِشَةَ لم يدرك أَنَسٍ، ولم يَرْوِ عن أحد من الصحابة، ولم يذكر الإمام أبي حاتم لفظة " غريب " في علله إلا في حوالي أربعة عشر (14) موضعاً (2).
المثال الثاني: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " حدثني أبي فقال: حدثنا هُشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: ((أنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِي تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ، وَمَعَهَا جَوَارٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا يَا عَائِشَةَ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ خَيلُ سُلَيْمَانَ، قَالَ فَجَعَلَ يَضْحَكُ مِنْ قَوْلِهَا)) (3). سمعت أبي يقول: غريب لم نسمعه من غير هُشيم، عن يحيى بن سعيد " (4).
قلتُ: وقول الإمام أحمد: " غريب لم نسمعه من غير هُشيم "، إشارة لتفرد هُشيم وهو ابن بشير الواسطي بالحديث عن يحيى بن سعيد وهو الأنصاري، ولم يذكر الإمام أحمد في كتابه العلل لفظة " غريب " إلا على أربع أحاديث فقط (5).
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص198)، سؤال رقم (16).
(2) المصدر السابق: انظر إلى أرقام السؤالات:} (223)، (288)، (411)، (904) (964)، (1001)، (1401)، (1793)، (1850)، (1851)، (1936)، (2261)، (2434) {
(3) أخرجه أحمد: في المسند (ج6/ص233)، برقم (26003)، من طريق محمد بن بشر قال: ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة نحواً منه، ولكن بغير زيادة: " فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا يَا عَائِشَةَ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ خَيلُ سُلَيْمَانَ، قَالَ فَجَعَلَ يَضْحَكُ مِنْ قَوْلِهَا "، بإسناد صحيح.
(4) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج2/ص277)، مسألة رقم (2242).
(5) المصدر السابق: انظر إلى أرقام السؤالات:} (2228)، (2242)، (4077)، (4326). {
(1/287)
المبحث الثاني: ألفاظ الترجيح ومدلولاتها عند النُّقاد والإمام الدارقطني.
المطلب الأول: تعريف الترجيح لغةً.
الترجيح في اللغة من رجح، وهو تغليب كفة شيء على شيء، ومنه رجحان الميزان، والراجح هو الأعلى، والمرجوح هو الأدنى، قال ابن منظور: " (رجح) الرَّاجِحُ الوازِنُ ورَجَحَ الشيء بيده رَزنشه، ونَظر ما ثِقْلُه وأَرْجَحَ الميزانَ أَي أَثقله حتى مال وأَرْجَحْتُ لفلان ورَجَّحْت تَرْجيحاً إِذا أَعطيته راجِحاً، ورَجَح الشيءُ يَرْجَحُ ويَرْجِحُ ويَرْجُحُ رُجوحاً ورَجَحاناً ورُجْحاناً، ورَجَح الميزان يَرْجَحُ ويَرْجِحُ ويَرْجُحُ رُجْحاناً مال، ويقال زِنْ وأَرْجِحْ وأَعْطِ راجِحاً ورَجَحَ في مجلِسه يَرْجُح ثَقُل فلم يَخِفَّ، وهو مَثَل والرَّجَاحة الحِلم على المَثَل أَيضاً وهم ممن يصفون الحِلم بالثِّقَل كما يصفون ضده بالخِفَّة والعَجَل، وقوم رُجَّحٌ ورُجُحٌ ومَراجِيحُ ومَراجِحُ حُلَماءُ، قال الأَعشى:
من شَبابٍ تَراهُمُ غَيرَ مِيلٍ ... وكُهولاً مَراجِحاً أَحْلاما
واحدهم مِرْجَحٌ ومِرْجاح وقيل لا واحد للمَراجِح ولا المَراجِيح من لفظها، والحِلْمُ الراجِحُ الذي يَزِنْ بصاحبه فلا يُخِفُّه شيء، وناوَانا قوماً فَرَجَحْناهم أَي كنا أَوْزَنَ منهم، وأَحلم وراجَحْته فَرَجَحْته أَي كنتُ أَرْزَنَ منه، قال الجوهري: وقوم مَراجِيحُ في الحِلم، وأَرْجَحَ الرجلَ أَعطاه راجِحاً " (1).
المطلب الثاني: ألفاظ الترجيح عند النُّقاد والدارقطني في العلل.
ومفهوم الترجيح عند النُّقاد المحدثين هو قريب من المعنى اللغوي، فهو يعني رجحان كفة رواية على رواية في القوة والثبات والصحة، فالراجح الصحيح من المرويَّات، والرواية المعلولة تسمى مرجوحة، ودراسة ألفاظ الترجيح من أهم المهمات للباحث لمعرفة الفرق بينها
_________
(1) ابن منظور: لسان العرب (ج2/ص445)، مادة (رجح).
(1/288)
ومقصود النُّقاد منها، فإنَّ كل لفظ يشير إلى مفهوم معين قصده الناقد، ولقد تنوعت ألفاظ الترجيح عند النُّقاد والدارقطني بطريقة كبيرة في مصنفات العلل، وسوف نضرب بعض الأمثلة لتوضيح ذلك:
أولاً: ألفاظ: "وهو الصحيح" أو "والصحيح من ذلك " أو"والصحيح قول فلان".
لقد أطلق الدارقطني هذه الألفاظ على مرويَّات كثيرة في كتابه العلل بلغت حوالي مئة وعشر (110) موضعاً للفظة "وهو الصحيح"، وبلغت ثلاثةً وعشرين (23) موضعاً للفظة "الصحيح من ذلك"، وبلغت تسعةً وخمسين (59) موضعاً للفظة "والصحيح قول فلان"، وقصده فيها إثبات صحة الرواية المذكورة، وضعف أو إعلال الرواية الثانية المقابلة لها، وسوف نضرب بعض الأمثلة:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث عمرو بن حريث، عن عمر - رضي الله عنه -، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)) (1).
فقال - الدارقطني - يرويه إسماعيل بن أبي خالد عنه أسنده خلاد بن يحيى، عن الثوري عن إسماعيل رفعه إلى النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ووقفه غيره عن الثوري، وكذلك رواه يحيى القطان، وأبو معاوية، وأبو أسامة وغيرهم، عن إسماعيل موقوفاً وهو الصحيح.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم البزاز، وأحمد بن عبدالله الوكيل، قالا: ثنا عمر بن شبة، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا عمرو بن حريث، قال: قال عمر - رضي الله عنه - لرجل وسمعه ينشد يا فلان لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلَ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا " (2).
_________
(1) أخرجه البزار بالوجه المعلول: في المسند (البحر الزَّخار)، (ج1/ص323) برقم (250)، من طريق خلاد بن يحيى قال: نا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن حريث، عن عمر بن الخطاب به، وقال البزار: " وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن إسماعيل، عن عمرو بن حريث، عن عمر موقوفاً، ولا نعلم أسنده إلا خلاد بن يحيى".
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص 189)، سؤال رقم (210).
(1/289)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني في هذا الحديث أنَّ خلاد بن يحيى أخطأ فرفع حديث عمر بن خطاب رضي الله عنه، وغيره رواه عن الثوري موقوفاً من قوله، ومتن الحديث المرفوع صحيح متفق عليه من مسند أبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي سعيد الْخُدْري رضى الله عنهم مرفوعاً، والحديث الموقوف هو الصحيح الذي قصده الدارقطني، ولذا لم يخرج أحد من أصحاب الكتب الحديث من هذا الوجه.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث محمد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه عبدالله بن المختار (2)، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. إنَّهُ وهم فيه، والصحيح من ذلك ما رواه أصحاب ابن سيرين الحفاظ عنه منهم: أيوب السختياني، وهشام، وقتادة، ويحيى ابن عتيق وغيرهم، عن محمد بن سيرين، عن سلمان بن عامر الضبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم " (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني في هذا الحديث أنَّ عبدالله بن المختار وهو البصري أخطأ في حديث أبي هريرة فسلك الجادة فيه (عن ابن سيرين عن أبي هريرة)، فخالف الأثبات من أصحاب ابن سيرين، فإنهم رووه عن سلمان بن عامر الضبي وليس عن أبي هريرة، وبهذا يُعلم سر عدم إخراج أصحاب الكتب الستة لهذا الحديث من مسند أبي هريرة، وإخراج الجميع له من مسند سلمان بن عامر الضبي.
_________
(1) أخرجه على الوجه المعلول الحاكم: في المستدرك (ج4/ص 266)، برقم (7593)، من طريق جرير بن حازم، عن عبدالله بن المختار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي، قلتُ: ولا يخفى أنَّ حديث أبي هريرة معلول بحديث سلمان بن عامر الضبي كما أشار إليه الدارقطني هنا.
(2) هو عبدالله بن المختار البصري (ت:؟)، ثقة، من الطبقة السابعة، من كبار أتباع التابعين، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تهذيب التهذيب (ج6/ص21).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص127)، سؤال رقم (1452).
(1/290)
المثال الثالث: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث حفصة، عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه كان يقول: اللَّهُمَّ قَتْلاً فِي سَبِيلِكَ، وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ أنَّى يَكُونُ هَذَا؟، فَقَالَ: يَاتِي اللهُ بِهِ إِذَا شَاءَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه زيد بن أسلم واختلف عنه: فرواه روح بن القاسم، وحفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن أمه، عن حفصة. ورواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن حفصة. والصحيح قول من قال: عن أمه " (2).
وقد استعمل النُّقاد المتقدمون لفظ "وهو الصحيح " للدلالة على المعني السابق نفسه، على أحاديث قليلة، مثل الإمام أحمد في العلل لم يذكر اللفظة إلا في موضعين هما:
الموضع الأول: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: " حدثني أبو سعيد قال سمعت أبا أسامة يقول: قال عبيدالله، عن نافع قتل عمر وله سبع وخمسون، قال: أبو عبدالرحمن هذا الصحيح في قتل عمر " (3).
الموضع الثاني: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: سئل عن حديث الفريابي عن إسرائيل عن زيد بن جبير الجشمي قال: حدثني عروة بن جميل، عن أبيه. قال أبي: هو خطأ إنَّما هو جروة بن جميل، وقال وكيع، قال إسرائيل: جروة بن جميل، قال وكيع، وقال شريك جروة بن جميل، وهو الصحيح " (4).
وقد استعمل هذه الألفاظ كذلك الإمام أبو حاتم في العلل؛ للدلالة على المعني السابق نفسه، ولكنه أطلقها بكثرة حتي بلغت لفظة " وهو الصحيح " تسعةً وسبعين (79) موضعاً،
_________
(1) أخرجه الطبراني على الوجه الصحيح: في المعجم الأوسط (ج6/ص358)، برقم (2902)، من طريق عن زيد بن أسلم، عن أمه، عن حفصة ابنة عمر قالت: سمعت عمر به.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص140)، سؤال رقم (163).
(3) الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج3/ص 493)، مسألة رقم (6115).
(4) المصدر السابق، (ج3/ص58)، مسألة رقم (4155).
(1/291)
ولفظة " والصحيح " بلغت اثنين وتسعين (92) موضعاً، نضرب بعض الأمثلة:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ أَبُو عَاصِم، عَن قُرَّة، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا ولغَ الكلبُ فِي الإناء))، قَالَ أَبِي: كَذَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِم، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ علي عَنْهُ، وَأَخْطَأَ فِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا قُرَّة، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: ((إِذَا ولغ الكلب فِي الإناء))، قَالَ أَبِي: والصحيح ما يرويه أَبُو نُعَيْم " (1).
المثال الثاني: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ شيبان النحوي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَن أم بَكْر، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي المستحاضة، فَقَالَ أَبِي: هُوَ وهم، والصحيح ما يَقُولُ الأوْزَاعِيّ، ومعاوية بْن سلم، فَقَالا: عَن أمِّ بَكْر، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وقد اختلفوا عَلَى شيبان، فَقَالَ أَبُو نُعَيْم، عَن أم بَكْر، وَقَالَ الْحُسَيْن المروذي: عَن أم أَبِي بَكْر " (2).
المثال الثالث: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَمِعْتُ أَبِي، وَذَكَرَ حَدِيثًا: رَوَاهُ مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْلا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي، لَفَرَضْتُ السِّوَاكَ، وَلأَخَّرْتُ صَلاةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ)). قَالَ أَبِي: هَذَا خَطَأٌ، رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ " (3).
ثانياً: لفظة " وهو الصواب ".
قد أطلق الدارقطني هذه اللفظة على مرويَّات كثيرة جداً في كتابه العلل بلغت حوالي مائتين وتسعة وثلاثين (239) موضعاً، وقصد بها إصلاح الخطأ الذي وقع من الراوي، وتقرير خطأ الرواية الثانية المقابلة لها، وسوف نضرب بعض الأمثلة منها:
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص205)، سؤال رقم (27).
(2) المصدر السابق (ص266 - 267)، سؤال رقم (118).
(3) المصدر السابق (ص206)، سؤال رقم (29).
(1/292)
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه أبو قتيبة، عن المسعودي، عن بكير بن الأخنس، عن أبي بكر الصديق مرسلا، وغيره يروي، عن المسعودي، عن بكير بن الأخنس، عن رجل لم يسمه، عن أبي بكر، وهو الصواب " (2).
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن جده أبي بكر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ((السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ)).
فقال - الدارقطني -: يرويه حماد بن سلمة، عن بن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر وخالفهم جماعة من أهل الحجاز، وغيرهم فرووه، عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب " (3).
وقد استعمل النُّقاد المتقدمون لفظ "وهو الصواب "؛ للدلالة على تصحيح الخطأ الذي وقع فيه الراوي، وأطلقوها على أحاديث قليلة في مصنفاتهم، فمنهم أبو حاتم في العلل مثلاً، وقد ذكر هذه اللفظة في حوالي خمسة عشر (15) موضعاً نأخذ منها أمثلة:
المثال الأول: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ السَّائِبِ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صَلَّى بِالنَّاسِ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ)).
_________
(1) أخرجه أحمد على الوجه الصحيح: في المسند (ج4/ص553)، برقم (19998)، من حديث عمران بن حصين بإسناد صحيح.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج1/ص286)، سؤال رقم (75).
(3) المصدر السابق: (ج1/ص277)، سؤال رقم (69).
(1/293)
قَالَ أَبِي: هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ سُفْيَانَ، وَعَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو الْعَامِرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الصَّوَابُ
قَالَ أَبِي: لَمْ يَضْبِطِ ابْنُ عُيَيْنَةَ ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِذَا حَدَّثَ عَنِ الصِّغَارِ كَثِيرًا مَا يُخْطِئُ " (1).
المثال الثاني: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُحَرَّمُ)).
قَالَ أَبِي: أَخْطَأَ فِيهِ عُبَيْدٌ، الصَّوَابُ: مَا رَوَاهُ زَائِدَةُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَمِنْهُمْ مِنْ يُرْسِلُهُ، يَقُولُ: حُمَيْدٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحِيحُ مُتَّصِلٌ: حُمَيْدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ " (2).
ثالثاً: لفظة " فلان أثبت من فلان ".
أطلق الدارقطني هذه اللفظة على مرويَّات قليلة جدا في كتابه العلل، فقد بلغت موضعين فقط، وقصد بها تقديم الراوي المذكور على غيره في الحكم عند المخالفة، وتقرير خطأ الراوي الثاني إذا خالفه، وسوف نذكرهما هنا:
الموضع الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث ابن عباس عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَسَ كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّا)) (3).
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص339 - 340)، سؤال رقم (232).
(2) المصدر السابق: (ص636)، سؤال رقم (751).
(3) أخرجه البزار: في مسنده (البحر الزخار)، (ج1/ص170)، برقم (220) نحواً منه.
(1/294)
فقال - الدارقطني -: يرويه حسام بن مصك، عن ابن سيرين، عن ابن عباس، عن أبي بكر قاله موسى بن داود، وزيد بن الحباب عنه، وخالفه أيوب السختياني، وهشام ابن حسان، وأشعث بن سوار وغيرهم، فرووه عن ابن سيرين، عن ابن عباس عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ولم يذكروا فيه أبا بكر، وهم أثبت من حسام والقول قولهم " (1)
والموضع الثاني: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث عمرو بن ميمون، عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قَالَ: ((يَا رسُول اللهِ أَلاَ تَتَّخِذُ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَاتَخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} (2)).
فقال - الدارقطني -: هو حديث رواه زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق واختلف عنه فرواه علي بن مسهر، عن زكريا عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر وخالفه أبو أسامة فرواه عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل، عن عمر. والله أعلم بالصواب ورواه زهير عن أبي إسحاق، عن طلحة بن مصرف مرسلاً، عن عمر ويشبه أن يكون قول زهير هو المحفوظ؛ لأنَّ زهير أثبت من زكريا في أبي إسحاق " (3).
وقد استعمل النُّقاد المتقدمون لفظ " فلان أثبت من فلان " للدلالة على تقدم الراوي المذكور على غيره في الحكم عند المخالفة، وقد أطلقوها على أحاديث قليلة في مصنفاتهم فمنهم الإمام أحمد بن حنبل في العلل مثلاً، وقد ذكر هذه اللفظة في حوالي (17) موضعاً نأخذ منها أمثلة:
المثال الأول: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: سمعت أبي يقول: ذكرنا عند وكيع بن الجراح أحاديث يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، فقلت: هذا يروي عنه خمسة أحاديث فجعل يذكر ذلك. قال أبي: لم يسمعها هذه أحاديث معروفة لم يسمعها سمعت أبي يقول سعد بن إبراهيم أثبت من عمر بن أبي سلمة خمسين مرة " (4).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج1/ص218)، سؤال رقم (21).
(2) سورة البقرة آية رقم (125).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص186)، سؤال رقم (208).
(4) أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، (ج2/ص 162)، مسألة رقم (1874،1875).
(1/295)
المثال الثاني: قال عبدالله - ابن أحمد بن حنبل -: حدثني أبي قال: حدثنا عفان قال أخبرنا حماد بن سلمة، قال أخبرنا عاصم بن بهدله، وحماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمَاً)) قال أبي: منصور والأعمش أثبت من حماد وعاصم (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الإمام أحمد في هذا الحديث: مخالفة حماد بن أبي سليمان لرواية منصور وهو ابن المعتمر، وقوله أثبت منه تدل على تقديم رواية منصور على حماد ابن أبي سليمان، وكذلك الأعمش وهو سليمان بن مهران الإمام على عاصم بن بهدله.
رابعاً: لفظة " وهو الأشبه بالصواب ".
أطلق الدارقطني هذه اللفظة على مرويَّات قليلة جداً في كتابه العلل، بلغت حوالي ثلاثة أحاديث، وقصد بها أنَّ الرواية المذكورة أقرب للصواب من غيرها، وتقرير احتمال خطأ الرواية الثانية بدون جزم بذلك، وسوف نذكر منها هذه الأمثلة لتوضيح ذلك:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث المحرر بن أبي هريرة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنهم -: ((أنَّه بعثه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَذَّنَ النَّاسَ بِالْحَجِ الأَكْبَرِ، فَقَالَ عَلِيٌ: ألاَّ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُسْلِمٌ، وَمَنْ كَانَتْ بَينَهُ وَبَينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةٌ فَأَجَلُهُ إِلِى مُدَّتِهِ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه ابن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن علي وخالفه المضاء بن الجارود فرواه: عن هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن المحرر بن أبي هريرة، عن أبيه، عن علي. وكذلك رواه مغيرة، والشيباني، عن الشعبي، عن
_________
(1) المصدر السابق، (ج3/ص 121)، مسألة رقم (4511، 4512).
(2) أخرجه الإمام أحمد: في المسند (ج1/ص3)، برقم (4)، من طريق وكيع قال: قال إسرائيل قال: أبو إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن أبي بكر نحواً منه، بإسناد ضعيف لضعف زيد بن يثيع.
(1/296)
المحرر، عن أبيه، عن علي. وهو الأشبه بالصواب " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الإمام الدارقطني في هذا الحديث هي مخالفة ابن فضيل وهو محمد بن فضيل بن غزوان (2) لجمع من الرواة، فرواه عن إسماعيل بن أبي خالد، فأسقط من الإسناد المحرر بن أبي هريرة، وأبيه، وغيره رووه على الصواب كما يرجِّح الدارقطني رواية الجماعة بإثبات المحرر بن أبي هريرة، وأبيه.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث عروة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف وكيف صلاتهم؟.
فقال - الدارقطني -: اختلف فيه على عروة فرواه: محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة عن أبي هريرة، قاله يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير وخالفه أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن فرواه، عن عروة، عن مروان بن الحكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهو الأشبه بالصواب " (3).
وقد استعمل النُّقاد المتقدمون لفظ " وهو الأشبه بالصواب " أو ما كان في معناه مثل " أرى كذا والله أعلم بالصواب " للدلالة على أنَّ الرواية المذكورة أقرب للصواب من غيرها، وتقرير احتمال خطأ الرواية الثانية بدون جزم لذلك، وقد أطلقوها على أحاديث قليلة جداً في مصنفاتهم، وسوف نأخذ مثلاً أبا حاتم في كتابه العلل:
المثال الثالث: قال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج3/ص131)، سؤال رقم (318).
(2) ابن فضيل بن غزوان الضبي (ت:295هـ)، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج9/ص359).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص52)، سؤال رقم (1637).
(1/297)
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} (1)، يَقُولُ: نِصْفٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَنِصْفٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
قَالَ أَبِي - يعني أبا حاتم -: مُحَمَّدٌ الطَّائِيُّ هَذَا أَبُو عَمْرٍو وَالِدُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَرَى وَرَوَاهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ شَرِيكٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الصَّوَابُ " (2).
خامساً: لفظة " أحسنها إسناداً ".
أطلق الدارقطني هذه اللفظة على مرويَّات قليلة جداً في كتابه العلل، بلغت حوالي ثلاثة أحاديث، وقصد بها أنَّ الرواية المذكورة أفضل من جهة الإسناد من غيرها، وقد تكون ضعيفة، وتقرير أنَّ الأسانيد الأخرى أضعف، وأقل في الجودة من الإسناد الأول، وسوف نذكر منها هذه الأمثلة لتوضيح ذلك:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث أم الدرداء عن أبي الدرداء - رضي الله عنهم -: ((قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في قَولِهِ تَعَالَى: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} (3) يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعِ ... الحديث في صفةِ أَهْلِ النَّارِ)).
فقال - الدارقطني -: يرويه الأعمش واختلف عنه: فرواه قطبة بن عبدالعزيز (4)، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه عبد السلام بن حرب فرواه: عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر، عن أم الدرداء ولم يجاوز به ولم يسنده، وخالفه زائدة فرواه: عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر، عن أبي الدرداء موقوفاً ولم يذكر أم الدرداء، ولم يسنده غير قطبة وهو صالح
_________
(1) سورة الواقعة آية رقم (14،13).
(2) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص1189 - 1190)، سؤال رقم (1706).
(3) سورة المؤمنون آية رقم (106).
(4) وهو قطبة بن عبدالعزيز بن سياه الأسدي الحماني الكوفي (ت:؟)، صدوق من الطبقة الثامنة من الوسطى من أتباع التابعين، أخرج له الستة إلا البخاري، تهذيب التهذيب (ج8/ص 338).
(1/298)
الحديث، فان كان حفظه فهو أحسنها إسناداً " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الإمام الدارقطني في هذا الحديث هي: رواية قوم له موقوفاً، ثم خالفهم قطبة بن عبدالعزيز فرواه مسنداً أي موصولاً، ولم يسنده غيره، فرجَّح الإمام الدارقطني الرواية الموصولة؛ لأنها أحسن وأقوى إسناداً من غيرها.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني - عن حديث عثمان بن عفان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)) (2).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه قتادة واختلف عنه: فرواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن حمران، عن عثمان، عن عمر. قال ذلك عبدالوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد، وخالفه خالد بن الحارث، عن سعيد فرواه عنه، عن قتادة، عن حمران، وكذلك رواه أيوب أبو العلاء، عن قتادة، عن حمران وحديث عبدالوهاب بن عطاء أحسنها إسناداً " (3).
ولم أجد كثيراً من النُّقاد المتقدمين يستعملون هذه اللفظة إلا قليل، منهم الإمام البزار في مسنده (البحر الزَّخار)، وقد ذكرها في أربعة عشر (14) موضعاً، وسوف نورد هنا له مثالاً:
المثال قال الإمام البزار: " حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (4) (3)، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ص 220)، سؤال رقم (1086).
(2) أخرجه الإمام أحمد: في المسند (ج1/ص63)، برقم (447)، من طريق عبدالوهاب الخفاف ثنا سعيد عن قتادة عن مسلم بن يسار عن حمران بن أبان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه نحواً منه.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص7)، سؤال رقم (82).
(4) سورة المائدة: آية رقم (105).
(1/299)
إِنَّ أُمَّتِي إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَاخُذُوا عَلَى
يَدَيْهِ يُوشِكُوا أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهٍ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلاَ أَحْسَنَ إِسْنَادًا مِنْهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمُعْتَمِرُ وَشُعْبَةُ " (1).
وبنهاية هذا الحديث نكون قد انتهينا من الباب الثالث من الدراسة بفضل اللهِ وَمعُونتهِ.
_________
(1) أخرجه البزار: في مسنده (البحر الزخار)، (ج1/ص88)، برقم (65).
(1/300)



( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل
الباب الرابع
قرائن التعليل والترجيح عند الإمام الدارقطني
وفيه فصلان:
الفصل الأول: قرائن التعليل عند الإمام الدارقطني.
وفيه: ثلاث مباحث.
المبحث الأول: دلائل العلة.
المبحث الثاني: قرائن التعليل الإسنادية.
المبحث الثالث: قرائن التعليل المتنية.
الفصل الثاني: المتابعات والقرائن وأثرهما في الترجيح عند الإمام الدارقطني.
وفيه: مبحثان.
المبحث الأول: المتابعات وأثرها في الترجيح.
المبحث الثاني: القرائن وأثرها في الترجيح.
(1/301)
الفصل الأول
قرائن التعليل عند الإمام الدارقطني
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول: دلائل العلة.
المطلب الأول: التفرد ودلالته كقرينة عند النُّقاد والدارقطني.
المطلب الثاني: المخالفة ودلالتها كقرينة عند النُّقاد والدارقطني.
المبحث الثاني: قرائن التعليل الإسنادية.
المطلب الأول: قرينة ضعف الثقة في بعض شيوخه الثقات.
المطلب الثاني: قرينة ضعف الثقة في بعض البلدان.
المطلب الثالث: قرينة ضعف الثقة في بعض الأحوال.
المبحث الثالث: قرائن التعليل المتنية.
المطلب الأول: قرينة مخالفة الحديث للسُنّة الثابتة المشهورة.
المطلب الثاني: قرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه كلام النبوة.
المطلب الثالث: قرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه حديث فلان.
(1/303)
الفصل الأول
قرائن التعليل عند الإمام الدارقطني
تمهيد: أهمية معرفة قرائن التعليل
إنَّ دراسة قَرائن التعليل عند نقاد الحديث لمن أهم المهمات للباحث في علل الحديث فهي بمثابة العصب للجسد في معرفة العلل، وبها يعرف مقاصد أئمة التعليل في نقد الأخبار، فإن النَّاقد لا يحكم على الحديث بعلة إلا بعد التتبع الحثيث لمرويَّات الراوة، ثم معرفة ظروف تحمُّلهم وأدائهم للمرويَّات، ومقارنتها بغيرها من الروايات الثابتة، لاستخراج ما طرأ على الأخبار من الوهم والخطأ، أو تعمد التحريف وغيره من العلل.
ولا يتأتى ذلك إلا لمن طالت ممارسته لدراسة الأسانيد ومعرفة الرجال وأحوالهم، والخبرة في سبر الأخبار، والغوص في بحار علم العلل، وهؤلاء قليل من أهل الحديث لصعوبة الوصول لهذه المرتبة من العلم والخبرة والمعرفة، فالجهابذةُ النُّقادُ العارفون بعللِ الحديثِ أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث، وأوَّل من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابنُ سيرين، ثم خَلفه أيوب السختياني، وأخَذَ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عَنْ شعبة: يحيى القطان وابن مهدي، وأخذ عنهما: أحمدُ وعلى بنُ المديني وابنُ معين، وأخذ عنهم مثل: البخاريّ وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم.
قال الحافظ ابن رجب في شرح العلل: " قال أبو حاتم: وجرى بيني وبين أبي زُرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكنت أذكر أحاديث خطأ وعللها، وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قل من يفهم هذا، ما أعز هذا!، إذا رفعت هذا عن واحد واثنين، فما أقل ما تجد من يحسن هذا! " (1).
_________
(1) الحافظ ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص195).
(1/305)
وقال ابن رجب أيضاً: " وذكر أبو حاتم شيئاً من معرفة الرجال فقال: ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا! " (1).
وَقَالَ الحافظ العلائيُّ: " وهذا الفنُ أغمضُ أنواعِ الحديثِ، وأدقها مسلكاً، ولا يقومُ بهِ إلاّ مَنْ منحه اللهُ فهماً غايصاً، واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلاَّ أفراد أئمة هذا الشأنِ وحُذَّاقهم كابنِ المدينيّ، والبخاريّ، وأبي زرعة، وأبي حاتم وأمثالهم " (2).
وقَالَ الحافظ ابن رجب في فتح الباري بعد ذكره حديث: " مِن رواية أبي إسحاق، عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كَانَ النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ، وَلاَ يَمَسُّ مَاءً)) (3).
وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث مِن السلف على إنكاره على أبي إسحاق، مِنهُم: إسماعيل بنِ أبي خالد، وشعبة، ويزيد بن هارون، وأحمد بنِ حنبل، وأبو بكر ابنِ أبي شيبة، ومسلم بنِ حجاج، وأبو بكر الأثرم، والجوزجاني، والترمذي، والدارقطني ...
وأمّا الفقهاء المتأخرون: فكثيرٌ منهم نظر إلى ثقةِ رجالهِ فظنَّ صحته، وهؤلاء يظنون أنَّ كلَّ حديثٍ رواه ثقة فهو صحيحٌ، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث " (4)
_________
(1) الحافظ ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص195).
(2) الحافظ ابن حجر العسقلاني: النكت على كتاب ابن الصلاح (ج2/ ص377).
(3) أخرجه الترمذي على الوجه المعلول: في السنن، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل (ج1/ص202)، برقم (118)، وقال الترمذي: " وقد روى غير واحد عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنَّه كان يتوضأ قبل أن ينام))، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود وقد روى عن أبي إسحق هذا الحديث شعبة والثوري وغير واحد، ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق ".
(4) الحافظ ابن رجب: فتح الباري، طبعة مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى سنة 1417هـ، تحقيق: محمد عوض المنفوش وجماعة، (ج1/ 362 - 363).
(1/306)
وقد لخص علماء الحديث الطرق التي كان أئمة العلل يَسْلُكُونها لمعرفة علة الحديث، فقال الخطيب البغدادي: " السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانتهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " (1).
وقال ابن الصلاح رحمه الله: " ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم لغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه" (2).
قلتُ: فهذه النصوص ترشد إلى الطرق التي كان الأئمة يعتبرونها في معرفة العلل، وقد لخصها ابن الصلاح في التفرد والمخالفة، مع قرائن تنضم إلى ذلك، ومما لا شك فيه أنَّ هذه القرائن كثيرة ومتنوعة، وليس لها قاعدة ثابتة، وغير منحصرة، وقد اجتهد جهابذة أهل الحديث في بيان قرائن التعليل الإسنادية والمتنية في مصنفات متفرقة، ولم أرَ من جمع مصنفاً فيه بيان القرائن التي اعتمد عليها أئمة التعليل، إلا إشارات قليلة في مصنفات أهل الحديث مثل: الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي، وفتح الباري له، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في النكت وفتح الباري له، والإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية في بعض مصنفاتهم، فظهر أنَّ دراسة قرائن التعليل والتمثيل لها من كلام أئمة النقد لمن أهم الأبحاث التي يمكن تحقيقها في هذا العلم؛ لأنَّ كتب العلل لا تذكر القرائن في غالب الأحيان، ولا تذكرها إلا بعبارات دقيقة لا يَفْهَمها إلا أصحاب هذا الشأن، وسوف أجتهد في تناول بعض قرائن التعليل في هذا الفصل إن شاء الله تعالى التي كان أئمة التعليل يستعملونها لمعرفة وتحديد العلل في الأخبار، وعلى رأسهم الإمام الدارقطني، نتلمس فيها منهجه وطريقته، والله الموفق لا رب سواه.
_________
(1) العراقي: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، (ص 117).
(2) نفس المصدر: (ص116).
(1/307)
المبحث الأول: دلائل العلة.
المطلب الأول: التفرد ودلالته كقرينة عند النُّقاد والدارقطني.
التفرد من أهم الدلائل على العلة عند النُّقاد المتقدمين وعلى رأسهم الدارقطني، ولقد وصف الحافظ ابن رجب كيفية استعمال المتقدمين لدلالة التفرد فقال: " وأمَّا أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد - وإن لم يرو الثقات خلافه -: إنَّه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه " (1).
فالتفرد ليس علةٌ في ذاته، وإنَّما يدل عَلَى وجود خللٍ ما في الخبر أو الرواية، وقد يحدث ذلك من الثقة أوالضعيف على السواء، قَالَ الإمام مُسْلِم بن الحجاج: " فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا - وإن كَانَ من أحفظ الناس وأشدهم توقياً وإتقاناً لما يحفظ وينقل - إلا الغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله " (2).
وَقَالَ الترمذي: " وإنَّما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنَّه لَمْ يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم " (3).
ثمَّ ساق الترمذي أمثلة من الروايَّات التي تبرهن عَلَى تفاوت أهل العلم في الحفظ، وتفاضلهم في الضبط وقلة الخطأ، ثُمَّ قَالَ: " والكلام في هَذَا والرواية عَنْ أهل العلم تكثر وإنما بيّنا شيئاً مِنْهُ عَلَى الاختصار ليُستدل بِهِ عَلَى منازل أهل العلم وتفاضل بعضهم عَلَى بعض في الحفظ والإتقان، ومن تُكلمَ فِيْهِ من أهل العلم لأي شيء تُكلمَ فِيْهِ " (4).
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص272 - 273).
(2) الإمام مسلم: التمييز، (ص 124).
(3) الإمام الترمذي: علل الترمذي الصغير آخر جامعه، (ج6/ص240).
(4) المصدر السابق، (ج6/ص244).
(1/308)
والتفرد بالنسبة للثقة المشهور بالحفظ، وقلة الخطأ في مرويَّاته لا تضر، وقد أشار الإمام مسلم في صحيحه إلى هذه القاعدة فقال: " هَذَا الْحَرْفُ (يَعْنِي وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ)، لاَ يَرْوِيهِ أَحَدٌ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَلِلزُّهْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ حَدِيثًا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ " (1).
ولقد أكثر الإمام الدارقطني التعليل بالتفرد للدلالة على الخلل في الأخبار، فهو يسوق الطرق والخلاف ومن روى الحديث، ثُمَّ يشير إلى تفرد بعض الرواة في الرواية ولم يشاركه فيها أحد، ويطلق لفظة التفرد كما ذكرنا من قبل على رواية الثقة والضعيف، وليس كل تفرد عنده يُعِلّ الحديث، وأحياناً يصرح ويرجح الصواب كقوله: " تفرد به فلان، وغيره يرويه كذا، وهو الصواب "، وأحياناً أخرى لا يصرح بذلك، وسوف نضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح ذلك:
أولاً: النماذج التي صرح بها الدارقطني بالتعليل بالتفرد:
النوع الأول: ما تفرد به الثقة وأُعِلَّ بها:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه: ((رَأَى رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاتَيِنِ تَنْتَطِحَان ...)). فقال: تفرد به أبو داود (2)، عن شعبة، ولا يثبت عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث" (3)
_________
(1) الإمام مسلم: الجامع الصَّحِيْح (مع شرح النووي)، كتاب الإيمان، باب من حلف باللات والعزى، (ج6/ص119 - 120)، بعد حديث رقم (1647).
(2) وهو سليمان بن داود بن الجارود، أبو داود الطيالسي البصري (ت:204 هـ)، من الطبقة التاسعة، ثقة حافظ، أخرج له الستة إلا البخاري تعليقاً، تهذيب التهذيب (ج4/ص160).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ص 272)، سؤال رقم (1131).
(1/309)
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي: تفرَّد أبي داود الطيالسي بهذا الحديث عن شعبه ولم يشاركه أحد في شيخه - وهو ثقة حافظ - ولا يقبل هذا وشعبة وهو ابن الحجاج إمام مكثر، وله أصحاب معرفون أثبات مقدمون على أبي داود الطيالسي، مثل: غُنْدر محمد بن جعفر وهو أثبت الناس في شعبة (1)، ثُمَّ معاذ بن معاذ وهو العنبري وغيرهم، إذ لو كان هذا الحديث محفوظاً عن شعبة لرواه هؤلاء، ولما تركه أصحابه المعروفون بالإتقان، فَعُلِمَ خطأ أبي داود الطيالسي في هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث أبي الأسود الدؤلي، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبدالله بن بريدة واختلف عنه: فرواه سعيد الجريري عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذر. تفرد به معمر بن راشد عنه وأغرب به ورواه الأجلح بن عبدالله بن بريدة، واختلف عنه:
فرواه الثوري، وعليّ بن صالح، ويحيى القطان، وزهير بن معاوية، وعبدالرحمن بن مغراء أبو زهير، وغيرهم عن الأجلح، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذر.
ورواه أبو حنيفة، عن الأجلح، واختلف عنه: فرواه المقري، عن أبي حنيفة، عن أبي حجية وهو أجلح، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذر.
وكذلك رواه محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة، وغيره يرويه عن أبي حنيفة، عن أبي حجية، عن أبي الأسود لم يذكر بينهما ابن بريدة، ورواه ابن عيينة، عن عبدالرحمن المسعودي، عن الأجلح، فقال: ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصواب قول من قال: عن أبي الأسود
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص367 - 368).
(2) أخرجه الترمذي على الوجه الصواب: في السنن، كتاب اللباس، باب الخضاب، (ج4/ص 232)، برقم (1753)، من طريق الأجلح عن عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود عن أبي ذر به، وقال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
(1/310)
عن أبي ذر " (1).
المثال الثالث: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث علقمة، عن عبدالله - رضي الله عنه - كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمَاً)).
فقال - الدارقطني -: تفرد به يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية (2)، عن الأعمش عن إبراهيم، ووهم فيه حدث به إسحاق بن موسى الأنصاري، وأبو بكر بن أبي شيبة عنه كذلك، وخالفهما زياد بن أيوب فرواه، عن ابن أبي غنية، عن الأعمش، عن إبراهيم وكذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وهو صحيح " (3).
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي: تفرد يحيى بن عبدالملك بن أبي غنية بهذا الحديث دون سائر أصحاب الأعمش الأثبات، بل وقد خالفوه في الحديث، فهذا دليل على الوهم والخطأ الذي وقع في روايته، وهذه قاعدة مطردة، ويظهر هنا واضحاً تصريح الدارقطني وتعليله الحديث بدلالة التفرد.
النوع الثاني: ما تفرد به الضعيف:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث جابر بن عبدالله عن أبي بكر - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)) (4).
فقال - الدارقطني -: هو حديث تفرد به عبدالعزيز بن أبي ثابت الزهري، وهو عبدالعزيز بن عمران بن عمر بن عبدالرحمن بن عوف مديني ضعيف الحديث، رواه عن إسحاق بن
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ص277 - 279)، سؤال رقم (1136).
(2) وهو يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبى غنية الخزاعي، أبو زكريا الكوفي (ت: مائة وبضع وثمانون هـ) صدوق، من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، تهذيب التهذيب (ج6/ص 349).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج5/ص 137)، سؤال رقم (772).
(4) أخرجه أحمد: في المسند، (ج3/ص373)، برقم (15054)، من طريق إسحاق بن حازم عن أبي مقسم قال: أبي يعني عبيدالله بن مقسم عن جابر بن عبدالله مرفوعاً نحواً به.
(1/311)
حازم الزيات، عن وهب بن كيسان، عن جابر، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وإسحاق بن حازم هذا شيخ مديني ليس بالقوي، وقد اختلف عنه في إسناد هذا الحديث، فرواه أبو القاسم بن أبي الزناد، عن إسحاق بن حازم، عن عبيدالله بن مقسم عن جابر، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. ولم يذكر فيه أبا بكر حدث به عنه كذلك أحمد بن حنبل، وقد روى هذا الحديث عن أبي بكر الصديق موقوفاً من قوله غير مرفوع إلى النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ من رواية صحيحة عنه.
حدث به عبيدالله بن عمر عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن أبي بكر قوله. ورواه ابن زاطيا (1)، عن شيخ له من حديث عبيدالله بن عمر، عن عمرو بن دينار عن
أبي الطفيل، عن أبي بكر، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ووهم في رفعه والموقوف أصح" (2).
قلتُ: قرينة التعليل في المثال السابق واضحة وهي ضعف راويه، والتفرد كذلك، من عبدالعزيز بن أبي ثابت الزهري (3) وهو متروك، والجدير بالذكر أنَّ الإمام الدارقطني متوسع في ذكر العلل الموجودة في الحديث، وكثرة الطرق للحديث مما يجعل كتاب العلل من أفضل الكتب التي تكلمت في هذا الفن، والله أعلم.
ثانياً: النماذج التي لم يصرح بها الدارقطني بالتعليل بالتفرد ولكنه أشار إليها:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث عمرو بن حريث المخزومي، عن أبي بكر - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ ...)) (4).
_________
(1) وهو أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ إِسْحَاقَ بنِ عِيْسَى بنَ زَاطِيَا المُخَرِّمِيُّ البَغْدَادِيُّ (ت: 306هـ) المحدث قال أَبُو بَكْرٍ بنُ السُّنِّي: " لاَ بَاسَ بِهِ "، سير أعلام النبلاء (ج14/ص254).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج1/ص220 - 221)، سؤال رقم (26).
(3) هو عبدالعزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف القرشي، يعرف بابن أبى ثابت، (ت: 197 هـ)، متروك، أخرج له الترمذي، تهذيب التهذيب (ج6/ص 312).
(4) أخرجه أحمد على الوجه المعلول: في المسند، (ج1/ص4)، من طريق روح قال ثنا بن أبي عروبة عن أبي التياح عن المغيرة بن سبيع عن عمرو بن حريث عن أبي بكر الصديق به، وتمامه " أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ يَتَّبِعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ ".
(1/312)
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه أبو التياح عن المغيرة بن سبيع عن عمرو بن حريث حدث به عبد الله بن شوذب عن أبي التياح ورواه سعيد بن أبي عروبة عن أبي التياح تفرد به روح بن عبادة عن سعيد، ويقال إن سعيد بن أبي عروبة إنما سمعه من عبدالله بن شوذب عن أبي التياح، ودلسه عنه وأسقط اسمه من الإسناد ...
وأصحها إسناداً حديث ابن شوذب عن أبي التياح، وروى عن الحسن بن دينار فيه إسناد آخر عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن أبي بكر موقوفا ولا يثبت عن قتادة " (1).
قلتُ: وقرينة التعليل التي أشار إليها الدارقطني تفرد روح بن عبادة (2)، عن سعيد بن أبي عروبة بالحديث، ولم يشاركه فيه كبار تلامذة ابن أبي عروبة مثل: يزيد بن زُرَيْع وهو أثبت الناس في سعيد ابن أبي عروبة (3)، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، وغيرهم، وإنَّما يأتي روح بن عبادة بعدهم في المرتبة، فكيف يتفرد بحديث عن ابن أبي عروبة دون هؤلاء الأثبات؟، وقد أشرنا إلى هذه القاعدة من قبل، فظهر بذلك قرينة التعليل التي اعتمد عليها الدارقطني ولم يصرح بها، والله تعالى أعلى وأعلم.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث عروة بن الزبير عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ)) (4).
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج1/ص 275)، سؤال رقم (68).
(2) هو روح بن عبادة بن العلاء بن حسان بن عمرو بن مرثد القيسي، أبو محمد البصري (ت: 205 أو 207 هـ)، ثقة فاضل له تصانيف، الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج3/ص 253).
(3) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص396).
(4) أخرجه أبو داود على الوجه المعلول: في السنن كتاب الخراج والإمارة والفيء، بَاب فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، (ج2/ص 194)، برقم (3073)، من طريق عبد الوهاب - يعني الثقفي - حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد به.
(1/313)
فقال - الدارقطني -: يرويه أيوب السختياني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، تفرد عبدالوهاب الثقفي عنه (1)، واختلف فيه على هشام بن عروة فرواه الثوري، عن هشام، عن أبيه، قال: حدثني من لا أتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه جرير بن عبدالحميد، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وعبدالله بن إدريس، ويحيى بن سعيد الأموي، عن هشام، عن أبيه مرسلاً. وروى عن الزُّهري عن عروة، عن عائشة. قاله سويد بن عبدالعزيز، عن سفيان بن حسين ... " (2)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي تفرد عبدالوهاب وهو ابن الصلت أبو محمد البصري، برواية هذا الحديث عن أيوب السختياني.
ولم يشاركه فيه الأثبات من أصحاب أيوب السختياني مثل: حماد بن زيد وهو أثبت الناس فيه (3)، وإسماعيل ابن عُلية وعبدالوارث، بل قال ابن معين: " عبدالوارث مثل حماد، وهو أحب إلىَّ في أيوب من الثقفي وابن عيينة " (4)، وقد أشار البزار إلى علة هذا الإسناد، فقال بعد أن ساق حديث عبدالوهاب الثقفي: "وهذا الحديث قد رواه جماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلاً، ولا نحفظ أحداً، قال: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد إلا عبدالوهاب، عن أيوب " (5)، وبهذا يُعلم وجه التساهل فيمن صحح هذا الإسناد مثل العلامة الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (6).
_________
(1) وهو عبدالوهاب بن عبدالمجيد بن الصلت الثقفي (ت: 194 هـ)، ثقة تغير، من الطبقة الثامنة من الوسطى من أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج6/ص 397).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج4/ص 414)، سؤال رقم (665).
(3) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص365).
(4) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص367).
(5) البزار: في المسند (البحر الزَّخار)، (ج4/ص55)، برقم (1121).
(6) الألباني: محمد بن ناصر الدين الألباني (ت: 1420هـ)، صحيح أبي داود (باختصار السند) طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، (ج2/ص594)، برقم (2638).
(1/314)
وقد ثبت موقوفاً من قول عمر - رضي الله عنه -، وأشار إلى ذلك البخاري تعليقاً فقال: " وَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ وَيُرْوَى فِيهِ، عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (1).
فظهر صواب من أعلّ هذا الإسناد بدلالة التفرد، بخلاف من صححه، فإنه نظر لثقة رواته، وجاء بمتابعات لا تصلح لأن تكون شاهداً يُعتَضد به هذا الحديث، فحكم بصحته، وقد صحح قوم أحاديث كثيرة بهذه الطريقة، وهي في واقع أمرها إما معلولة أو شاذة تبعاً لحكم كبار النُّقاد عليها وسوف نوضح ذلك في النماذج التالية.
نموذج من تعليل النُقاد بدلالة قرينة التفرد:
لقد أكثر النُّقاد التعليل بالتفرد للدلالة على الخلل في الحديث، وأطلقوا لفظة التفرد على رواية الثقة والضعيف على السواء، أو قولهم: "لم يروه عن فلان إلا فلان، وغيرها من الألفاظ التي تدل على التفرد، وسوف نضرب مثالاً يوضح ذلك من مصنفاتهم:
قَالَ ابن عَدى في الكامل: " قال البخاري: سمعت أحمد بن حفص السعدي يقول: قيل لأحمد بن حنبل رحمة الله عليه (يعني وهو حاضر) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ يَصَوْمَ أَحَدٌ حَتَّى يَصَوْمَ رَمَضَانُ)) (2).
_________
(1) البخاري: الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الحرث والمزارعة، بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا (ج5/ص22)، قال الحافظ في الفتح: " وَصَلَهُ مَالِك فِي " الْمُوَطَّأ " عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ مِثْله، وَرَوَيْنَا فِي " الْخَرَاج لِيَحْيَى بْن آدَم " سَبَب ذَلِكَ فَقَالَ: " حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّاس يَتَحَجَّرُونَ - يَعْنِي الْأَرْض - عَلَى عَهْد عُمَر - رضي الله عنه -، قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ، قَالَ يَحْيَى: كَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ التَّحْجِير حَتَّى يُحْيِيهَا ".
(2) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، (ج3/ص 115)، برقم (738)، وأبو داود: في السنن، كتاب الصوم، باب في كراهية ذلك، (ج1/ص 713)، برقم (2337)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الصوم، باب ما جاء في النهي عن أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صوما فوافقه، (ج1/ص 528)، برقم (1651)، ثلاثتهم وغيرهم من طريق الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نحواً منه.
(1/315)
قَالَ: ذَاكَ أي ضَعِيفٌ، ثم قال: حديث العلاء كان يرويه وكيع عنه أبي العميس، عن العلاء وابن مهدي فكان يرويه ثم تركه، قيل عن من كان يرويه؟، قال: عن زهير ثم قال: ((إنَّ رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ)) " (1).
وقَالَ أَبو دَاود: " وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لاَ يُحَدِّثُ بِهِ قُلْتُ: لأَحْمَدَ لِمَ قَالَ؛ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ))، وَقَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَهُ.
قال أبو داود: وليس هذا عندي خلافه ولم يجئ به غير العلاء عن أبيه " (2).
وقال الحافظ ابن رجب: فى لطائف المعارف: " صححه الترمذى، وابن حبان، والحاكم، والطحاوى، وابن عبد البر، وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا هو حديث منكر، منهم عبدالرحمن بن مهدى، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازى، والأثرم وقال الإمام أحمد: "لم يرو العلاء حديثاً أنكر منه، ورده بحديث لاتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ". وقال الأثرم: " الأحاديث كلها تخالفهُ ".
ثم قال ابن رجب: " فصار الحديث شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة، وقال الطحاوى منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنَّه لا يعمل به " (3).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلانى: " قال أبو داود: سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان يعنى حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" (4).
وقَالَ المنَاوي فى فيض القدير: " وقال الترمذي حسن صحيح وتبعه المؤلف فرمز لحسنه، وتعقبه المغلطاي لقول أحمد: هو غير محفوظ، وفي سنن البيهقي عن أبي داود عن أحمد منكر،
_________
(1) ابن عدي: في الكامل في ضعفاء الرجال، (ج3/ص218)، ترجمة رقم (714).
(2) أبو داود: في السنن، كتاب الصوم باب في كراهية ذلك، (ج1/ص 713)، برقم (2337).
(3) ابن رجب: لطائف المعارف، طبعة دار الفتح القديمة، القاهرة (دت)، (ص142).
(4) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب، (ج8/ص166)، ترجمة رقم (336).
(1/316)
وقال ابن حجر وكان ابن مهدي يتوقاه " (1).
ثُمَّ وجدتُ عند الطبراني مُتابِعاً للعَلاءِ بن عَبْدالرَّحمن عن أبيه، فقال: ((حَدَّثَنَا أحمد بن مُحَمَّد بن نافع، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيدالله بن عَبْدالله المنكدري، حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن جده، عن عَبْدالرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُوْل الله صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: ((إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانٌ فَأَفْطِرُوا)).
قَالَ الطبراني عقبه: " لَمْ يروِ هَذَا الْحَدِيْث عن مُحَمَّد بن المنكدر إلا ابنه المنكدر، تفرد بِهِ ابنه: عَبْدالله " (2).
وهَذَه المتابعة لا يعتبر بها؛ لجهالة شيخ الطبراني، وَهُوَ: أحمد بن مُحَمَّد بن نافع، قال الذهبي في الميزان: " لا أدري مَنْ ذا؟ ذكره ابن الجوزي مرة وَقَالَ: اتهموه. كَذَا قَالَ لَمْ يزد " (3). وعبدالله بن المنكدر، قَالَ الذهبي: "فِيْهِ جهالة، وأتى بخبر منكر" (4).
قلتُ: وقد تكلف بعض النَّاس الجمع بين هذا الحديث والأحاديث المعارضة له، ولايصح الجمع بين الروايات، وقد ثبت خطأ العلاء بن عبدالرحمن (5) فيه، وطالما أنَّ هناك اختلافاً شاذاً من فرد عن الجماعة، وإن كان ثقة، بل العبرة بثبوت الرواية أولاً، ثم الجمع بين الرويات إن أمكن ذلك، وإلا فالترجيح، وكما قالوا قديماً أثبت العرش ثم انقش.
_________
(1) المناوي: محمد عبد الرؤوف بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (ت: 1031هـ)، فيض القدير، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، سنة 1415هـ، تحقيق: أحمد عبدالسلام (ج1/ص391).
(2) الطبراني: المعجم الأوسط، (ج2/ص 264)، رقم (1936).
(3) الذهبي: ميزان الاعتدال، (ج1/ص146)، ترجمة رقم (568).
(4) المصدر السابق، (ج2/ص 508)، ترجمة رقم (4627).
(5) العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، أبو شبل المدني (ت: مائة وبضع وثلاثون هـ)، صدوق ربما وهم، من الطبقة الخامسة من صغار التابعين، أخرج له الستة إلا البخاري فقد أخرج له في جزء القراءة خلف الإمام، تهذيب التهذيب (ج8/ص 166)، ترجمة رقم (336).
(1/317)
نتائج هامة:
- بمقارنة منهج الدارقطني في التعليل بالتفرد، بمنهج النُّقاد المتقدمين نجد أنَّ الدارقطني كان ينهج الأسلوب والمسلك الذي سلكه القوم، إلا أنه كان أوسع في جمع الطرق والشواهد والمتابعات، وكان لا يخرج عن منهج النُّقاد المتقدمين.
- من الملاحظ أنَّ غالب التفردات الْمُعلّة وقعت في الطبقات المتأخرة، كأصحاب الطبقة الثامنة: كعبدالوهاب بن الصلت الثقفي وغيره، وأصحاب الطبقة التاسعة كروح بن عبادة وغيره، والتفردات في الطبقات المتقدمة قليلة بالنسبة للمتأخرة.
المطلب الثاني: المخالفة ودلالتها كقرينة عند النُّقاد والدارقطني.
المخالفة من أهم الدلائل القوية على العلة عند النُّقاد المتقدمين وعلى رأسهم الدارقطني، ولقد أكثر النُّقاد من استعمال المخالفة للدلالة على الخلل الذي طرأ على المرويَّات، ولا شك أن لها ضابطاً وصوراً مختلفة، وسوف أجتهد لتوضيح ضابطها وصورها المختلفة، والمخالفة تكثر كلما كان المروي عنه مكثر، والعكس صحيح، تقل عندما تقل الرواية.
ضابط المخالفة:
وضابط المخالفة هو اتحاد المخرج في إسناد الحديث، أي أنَّ مدار الحديث واحد، قال ابن الصلاح: " وينبغي في التعارض أن يكون المخرج واحداً، وإلا فتعدد الوجوه المختلفة طرقاً مستقلة " (1).
وقال الحافظ في الفتح بعد حديث: " ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)).
قَوْله: (صَعِدَ أُحُدًا). هُوَ الْجَبَل الْمَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ وَلأَبِي يَعْلَى مِنْ وَجْه آخَر عَنْ سَعِيد " حِرَاء " وَالأَوَّل أَصَحّ، وَلَوْلا اِتِّحَاد الْمَخْرَج لَجَوَّزْتُ تَعَدُّد الْقِصَّة، ثُمَّ ظَهَرَ
_________
(1) الحافظ العراقي: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، (ص117).
(1/318)
لِي أَنَّ الاخْتِلَاف فِيهِ مِنْ سَعِيد، فَإِنِّي وَجَدْته فِي مُسْنَد الْحَارِث ابْن أَبِي أُسَامَة عَنْ رَوْح بْن عُبَادَة عَنْ سَعِيد فَقَالَ فِيهِ: " أُحُدًا أَوْ حِرَاء " بِالشَّكِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيث بُرَيْدَةَ بِلَفْظِ " حِرَاء " وَإِسْنَاده صَحِيح " (1).
صور المخالفة عند النقاد المتقدمين وعلى رأسهم الدارقطني:
وصور المخالفة تقع على أشكال متعددة وليس لها شكل محدد، فمنها ما يؤثر في صحة الخبر، ومنها لا يؤثر فيه، ولقد أجمل الإمام مسلم في كتابه التمييز صور المخالفة التي قد تطرأ على الأخبار، فقال: " فاعلم - أرشدك الله - إن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث، إذا هم اختلفوا فيه، من جهتين:
أحدهما: أن ينقل الناقل حديثاً بإسناد، فينسب رجلاً مشهوراً بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته، أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم كنعمان بن راشد حيث حدث عن الزهري، فقال: عن أبي الطفيل عمرو بن واثلة.
ومعلوم عند عوام أهل العلم أن اسم أبي الطفيل: عامر لا عمرو. وكما حدث مالك ابن أنس عن الزهري فقال: عن عباد - وهو من ولد المغيرة بن شعبة- وإنَّما هو عباد ابن زياد بن أبي سفيان. معروف النسب عند أهل النسب وليس من المغيرة بسبيل.
وكرواية معمر حين قال: عن عمر بن محمد بن عمرو بن مطعم، وإنَّما هو عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، خطأ لا شك عند نساب قريش وغيرهم ممن عرف أنسابهم. ولم يكن لجبير أخ يعرف بعمرو. وكنحو ما وصفت من هذه الجهة من خطأ الأسانيد فموجود في متون الأحاديث مما يعرف خطأه السامع الفهم حين يرد على سمعه.
_________
(1) الحافظ ابن حجر العسقلاني: فتح الباري (ج7/ص44)، تحت رقم (3675).
(1/319)
وكذلك نحو رواية بعضهم حيث صحّف، فقال: ((نَهَى النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَحّير، أَرَادَ النَّجَشْ)). وكما روى آخر، فقال: ((إنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحِرْفَةِ وَكَذَا وَكَذَا، أَرَادَ: مُلْحِداً فِي الْحَرَامِ)).
وكرواية الآخر، إذ قال: ((نَهَى رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَخَذْ الرُّوحَ عَرَضَاً أراد: الرُّوحَ غَرَضَاً. فهذه الجهة التي وصفنا من خطأ الإسناد، ومتن الحديث هي أظهر الجهتين خطأ، وعارفوه في الناس أكثر.
والجهة الأخرى: أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري، أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى مَنْ وصفنا من الحفاظ، دون الواحد المنفرد وإن كان حافظاً، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي، وغيرهم من أئمة أهل العلم. وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ، وخطأ المحدثين في الروايات ما يستدل به على تحقيق ما فسرت لك إن شاء الله " (1).
قلتُ: فوضح لنا صور المخالفة بين الواحد والجماعة، لا سيما الزيادة والنقص، فليس كل مخالفة تَدُلُ على علةٍ في الحديث، فقد تكون هناك مسوغات مقبولة للمخالفة كحدوث الاختلاف بالزيادة أو النقصان: كالاختلاف بين الوصل والإرسال، أو بين الرفع والوقف، ثم تساوي الفريقين في الرواية من جهة الضبط والعدد، وكان هذا الراوي الْمُختلف عليه إمامٌ واسع الرواية، فيُحتمل أن يكون هذا الحديث عنده من جميع هذه الوجوه؛ لأنَّهُ حافظ وشيوخه كثيرون فتكون هذه الروايَّات كلها صحيحة عنه.
_________
(1) الإمام مسلم: التمييز، (170 - 172).
(1/320)
وقال الحافظ ابن حجر: "واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح والحسن أن لا يكون شاذاً ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والمنقول عن أئمة المحدثين المتقدمين: كابن مهدي ويحيى القطان وأحمد وابن معين وابن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة، وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك " (1).
قلتُ: وقصد الحافظ ابن حجر أنَّ حكم قبول زيادة الثقة عند النُّقاد المتقدمين ليست مطلقةٌ، كما فعل بعض المتأخرين، بل تكون تبعاً للقرائن التي تؤيد قبولها أو ردها، فيعتبر النُّقاد اختلاف الوجوه عن الشيخ دليل على اضطراب حفظه، إلا إذا قامت قرينة من غير الروايات عنه تُرَجِحُ أحد هذه الوجوه، فإذا وجدنا ما يدل على صحة أحد هذه الوجوه من دليل خارجي، غير روايات هذا الرجل حكمنا به، وإن لم نجد: نحكم بالاضطراب على هذه الرواية، وقد دل على خطئه هو مخالفته للرواة الثقات.
وقال العلامة المعلمي اليماني في التنكيل: " فالاضطراب الضار أن يكون الحديث حجة على أحد الوجهين مثلاً دون الآخر، ولا يتجه الجمع ولا الترجيح، أو يكثر الاضطراب ويشتد بحيث يدل أن الراوي مضطرب، الذي مدار الحديث عليه لم يضبط " (2).
أولاً: نموذج المخالفة التي لا تؤثر على صحة الحديث ولا تُعِلَّه:
وكما ذكرنا من قبل أنَّ بعض الخلاف قد لا يؤثر على صحة الحديث، وبرهان ذلك ما قرره الدارقطني في حكمه على حديث عَلِيٍّ في حكم بول الغلام والجارية.
_________
(1) الحافظ ابن حجر العسقلاني: نزهة النظر شرح نخبة الفكر (ص49 - 50).
(2) المعلمي: التنكيل (ج2/ص7).
(1/321)
قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: عن حديث أبي الأسود الدؤلي عن علي - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ، وَيُصَبُّ عَلَى بَوْلِ الْغُلاَمِ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه رفعه هشام بن أبي عبدالله من رواية ابنه معاذ، وعبدالصمد بن عبدالوارث، عن هشام ووقفه غيرهما، عن هشام. وكذلك رواه سعيد بن أبي عروبة، وهمام، عن قتادة موقوفا، والله أعلم " (2).
وقال الإمام التِّرْمِذِي: " رفع هشام الدستوائي هَذَا الحَدِيْث عن قتادة وأوقفه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، وَلَمْ يرفعه " (3).
قال البزار: " هَذَا الحَدِيْث لا نعلمه يروى عن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا من هَذَا الوجه بهذا الإسناد، وإنَّما أسنده معاذ بن هشام، عن أبيه، وَقَدْ رَواهُ غَيْر معاذ بن هشام عن قتادة، عن أبي حرب، عن أبيه، عن عَلِيّ - رضي الله عنه -، موقوفاً " (4).
قلتُ: وقول البزار تفرد معاذ بن هشام بالرفع لَيْسَ بصَحِيْحٍ، فقَدْ تُوبِعَ معاذٌ - رضي الله عنه - على رفعه، تابعه عَبْدالصمد بن عَبْدالوارث عِنْدَ الإمام أحمد في المسند (5)، وبهذا يتبين لك دقة الدَّارَقُطْنِيّ حِيْنَ قال: يرويه قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، رفعه هشام بن أبي عَبْدالله من رِوَايَة ابنه معاذ وعبدالصمد بن عَبْدالوارث، عن هشام، ووقفه غيرهما عن هشام " (6).
_________
(1) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الجمعة، باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، (ج2/ص 509)، برقم (610)، ابن ماجه: في السنن، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، (ج1/ص 174)، برقم (525)، كلاهما من الطريق نفسه.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج4/ص 184 - 185)، سؤال رقم (495).
(3) الترمذي: السنن، (ج2/ص 509)، برقم (610).
(4) البزار: في مسنده (البحر الزَّخار)، (ج2/ 295).
(5) الإمام أحمد: في المسند (ج1/ص137)، برقم (1149).
(6) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج4/ص 184 - 185)، سؤال رقم (495).
(1/322)
ولا شك أنَّ الدَّارَقُطْنِيّ كان أجمع لطرق الخلاف في علل الحديث من غيره من الأئمة، وعلى الرغم من ذلك لمَّا نظَرَ في علل حديث الزّهري للذُّهْلِيّ قَالَ: " من أحبَّ أن ينظرَ ويعرفَ قصورَ علمهِ عن علم السلف فلينظرْ في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى " (1)
ونقل صاحب عون المعبود عن المنذري قَالَ: " قَالَ البُخَارِيّ: سعيد بن أبي عروبة لا يرفعه وهشام يرفعه، وَهُوَ حافظ " (2).
وقَالَ الحافظ ابن حجر في التلخيص: " إسناده صَحِيْح إلا أَنَّهُ اختلف في رفعه ووقفه، وَفِي وصله وإرساله، وَقَدْ رجح البُخَارِيّ صحته، وكذا الدَّارَقُطْنِيّ " (3).
قلتُ: فهذه الرِّوَايَة الموقوفة (4) قد صَحّحها الأئمة، ونقل الحافظ ابن حجر عن البُخَارِيّ والدارقطني كما سبق، أنَّ الرِّوَايَةَ المرفوعة صحيحة أيضاً، وهذا يدل عَلَى أن الحَدِيْث إذا صَحَّ رفعه ووقفه، فإن الحكم عندهم للرفع، وَلاَ تضر الرِّوَايَة الموقوفة إلا إذا قامت قرائن تدل عَلَى أن الرفع خطأ، والله تعالى أعلى وأعلم.
ثانياً: نموذج المخالفة التي تؤثر على صحة الحديث وتُعِلَّه:
قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: عن حديث القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى بردة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلاَ تَسْكَرُوا)) (5).
_________
(1) الدارقطني: سؤالات أبي عبدالرحمن السلمي، طبعة دار العلوم، الرياض، تحقيق: سليمان آتش، (ص 28)، سؤال رقم (352).
(2) محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب (ت:1329هـ): عون المعبود شرح سنن أبي داود، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1415هـ، (ج2/ص28).
(3) الحافظ ابن حجر العسقلاني: التلخيص الحبير، طبعة المكتبة العلمية، الرياض (ج1/ص187).
(4) أخرجها عَبْدالرزاق: في المصنف (ج1/ص381)، (1488)، من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال: يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام ما لم يطعم.
(5) أخرجه النَّسائي: في السنن، كتاب الأشربة، ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، (ج8/ص 722)، برقم (5693).
(1/323)
فقال - الدارقطني -: يرويه أَبُو الأَحْوَصِ، عن سِمَاكٍ، عن القاسم، عن أبيه، عن أَبِي بُرْدَةَ، واختلف عن أَبِي الأَحْوَصِ، فقال عنه سعيد بن سليمان، عن سماك عن أبي بردة عن أبيه، ووهم فيه على أبي الأحوص (1)، ووهم فيه أبو الأحوص على سِمَاكٍ أيضاً وإنَّما روى هذا الحديث سماك عن القاسم عن ابن بردة عن أبيه، ووهم أيضا في متنه، في قوله ولا تسكروا، والمحفوظ عن سِمَاكٍ أنَّه قال: وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي خطأ أَبِي الأَحْوَصِ - وهو ثقة من رجال الشيخين - في سند ومتن الحديث؛ لأن الحديث غير معروف عن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ بهذا الإسناد والمتن، والمحفوظ عن سِمَاك خلافه، ولم يتفرد الدارقطني بإعلال الحديث بل أعلَّه جمع من النُّقاد المتقدمين بالعلةِ نفسها منهم: أَبَو زُرْعَةَ، والنسائي، وبرهان ذلك:
قَالَ عبدالرَّحمن بن أبي حاتم: وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثٍ: أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ، وَلا تَسْكَرُوا)).
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: فوَهِمَ أَبُو الأَحْوَصِ، فَقَالَ: عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَلَبَ مِنَ الإِسْنَادِ مَوْضِعًا، وَصَحَّفَ فِي مَوْضِعٍ أَمَّا الْقَلْبُ: فَقَوْلُهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، أَرَادَ: عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، ثُمَّ احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ: ابْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه -، فَقَلَبَ الإِسْنَادَ بِأَسْرِهِ وَأَفْحَشَ فِي الْخَطَأ، وَأَفْحَشُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشْنَعُ تَصْحِيفُهُ فِي مَتْنِهِ: ((اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلا تَسْكَرُوا)).
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَبُو سِنَانٍ ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَزُبَيْدٌ الْيَامِيُّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَسِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ سُبَيْعٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وسلمة بن كهيل كلهم عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((نَهَيْتُكُمْ عَنْ
_________
(1) هو سلام بن سليم الحنفى مولاهم، أبو الأحوص الكوفي (ت: 179 هـ)، ثقة متقن، من الطبقة السابعة من كبار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج4/ص 248).
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ص26)، سؤال رقم (955).
(1/324)
زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِي فَوْقَ ثَلاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ، وَلا تَشْرَبُوا مُسْكِراً)).
وَفِي حَدِيثِ بَعْضِهِمْ، قَالَ: ((وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحُدٌ مِنْهُمْ: وَلا تَسْكَرُوا)). وَقَدْ بَانَ وَهْمُ حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ، مِنَ اتِّفَاقِ هَؤُلاءِ الْمُسَمَّى عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِلافِهِ " (1).
وقال النَّسائي بعد هذا الحديث: " وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غَلِطَ فِيهِ أَبُو الأَحْوَصِ سَلاَّمُ بْنُ سُلَيْمٍ لاَ نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا تَابَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ وَسِمَاكٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَكَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَانَ أَبُو الأَحْوَصِ يُخْطِئُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَالَفَهُ شَرِيكٌ فِي إِسْنَادِهِ وَفِي لَفْظِهِ " (2).
قلتُ: وواضح أنَّ الإمامين أَبَا زُرْعَةَ والنَّسائي حكما نفس حكم الإمام الدارقطني على الحديث لم يتغير من إمام إلى غيره، وهو الإعلال بعلة مخالفة أبي الأَحْوَصِ جمعاً ممن رواه عن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، منهم شَرِيك بن عبدالله كما أشار إليها الإمام أحمد، والله الموفق.
نتيجة هامة:
- بمقارنة منهج الدارقطني في التعليل بالمخالفة، بمنهج النُّقاد المتقدمين نجد أنَّ الدارقطني كان ينهج الأسلوب والمسلك الذي سلكه النُّقاد المتقدمون، إلا أنَّه كان أوسع في جمع الطرق، وبيان العلة والترجيح بين المرويَّات من غيره.
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل، (ص1094)، برقم (1549).
(2) النَّسائي: في السنن، كتاب الأشربة، ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، (ج8/ص 722)، بعد حديث رقم (5693).
(1/325)
المبحث الثاني: قرائن التعليل الإسنادية.
وقرائن التعليل الإسنادية هي الأدلة والبراهين التي يستند إليها أئمة النُّقاد في تعليل الأحاديث من جهة الإسناد، من حيث أحوال رجاله الخاصة والعامة، وما يطرأ على الإسناد من أنواع الخلل، كالانقطاع، والتدليس، والضعف وغيرها من أسباب الطعن في الإسناد، وسوف أجتهد في هذا المبحث لتوضيح بعض هذه الأدلة والبراهين التي كان الدارقطني والنُّقاد يستندون عليها في كلامهم على الأحاديث المعلولة.
المطلب الأول: قرينة ضعف الثقة في بعض شيوخه الثقات.
وهذه القرينة من أدق الأدلة التي كان الدارقطني يستند عليها، وكذلك الأئمة النُّقاد في تعليلهم للأحاديث، وتظهر هذه القرينة عندما يروي أحد الثقات أحاديث عن شيوخه الثقات كذلك ولكنها تكون ضعيفة من هذا الطريق؛ لأسباب قد تكون في الراوي أو في شيخه، وسوف نضرب بعد الأمثلة التي تُظْهِر وتُوضح هذه الأدلة:
المثال الأول: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: " عن حديث المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه محمد بن عجلان، واختلف عنه، فرواه روح بن القاسم والليث بن سعد، وأبو عاصم النبيل، والمفضل بن فضالة، وبشر بن المفضل، وجرير، وابن جريج عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
وخالفهم الوليد بن مسلم، وصفوان بن عيسى روياه، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة.
_________
(1) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الاستئذان والآداب، باب التسليم عند القيام وعند القعود (ج5/ص 62)، برقم (2706)، وأبو داود: في السنن، كتاب الأدب، باب في السلام إذا قام، (ج2/ص 774)، برقم (5208) من طريق ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحواً منه.
(1/326)
ورواه هشام بن حسان، عن محمد بن عجلان (1) عن أبيه، عن أبي هريرة، والصواب قول من قال: عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
وكذلك رواه يعقوب بن زيد الأنصاري، عن المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي خطأ الوليد بن مسلم، وصفوان بن عيسى فقد رويا الحديث عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة. والصحيح الراجح كما رواه الحفاظ عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وأصل قرينة العلة هنا أنَّ ابن عجلان اختلط عليه أحاديث أبي هريرة التي سمعها من سعيد المقبري.
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: " قال أبي: بلغني عن يحيى بن سعيد قال لم يقف ابن عجلان يعني على حديث سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة فتركها فكان يقول سعيد المقبري، عن أبي هريرة ترك أباه " (3).
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال: " قال البخاري في ترجمة ابن عجلان في الضعفاء: قال لي علي بن أبي الوزير، عن مالك: إنه ذكر ابن عجلان، فذكر خبراً.
وقال البخاري: قال يحيي القطان: لا أعلم إلا أني سمعت ابن عجلان يقول: كان سعيد المقبرى يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، وعن رجل، عن أبي هريرة، فاختلط فجعلهما عن أبي هريرة. كذا في نسختي بالضعفاء للبخاري " (4).
_________
(1) هو محمد بن عجلان القرشي، أبو عبد الله المدني (ت: 148 هـ)، صدوق، من الطبقة الخامسة من صغار التابعين، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم في الشواهد، والأربعة في السنن، تهذيب التهذيب (ج9/ص 303)، قال الحافظ ابن حجر: " اختلطت عليه أحاديث أبى هريرة ".
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج10/ص389 - 390)، سؤال رقم (2074).
(3) الإمام أحمد: العلل ومعرفة الرجال (ج1/ص350)، (658).
(4) الذهبي: ميزان الاعتدال (ج3/ص645).
(1/327)
قال ابن رجب: " قال أبو عيسى- يعني الترمذي -: وإنما تكلم يحيى بن سعيد القطان عندنا في رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري:
حدثنا أبوبكر، عن علي بن عبد الله قال: قال يحيى بن سعيد، قال محمد بن عجلان: أحاديث سعيد المقبري بعضها عن سعيد عن أبي هريرة، وبعضها عن سعيد عن رجل عن أبي هريرة، فاختلطت عليَّ فصّيرتها عن سعيد عن أبي هريرة.
وإنما تكلم يحيى بن سعيد عندنا في ابن عجلان لهذا. وقد روى يحيى عن ابن عجلان الكثير " (1).
وقال أيضاً: "قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: كان يحيى بن سعيد لا يرضى محمد بن عجلان. قال: وسمعت يحيى بن سعيد يقول: لو جرّبت من أروى عنه لم أرو إلا عن قليل!. قال: وفي كتاب علي بن المديني قال يحيى بن سعيد: قال ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبيه عن أبي هريرة، وعن رجل عن أبي هريرة، فاختلط عليّ فجعلته عن أبي هريرة، قال يحيى: سمعته منه أو حدثته عنه، ولا أعلم إلا أني سمعته منه. وقال أحمد: كان ثقة إلا أنه اختلط عليه حديث المقبري: كان عن رجل جعل يصيره عن أبي هريرة " (2).
قلتُ: ولم يقتصر الاختلاط الذي حدث في حديث ابن عجلان على أحاديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، بل تجاوز ذلك إلى أحاديث سعيد المقبري عن شيوخه الأخرين عن أبي هريرة، وبرهان ذلك:
ما رواه النَّسائي من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دُعَاءٍ لاَ يُرْفَع)) (3).
_________
(1) ابن رجب: شرح العلل للترمذي (ص131 - 132).
(2) المصدر السابق: (ص133).
(3) أخرجه النَّسائي: في السنن، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من دعاء لا يسمع، (ج8/ص 680)، برقم (5551)، من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري، أبي هريرة به.
(1/328)
قال النَّسائي عقب هذا الحديث: " سَعِيدٌ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلْ سَمِعَهُ مِنْ أَخِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " (1).
المثال الثاني: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: " عن حديث ابن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الرِّجْلُ جُبَارٌ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عنه، فرواه محمد بن يزيد الواسطي وعباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، ورواه أبو أمية الطرسوسي، عن بشر بن آدم عن عبَّاد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة جمع بينهما.
وليس أبو سلمة بمحفوظ في هذا الحديث، حدثنا عبدالله بن محمد البغوي، قال: ثنا داود بن رشيد ثنا عبَّاد بن العوام، ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الرِّجْلُ جُبَارٌ)) " (3).
قلتُ: وأصلُ قرينة العلة التي استند عليها الدارقطني في هذا الحديث هي أنَّ سفيان بن حسين (4) روى هذا الحديث من طريق الزهري وهو ضعيف فيه، ثقة فيما عداه، وقال الدارقطني في السنن: " لم يتابع سفيان بن حسين على قوله: "الرِّجْلُ جُبَارٌ " وهو وهم؛
لأنَّ الثقات الذين قدمنا أحاديثهم خالفوه، ولم يَذكُروا ذلك " (5).
_________
(1) النَّسائي: في السنن، (ج8/ص 680)، بعد حديث رقم (5551).
(2) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الديات، باب في الدابة تَنْفَحُ بِرِجْلِهَا (ج2/ ص606)، برقم (4592)، والحديث ضعيف للعلة التي أشرنا إليها، والرَّجْلُ: الدابة تَنْفَحُ بِرِجْلِهَا.
(3) أبو الحسن الدارقطني، كناب العلل (ج9 / ص 120 - 121)، سؤال رقم (1670).
(4) هو سفيان بن حسين بن الحسن، أبو محمد، ويقال: أبو الحسن، الواسطي (ت:153هـ)، ثقة في غير الزهري، أخرج له الستة إلا البخاري في التعاليق، تهذيب التهذيب (ج4/ 96).
(5) أبو الحسن الدارقطني: السنن، طبعة دار المحاسن، القاهرة، سنة1386هـ تحقيق: السيد عبدالله هاشم يماني المدني، (ج3/ص 152).
(1/329)
وقال المزي في تحفة الأشراف: " وقال النَّسائي: سفيان بن حسين في الزهري ضعيف وفي غيره لا بأس به " (1).
وقال ابن حبان: "يروى عن الزهري المقلوبات وإذا روى عن غيره أشبه حديثه حديث الأثبات، وذاك أنَّ صحيفة الزهري اختلطت عليه فكان يأتي بها على التوهم، فالإنصاف في أمره تنكب ما روى عن الزهري، والاحتجاج بما روى عن غيره " (2).
وقال ابن عدي في الكامل: " هو في غير الزهري صالح الحديث كما قال ابن معين، ومن الزهري يروي عنه أشياء خالف فيها الناس من باب المتون ومن الأسانيد (3).
وقال الحافظ ابن حجر: " قال ابن أبي خيثمة، عن يحيى: ثقة في غير الزهري " (4).
قلتُ: فظهر أنَّ قرينة ضعف الثقة في بعض شيوخه الثقات من أهم القرائن التي كان يعتمد عليها النُّقاد في كلامهم على الأحاديث وتعليلها، مما قد يفيد الباحث في تتبع هذه القرائن ومعرفة الأسباب والمعايير التي بنى عليها النُّقاد أحكامهم في الأحاديث المعلولة.
المطلب الثاني: قرينة ضعف الثقة في بعض البلدان.
وهذه القرينة من الأدلة المهمة التي كان الدارقطني يَسْتَنِد عليها، وكذلك الأئمة النُّقاد في تعليلهم للأحاديث، وهذه القرينة تظهر عندما يروي أحد الثقات أحاديث قوم أو بلد معين، وهو غير حافظ لحديثهم، ويرجع ذلك لأسباب قد تطرأ على الراوي أو مرويَّاته، مثل إسماعيل بن عياش وهو شامي إذا حدث عن الشاميين كان صحيحاً، وإذا حدث عن غيرهم كان ضعيفاً، ومثل معمر بن راشد البصري ضعيف في أهل الكوفة والبصرة، وخالد بن مخلد
_________
(1) يوسف بن عبدالرحمن بن الزكي المزي (ت:742هـ): تحفة الأشراف، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت سنة 1403هـ، تحقيق: عبدالصمد شرف الدين، (ج13/ص 375).
(2) ابن حبان: المجروحين (ج1/ص358).
(3) ابن عدي: الكامل في الضعفاء (ج3/ص 415).
(4) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج4/ 96).
(1/330)
القَطَواني صحيح في أهل المدينة، ضعيف في غيرها (1)، وهكذا تكون هذه المؤشرات دلالات واضحة لتعليل الحديث، وسوف نأخذ نموذج يوضح ذلك:
المثال: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: " عن حديث الأسود، عن عمر - رضي الله عنه -: ((كَانَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه إسماعيل بن عياش (3)، عن عبدالملك بن حميد بن أبي غنية عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخالفه إبراهيم النخعي رواه، عن الأسود، عن عمر قوله غير مرفوع، وهو الصحيح" (4).
قلتُ: وقرينة العلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنَّ إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث عن عبدالملك بن حميد بن أبي غنية وهو كوفي (5)، وإسماعيل بن عياش ضعيف
في غير الشاميين، كما قال جمع من أئمة النقد، وقد نقل ذلك الحافظ ابن رجب في شرح العلل فقال: " إذا حدث عن الشاميين فحديثه عنهم جيد وإذا حدث عن غيرهم فحديثه مضطرب، هذا مضمون ما قاله الأئمة فيه، منهم أحمد، ويحيى، والبخاري، وأبو زُرْعَةَ " (6).
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص420 - 421).
(2) هو إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، أبو عتبة الحمصي (ت: 181 أو 182 هـ)، صدوق فى روايته عن أهل بلده، مخلط فى غيرهم، أخرج له الأربعة، تهذيب التهذيب (ج1/ص 280).
(3) أخرجه الدارقطني: في السنن، (ج1/ص299 - 300)، من طريق الأسود عن عمر موقوفاً.
(4) أبو الحسن الدارقطني، كناب العلل (ج2/ص141 - 142)، سؤال رقم (165).
(5) هو عبدالملك بن حميد بن أبى غنية الخزاعي الكوفي (ت:؟)، ثقة من الطبقة السابعة، من كبار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج6/ ص 349).
(6) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص420).
(1/331)
وقال ابن حبان في المجروحين: " عن ابن أبى شيبة قال: سمعت يحيى بن معين وذكر عنده إسماعيل بن عياش فقال: كان ثقة فيما يروى عن أصحابه أهل الشام، وما روى عن غيرهم يخلط فيه " (1). وقال الذهبي في الميزان: " وقال البخاري: إذا حَدَّث عَنْ أَهْلِ بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر " (2).
وقد أشار كذلك النُّقاد المتقدمون في مصنفاتهم لهذه القاعدة الخاصة بحديث إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عَيَّاشٍ في غير بلده، فقال عبدالرَّحمن بن أبِي حاتم: " وَسَمِعْتُ أَبِي، وَذَكَرَ حَدِيثَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لا يَقْرَا الْجُنُبُ وَلا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ)) (3).
فَقَالَ أَبِي: هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ (4).
قلتُ: وقرينة العلة التي أشار إليها الدارقطني هي أنَّ إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وهو مدني (5)، وقد سأل الترمذي البخاري عن هذا الحديث فأنكره
فقال: " سألت مُحمدًا عن حديث إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((لا تَقْرَا الْحَائِضُ ولا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ))، فقال لا أعرفه من حديث ابن عقبة وإسماعيل بن عياش منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق " (6).
_________
(1) ابن حبان البُستي: المجروحين (ج1/ص125).
(2) الذهبي: ميزان الاعتدال (ج1/ص241)، ترجمة رقم (923).
(3) أخرجه ابن ماجه على الوجه المعلول: في السنن، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، (ج1/ص 236) برقم (131)، من الطريق نفسها.
(4) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص265)، رقم (116).
(5) موسى بن عقبة بن أبى عياش القرشي، أبو محمد المدني (ت:141 هـ)، ثقة، من الطبقة الخامسة من صغار التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج10/ ص321).
(6) الترمذي: ترتيب علل الترمذي الكبير (ج1/ص19).
(1/332)
وقد أيَّد هذا الحكم الإمام أحمد لما سئل عن الحديث نفسه، فقال عَبْدُاللهِ بْن أحمد بن حنبل: " سَألت أبِي عَنْ حديث حدثناه الفضل بن زياد الذي يقال له الطسي، قال حدثنا إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَقْرَا الْجُنُبُ وَلا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ)).
فَقَالَ أَبِي: هذا باطل أنكره على إسماعيل بن عياش، يعني أنَّه وهم من إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ " (1).
قلتُ: فظهر بذلك مدى أهمية ودقة قرينة ضعف الثقة في بعض البلدان، وكيف كان النُّقادُ يعتمدون على التعليل بها، ولاشك أنَّ معرفة ذلك للباحث في مناهج المتقدمين من أهم المهمات للوقوف على القرائن المعتمدة عند أهل النقد.
المطلب الثالث: قرينة ضعف الثقة في بعض الأحوال.
وهذه القرينة من أدق وأهم الأدلة التي كان الدارقطني يستند عليها، وكذلك الأئمة النُّقاد في تعليلهم للأحاديث، وتحدث هذه القرينة عندما يكون الراوي الثقة قوياً وثبتاً في الرواية في أحوال معينة دون غيرها، كالمختلطين لهم أحكام من روى عنهم قبل الاختلاط ومن روى عنهم في زمن الاختلاط، أو كمن احترقت كتبه له حكمان كذلك، وغيرها
من الأحوال التي قد تدل على خلل في الراوي أو المرويَّات، ولذا اهتم المؤرخون بمثل هذه الأحداث وأَرَّخُوا لها، ليتمكن النُّقاد من معرفة أحوال الرجال وبالتالي الحكم على الأحاديث والآثار، وسوف أجتهد في توضيح ذلك بضرب الأمثلة الآتية:
المثال الأول: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: " عن حديث روي عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ ذَكَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي نَفْسِهِ ذَكَرَهُ اللهُ فِي
_________
(1) الإمام أحمد: العلل ومعرفة الرجال، (ج3/ص381)، سؤال رقم (5675).
(1/333)
نَفْسِهِ، وَمَنْ ذَكَرَ اللهَ فِي مَلأ)) (1)، الحديث وفيه تقرب إلى الله ... الحديث.
فقال - الدارقطني -: يرويه عطاء بن السائب، واختلف عنه فرواه جرير، عن عطاء عن أبي عبدالرحمن، عن أبي هريرة، وخالفه حماد بن سلمة، فرواه عن عطاء بن السائب عن سلمان الأغر (2)، عن أبي هريرة. هذا من عطاء بن السائب؛ لأنَّه اختلط في آخر عمره " (3).
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي: اختلاط عطاء بن السائب في آخر عمره، وثبت أنَّ جرير، وحماد بن سلمة سمع منه بآخرٍ، وأبو عبدالرحمن وهو عبد الله ابن حبيب السلمي، ولم يرجح الدارقطني رواية جرير وهو ابن عبدالحميد بن قرط، ولا رواية حماد بن سلمة؛ لأن جرير وحماد سمعا من عطاء بن السائب بعد الاختلاط، قال أبو سعيد العلائي: " وذكر العقيلي أن حماد بن سلمة ممن سمع منه بعد الاختلاط.
قال ابن القطان: وكذلك جرير وخالد بن عبد الله وابن علية وعلي بن عاصم وبالجملة
أهل البصرة فإنَّ أحاديثهم عنه مما سمع بعد الاختلاط لأنَّه قدم عليهم في آخرة عمره" (4)
وقال أيضاً: " وثقه أحمد بن حنبل مطلقاً، وأحمد بن عبدالله العجلي وقال: من سمع منه بأخرةٍ فهو مضطرب الحديث. منهم: هشيم، وخالد بن عبدالله " (5).
_________
(1) أخرجه أبو عبدالله الحاكم: في المستدرك (ج4/ص275)، برقم (7625)، من طريق جرير، عن عطاء، عن أبي عبدالرحمن، عن أبي هريرة وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي في التلخيص، قلتُ: بل ليس بصحيح؛ فإنَّ جرير ممن سمع منه بآخرة عمره.
(2) هو سلمان الأغر، أبو عبد الله المدني، مولى جهينة (ت:؟)، ثقة من الطبقة الثالثة، الوسطى من التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج4/ ص122).
(3) أبو الحسن الدارقطني، كناب العلل (ج8/ص287 - 288)، سؤال رقم (1574).
(4) العلائي: خليل بن كيكلدي بن عبدالله، صلاح الدين أبو سعيد العلائي (ت:761 هـ)، المختلطين، طبعة مكتبة الخانجي، بالقاهرة سنة 1996م، (ص28) ترجمة رقم (33).
(5) المصدر السابق: (ص28) ترجمة رقم (33).
(1/334)
المثال الثاني: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -:" عن حديث روي عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة: ((لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه محمد بن عبدالرحمن مولى آل طلحة عنه، واختلف عنه فرواه مسعر عنه موقوفاً، واختلف عن المسعودي فرفعه عنه قوم، ووقفه وكيع عنه، وقيل عن ابن عيينة عن مسعر مرفوعاً ولا يثبت " (2).
قلتُ: وقرينة العلة التي أشار إليها الدارقطني هي: أنّ المسعودي وهو عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة الكوفي (3)، اختلط قبل موته، وكان ممن سمع منه قبل الاختلاط وكيع ابن الجراح، فالقوم الذين رفعوا الحديث عن المسعودي أخطئوا في رفعه، وقد رجَّح الدارقطني الموقوف.
قَالَ عبدُاللهِ بن أحمد بن حنبل: " سمعت أبي يقول سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديما وأبو نعيم أيضا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد " (4).
وقال ابن رجب في ترجمة المسعودي: " وأما يزيد بن هارون وحجاج ومن سمع منه ببغداد في الاختلاط إلا من سمع منه بالكوفة يعني أن سماع من سمع منه بالكوفة صحيح،
_________
(1) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله، (ج4/ص 171)، برقم (1633)، وقال: " حديث حسن صحيح "، وأخرجه غيره.
(2) أبو الحسن الدارقطني، كناب العلل (ج8/ص336)، سؤال رقم (1606).
(3) عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة بن عبدالله بن مسعود الكوفي (ت: 160 وقيل 165 هـ)، صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط، من الطبقة السابعة من كبار أتباع التابعين، أخرج له الأربعة والبخاري تعليقاً، تهذيب التهذيب (ج6/ ص190).
(4) الإمام أحمد: العلل ومعرفة الرجال، (ج1/ص 325)، سؤال رقم (575).
(1/335)
ومن سمع منه ببغداد كيزيد بن هارون، وحجاج فهو بعد الاختلاط " (1).
ولقد علّل النُّقاد قبل الدارقطني أحاديث بعلة تغير الأحوال منهم الأئمة: أحمد بن حنبل والبخاري، والترمذي وغيرهم في مصنفاتهم، وسنضرب بعضاً منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قَالَ الترمذي: "حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الرزاق عن مَعْمر عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: ((كَانَ لِنَعِلِ رسُول اللهِ قِبَالاَنِ (2)) (3).
سألت مُحمدًا - يعني البخاري -: عن هذا الحديث فلم يعرفه، قال: قلتُ كيف صالح مولى التوأمة (4)؟، قال: قد اختلط في آخر أمره من سمع منه قديماً سماعه مقارب وابن أبي ذئب ما أرى أنه سمع منه قديماً يروي عنه مناكير " (5).
قلتُ: والعلة التي صرح بها البخاري وهي اختلاط صالح مولى التوأمة في آخر أمره، وقد رواه عنه ابن أبي ذئب وهو ممن سمع منه بعد الاختلاط، فصار هذا الإسناد معلول بهذه العلة، وإلا فمتن الحديث صحيح أخرجه البخاري وأصحاب السنن، والله الموفق.
المثال الثاني: قال البزار: " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جُرَيِّ بْنِ كُلَيْبٍ، رَجُلٍ مِنْهُمْ، عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالأُذُنِ.
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص399 - 400).
(2) أَي زِماما القِبال: وهو السير الذي يكون بين الإِصبعين، لسان العرب (ج11/ص 534).
(3) أخرجه الطبراني على الوجه المعلول: في المعجم الكبير (ج1/ص219)، برقم (596).
(4) صالح بن نبهان، أبو محمد المدني، مولى التوأمة (ت: 125 أو 126 هـ)، صدوق اختلط، من الطبقة الرابعة، أخرج له الأربعة إلا النَّسائي، تهذيب التهذيب (ج4/ ص 355).
(5) الترمذي: ترتيب علل الترمذي الكبير (ج1/ص107).
(1/336)
قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَقَالَ: نَعَمِ الْعَضَبُ النِّصْفُ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ" (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها البزار هي اختلاط سعيد بن أبي عروبة قبل موته، وقد ثبت أنَّ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ سمع منه بعد الاختلاط، قال الحافظ ابن رجب: " قال أبو نعيم الفضل بن دُكَين: كتبت عن سعيد، جاء ابن أبي عدي إلى ابن أبي عروبة بآخره يعني وهو مختلط " (2).
وقد أرَّخ الإمام أحمد لتاريخ الاختلاط فقَالَ عبدُاللهِ بن أحمد: " قال أبي ومن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الهزيمة فسماعه جيد ومن سمع بعد الهزيمة (3)، كأن أبي ضعفهم. فقلت له: كان سعيد اختلط؟ قال: نعم، ثم قال من سمع منه بالكوفة مثل محمد بن بشر، وعبدة فهو جيد، ثم قال قدم سعيد الكوفة مرتين قبل الهزيمة " (4).
قلتُ: وليس كل من اختلط أو تغير حاله أرَّخ له النُّقاد، بل يوجد بعض ممن طرأ على حاله الاختلاط أو التغير، ولم يحدد النُّقاد تاريخ ذلك التغير، إلا إنَّ لهم مؤشرات أخري يعتمدون عليها لتحديد من سمع قبل الاختلاط، ومن سمع بعده، وبنهاية هذا المطلب ينتهي مبحث القرائن الإسنادية، يظهر لنا أهمية معرفة أحوال الرواة عند الدارقطني والنُّقاد المتقدمين، والله الموفق.
_________
(1) الإمام البزار: المسند (البحر الزَّخار)، (ج1/ص496)، رقم (875).
(2) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص397).
(3) قال الإمام أحمد: في العلل ومعرفة الرجال (ج1/ص 163) "وكانت الهزيمة في سنة خمس وأربعين ومائة "، قلتُ: فيكون بداية الاختلاط من سنة (145هـ)، فمن سمع بعدها فلا يثبت حديثه، ومن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبلها فحديثه صحيح مقبول.
(4) الإمام أحمد: العلل ومعرفة الرجال، (ج1/ص 163)، سؤال رقم (86).
(1/337)
نتائج هامة:
- بمقارنة منهج الدارقطني في استعمال القرائن الإسنادية بغيره من أئمة النقد المتقدمين نجده لا يختلف كثيراً عنهم، فإنَّه كثيراً ما كان يستند للقرائن والدلائل التي كان النُّقاد يستعملونها في إعلال المرويَّات من جهة الإسناد.
- ولا شك أنَّ قرائن التعليل الإسنادية كثيرة ومتعددة، ولا يمكن حصرها إلا بعد جهد كبير وسبر لأقوال الأئمة النُّقاد، ودراسة الدلائل التي كانوا يستندون عليها ولم أرَ أنَّ أحداً جمع مثل هذا في مصنف واحد، والله أعلم.
- إنَّ دراسة أحوال الرواة من أهم الوسائل والدلالات لمعرفة العلل الكامنة في الآثار والأخبار، ولقد اهتم النُّقاد بتحقيق وتحديد أنواع الخلل الذي قد يطرأ على الرواة والمرويّات، لاستخراج الأدلة على بطلان الأخبار الضعيفة والمكذوبة.
(1/338)
المبحث الثالث: قرائن التعليل المتنية.
وقرائن التعليل المتنية هي الأدلة والبراهين التي كان يستند إليها أئمة النُّقاد في تعليل الأحاديث من جهة المتن، ولقد اهتم النُّقاد بالكلام على علل متون الأحاديث كاهتمامهم بعلل الإسناد، ولم يقتصر اهتمامهم على فحص الأسانيد ودراستها، بل تجاوز ذلك إلى دراسة المتون ونقدها، واستخراج الدلالات على ضعف المتن ونكارته تبعاً لقواعد ثابتة وقرائن، بخلاف زعم المستشرقين الذين قالوا: أنَّ نُّقاد الحديث لا يهتمون بنقد المتون، وسوف نثبت بالأدلة الواضحة إن شاء الله فساد هذا الزعم، والله هو الهادي سبحانه.
المطلب الأول: قرينة مخالفة الحديث للسُنّة الثابتة المشهورة.
لقد اهتم النُّقاد بقرينة مخالفة الحديث للسنة الصحيحة الثابتة المتفق عليها بين الأئمة، ولقد أعلّ الدارقطني بهذه القرينة جملة أحاديث نذكر منها بعض الأمثلة:
المثال الأول: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: عن حديث القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى بردة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلاَ تَسْكَرُوا)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه أَبُو الأَحْوَصِ، عن سِمَاكٍ، عن القاسم، عن أبيه، عن أَبِي بُرْدَةَ، واختلف عن أَبِي الأَحْوَصِ، فقال عنه سعيد بن سليمان، عن سماك عن أبي بردة عن أبيه، ووهم فيه على أبي الأحوص (2)، ووهم فيه أبو الأحوص على سِمَاكٍ أيضاً وإنَّما روى هذا الحديث سماك عن القاسم عن ابن بردة عن أبيه، ووهم أيضاً في متنه، في قوله ولا تسكروا، والمحفوظ عن سِمَاكٍ أنَّه قال: وكل مسكر حرام " (3).
_________
(1) أخرجه النَّسائي: في السنن، كتاب الأشربة، ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، (ج8/ص 722)، برقم (5693).
(2) هو سلام بن سليم الحنفي مولاهم، أبو الأحوص الكوفي (ت: 179 هـ)، ثقة متقن، من الطبقة السابعة من كبار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج4/ص 248).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ص26)، سؤال رقم (955).
(1/339)
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي مخالفة أَبِي الأَحْوَصِ الثقات في متن الحديث؛ لأنَّ الحديث غير معروف عن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ بهذا الإسناد والمتن، والمحفوظ عن سِمَاك أنَّه قال: وكل مسكر حرام، فخالف المشهور الثابت من الأحاديث، وهذه القرينة كثيراً ما يعلّ بها النُّقاد الأحاديث، وهي من أظهر القرائن، والله أعلم.
المثال الثاني: قَالَ الدارقطني في العلل: " وحدَّثَ الحسن بن بسطام الأيلي من حفظه عن ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد فخلط في متنه.
قال: عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جَاءَكُم أَوْ أَظَلَكُمْ شَهْرُ رَمَضّانَ افْتَرَضَ اللهُ عَلَيكُمْ صِيَامَهُ، وَسَنَنْتُ عَلَيكُمْ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ ...)) الحديث
حَدَّثَنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال: حدثنا محمد بن منصور الطوسي والعباس بن محمد قالا: ثنا إبراهيم بن أبي العباس، قال: أخبرنا أبو أويس، عن الزهري أخبرني أبو سلمة وحميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنَّ رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (1) " (2).
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي مخالفة المتن المعلول لمتن الحديث المتفق عليه: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، وهو المحفوظ عن الثقات، وبهذه القرينة أُعلّ الحديث.
وقد أعلَّ النُّقاد بدلالة هذه القرينة جملة من الأحاديث نذكر منها بعض النماذج:
_________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (ج4/ص292)، برقم (2009)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي)، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (ج3/ص295)، برقم (759)، كلاهما من طريق مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به.
(2) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج9/ص231)، سؤال رقم (1731).
(1/340)
المثال الأول: قَالَ صَالِحُ بْنُ أحمد بن حنبل: " قال: حدثني أبي، قال: أنبأنا الوليد ابن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة - رضي الله عنه -: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ)) (1).
قال أبي - يعني أحمد بن حنبل - فذكرت ذلك لعبدالرحمن بن مهدي فذكر، عن ابن المبارك، عن ثور، قال: حدثت عن رجاء، عن كاتب المغيرة، ولم يذكر المغيرة، قال أبي: ولا أرى الحديث يثبت وقد روى عن سعد وأنس أنهما مسحا أعلى الخفين" (2).
قال الترمذي: "وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَمْ يُسْنِدْهُ عن ثور بن يزيد غير الوليد بن مسلم، وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح؛ لأن ابن المبارك روى هذا عن ثور عن رجاء بن حيوة قال: حدثت عن كاتب المغيرة مرسل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمُغِيرَةُ - رضي الله عنه - " (3).
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الإمام أحمد هي مخالفة المتن المعلول للمتن المتفق عليه من حديث المغيرة في مسح أعلى الخفين وليس أسفله، فظهرت علة الحديث.
المثال الثاني: قَالَ ابن عَدى في الكامل: " قال البخاري: فذكر نحوَ هذا الكلام سمعت أحمد بن حفص السعدي يقول: قيل لأحمد بن حنبل رحمة الله عليه (يعني وهو حاضر) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ يَصَوْمَ أَحَدٌ حَتَّى يَصَوْمَ رَمَضَانُ)) (4).
_________
(1) أخرجه الترمذي على الوجه المعلول: في السنن، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين أعلاه وأسفله (ج1/ص 162)، برقم (97)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الطهارة، باب في المسح أعلى الخف وأسفله، (ج1/ص 183)، برقم (550)، بإسناد ضعيف.
(2) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد (ج2/ص135).
(3) الترمذي: السنن (ج1/ص 162)، بعد حديث رقم (97).
(4) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، (ج3/ص 115)، برقم (738)، وأبو داود: في السنن، كتاب الصوم، باب في كراهية ذلك، (ج1/ص 713)، برقم (2337)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الصوم، باب ما جاء في النهي عن أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صوما فوافقه، (ج1/ص 528)، برقم (1651)، ثلاثتهم وغيرهم من طريق الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نحواً منه.
(1/341)
قَالَ: ذَاكَ أي ضَعِيفٌ، ثم قال: حديث العلاء كان يرويه وكيع عن أبي العميس، عن العلاء، وابن مهدي فكان يرويه ثم تركه، قيل عن من كان يرويه؟، قال: عن زهير ثم قال: ((إنَّ رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ)) " (1).
وقَالَ أَبو دَاود: " وَكَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ - يعني ابن مهدي - لاَ يُحَدِّثُ بِهِ قُلْتُ: لأَحْمَدَ لِمَ قَالَ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ))، وَقَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَهُ.
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الإمام ابن مهدي وهي مخالفة المتن المعلول لمتن الحديث الثابت المشهور: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ))، فوضحت كيفية إعلال الأئمة بهذه القرينة، وهي من أقوى الدلائل التي كانوا يستندون إليها في إعلال المرويَّات من جهة المتن، ولقد أكثر الأئمة النُّقاد من استعمال هذه القرينة في مصنفات العلل، وصرحوا بها في مواضع ليست بقليلة، فظهر بوضوح بطلان قول المستشرقين السالف الذكر.
المطلب الثاني: قرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه كلام النبوة.
لقد اهتم النُّقاد بقرينة عدم مشابهة الحديث أو الخبر كلام النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وهذه القرينة لا تأتي إلا بعد طولِ باعٍ في معرفة الحديث وأهله، وتمييز قول النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ من قول غيره، فإنهم إذا وجدوا حديثاً لا يشبه كلام النّبُوةِ، وكان ظاهر الإسناد الصحة حكموا عليه بالبطلان، أو بالنكارة، أو ذكروا له علة ما كعدم السماع أو غيرها من العلل التي غالباً ما يكون الخلل منها في الحديث.
قال ابن رجب في شرح العلل: ومن ذلك: أنهم يعرفون الكلام الذي يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، من الكلام الذي لا يشبه كلامه.
_________
(1) ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال، (ج3/ص218)، ترجمة رقم (714).
(1/342)
قال ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه: " تُعْلَم صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون مثله كلام النّبُوةِ، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله أعلم " (1).
ولقد أعلّ الدارقطني بهذه القرينة أحاديث قليلة نذكر نموذجاً منها:
المثال: قَالَ البرقاني في العلل وسئل - الدارقطني -: " عن حديث ابن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قَالَ مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لاَ يَامَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَا بَاسَ بِهِ وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ قَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يَرْوِيه سَعِيد بْن بَشِير، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ، فَرَوَاهُ عُبَيْد بْن شَرِيك عَنْ هِشَام بْن عَمَّار عَنْ الْوَلِيد عَنْهُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَوَهَمَ فِي قَوْله قَتَادَةُ، فَغَيْره يَرْوِيه عَنْ هشام فَيَقُول: عَنْ الزُّهْرِيِّ، بَدَل قَتَادَةَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَحْمُود بْن خَالِد وَغَيْره عَنْ الْوَلِيد. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَان بْن حُسَيْن عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ الْمَحْفُوظ قيل للشيخ أبي الحسن فَإِنَّ الْحُسَيْن بْن السَّمَيْدَع رَوَاهُ عَنْ مُوسَى بْن أَيُّوب عَنْ الْوَلِيد عَنْ سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز عَنْ الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ: غَلَط، بَلْ هُوَ اِبْن بَشِير " (3).
وقال ابن أبي حاتم في العلل: " وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ يَامَنُ أَنْ يَسْبِقَ)).
قَالَ أَبِي - يعني أبي حاتم -: هَذَا خَطَأٌ، لَمْ يَعْمَلْ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ بِشَيْءٍ، لا يشبه أن يكون عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأحسن أحواله أن يكون عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قوله، وقد رَوَاهُ يَحْيَى بْن سَعِيد،
_________
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص496).
(2) أخرجه الإمام أحمد: في المسند (ج2/ص505) برقم (10564) من طريق سفيان بن حسين عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به، والحديث ضعيف معلول.
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج9/ص161)، سؤال رقم (1692).
(1/343)
عَنْ سَعِيد قوله " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني قد صرح بها أبو حاتم: فقال: "، لا يشبه أن يكون عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "، وقد ذكر الدارقطني رواية سفيان بن حسين عن الزهري وأنها المحفوظة أي المشهورة بين الحفاظ، ولا يعني أنها صحيحة بل أشار إلى وجه العلة في الحديث من هذه الجهة، وهي أنَّ الطريق الأخرى ضعيفة وغير مشهورة.
فإنَّ أهل العلم يضعفون سفيان بن حسين في الزهري كما سبق بيانه، وهي قرينة العلة التي أعلَّ بها الدارقطني الحديث، وطريق ابن بشير ضعيفة، فقد قال ابن معين في سعيد بن بشير: " ليس بشئ "، وضعفه أحمد والنَّسائي، وقال ابن نُمَيرٍ: "منكر الحديث ليس بشئ" (2)، فدل ذلك على أنَّ الحديث معلول ولا يصح من الوجهين، والله أعلم.
المطلب الثالث: قرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه حديث فلان.
وهذه القرينة من أشهر وأقوى القرائن والدلالات التي اعتمد عليها الدارقطني والنُّقاد في تعليل الأحاديث، وقد أثبت التاريخ بهذه القرينة أروع القصص مما يدل على اصطفاء الله لهذه الأمة، فحفظ الله الدين بهؤلاء الأفذاذ الذين قلَّ أن يجود بهم الزمان، فكانوا كالجبال الشُّمِ في حفظهم وإتقانهم لمتون حديث رسُول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابنُ رجب: قاعدةٌ مهمةٌ: حُذّاق النقادِ من الحفّاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فَهْمٌ خاصٌ يفهمون به أنَّ هذا الحديثَ يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديثَ بذلكَ، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنّما يرجعُ فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم، كما سبق ذكره في غير موضع " (3).
_________
(1) ابن أبي حاتم: كتاب العلل (ص1525)، رقم (2249).
(2) ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج4/ص9).
(3) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص488).
(1/344)
ولقد أعلّ الدارقطني بهذه القرينة أحاديث قليلة نذكر منها بعض الأمثلة:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: " عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الرِّكَازُ الذَّهَبُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يَرويه حبان بن علي (2)، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو وهم؛ لأنَّ هذا ليس من حديث الأعمش
ولا من حديث أبي صالح، وإنَّما يرويه رجل مجهول عن آخر عن أبي هريرة " (3).
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: " عن حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ)) (4).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. ووهم فيه، وتابعه على ذلك أشعث بن عبد الملك الحمراني، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة من رواية صلة بن سليمان عنه، وأشعث من الثقات الحفاظ ولكن صلة ضعيف الحديث، وكذلك روي عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسلمة من الثقات الحفاظ لم يرو عنه غير محمد بن أبي الشمال ولم يكن بالقوي، وكلها وهم على ابن سيرين؛ لأنَّ هذا ليس من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة؛ لأنَّ أيوب
_________
(1) أخرجه أبو يعلى الموصلي من وجه آخر: في المسند طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1998م (ج6/ص 356)، برقم (6474)، من طريق عبدالله بن سعيد، عن أبيه عن أبي هريرة به.
(2) هو حبان بن على العنزي، الكوفي (ت:271هـ) ضعيف، تهذيب التهذيب (ج2/ص 151).
(3) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص123)، سؤال رقم (1911).
(4) أخرجه الإمام أحمد على وجه آخر صحيح: في المسند (ج2/ص390)، برقم (7707)، من طريق عبدالرزاق قال: قال معمر أخبرني الزهري عن بن المسيب عن أبي هريرة نحواً منه، وقال في لفظه: " لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ يَعْنِي الْوُرُودَ "، بَدَلاً من " أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ ".
(1/345)
السختياني، وهشام بن حسان، ويحيى بن عتيق وغيرهم من الحفاظ الأثبات رووه عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني مرسلاً، عن النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1)
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني في هذا المثال أنّ الحديث ليس من حديث محمد بن سيرين، والبرهان أنَّه محفوظ عند الثقات الأثبات برواية غيره، وإنَّما رواه ابن سيرين، عن عبيدة السلماني مرسلاً، فظهر استعمال الدارقطني لقرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه حديث فلان.
ولقد أعلّ النُّقاد المتقدمون بهذه القرينة جملة أحاديث نذكر منها بعض الأمثلة:
المثال الأول: قال عَبْدُاللهِ بن أحمد بن حنبل: " سمعته يقول سعد بن سنان تركت حديثه ويقال سنان بن سعد حديثه حديث مضطرب، وسمعته مرة أخرى يقول يشبه حديثه حديث الحسن، لا يشبه أحاديث أنس " (2).
قال ابن رجب تعليقاً على نص الإمام أحمد: " ومراده أنَّ الأحاديث التي يرويها عن أنس مرفوعة، إنَّما تشبه كلام الحسن البصري أو مراسيله.
وقال الجوزجاني: " أحاديثه واهية لا تشبه أحاديث النَّاس عن أنس " (3).
المثال الثاني: قال عبدالله بنِ أحمد: " سمعتُ رَجُلاً يقولُ ليحيى- ابن معين -: تحفظُ عن عبدِالرزاق، عن مَعْمَر، عن أبي إسحَاق، عن عَاصِم بنِ ضَمْرةَ، عن علي - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَنَّه مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ))؟ فَقَالَ: باطلٌ، ما حدّثَ به مَعْمَر قَط.
سمعتُ يحيى - ابن معين - يقول: عَليهِ مائةُ بَدَنة مُقلدة مُجَللة إنْ كَانَ مَعْمَر حَدّثَ بهذا قَط، هذا باطل، ولو حدّثَ بهذا عبدُالرزاق كَانَ حَلالَ الدّم، مَنْ حدّثَ بهذا عن عبد الرزاق؟، قالوا له: فلانٌ.
_________
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج8/ص124 - 125)، سؤال رقم (1450)
(2) الإمام أحمد: العلل ومعرفة الرجال، (ج2/ص 517)، سؤالات رقم (3409، 3410).
(3) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص489).
(1/346)
قالَ أبو عبدالرحمن - عبدالله بن أحمد بن حنبل -: وهذا الحديثُ يَرْوونَهُ عن إسرائيلَ عن عَمْرو بنِ خَالد، عن زَيد بنِ علي، عن آبائه، عن علي: ((أنَّ النَّبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ)) وعَمْرو بنُ خَالد لا يسوي حديثه شيئاً " (1).
المثال الثالث: قال البرذعي قال لي أبو زرعة: " خالد بن يزيد المصري وسعيد بن أبي هلال صدوقان وربما وقع في قلبي من حسن حديثهما ". قال: وقال لي أبو حاتم: ... " أخاف أن يكون بعضها مراسيل عن ابن أبي فروة وابن سمعان " (2).
قال ابن رجب شارحاً قول أبي حاتم: " ومعنى ذلك أنَّه عرض حديثهما على حديث ابن أبي فروة، وابن سمعان فوجده يشبهه، ولا يشبه حديث الثقات الذين يحدثان عنهم فخاف أن يكون أخذا حديث ابن أبي فروة، وابن سمعان ودلساه عن شيوخهما " (3).
وبنهاية هذا المبحث نكون قد انتهينا من الفصل الأول من الباب الرابع بفضل الله ومعونته سبحانه وتعالى، وبهذا نكون قد استعرضنا بعض قرائن التعليل الدقيقة، والدلالات التي كان نقاد الحديث يستعملونها في إعلال المرويَّات، ولا يشك عاقل فضلاً عن عالم بأمور هذا الشأن أنَّ هناك ثَمَّ قرائن تعليل أخرى كثيرة لم تذكر في هذا الفصل، وأظن أنها لو جُمِعَت بمفردها لكانت عدة مجلدات كبيرة، وإنَّما اجْتَهَدتُ في استخراج منهج الدارقطني منها مقارناً بمنهج النقاد المتقدمين؛ لنلتمس طريقة القوم في استعمالهم للدلائل والأسباب التي بنوا عليها أحكامهم في تعليل الأخبار.
_________
(1) الإمام أحمد: العلل ومعرفة الرجال، (ج3/ص16)، سؤالات رقم (3944،3945).
(2) أبو زرعة عبيدالله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي (ت: 264 هـ): الضعفاء وأجوبة أبي زُرْعَة الرَّازي على سؤالات البرذعي، طبعة الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى سنة 1402هـ، (ج2/ص 362).
(3) ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص492 - 493).
(1/347)
نتائج هامة:
- بمقارنة منهج الدارقطني في استعماله قرائن التعليل المتنية، بمنهج النُّقاد المتقدمين نجد أنّ الدارقطني كان ينهج الأسلوب والمسلك الذي سلكه القوم، إلا أنه كان يصرح بالعلَّة أحياناً ويُرجح، وكان لا يخرج عن منهج النُّقاد المتقدمين.
- من الملاحظ أنَّ غالب النُّقاد يستعملون قرائن التعليل المتنية، للدلالة على سببٍ قادح في الحديث، وبيان بطلانه من جهة المتن وإن كان ظاهر السند الصحة.
- المستقرئ لمنهج النُّقاد المتقدمين يجد منهم غاية في الإتقان والمعرفة، ودقة الأمانة العلمية، لإثبات الرواية الصحيحة وإن جاءت من الضعيف، وفي المقابل تقرير الوهم أو الخطأ في الرواية وإن جاءت من الحفاظ الكبار.
(1/348) 
------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

2121-من 8 - من كتاب الجنائز ابن القيم

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ر...